المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌العرض العام للمقطع الثاني: - مباحث في التفسير الموضوعي

[مصطفى مسلم]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌التفسير الموضوعي: "تعريفه- نشأته- تطوره- ألوانه- أهميته

- ‌تمهيد:

- ‌نبذة تاريخية عن نشوء علم التفسير وتطوره ومكانة التفسير الموضوعي:

- ‌تعريف التفسير الموضوعي:

- ‌نشأة التفسير الموضوعي:

- ‌ألوان التفسير الموضوعي:

- ‌اللون الأول:

- ‌اللون الثاني:

- ‌اللون الثالث

- ‌أهمية التفسير الموضوعي:

- ‌مناهج البحث في التفسير الموضوعي:

- ‌أولًا: منهج البحث في موضوع من خلال القرآن الكريم:

- ‌ثانيًا: منهج البحث في التفسير الموضوعي لسورة واحدة

- ‌ثالثا: التفسير الموضوعي لسورة قرآنية

- ‌تحديد محور السورة

- ‌الهدف في السورة القصيرة والسورة الطويلة:

- ‌الإطناب والإيجاز في قضايا عرضتها السورة:

- ‌صلة التفسير الموضوعي بالأنواع الأخرى من التفسير:

- ‌علم المناسبات والتفسير الموضوعي

- ‌مدخل

- ‌أولًا- تعريف علم المناسبات:

- ‌ثانيا: أهمية علم المناسبات وأقوال العلماء فيه

- ‌مدخل

- ‌القسم الأول: المناسبات في السورة الواحدة

- ‌مدخل

- ‌أنواع المناسبات في السورة الواحدة:

- ‌القسم الثاني: المناسبات بين السور

- ‌مدخل

- ‌أنواع المناسبات بين كل سورتين متجاورتين:

- ‌مثال تطبيقي على موضوع من خلال القرآن الكريم" الألوهية من خلال آيات القرآن الكريم

- ‌مقدمات بين يدي الموضوع

- ‌أولا: الألوهية والفطرة

- ‌ثانيًا: اهتمام القرآن الكريم بالتوحيد أكثر من الاهتمام بإثبات وجود الخالق

- ‌ثالثًا: منهج القرآن في إثبات التوحيد منهج فطري

- ‌رابعًا: ربط قضايا العقيدة بمصالح العباد في حياتهم المعاشية

- ‌خامسًا: مجالات الاستدلال على قضية الألوهية

- ‌أبرز أنواع الأدلة على توحيد الله جل جلاله في القرآن الكريم

- ‌مدخل

- ‌أولًا: أدلة الخلق والإبداع

- ‌ثانيًا: أدلة العناية

- ‌ثالثًا: أدلة الفطرة

- ‌رابعًا: البراهين العقلية

- ‌خامسًا: أدلة التوحيد من خلال إثبات صفات الكمال لله سبحانه وتعالى وتنزيهه عن صفات النقص

- ‌الخاتمة:

- ‌مثال تطبيقي في تفسير سورة تفسيرًا موضوعيًّا: "القيم في ضوء سورة الكهف

- ‌تمهيد:

- ‌بين يدي سورة الكهف:

- ‌اسمها وعدد آياتها:

- ‌خصائص سورة الكهف:

- ‌وقت نزولها وسببه:

- ‌أهداف سورة الكهف:

- ‌المناسبات في سورة الكهف

- ‌أولا: المناسبة بين اسم السورة وموضوعاتها

- ‌ثانيًا: المناسبة بين افتتاحية السورة وخاتمتها

- ‌ثالثًا: المناسبة بين مقاطع السورة وهدفها

- ‌افتتاحية سورة الكهف

- ‌الموضوعات الأساسية في الافتتاحية

- ‌المقطع الأول: قصة الفتية المؤمنين

- ‌مدخل

- ‌بين يدي قصص سورة الكهف:

- ‌العرض الإجمالي لقصة الفتية المؤمنين:

- ‌العرض التحليلي للقصة:

- ‌تعقيب واستطراد وتعليل:

- ‌عظات وعبر:

- ‌المقطع الثاني: مفارقات ومواقف في بواعث العزة

- ‌مدخل

- ‌المناسبة بين المقطع الأول والثاني:

- ‌العرض العام للمقطع الثاني:

- ‌عظات وعبر:

- ‌المقطع الثالث: وقفة تأمل في المال والمصير

- ‌مدخل

- ‌المناسبات بين المقطع الثالث وما قبله:

- ‌العرض الإجمالي للمقطع الثالث:

- ‌الفوائد والعظات والعبر في المقطع الثالث:

- ‌المقطع الرابع: الرحلة في طلب العلم

- ‌مدخل

- ‌المناسبات بين المقطع الرابع وما قبله:

- ‌العرض الإجمالي للمقطع الرابع:

- ‌الانطلاق والبحث عن العبد الصالح:

- ‌العظات والعبر من فقرة الانطلاق والبحث عن العبد الصالح:

- ‌اللقاء والحوار:

- ‌العظات والعبر من فقرة اللقاء والحوار:

- ‌الصحبة الكريمة والأحداث العجيبة

- ‌مدخل

- ‌أولها: الجانب النفسي لموسى عليه السلام

- ‌ثانيها: صدمة المفاجأة وهول الحادث

- ‌ثالثها: مبادئ شريعة التوراة

- ‌الفراق بعد تأويل التصرفات الغريبة:

- ‌العظات والعبر من فقرة الصحبة الكريمة والأحداث العجيبة

- ‌مدخل

- ‌تعقيبات وتعليقات:

- ‌المقطع الخامس: قصة ذي القرنين الرجل الطواف

- ‌مدخل

- ‌المناسبات:

- ‌العرض الإجمالي للمقطع الخامس:

- ‌وقفات لابد منها

- ‌الوقفة الأولى: مع ذي القرنين

- ‌الوقفة الثانية: مع السد وموقعه

- ‌الوقفة الثالثة: مع يأجوج ومأجوج؛ حقيقتهم ومصيرهم

- ‌القيم في قصة ذي القرنين:

- ‌العظات والعبر في المقطع الخامس قصة ذي القرنين:

- ‌خاتمة السورة:

- ‌الخاتمة:

- ‌الفهارس

- ‌ فهرس الآيات الكريمة

- ‌ فهرس الأحاديث والآثار:

- ‌ فهرس الأعلام:

- ‌ فهرس المراجع:

- ‌ محتوى الكتاب:

الفصل: ‌العرض العام للمقطع الثاني:

‌العرض العام للمقطع الثاني:

عرض المقطع الثاني في فقرتين رئيسيتين تتعلق الأولى منهما بتوجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لصبر نفسه مع الفئة المؤمنة من فقراء المسلمين وضعفائهم ونبذ

ما طلبه زعماء قريش من إبعادهم، كما وضح سبب النزول ذلك1 ثم جاءت الفقرة الثانية بمثابة التقرير والتأكيد لما تضمنته الفقرة الأولى عن طريق ضرب المثل2 لتوضح الحقائق وإبرازها.

وما ورد في هذه الفقرة الأولى من الفتن التي يتعرض لها أهل الدعوات خلال مسيرتهم في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.

إن من سنن الله في المجتمعات أن يستجيب لكل دعوة جديدة أقل الناس تعلقًا بالحياة الدنيا وأثقالها وأوثاقها، وأن يستجيب لها أقل الناس وجاهة ومكانة في القوم.

وأن يكون من جندها أول الأمر أهل الحماسة والنخوة الذين لم تفسد فطرهم.

نستطيع أن نقول إن هذا الأمر عام مشترك بين أتباع الدعوات جميعًا فإذا كانت الدعوة ربانية مقنعة للعقل ملائمة للفطرة الإنسانية ملبية لحاجات البشر المادية والروحية، تمكنت في القلب وارتفعت بالأتباع وازدادوا لها محبة وفي سبيلها تضحية وبذلًا، وجاهدوا في سبيلها بكل شيء.

أما إذا كانت الدعوة أرضية بشرية تهدف لتحقيق مصالح معينة فسرعان ما يحيط بها فئة أو طبقة من الناس فيستغلونها لتحقيق مآربهم وينكشف الأمر للرعيل الذي استجاب لها أول وهلة فمنهم من يستمر معها لأنها حققت له مصلحة، ومنهم من يتركها ويعاديها لأنه كان ضحية شعاراتها، وبريق أضوائها، فلا بد من وجود الصراع بين أتباع هذه الدعوة إلى أن يفني طرف منهما الآخر، وقد كانوا من الرعيل الأول الذي تبنى الدعوة وحمل لواءها.

هذه سنة الله في الدعوات واتباعها -حسب فهمنا.

ودعوة رسول الله صلى الله لعيه وسلم استجاب لها أول من استجاب الشباب والفقراء والنساء

1 انظر مبحث أسباب النزول: 172 من الكتاب.

2 المقصود بضرب المثل، سوق القصة الواقعية المشابهة لحال القوم وليس المراد بضرب المثل، ضرب شيء متخيل للتقريب.

ص: 223

والأرقاء، ومن كانت تربطه برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة روابط شخصية خاصة كأبي بكر رضي الله عنه. وتقاعس أهل الثراء والغنى وأهل الجاه والزعامة.

وذلك لأن أهل الثراء ينظرون إلى الدعوة من خلال مصالحهم المادية وما تدره الدعوة عليهم من مال ونشب، أو تفوت عليهم من مصالح وتلحق بهم من خسارة، فإن بان لهم -وخاصة في بداية الأمر- أنها مغارم وليس مغانم كانوا أبعد الناس عنها، بل كانوا من العقبات الشديدة في عرقلة مسيرتها1.

وصاحب الجاه والزعامة ينظر إلى مكانته في هذه الدعوة الجديدة، هل تبقى له الزعامة ويكون المقدم فيها، أو أنه سيفقد مكانته ويكون تابعًا كسائر الناس. فإن لم يضمن المكانة والمنزلة في الدعوة الجديدة لم يسلم له القياد، بل كان من جملة العقبات في سبيل انتشارها.

وكلا الفريقين يأتي ويساوم صاحب الدعوة، ماذا ستكون لنا إن نحن تبعناك ونصرنا دعوتك هل يكون لنا الأمر من بعدك2.

وهنا تختلف الدعوة الربانية عن غيرها من الدعوات، إن الأمر لله من قبل ومن بعد يضعه حيث يشاء، ولكنهم إن آمنوا وعملوا الصالحات والتزموا أحكام دعوة الله وأخلاقها فلهم الجنة، أما في الدنيا فإن شأن الدنيا أحقر من أن تكون عوضًا عن الإيمان بالله والجهاد في سبيله وقد تأتي تبعًا ومن غير قصد إليها، ولكن لا تشكل في حال من الأحوال الغرض الأساسي في المتاجرة مع الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] .

وصاحب أي دعوة وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلغي من حسابه الأسباب

1 هذه قاعدة غالبية فوجد بعض الأغنياء بين الرعيل الأول من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبطل القاعدة الغالبية، فلكل قاعدة استثناءات.

2 انظر: أحداث سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما عرض نفسه على القبائل لحمايته ونصره دعوته.

ص: 224

الظاهرة، ولا يمكن أن تلغى من المعادلة طبائع الناس ومطالبهم وتعلقاتهم وبخاصة إذا وضعت في صورة مبسطة، مبرأة عن المطامح.

ولكن موازين الله سبحانه وتعالى من الدقة والحساسية بحيث تميلها أدنى الانحرافات.

لقد سبق أن وقعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حادثة مشابهة، وكانت حسب الظاهر وحسب المقاييس البشرية لا غبار عليها، ولكن الله سبحانه وتعالى عاتب فيها رسوله وبين له أن الله غني عن العالمين {عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى، أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى، فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى، وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى، وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى، وَهُوَ يَخْشَى، فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى، كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} [عبس: 1-11] .

وهنا موقف يتكرر من زعماء قريش يريدون إبعاد الفقراء أصحاب جبب الصوف لئلا تؤذيهم روائح جببهم، وهم يلوحون ويلمحون أن في إسلامهم إسلام من وراءهم من الأتباع، وستوضع ثرواتهم ووجاهاتهم في خدمة الدعوة. كل ذلك يشترط أن يعرف صاحب الدعوة مكانتهم ويلبي لهم طلباتهم، وبدايتها تخصيصهم بهذا المجلس الخاص.

إلا أن الذي أنزل الكتاب وأرسل محمدًا بدعوة الحق، مطلع على ما يدور في الأذهان وما تحتويه الصدور.

إن هؤلاء لا يلجئون إلى مثل هذه المساومات إلا إذا أحسوا أن الوقت ليس في صالحهم1، وأن المستقبل أصبح يميل إلى جانب دعوة الحق نتيجة الأحداث

1 في بداية الدعوة لم يلق لها زعماء قريش بالًا، لعدم شعورهم بخطرهم على مصالحهم فلما تعرض القرآن الكريم إلى تسفيه أحلامهم وبيان بطلان ما هم عليه من تعظيم الحجارة واتخاذ الآلهة التي لا تضر ولا تنفع خطرت لهم فكرة المساومات ومرت بمراحل:

أ- مرحلة محاولة كبت الدعوة والقضاء عليها: بالاتصال بالقائم عليها ومحاولة ثنيه عن الاستمرار في دعوته مقابل مال أو جاه أو مغريات أخرى أو الاتصال بمن له نفوذ وتأثير=

ص: 225

التي يعايشونها، من دخول الناس في دين الله، وعدم ارتداد أحد منهم، ولم يستطيعوا حصر الدعوة بين جبال مكة فضلًا عن خنقها والقضاء عليها1 عند ذلك تراودهم المساومات وتخطر لهم العروض.

وأمثال هؤلاء تسيرهم مصالحهم وأهواؤهم، فما أن ينظروا في موقف من المواقف أن مصالحهم قد تعرضت لخطر وشيك حتى يقلبوا ظهر المجن ويتحولوا إلى الجانب الآخر.

ودعوة الله لا يصلح لها إلا من عاش بها ولها، ولم يكن له مطمع في شيء سوى رضوان الله سبحانه وتعالى والفوز بجنات عرضها السماوات والأرض، وسوى اتقاء غضب الله الجبار المنتقم وعذابه الشديد.

لا يصلح لدعوة الله إلا من وضع نصب عينيه العطاء والبذل من غير حدود ولو جاء ذلك على ماله وروحه التي بين جنبيه من غير أن يتوقع عوضًا دنيويًا من أحد.

= على صاحب الدعوة وقد فعلت قريش ذلك بعرض المال والسيادة والنساء على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم اتصلوا بعمه أبي طالب لمنع ابن أخيه من الاستمرار في دعوته فعندما يئسوا من ذلك جاءت المرحلة الثانية وهي:

ب- مرحلة المساومة على المتاركة والمداهنة في التعامل.

بأن يكف كل فريق عن التعرض لمعتقدات الفريق الآخر ومصالحه فإن استمرت دعوة الحق من غير تقديم تنازلات، ومن غير مهاودة أو مهانة مع الجاهلية، تأتي المرحلة الثالثة وهي:

ج- مرحلة المساومة على الشروط: بأن يبقى لأصحاب الجاه والمكانة الاجتماعية أو الثروة المادية مزايا خاصة على غيرهم.

وهذه المرحلة الثالثة هي التي تتحدث عنها سورة الكهف {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} .

وتتحدث عنها آيات الأنعام {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 52] .

1 ترتيب سورة الكهف في النزول الثامنة والستون، كما ذكره السيوطي في الإتقان: 1/ 25.

ص: 226

لذا كان الأمر الجازم الصارم -لأن الموقف يقتضي ذلك، ولأنها المرحلة التأسيسية لدعوة الحق- {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا، وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} .

وفي ميزان الله أن الأمور بخواتيمها وعواقبها، وعاقبة هؤلاء الكفار الظالمين الطغاة إلى نار أحاط بهم سرادقها1، فأي خير يرجى من وجودهم في الصفوف.

- وعاقبة أصحاب جبب الصوف من الفئة المؤمنة {جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} ، إنه الثواب والعوض عن القيود والأكبال التي كبلوا بها، وعن جبب الصوف ذات الرائحة الكريهة وعن المجالس المغطاة بالرمل والحصى والحجارة التي كانوا يجتمعون فيها لكي يدعوا ربهم بالغداة والعشي2.

1 في ذكر ألوان العذاب للظالمين الغافلين الذين اتبعوا أهواءهم نوع من المقابلة لما كانوا عليه في حياتهم الدنيا:

أ- فالنار المعدة الحاضرة لا تحتاج إلى إيقاد وإعداد مقابل مجالس البطر والرقاه التي كانت تعد لهم.

ب- والنار ذات سرادق يحيط بالظالمين فلا سبيل إلى الهرب والنجاة، مقابل السرادقات التي كانت تمنع مشاركة غيرهم معهم ليصفو لهم الجو.

ج- إذا استغاثوا يغاثون بماء كدردي الزيت المغلي تتساقط أبشار وجوههم منه عندما يرفعونه إلى أفواههم مقابل الشراب والكئوس المترعة من الخمر المعتقة التي كانت يعلو عليها الزيد ويفوح منها العطر.

د- بئس المستقر والمنزل وبئس المرافق وبئس الطعام والشراب مقابل ما كانوا يظنونه نهاية السعادة ويتوقعون دوامها وخلودها.

2 ذكر من أوصاف النعيم ما يتعلق بالأشخاص لأنهم محل التكريم والعناية، وذكر جريان الأنهار من تحتهم لأنهم محور الحديث، وليس المراد وصف الجنة بكثرة الأنهار، بينما في مواطن آخر يذكر تجري الأنهار من تحتها، أي تحت الجنات.

ص: 227

ثم تأتي الفقرة الثانية مقررة ومؤكدة للقيم التي وردت في الفقرة الأولى عن طريق سوق القصة مثلًا لحالهم جميعًا.

إن الإنسان العاقل يحدد منهجه في الحياة وسلوكه بين الناس على ضوء القيم التي يعتنقها ويؤمن بها.

فلما كانت منطلقات زعماء قريش زينة الحياة الدنيا "المال والجاه" دفعتهم إلى ذلك المطلب السخيف التافه بتخصيصهم بمجلس لا يشاركهم فيه الضعفاء والفقراء.

فليتدبر هؤلاء القوم ومن كان على شاكلتهم ممن أعشت زينة الحياة الدنيا بصائرهم عن رؤية الحق. فليتدبروا قصة صاحب الجنتين وصاحبه وليعتبروا فإن فيها العظة والعبرة:

صديقان أوتي أحدهما من زهرة الحياة الدنيا ما تتطلع إليه النفس البشرية وتنتشئ لرؤيته، لقد أعطاه الله سبحانه وتعالى جنتين1 فيهما من أنواع الفاكهة والأعناب ما لذ وطاب وقد حفتا بسياج من النخيل وبين أشجار النخيل والأعناب ساحات واسعة مخصصة لزراعة الحبوب والخضراوات الأخرى، ولا شك أن هذا التنويع في الزرع والشجر يضفي جمالًا وبهاء على منظر الجنتين ويضفي قيمة وغلاء على ثمنهما، فمن المعهود عند أصحاب الفاكهة أن أنواعًا منها تثمر في سنوات وينقص ثمرها في سنوات أخرى كما أن أنواعًا من الزراعة تتأثر ببعض الآفات في سنوات بينما أنواع لا تتأثر بها. فالتنويع في الأنواع يجعل صاحب الزراعة في منأى عن ضياع المواسم بالكلية وفوات الثمر والحصاد.

إلا أن الجنتين في القصة أتت أكلها خير ما يكون الإيتاء والإنتاج ولم تنقص شيئًا من العطاء.

1 تطلق الجنة على البستان الذي تداخلت أغصان الأشجار فيه بحيث تستر وجه الأرض وما خلفها. وإذا كان البستان مسورًا محوطًا سمي حديقة.

ص: 228

ومما أضفى الجمال على الجنتين، وأغلى من قيمتهما تفجر النهر خلال الأشجار والزرع1.

وبالإضافة إلى هذه الممتلكات والعقارات الثابتة، فقد كان لصاحب الجنتين من المال المنقول ومن النقدين ما كان يستثمره في التجارة والمجالات الأخرى، {وَكَانَ لَهُ ثَمَر} 2، بحيث استكمل الرجل الأسباب الظاهرة للتمكن من الثروة والقبض عليها بأيد قوية، فلئن فاتته فرصة في التجارة فإن الزرع والأعناب ستعوضه، ولئن أصابته آفة زراعية فإن المال المستثمر سيغطي النقص لديه.

كل ذلك ساقه الله سبحانه وتعالى له سوقًا من غير جهد وخبرة من الرجل بدليل إسناد الضمائر إلى لفظ الجلالة "جعلنا، حففناهما، جعلنا بينهما زرعًا، وفجرنا".

وحصول هذه النعم الدنيوية العظيمة له، وتسخير هذا الثراء وهذه الأموال لمصالحه، وتنعمه بها، يستدعي شكر مسدي هذا النعم، وتسخيرها في طاعته واتفاقها في سد خلة المحتاجين لتكون وسيلة إلى القربى من المولى عز وجل. هذا هو المفروض وهو المتوقع من العبد تجاه ما ساقه إليه سيده ومولاه.

إلا أن النفس البشرية إذا تركت على هواها، وحجب عنها نور الإيمان، ونظرت إلى ما بين يديها من الأسباب المادية، أخذها الغرور والبطر، وظنت أنها لم تؤت هذا المال وهذه المكانة والوجاهة إلا لمزايا ذاتية فيها، وهذا الصنف من

1 ذكر تفجير النهر خلال الجنتين متأخرًا عن ذكر إيتاء الجنتين الأكل، إشارة إلى أن خصوبة التربة ورطوبة الجو كانت كافية لإيتاء الجنتين النتاج، ووجود النهر عندئذ رصيد احتياطي عند تقلبات الأنواء، كما أن وجود النهر يزيد المنظر جمالًا.

2 قال الراغب: والثمر: قيل هو الثمار، وقيل جمعه، ويكنى به عن المال المستفاد، وعلى ذلك حمل ابن عباس قوله تعالى:{وَكَانَ لَهُ ثَمَر} . ا. هـ. المفردات: 109.

وقرئت "ثُمُر" بضم الثاء والميم: وهو المال الكثير المختلف من النقدين والأنعام والجنات والزروع. ا. هـ. التحرير والتنوير: 15/ 318 وهي قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر وحمزة والكسائي انظر: كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد: 390 بتحقيق شوقي ضيف.

ص: 229

البشر يتكرر في كل زمان ومكان وفي كل حال لم تهذب بإشراقة الإيمان، ولقد ظن هذا الظن قارون عندما قال:{إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 87] .

لقد أخذه البطر والأشر والتكبر على عباد الله فالتقى صاحبه الفقير وهو في زينته ليحاوره ويقول له: "أنا أكثر منك مالًا وأعز نفرًا" لم يقف به الغرور والبطر عند التكبر على عباد الله وكسر قلوب الفقراء بل تجاوز ذلك إلى حين يفقد توازنه في الحكم على الأشياء وأن يضفي صفات كاذبة على ما بين يديه من المال والثراء فزعم لها البقاء والخلود: {قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا} ، ولكنه تذكر أن السنة الجارية على الأحياء أن لا يخلد استمتاعهم بمالهم وأولادهم فإما أن تفارقهم أو يفارقوها بالموت، يا هل ترى ما المصير عندئذ؟!

إن تذكر الموت وتصور الحياة الأخرى والحساب والجزاء، مما يقض مضجع المترفين البطرين الأشرين، لذا يحاولون إلقاء حجب كثيفة بينهم وبين الاعتقاد باليوم الآخر. فقال قولته الملحدة {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} ، ولكن المؤمنين يؤكدون على وجود هذا اليوم، وقد أرسل الرسل بهذه العقيدة، ولم يخل دين سماوي عن هذه العقيدة، فتنازلًا عند كل هذه الأقوال، وافتراضًا لغير الواقع يفترض وجود هذا اليوم افتراضًا فلو وجد هذا اليوم وبعث يوم القيامة، فلأنه ذو مواهب خاصة، وطاقات نادرة، ومزايا ذاتية فسيجد عند ربه خيرًا مما آتاه في الدنيا، يقول ذلك عجرفة وتهكمًا بصاحبه وبما يعتقده. إنها النفس الأمارة بالسوء، المغرورة بالقيم الزائفة المتبعة لهواها، قد أبطرتها النعمة وأذهلتها الثورة وأسرتها الوجاهة. إلا أن صاحبه المعتز بإيمانه بربه، الذي ينظر بنور الله، ويحكم على الأشياء بميزان العقيدة ولا تبهره المظاهرة البراقة المخادعة يجابهه بالحق، ويذكره بحقيقته، وحقيقة ما هو فيه لقد بدأ الانحراف في صاحب الجنتين من داخل نفسه ومرورًا بالمال وكثرة الرجال {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} .

فليذكر له صاحبه الدواء والعلاج والتقويم من داخل نفسه أيضًا إن نفسه المتكبرة المتجبرة المتعالية على العباد ما هي إلا مستلة من التراب المهين الذي يداس بالأقدام، ثم من النطفة القذرة التي يستحيي من إظهارها أو الحديث عنها،

ص: 230

ولولا رحمة الله بالناس، والنفخة الربانية التي نفخها فيها لما كان لها شأن ولا قيمة، فكيف ينسى المرء أصله ومنشأة والعناية الربانية به {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا} .

إن هذه الحقائق العظمى ينبغي أن لا تنسى، ولا يليق بعاقل أن يغفل عنها ويخرجها من حسبانه في النظر إلى الحياة والناس والمال والمتع، لقد جرت سنة الله سبحانه وتعالى في الخلق أن يدخل السرور إلى القلب وتنتعش النفس إذا تيسرت لها سبل المعيشة وحصل على زينة الحياة الدنيا، إلا أن ذلك لا يخرجها عن طبيعتها ولا يعطيها قيمة أعظم من قيمتها {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ، قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ، الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران: 14-17] .

فعلى ضوء هذه الحقائق كان عليه أن يدخل جنته ويحمد الله الذي أنعم عليه بها من غير حول منه ولا قوة، ولو عرف حق الله عليه فيها فأنفق منها في وجوه الخير والبر، لكانت له مزية على غيره، ولعرف الناس فضله ومكانته، "إن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم فقال: "وما ذاك؟ " قالوا: يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون ولا نتصدق ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أفلا أعلمكم شيئًا تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحدًا أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم؟ " قالوا: بلى يا رسول الله، قال:"تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين مرة"، قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

ص: 231

"ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء"1. أمثال هؤلاء عرفوا قيمة الأعراض الدنيوية فلم تلههم عن طاعة الله وعبادته بل جعلوها وسائل تقربهم إلى الله سبحانه وتعالى.

ثم يلتفت صاحبه إلى الجنة التي كانت سبب غروره، وبطره، وتكبره على عباد الله وكسر قلوبهم، فعسى الله أن يرسل عليها إعصارًا فيه نار فتحرقها وتأتي على الأخضر واليابس فيها فتصبح خرابًا تزلق فيه الأقدام، {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} .

وأحد السببين كاف للقضاء عليها، فإذا اجتمع السببان فاتت المنفعة منها تمامًا.

وكانت الاستجابة لدعوة العبد الصالح فورية فلم يكد ينتهي من توجهه إلى ربه ويدعو بتفويت ما كان السبب في أشر صاحبه2، حتى كان الدمار والخراب يحل بالجنتين، بل تعداهما إلى الأموال الأخرى {وَأُحِيطَ بِثَمَرِه} .

فصار يتجول في أرجاء الجنتين وهو {يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} .

إنها ساعة الحسرة والندم بعد فوات الأوان. لقد ذهب كل شيء في طرفة عين، أين المال الذي كان يملأ نفسه كبرًا وعجبًا وأين الجنان التي كانت تملأ نفسه نشوة وبطرًا، بل أين الرجال والنفر الذين كان يهيئهم للملمات والشدائد، لم يقدم أحدهم له عونًا ونصرًا، لم يستطع أحدهم أن يدفع عنه الكارثة الماحقة، وأنى لمخلوق أن يقف أمام قدر الله سبحانه وتعالى الذي يقول للشيء كن فيكون. أما كان يسع هذا الإنسان الضعيف أن يلزم حدوده، فيستمتع بما وهبه الله عز وجل ويحمد الواهب على ما وهب ويشكره على ما سخر له فيكون في منأى من غضب الجبار وانتقامه، ألا يعلم الإنسان أن لله جنود السماوات والأرض، وأنه

1 انظر: صحيح مسلم كتاب المساجد: 2/ 97.

2 لم يرد للنفر ذكر، فلعل الصاحب الصالح لم يدع على الرجال والأتباع والذرية فلعله يخرج من بينهم من يوحد الله سبحانه وتعالى، وهو اللائق بحال الكمل من الصالحين. كما أن تعلق أهل المتع والأهواء بالمال أكثر فتفويته أشد على نفوسهم من تفويت الأهل والرجال.

ص: 232

لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وأن إليه المصير والمآب، وأن بيده الحكم والأمر فإن أقر بذلك فينبغي أن تكون التصرفات والأعمال على ضوء ما يقر ويعترف.

ثم تأتي العبرة المستقاة من الأحداث السابقة، وتساق خلاصة التجربة، وهي القاعدة العامة التي ينبغي أن لا يغفل الإنسان عنها فليتدبر زعماء قريش هذه الحقيقة، وليتدبر الآخرون من أمثال صاحب الجنتين، وليتدبر الناس جميعًا إلى قيام الساعة حقيقة ما هم فيه:

الحياة الدنيا سريعة الزوال، سريعة الانقضاء ما وجودها ولا استمتاعكم بها في سرعة زوالها إلا كسرعة دورة نباتية مما تشاهدونه أمامكم يتكرر كل موسم زراعي.

أمطار تنزل من السماء فتنبت الأرض من الأعشاب والحشائش وأنواع النباتات وخلال أشهر قليلة تزدهر وتزهو فتبلغ أوجها في النضارة والاخضرار في الربيع، فلا تكاد تنقضي أشهر الربيع حتى تصبح هشيمًا يابسًا مصفرًا يتكسر من هبات النسيم فتذروه الرياح في الأرجاء بددًا لا تقوم لها قائمة.

إنها أشهر معدودات. تتكرر فيها حياة النبات على هذه الشاكلة إن الدورة النباتية صورة مصغرة لدورات أخرى تجري، فعلى مستوى الأفراد ولادة فطفولة فشباب ثم كهولة وشيخوخة ثم قبض وانتهاء وهذا ما يشاهده الناس في أنفسهم وعلى مستوى الأجيال والدول والمجتمعات، نقرأ في التاريخ دولًا وأممًا ولدت ثم نمت وتوسعت وانتشرت ثقافاتها ثم أصابها الجمود ثم التقلص ثم الاندثار والفناء.

وقل مثل ذلك على مستوى البشرية والكوكب الذي نعيش عليه، إنها ومضات من تاريخ الكون الطويل، والقدم والبقاء للحي القيوم المقتدر.

إن سنة الله سبحانه وتعالى في الكون أن خلق المخلوقات ووفر لها نظم حياتها ووسائل معايشها، وسخر بعضهم لبعض، ووضع في الكون طاقات وقوى ورسم سبل الهداية إليها.

وأنزل على صفوته من خلقه -الأنبياء والمرسلين- النظام الذي ينبغي السير عليه في هذا الكون.

ص: 233

فهناك وسائل لا ينبغي أن تأخذ دور الغابات

وهنالك أشياء جعلت زينة لغيرها فلا تأخذ مكانة القيم والحقائق وهنالك وهنالك.

فعلى الناس جميعًا أن يتصرفوا في ضوء الهدايات الربانية، ويتعاملوا مع الموجودات في الكون.

ومن هذه المبادئ الأساسية {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} إنها زينة وليست قيمة، وإنها وسائل لا غايات.

أما الباقيات الصالحات1 فإنها قيمة وغاية وحقائق فهي التي توزن بها الرجال والأعمال، وبها تدرك الغايات والثوابت ومن منطلقاتها تصدر الأحكام.

وهي الباقية بعد انتهاء هذه الحياة الدنيا وزوالها، وهي الذخر والكنز الذي يبقى مع صاحبه إلى دار القرار.

ورد في الحديث: " يتبع الميت ثلاثة فيرجع اثنان ويبقى معه واحد يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع الأهل والمال، ويبقى العمل معه"2.

فيما فوز من ثقلت موازينه بالباقيات الصالحات.

1 تعددت أقوال المفسرين في تفسير الباقيات الصالحات: فمنهم من قال ذكر الله سبحانه وتعالى، استنادًا إلى الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"استكثروا من الباقيات الصالحات"، قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: "التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد ولا حول ولا قوة إلا بالله". وقيل: هي الصلوات الخمس وقال بعضهم: إنها العبادات والطاعات عمومًا. ولعل التعميم أولى، والذكر من الباقيات الصالحات.

2 رواه مسلم في صحيحه، كتاب الزهد: 8/ 211.

ص: 234