الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإذا نظرنا إلى الاسم الآخر للسورة "سورة أصحاب الكهف" نلاحظ أن الأشخاص أصحاب العقيدة الحقة والموقف السديد هم الملاحظون في التسمية.
ولو نظرنا إلى هؤلاء الفتية:
نجدهم يمثلون موقف المتمسكين بالقيم الصحيحة الذين يملكون الميزان الرباني لقياس الأمور بها، الإيمان، الجرأة في الحق، المنطق السليم، الحجة المقنعة، التضرع إلى الله سبحانه وتعالى، اتخاذ الأسباب الظاهرة في مقارعة الباطل.
يعقب كل ذلك العناية الربانية بهم وتسخير جزء من الكون لحمايتهم وحفظهم، ثم نصره دعوتهم -ولو بعد حين.
إن أصحاب الكهف أنموذج فريد للوقوف في وجه الباطل، وسيرتهم مثال لمن يبتلى ويفتتن في دينه، لذا كانت هذه التسمية أيضًا مناسبة للموضوعات في سورة الكهف حيث تمثل العنصر البشري المفتتن -والله أعلم بمراده وبأسرار كتابه.
ثانيًا: المناسبة بين افتتاحية السورة وخاتمتها
إن المناسبات بين افتتاحية سورة الكهف وخاتمتها كثيرة وواضحة، بل نكاد نقول إن الحقائق التي عرضت في افتتاحية السورة كررت ذاتها بأسلوب آخر في الخاتمة، وفيما يلي نذكر جملة من هذه المناسبات والروابط:
1-
جاء في افتتاحية السورة توجيه الحمد المطلق لله، فهو المستحق لهذا الحمد المطلق وحده، وعلة ذلك أنه أنزل هذا الكتاب العظيم على محمد عبده ورسوله لإخراج الناس من الظلمات إلى النور. جاء ذكر هذا الحمد المطلق في أول آية في السورة في قوله تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} .
فهو ثناء على الله سبحانه وتعالى لأفعاله، وإرشاد للعباد للتوجه إليه بما يستحق من الذكر والشكر والعبادة.
وجاء في خاتمة السورة تخصيص الله سبحانه وتعالى بالعبادة والذكر والشكر وسائر الأعمال الصالحة، وذلك في قوله تعالى:
فتكون السورة قد افتتحت بذكر الألوهية واختتمت بذكر الربوبية.
2-
الوحي المنزل من الله سبحانه وتعالى: جاء التعبير عنه في افتتاحية السورة بصيغة "أنزل، الكتاب".
وجاء التعبير عنه في خاتمة السورة بصيغة "كلمات ربي، يوحي إلي" والكتاب الذي أنزله الله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم جزء من الكلمات التي لا تحصى:
3-
ذكر حقيقة الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه من البشر ومن عباد الله لا يتميز عن سائر البشر بشيء في ظاهره وأسلوب معيشته وما يعتوره من الحوادث والأعراض، إلا أنه يمتاز عنهم بتلك الصلة بالملأ الأعلى عن طريق الوحي. جاء ذلك في افتتاحية السورة في قوله تعالى:{أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَاب} فالمنزل عليه عبد من عباد الله، إلا أن إنزال الكتاب عليه من ربه جعل له تلك الميزة، وقد جاءت لفتة التكريم والتشريف في إضافة العبد إلى الضمير العائد إلى لفظ الجلالة "عبده"، وفي تقديم الجار والمجرور "على عبده" على الكتاب المنزل، ففي هذا التقديم نوع من التكريم والتشريف.
وجاء ذكر حقيقة الرسول صلى الله عليه وسلم وكونه من البشر لا يتميز عن غيره بشيء سوى
الوحي، جاء صريحًا في خاتمة السورة في قوله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} .
4-
تحديد مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم: وهي ذات شقين: حمل البشارة للمؤمنين المتقين الملتزمين بالهدايات الربانية سلوكًا ومنهج حياة، وهذه البشارة هي الخلود في جنات النعيم.
- إنذار المكذبين بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، المتخذين لله أندادًا وشركاء، بالمصير السيئ وهو جهنم وساءت منزلًا ومقيلًا.
جاء ذكر المهملة بشقيها في افتتاحية السورة في قوله تعالى:
{وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا، مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} [الكهف: 2، 3] .
وفي قوله تعالى: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [الكهف: 4] .
كما جاء بيان المهمة بشقيها في خاتمة السورة في قوله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا، خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [الكهف: 107، 108]1.
وجار الإنذار في قوله تعالى:
{إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا} [الكهف: 102] .
وفي قوله تعالى:
{ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا} [الكهف: 106] .
1 من لطائف التعبير القرآني أن البشارة جاءت في الافتتاحية بصيغة الاستقبال "يبشر، يعملون" لأن الدعوة قائمة والمجال مفتوح للعمل في الحال والاستقبال، أما في الخاتمة فقد جاءت بصيغة الماضي، وكأن المصائر قد تقررت واستقر أهل السعادة في النعيم {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} .
5-
مصدر التلقي للمعرفة: إن النتائج الصحيحة تترتيب على الأساليب الصحيحة والمنطلقات الصحيحة في التفكير والاستدلال والبرهان.
أما إذا كانت المنظلقات الفكرية خاطئة والأساليب ملتوية، فلا شك أن النتائج تكون باطلة.
لذا جاءت الإشارة إلى المنهج الصحيح في التلقي في افتتاحية السورة وأنه الوحي المنزل من الله سبحانه وتعالى على رسله:
{وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا، قَيِّمًا} [الكهف: 1، 2] .
كما جاءت الإشارة إلى المنهج الخاطئ في التلقي في قوله:
فالجهل، وتقليد الآباء على ضلالهم، ولجوءهم إلى الكذب كان منهج المعرفة عندهم فأدى أن يقولوا ما يستحيله العقل وترده الفطر السليمة وتكذبه الحقائق الملموسة وهو قولهم:{اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} حاشاه وسبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا.
وجاء التنبيه على المنهجين في خاتمة السورة أيضًا.
فقد ورد ذكر المنهج الصحيح من خلال الإشارة إلى كلمات الله سبحانه وتعالى والوحي بها إلى عبده ورسوله، ومضمون هذا الوحي:
وجاء ذكر المنهج الخاطئ في تلقي المعرفة في خاتمة السورة في قوله تعالى:
{الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا، أَفَحَسِبَ الَّذِينَ
كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا، قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صنْعًا} ، [الكهف: 101-104] .
إنهم عطلوا وسائل المعرفة، فأعينهم عليها غشاوة، وفي آذانهم وقر فلم يتدبروا آيات الله المبثوثة في الآفاق والأنفس ولم يقرءوا كتاب الله المفتوح لكل ذي بصر ألا وهو مخلوقات الله في هذا الكون الفسيح، وأدى بهم تفكيرهم القاصر إلى ربط الضر والنفع بما بين أيديهم من المخلوقات فاتخذوا العباد أولياء من دون الله، وهم بذلك يظنون -وخاب ظنهم- أنهم يحسنون صنعًا فزين لهم شركاؤهم تكذيب رسل الله والكفر بالبعث عبد الموت، فكانت جهنم لهم نزلًا.
6-
القيمة الحقيقية للحياة الدنيا وما يجري فيها: إن من المبادئ الراسخة في العقيدة الإسلامية أن الأرض وما عليها من الكائنات مصيرها الزوال، وأن هذه الحياة على هذا الكوكب حياة مؤقتة، وأن الحكمة من وجودها الابتلاء والاختيار، وأن هذه الحياة مزرعة الآخرة فما زرعه الإنسان في هذه الحياة سيحصد ثماره في الحياة الآخرة.
وأن المقصد من متع هذه الحياة جعلها وسيلة للحياة الباقية وأنها إن لم ترتبط بالقيم الصحيحة الباقية زلت واندثرت باندثار ما على الأرض وكانت وبالًا على أصحابها.
هذه الحقيقة عرضت عرضًا معجزًا في افتتاحية السورة وخاتمتها ففي الافتتاحية جاءت في قوله تعالى:
وجاء ذكر مصير ما تعلقت به نفوس أهل الدنيا، وآثروه على كل شيء وجعلوه مقياس التفاضل والتعظيم واحتكموا إلى مقاييسه المادية كل ذلك لم يكن له وزن في ميزان الله يوم القيامة بل انهارت وذهبت أدراج الرياح:
{أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 105]1.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه"2. إن من قصر همه على دنياه وجعلها أكبر همه ومبلغ علمه فقد خسر الحياة الحقيقية:
{وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64] .
هذه جملة من الحقائق التي وردت في الافتتاحية وفي الخاتمة3 فمن التزم بها عقيدة ومنهج حياة كانت له نورًا يكشف له الطريق وميزانًا يفرق به بين الحق والباطل، ولعل هذا يكشف لنا جانبًا من سر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال" وفي رواية: "من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال" والحكمة في ربط أول السورة بآخرها. أن من أدرك حقيقة الدنيا وزينتها، وأدرك المنهج الصحيح في تلقي المعرفة وعلم أن الباقيات الصالحات هي خير ثوابًا وخير أملًا من أدرك كل ذلك لم تفتنه الدنيا -بإذن الله- ولم يضره حطامها الزائل ويعلم أن ما عند الله خير وأبقى.
1 التعبير بكلمة "حبط" تعبير موح، فأصل الحبوط هو أن تكثر الدابة من العشب حتى ينتفخ بطنها فيقضي عليها، يقول عليه الصلاة والسلام:"إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطًا أو يلم"، فقد أكثر هؤلاء الكفرة المنكرون ليوم البعث من الأعمال الدنيوية؛ مالًا ورجالًا وحطامًا حتى انتفخت نفوسهم بها عجبًا وزهوًا وكبرًا فكان حتفهم في ذلك فحبطت تلك الأعمال، فذهبت هباءً منثورًا، فلا تزن عند الله جناح بعوضة.
2 رواه الترمذي في الزهد: 3/ 384، وقال: هذا حديث حسن غريب، وابن ماجه في الزهد: 2/ 1377.
3 من الملاحظ أنه لم تذكر تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخاتمة بينما ذكرت في الافتتاحية في قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} . والحكمة في ذلك -والله أعلم- لأن القضية انتهت وعرفت المصائر واستقر كل في مآله ومصيره، فلا داعي للتسلية وإعطاء جرعات من الصبر، فلا مجال للانتظار والتربص وقد انتهى كل شيء.