الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
افتتاحية سورة الكهف
الموضوعات الأساسية في الافتتاحية
…
افتتاحية سورة الكهف:
بسم الله الرحمن الرحيم:
الموضوعات الأساسية في الافتتاحية:
يمكن القول إن افتتاحية سورة الكهف أجملت الأسس والموازين التي تقوم بها المفاهيم والتصرفات والسلوك الإنساني.
فقد جاءت الافتتاحية متضمنة للحقائق الأساسية التي ينبغي وضعها نصب الأعين عند البحث والمقارنة والتقويم، وقد جاءت هذه الحقائق مجملة في منتهى الوضوح والفصاحة والإعجاز:
فالحقيقة الأولى:
توجيه الثناء المطلق لله رب العالمين، لأنه المستحق على وجه الكمال هذا الحمد والثناء، ولأنه أنعم على البشرية بالنعمة التي لا تضاهيها نعمة، وهي الحياة الحقيقية المميزة لهم عن سائر المخلوقات، هذه النعمة هي نعمة الوحي، لإخراج
الناس من الظلمات إلى النور {الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} .
الحقيقة الثانية:
الوحي المنزل على عبد الله ورسوله، الذي احتواه "الكتاب" له مزايا ثلاث:
الميزة الأولى: في كونه منزلًا من عند الله سبحانه وتعالى، والمنزل يأخذ شرفه ومجده من الذي أنزله، فإذا كان المنزل هو خالق السماوات والأرض ومبدعهما، الذي بيده الملك والأمر وإليه المصير، فلا شك أن هذا المنزل، فيه من أوصاف العزة والتمجيد والتقديس ما يليق بجانب منزله.
وهذه المزية إضافية خارجة عن ذات الكتاب المنزل.
أما المزيتان الأخريان فهما ذاتيتان:
فالمزية الذاتية الأولى: كونه مستقيمًا في حد ذاته، فالاستقامة في هداياته الاستقامة في منهجه في تثقيف الفكر والسلوك، الاستقامة في موازينه وضوابطه التي يضبط بها السلوك والمشاعر والأفكار، فيبين الحق منها عن الزيف والتمويه والخداع وإلى كل ذلك الإشارة في قوله تعالى:{وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} 1.
والمزية الذاتية الثانية: كامنة في قوله تعالى: {قَيِّمًا} ، فهذا الكتاب المنزل له القوامة على ما سواه من الكتب السابقة، فيصدق ما فيها من الحق والصواب، وبين التحريف والتنوير الذي أدخل فيها أتباعها كما جاء في قوله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48] .
كما أن لهذا الكتاب القوامة على الحياة الإسلامية والمجتمع الإسلامي. ومن استقامة هذا الكتاب وقوامته استمدت هذه الأمة القوامة على غيرها، لأن القرآن الكريم أنشأها على الاستقامة في ذاتها فاستحقت القوامة على غيرها.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ
1 من أسرار التعبير المعجز ورود كلمة "له" بدل فيه، لأن "له" تفيد عدم قابليته العوج أصلًا، أما نفي أن يكون العوج فيه، فلا ينفي القابلية.
عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] .
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110] .
يقول الفخر الرازي: إن قوله تعالى: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا، قَيِّمًا} في وصف القرآن مثل قوله تعالى في سورة البقرة: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} ، فليس فيه عوج ولا شك، ولا ريب فيه، وهو مقوم لغيره، مهيمن عليه، يقيمه على الجادة الصحيحة بهداياته1.
الحقيقة الثالثة:
الرسول الذي أنزل عليه الكتاب:
فهو عبد من عباد الله المصطفين الأخيار المختصمين الذين أراد الله لهم الكرامة باختيارهم لحمل الرسالة، فهو عبد بشر كغيره2.
إلا أن الله اصطفاه بالوحي وجعله يتميز بنوع من الخاصية على غيره فهو على صلة بالملأ الأعلى، {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} .
1 مفاتيح الغيب للفخر الرازي: 21/ 75 باختصار.
2 جاءت الإشارة إلى تكريم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشريفه في الآية بأسلوبين: أولهما: تقديم الجار والمجرور على المفعول به، وفي ذلك تنبيه على أن أمر محمد صلى الله عليه وسلم واضح لقريش، فلا يستدعي سؤال اليهود عن بينات صدقه.
ثانيهما: إضافته إلى ذاته، وتكرر في القرآن الكريم تسمية رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره من رسل الله بلقب العبودية، وإضافتها إلى ضمير لفظ الجلالة، جاء ذلك في سورة الإسراء في قوله تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1] . وفي سورة النجم: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10] . وكلا المقامين مقام تكريم وتشريف، وفي قوله تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] . وهو مقام تأييد ونصرة وذلك لأن مقام العبودية الحقة لله تعالى أعلى منزلة يصل إليها الإنسان لأنه بها يحقق الغاية التي خلق من أجلها {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] .
ومن الجوانب المتعلقة بالرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الافتتاحية تحديد مهمته وحصرها في: الإنذار والبشارة.
الإنذار لمن تقول الكذب والافتراء على الله سبحانه وتعالى، تقليدًا لآبائهم، وهذه الفرية ناتجة عن جهل عقولهم، وغفلة قلوبهم وطمس بصائرهم.
أما البشارة فهي للمؤمنين1 بالغيب، بالمثل والقيم التي أنزلها بالوحي على رسوله.
الحقيقة الرابعة:
المسئولية والحساب والأجر:
إن من مستلزمات الإيمان الالتزام بالسلوكيات التي يفرضها الإيمان فإن من بدهيات العقل، أن لكل عقيدة يعتقدها الإنسان سلوكًا ينبثق عنها، وأخلاقًا تظهر على معتنقي هذه العقيدة، لذا كان من الطبيعي عند العقلاء أيضًا أن يربطوا بين المظاهر السلوكية والعقائد التي يتبناها الناس.
ولما لم يخلق الإنسان عبثًا، فلا بد من رجوعه إلى خالقه ليكافئ المحسن على إحسانه والمسيء على إساءته:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115] فلا بد من المثوبة والأجر الحسن اللائق بصاحب الإيمان والعمل الصالح، والخلود الدائم غير المنقطع في جنات عرضها السماوات والأرض.
ومن الملاحظ هذا التأكيد في الخلود {مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} وفي ذلك تطمين كبير، لأن من أهم منغصات الشهوات والملذات لأهل الدنيا هو تحققهم من زوالها عنهم، أو زوالهم عنها مهما امتد بهم العمر.
وبالمقابل فإن المسئولية والجزاء لهؤلاء المفترين الكاذبين الذين نسبوا إلى
1 لم يرد مع كلمة "المؤمنين" الجار والمجرور، والأصل أن يقال: المؤمنين بكذا، وفي ترك ذلك تعميم بحيث ينصرف الذهن إلى كل محتمل في هذا الصدد، وهو أسلوب مطرد في القرآن الكريم.
الله أعظم فرية، فعليهم أن يتوقعوا البأس الشديد في عقوبتهم بحيث تكافئ ضخامة الكلمة الكاذبة التي تفوهوا بها.
الحقيقة الخامسة:
العلم المبني على تعاليم الوحي يوصل إلى القيم الثابتة، وينهج المنهج الذي يوصله إلى النتائج الصحيحة المبينة على العقل.
والجهل يؤدي إلى التمسك بالمألوفات والعادات الموروثة والتشبث بالتقاليد ولو خالفت المنهج السليم في التفكير والاستدلال، بل يحمل الجهل صاحبه إلى قبول مفتريات لا أصل لها على الإطلاق.
كما قبل هؤلاء الجاهلون نسبة الولد إلى الله سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا1 {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} .
الذين اتخذوا مع الله شركاء وجعلوا له ولدًا فئة من اليهود والنصارى حيث قالوا ذلك كما أخبر عنهم القرآن الكريم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ
1 من الأمور اللافتة للنظر التعظيم من شأن هذه الفرية -نسبة الولد إلى الله سبحانه وتعالى أو اتخاذ الشريك معه- في السور الثلاث المتتابعة: ففي الإسراء قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111]، وفي سورة الكهف في أولها قوله تعالى:{وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} .
وفي سورة مريم قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا، تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا، أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا، وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 88-93] .
قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30] كما قال المشركون من العرب عن الملائكة، {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ، أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ، وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [الزخرف: 15- 17] .
الحقيقة السادسة:
إن الحياة الدنيا بمباهجها وزينتها وأموالها وطاقاتها {مَا عَلَى الْأَرْض} الهدف من خلقها وإيجادها هو ابتلاء البشر، ومآلها الزوال والفناء فمن أحسن التصرف فيها وربطها بالحقائق الباقية الخالدة وسخرها للعمل الصالح فقد فاز {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185] .
أما من جعل هذه الحياة الدنيا مبلغ علمه وغاية مقصده، فقد سقط في الفتنة وخسر خسرانًا مبينًا.
فلا يستحق من لم يرفع لدعوة الحق رأسه، الحسرة والتأسف عليه فمن ربط نفسه ومصيره بمصير الدنيا وجعلها دائرة اهتمامه، فقد أضاع نفسه، ومن لم يرحم نفسه فلا راحم له.
وفي ذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يهمه أمر القوم وتكاد تذهب نفسه حسرات عليهم، كما قال تعالى في موضع آخر مسليًا رسوله:{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر: 8] .
وهذا الشعور من كمال شفقة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس فهو الأخذ بحجزهم من النار1. إلا أن حكمة الله سبحانه وتعالى جرت بترك الخيار للمكلفين لتتحقق.
1 جاءت تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم في افتتاحية السورتين "الكهف والشعراء" بتعبير "لعل، باخع" وأصل لعل للترجي، وتفيد الإشفاق والحث على ترك التحزن والتأسف.
وأصل البخع، للأرض التي تتوالى زراعتها فتضعف بسبب متابعة الزراعة.
وقال الزمخشري: البخع أن يبلغ الذبح البخاع وهو عرق مستبطن القفا، وهي كناية عن الهلاك. واستشكله ابن الأثير.
انظر: أساس البلاغة للزمخشري: 16، والفائق في غريب الحديث للزمخشري: 1/ 82، وانظر: النهاية لابن الأثير: 1/ 102.
الحكمة من الابتلاء {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] .
وما ورد في افتتاحية الكهف من التسلية شبيه بما جاء في افتتاحية سورة الشعراء في قوله تعالى: {طسم، تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ، لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 1-4] .
هذه جملة الحقائق الأساسية في افتتاحية الكهف، وقد وجدنا في مبحث المناسبات في سورة الكهف تكرر ذلك في الخاتمة أيضًا.
وسنرى أن المقاطع اللاحقة جاءت لتفصيل هذه الحقائق وتقريرها وضرب الأمثلة عليها مما يزيدها وضوحًا وتقريرًا وبيانًا.