الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثالثًا: أدلة الفطرة
ويقصد بأدلة الفطرة تلك الغرائز والإحساسات الأصلية في فطرة الإنسان التي تشده إلى تعظيم الخالق سبحانه وتعالى والالتجاء إليه.
ولو تركت الفطرة على سجيتها وأصالتها لاتجهت إلى خالقها ورازقها، إلا أن المؤتمرات التي تحيط بالإنسان في مراحل حياته الأولى تؤثر على مسار الفطرة وصفائها، وهذا ما يشير إليه الرسول صلى الله عليه وسلم:"ما من مولد إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء" ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30]1.
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: "إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم" 2.
ولعل هذه الاستقامة والسلامة في الفطرة امتداد لذلك العهد الذي أخذ من الحشد من بني آدم: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172] .
وأبرز أدلة الفطرة ثلاثة:
1 رواه البخاري في كتاب الجنائز: 2/ 97؛ ومسلم في القدر: 8/ 52.
2 صحيح مسلم، كتاب الجنة وصفة أهلها: 8/ 159.
الدليل الأول: حالة الاضطرار
ومهما حاول الإنسان أن يطمس هذه الحقائق من فطرته، أو يحول بينها وبين الالتجاء إلى خالقها فإنه لن يجد إلى ذلك سبيلًا وبالأخص في أوقات الشدة والاضطرار:
وقد أشار القرآن الكريم في جملة من الآيات الكريمة إلى هذه الحقيقة وجعلها دليلًا على توحيد الله سبحانه وتعالى نابعًا من أعماق النفس البشرية.
إن من شأن الفطرة السليمة أن لا تغفل عن خالقها ورازقها في سائر أحوالها وأن تتوجه إليه بالدعاء والشكر رغبة ورهبة في عامة شئونها، إلا أن أهل الانحراف من شأنهم الإشراك بالله في السراء والالتجاء إليه وحده عند إصابتهم الضراء.
يقول تعالى في سورة يونس: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ، فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا
1 الواصب: الدايم. أي حق الإنسان أن يطيعه في جميع أحواله. مفردات الراغب: 823. قال الفراء: "وله الدين واصبًا": معناه دائمًا يقال: وصب يصيب: دام ويقال: خالصًا" معاني القرآن: 2/ 104.
النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يونس: 22-23] .
إن الشعور بالنقص في الإنسان، وعدم قدرته على توفير متطلباته العضوية، وإشباع ميولة الغريزية، تجعله يلتجئ بالضرورة إلى القوة القادرة التي تهيئ له هذه الحاجات وتشبع له هذه الغرائز.
يقول الإمام القزويني في سراج العقول:
"الدليل على أن معرفة الله واجبة كونها من الأمور التي تصل العقول إليها، فإن الإنسان إذا دهاه أمر وضاقت به المسالك، فلا بد أن يستند إلى إله يتأله له، ويتضرع نحوه ويلجأ إليه في كشف بلواه ويسمو قلبه صعودًا إلى السماء ويشخص ناظره إليها. فيستغيث خالقه وبارئه طبعًا وجبلة، لا تكلفًا وحيلة. وهي الفطرة المذكورة في القرآن والحديث ولكن أكثر الناس قد ذهلوا عن ذلك في حالة السراء، وإنما يردون إليه في الضراء. قال تعالى:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 67]1.
إن في حالات الرخاء، أو حالات تلبية الحاجات من قبل المخلوقين قد تلقي ظلالًا من الغبش والرين على صفاء الفطرة، فينحرف بها صاحبها وتنكر وجود خالقها ورازقها والمتصرف في شئونها {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6-7] .
إلا أن هذا الغبش وهذا الران على الفطرة سرعان ما يزول وتعود الفطرة إلى صفائها وتلتجئ إلى خالقها عندما تنقطع عنها الأسباب، وتشعر بحالة من حالات الاضطرار التي لا يملك صاحبها معها التصرف، فعندئذ تظهر علامات الخشوع والخضوع والالتجاء إلى البارئ المصور فتخلص في هذا الالتجاء وفي هذا الدعاء. يقول تعالى:
{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ
1 نقلًا عن دلائل التوحيد للشيخ محمد جمال الدين القاسمي: 24.
صَادِقِينَ، بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 40-41] .
إن من سنة الله سبحانه وتعالى في حالات اللجوء إليه، وعند انقطاع الأمل من الأسباب ومن سائر المخلوقات أن يستجيب إن شاء الله لعباده الذين أخلصوا له الدين والتوجه بغض النظر عن سابق حالاتهم يقول تعالى:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62] .
وما حدث لفرعون يمثل طغيان الإنسان وعنوه وجبروته في حالة الرخاء، وضعفه واستكانته وذلته عند الشدة وانعدام ما يتشبث به من أسباب النجاة ومقومات السلامة.
لقد أصبح من الموت قاب قوسين أو أدنى: وفقد أي أمل في النجاة من الغرق فاستسلم. ولكن سنة الله جرت في العالمين أن: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} [النساء: 18] .
لذا لم تنفعه توبته هذه وكان التعقيب القرآني على نهايته {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 91] .
الدليل الثاني: تطلع الفطرة إلى الكمال
إن من الصفات الأساسية في الغريزة الإنسانية الميل إلى جانب الكمال والسعي إليه في جميع الصفات التي تتصف بها، وتهرب من النقص والاتصاف به.
ولكل صفة من هذه الصفات كمالها النسبي ويتمثل في الصفوة المختارة من البشر وهم أنبياء الله ورسله إلى البشرية. أما الكمال المطلق في كل الصفات فهو من شأن الخالق سبحانه وتعالى.
يقول الشيخ جمال الدين القاسمي:
"تبين في الحكمة المتعالية أن لكل موجود من الموجودات العقلية والنفسية والحسية والطبيعية كمالًا مقررًا. وعشقًا ركز في ذاته شوقًا غلى ذلك الكمال وحركة إلى تتميمه، فكل أحد عاشق للوجود طالب كمال الوجود، نافر عن العدم والنقص. وكل ناقص ينفر عن نقصه ويسعى إلى كماله ويتمسك به عند نيله فيكون كل شيء لا محالة عاشقًا لكماله لأنه مرجع الكل وغاية الكل. وحينئذ فجميع الموجودات متوجهة إلى الحق الأول توجهًا غريزيًا ونازعة إليه نزوع افتقار واحتياج.
يقول بعضهم في هذا المعنى: إن مما بنا من النقص الذاتي والضعف الجبلي يقودنا بحكم ناموس التضاد إلى القول بوجود مدبر كامل، فإنه كما أن لكل شيء ضدًا فالنور والظلام، والعدل والظلم، والموت والحياة، والعدم والحدوث، كل ذلك العلم المحدود يقابله العلم غير المحدود، والقدرة الناقصة تقابلها القدرة الكاملة، وبالجملة فنقص الآدمي وعجزه وشوقه لبلوغ أمانيه وسعيه وراء كمالات لا يدري غايتها ونقضه اليوم ما أبرمه بالأمس مما يبرهن على أن في الغيب قدرة قاهرة وكمالًا باهرًا تنتهي إليه الأماني، وتطمئن به القلوب"1.
الدليل الثالث: الأشواق الروحية
لقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان من مادة هذا الكون كما خلق منها الكائنات الحية الأخرى، إلا أن الإنسان امتاز عليها بنفخة الروح التي خص بها من بين سائر المخلوقات وإلى ذلك الإشارة في قوله تعالى:
1 دلائل التوحيد للشيخ محمد جمال الدين القاسمي: 55 باختصار.
ولكل من هذين الأصلين مظاهره، واحتياجاته، ونتائجه المترتبة عليه فمن مظاهر الأصل المادي الثقل إلى الأرض والأعراض الجسيمة من نمو واختلاف في البنية وتعرض للأسقام.
ومن احتياجات هذا الجانب المادي الحاجة إلى الطعام والشراب والهواء والتخلص من فضلات الجسم، والميل إلى قضاء الوطر.
وإذا لم تشبع هذه الحاجات العضوية من مطعم ومشرب فإنه يؤدي إلى اضمحلال هذا الجانب وبالتالي القضاء عليه بالموت.
وكذلك الجانب الروحي في الإنسان فله مظاهره واحتياجاته ونتائجه فمن مظاهر الجانب الروحي مشاعره وعواطفه من الحب والبغض، والإحساس بالجمال والميل إلى الكمال والرغبة في الحق والصدق
…
إلى آخر ما هنالك من الأمور الفطرية التي يميل إليها الإنسان صاحب الطبع السليم والجبلة القويمة.
كما أن هذا الجانب الروحي في الإنسان يحتاج إلى إشباع، فإن لم يشبع أدى إلى اضطراب وقلق وشقاء وغذاؤه هو الوحي الإلهي والهدايات المستمدة منه، فهو الغذاء الضروري الذي لا غنى للروح عنه، وبالاتصال بالوحي الإلهي والتعامل معه عبادة وذكرًا وخوفًا وطمعًا ودعاءً وابتهالًا، وتوكلًا وإيمانًا وتسليمًا.
يحصل الإنسان على غذائه الروحي، ويكون معتدل الطبيعة منسجمًا مع فطرته عارفًا لغايته في الوجود ساعيًا إلى هدفه ثابت الخطى مطمئن البال رضي النفس. ولا يفوتنا هنا أن نذكر أن إشباع الجانب المادي يكون بالغذاء الحلال النافع كما يكون بالغذاء الحرام والضار، إلا أن النتائج تختلف نتيجة التغذي بالحلال النافع الصحة والهناء والقوة والنشاط. أما نتيجة التغذي بالحرام والضار المرض والإعياء والاضطراب والتعاسة.
وكذلك الغذاء الروحي فمنه الحلال الطيب المفيد وهو ما كان وحيًا إلهيًا "من الكتاب والسنة" وما استمد منه من أحكام وتشريعات. ومن الغذاء الروحي
ما كان محرمًا خبيثًا وهو ما كان من وضع البشر وفلسفاتهم وطقوسهم التعبدية وشرائعهم الوضعية. فمن الغذاء الروحي الفاسد ما عليه الملل والديانات المنحرفة عن أصل الوحي الإلهي من يهودية ونصرانية وما كان من وضع البشر من مجوسية وبوذية وهندوكية ووثنية.
إن إحساس الإنسان بهذه الأشواق الروحية وتطلعه إلى إشباعها بالغذاء الروحي الصافي لا يقل أهمية عن إحساسه بالنقص وتطلعه إلى الكمالات.
كما أن من نتائج هذا الإشباع الإحساس بالقرب من الملأ الأعلى والتطلع إلى الدار الآخرة والزهد والتجافي عن الدار الدنيا، وإلى مثل هذه النتيجة يشير رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:"والذي نفسي بيده إنكم لو تدومون على ما تكونون عليه عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم"1.
وهي الحالة التي بلغها حارثة رضي الله عنه وأقره عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي رجلًا يقال له حارثة في بعض سكك المدينة فقال:"كيف أصبحت يا حارثة؟ " قال: أصبحت مؤمنًا حقًا، قال:"إن لكل إيمان حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ " قال: عزفت نفسي عن الدنيا فأظمأت نهاري وأسهرت ليلي، وكأني بعرش ربي بارزًا وكأني بأهل الجنة في الجنة يتنعمون فيها وكأني بأهل النار في النار يعذبون، قال النبي صلى صلى الله عليه وسلم:"أصبت فالزم، مؤمن نور الله قلبه"2.
1 رواه مسلم في صحيحه، وفي كتاب التوبة: 8/ 95.
2 رواه البزار. انظر: مجمع الزوائد للهيثمي: 1/ 57.