الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خامسًا: مجالات الاستدلال على قضية الألوهية
لما كان تصور قضية الألوهية يعطي مدلولًا معينًا من حيث الخلق والتدبير والتسخير ودقة صنع العليم اللطيف الخبير.
فإن آيات القرآن الكريم تناولت في سياق الاستدلال على الوحدانية وما يستلزمها من صفات الجلال والجمال والكمال.
أ- تناولت الكون الفسيح لبيان عظمة الخالق جل جلاله، وسعة ملكه، ودقة علمه المحيط بكل شيء ولطفه ورحمته بمخلوقاته.
ب- وتناولت آيات الذكر الحكيم، في سياق الاستدلال على تفرد الخالق سبحانه وتعالى بالخلق والتكوين، تناولت الإنسان في خَلْقه، خُلُقه، فكره، غرائزه، وفطرته، استعدادته، وأحواله النفسية والسلوكية في ارتقائه وهبوطه وتعاليه واستفاله.
ولو ذهبنا نستعرض حديث القرآن الحكيم عن الإنسان لوقفنا مشدوهين من هذا العرض الجذاب المثير ولوقفنا على جلية الأمر في تفرد الإنسان بنوع من الاهتمام لا تحظى به المخلوقات الأخرى.
ففي خلقه وتكوينه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 12-14] .
وفي خواصه واستعداده: {الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الْأِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 1-4] .
يقول الشيخ جمال الدين القاسمي في كتابه "دلائل التوحيد"1:
"ولما كانت معرفة العالم كله تصعب على الإنسان الواحد لقصور أفهام بعضهم عنها واشتغال بعضهم بالضرورات التي يعرفها منهم جعل تعالى لكل إنسان من نفسه وبدنه عالمًا صغيرًا أوجد فيه مثال ما هو موجود في العالم الكبير ليجري ذلك من العالم مجرى مختصر من كتاب بسيط يكون مع كل أحد نسخة يتأملها في الحضر والسفر والليل والنهار فإن نشط وتفرغ للتوسط في العلم نظر في الكتاب الكبير الذي هو العالم، فيطلع منه على الملكوت ليغزر علمه ويتسع فهمه وإلا فله مقنع بالمختصر الذي معه، ولذا قال تعالى:{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُون} [الذاريات: 21] .
جـ- كما تناولت الآيات القرآنية الحيوان، خلقه، غرائزه، وظيفته، تجمعه، وعمله.
1 انظر: ص29.
إن حديث القرآن الكريم عن الحيوان هو حديث الخالق الذي خلق ما في الكون لغاية، وأسند إليه دورًا، وهداه إلى سبيل معيشته وتحصيل رزقه، وأسلوب التفاهم والمعايشة بين أفراده وجماعته.
إنها مخلوقات الله سبحانه وتعالى الذي لم يجعل في هذا الكون شيئًا مجردًا عن المنفعة أو مجردًا عن مهمة أو خلق عبثًا.
إن تجريد أي شيء من وظائف ومهمات يتنافى مع الحكمة العليا في الخلق.
ونكتفي بإشارات مقتضبة في عالم الحيوان، وقد مرت جملة من الآيات تتحدث عنها عند الحديث عن ربط أمور العقيدة بمصالح العباد في الحياة الدنيا.
ونشير هنا إلى جوانب لم تذكر هناك تتعلق بالحيوان:
ولقد جاءت هذه الآيات الكريمة في سياق موقف المشركين من رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم لا يكذبونه لأنهم لم يجربوا عليه كذبًا قط، ولكن الظالمين كانوا بآيات الله يجحدون فلا يؤمنون بالآيات الكريمة ولا بالدعوة التي أتى بها محمد صلى الله عليه وسلم ومع ما في ضمن هذا الكلام الذي قالوه من تناقض فكيف لا يجرب عليه كذب طيلة حياته، ثم يكذب أعظم كذبة على خالق السماوات والأرض إلا أنهم قالوها وارتضوها، والعقل المشترك يقبل مثل هذا التناقض ويستسيغه، طلبوه معجزات وخوارق على صحة ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فجاءت اللفتة إلى هذه الأمم التي تعيش بينهم من غير البشر إنهم لو تدبروا ما حولهم لاكتفوا بما يرون عن طلب الآيات، فإنهم ليسوا وحدهم في هذا الكون، بل حولهم أحياء أخرى كلها ذات أمر منتظم يوحي بالقصد والتدبر والحكمة، يوحي كذلك بوجود الخالق، ووحدة التدبير الذي يأخذ به خلقه كله.
إنه من دابة تدب على الأرض -وهذا يشمل كل الأحياء من حشرات وهوام وزواحف وفطريات وما من طائر يطير بجناحيه في الهواء- وهذا يشمل كل طائر من طير أو حشرة وغير ذلك من الكائنات الطائرات، ما من خلق حي في هذه الأرض كلها إلا وهو ينتظم في أمة، ذات خصائص واحدة، وذات طريقة في الحياة واحدة كذلك. شأنها في هذا شأن أمة الناس ما ترك الله شيئًا من خلق بدون تدبير يشمله، وعلم يحصيه، وفي النهاية تحشر الخلائق إلى ربها فيقضي في أمرها بما يشاء1.
إن هذه الكائنات الحية المبثوثة في جنبات الأرض آية بل آيات في الدلالة على خالقها ورازقها وهاديها إلى سبيل معايشها وإلى وظائفها.
ولكن العقول والقلوب الغافلة لا تنظر نظرة التدبر فيما حولها لتهتدي إلى مبدع هذه المخلوقات ومبدع أنظمة حياتها، بل تريد خارقة مادية كما أرسل الأولون يريدون إنزال كنز من السماء، أو إتيان الله والملائكة قبيلًا، أو تفجير الأنهار خلال ديارهم أو زحزحة الجبال عنهم، أو رقي النبي صلى الله عليه وسلم في السماء لإحضار كتاب من السماء يقرءونه وفيه أسماؤهم آمن يا فلان وآمن يا فلان.
أما القلوب المهتدية بنور الحق الباقية على فطرتها السليمة فإن مجرد لفت نظرها إلى ما حولها من الإبداع والانتظام كفيل لإشراق نور الإيمان فيها وتحريكها إلى الخير والصلاح والفلاح.
"د" ولا يقل اهتمام الآيات الكريمة في مجال الاستلال بالنبات وعالمه وشئونه عن عالم الإنسان والحيوان.
فهناك أيضًا الإبداع، وهناك النظام وأداء الدور الوظيفي في خضم هذه الحياة.
{وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ
1 في ظلال القرآن لسيد قطب: 2/ 1080.
وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 99] .
هذه أبرز المجالات التي تعرض القرآن الكريم من خلالها للاستدلال على الخالق سبحانه وتعالى، وهي المجالات الرئيسية في هذه الحياة الدنيا.