الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العرض الإجمالي للمقطع الرابع:
ذكرت في مقدمات تفسير هذه السورة الكريمة أن الأسلوب العام في مقاطع هذه السورة هو أسلوب القصة، كما ذكرت أن القصص التي ذكرت في هذه السورة قصص فريدة، حتى قصة موسى فتعتبر فريدة من وجه لأنها تتعلق بالسيرة الذاتية لموسى عليه السلام وبمداركه العلمية وتلمذته على الرجل الصالح الذي علمه ربه من لدنه علمًا، أما القصص الأربع في سورة الكهف قصص فريدة في القرآن الكريم.
وذكرت أيضًا أن أسلوب القرآن الكريم في كثير من قصصه إغفال جزئيات كثيرة إما لعدم تأثيرها في السياق والعبر المستقاة من القصة، أو تشويقًا للسامع وإفساحًا لمجال فكرة وخياله لكي يملأ تلك الفجوات بالاحتمالات التي تخطر على باله، وفي ذلك تنشيط للذهن، وإثارة للتساؤلات لمتابعة الأحداث.
وتتبلور هذه الأسس في قصة موسى والخضر عليها السلام في أبرز صورة:
- فالدافع لموسى عليه السلام في اتخاذ قرار بالسفر إلى مجمع البحرين لا وجود له في ثنايا القصة.
- ونفاجأ بالقصة وأحداثها وبموسى وفتاه وهما على متن الطريق وقد شرعا في السفر، وهما يتبادلان الحديث حول الوصول إلى الهدف والتصميم على ذلك.
- والمكان الذي كان منه الانطلاق مجهول وكذلك مكان اللقاء بالعبد الصالح وزمانه ولئن ذكر مجمع البحرين فهو غير معلوم بالتحديد لأحد من المفسرين.
وقل مثل ذلك في زمان الحادثة هل كان قبل خروج بني إسرائيل من مصر، أو بعد الخروج، وهل وقع قبل التيه أو أثناءه.
- وهذا الفتى الذي رافق موسى عليه السلام من هو؟ ما دوره في مجريات الأحداث؟ ما مصيره بعد اللقاء بالعبد الصالح؟
- والعبد الصالح ما حقيقته؟ أنبي مرسل، أو ولي مكرم، أو عالم مطلع؟ وما المدة التي قضياها مصطحبين؟ وما وجهته ومصيره بعد الفراق؟ وجو الغموض والمفاجآت الذي يلف القصة من أولها إلى آخرها ملائم تمامًا للهدف منها، يقول سيد قطب رحمه الله تعالى في هذا الصدد: إن القوى الغيبية لتتحكم في القصة منذ نشأتها، فها هو ذا موسى يريد أن يلقى هذا الرجل الموعود، فمضى في طريقه، ولكن فتاه ينسى غداءهما عند الصخرة، وكأنما نسيه ليعودا فيجد هذا الرجل هناك.
"ولم ينبئنا القرآن باسم الرجل تكملة للجو الغامض الذي يحيط بنا، وما قيمة اسمه؟ إنما يراد به أن يمثل الحكمة الإلهية العليا، التي لا ترتب النتائج القريبة على المقدمات المنظورة بل تهدف إلى أغراض بعيدة لا تراها العين المحدودة، فعدم ذكر اسمه يتفق مع الشخصية المعنوية التي بمثلها"1.
وبعد أن يكشف الرجل ستر الغيب عن تصرفاته ليبرز الحكمة من ورائها يختفي من السياق كما بدا، لقد مضى في المجهول كما خرج من المجهول فالقصة تمثل الحكمة الكبرى، وهي لا تكشف عن نفسها إلا بمقدار ثم تبقى مغيبة في علم الله وراءه الأستار.
ولولا أن السنة النبوية الشريفة أكملت جوانب وألقت الأضواء على بعض التفصيلات لما وجدنا إلى العلم الصحيح بها سبيلًا.
لذا أرى من اللزام علي أن أسرد ما ذكرته السنة الصحيحة في هذا الشأن لنستعرض بعد ذلك العرض الإجمالي لمعاني الآيات الكريمة.
جاء في صحيح البخاري
…
عن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عباس: إن نوفًا2 البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر عليه السلام ليس هو موسى صاحب
1 في ظلال القرآن: 4/ 2281 باختصار وتصرف.
2 نوف البكالي: أحد القصاص بالكوفة، وهو ابن امرأة كعب الأحبار، وكان يروي عن كعب الإسرائيليات.
بني إسرائيل، قال ابن عباس: كذب عدو الله، حدثنا أبي بن كعب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:"إن موسى قام خطيبًا في بني إسرائيل، فسئل: أي الناس أعلم؟ قال: أنا".
وفي رواية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "موسى رسول الله ذكر الناس يوما حتى إذا فاضت العيون ورقت القلوب، ولَّى فأدركه رجل فقال: أي رسول الله هل في الأرض أحد أعلم منك؟ قال: لا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه، إن لي عبدًا بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال موسى: يا رب فكيف لي به؟ قال: تأخذ معك حوتًا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثم، فأخذ حوتًا فجعله في مكتل ثم انطلق، وانطلق معه فتاه يوشع بن نون، حتى إذا أتيا الصخرة -وفي رواية: وفي أصل الصخرة عين يقال لها الحياة، لا يصيب من مائها شيء إلا حيي، فأصاب الحوت من ماء تلك الصخرة فتحرك وانسل من المكتل فدخل البحر- وضعا رءوسهما فناما، واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربًا، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق، فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليلتهما، حتى إذ كان من الغد، قال موسى لفتاه:{آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به قال له فتاه: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} ، قال: فكان للحوت سربًا ولموسى وفتاه عجبًا، قال:{ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} قال: فرجعا يقصان أثرهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل مسجَّى بثوب، فسلم عليه موسى، فقال الخضر: وأنى بأرضك السلام؟ -وفي رواية فوجدا خضرًا على طنفسة خضراء على كبد البحر مسجى بثوبه قد جعل طرفه تحت رجليه، وطرفه تحت رأسه، فسلم عليه موسى، فكشف عن وجهه، وقال: هل بأرضك من سلام؟ - من أنت؟ قال: أنا موسى فقال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، قال: أتيتك لتعلمني مما علمت رشدًا -وفي رواية قال له موسى: وما أدراك بموسى بني إسرائيل؟ قال: الذي
أدراك بي ودلك علي، قال له الخضر: ما شأنك؟ قال: جئت لتعلمني مما علمت رشدًا قال: أما كان لك شغل في بني إسرائيل يشغلك؟ أما يكفيك التوراة ينزل عليك؟ - {قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه، فقال موسى:{سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} قال له الخضر: {فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول1، فلما ركبا في السفينة، لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحًا من ألواح السفينة بالقدوم -وفي رواية فخرقها ووتد فيها وتدًا- فقال له موسى: قد حملونا بغير نول فعمدت إلى سفينتهم فخرقها لتغرق أهلها؟ {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} 2، {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فكانت الأولى من موسى نسيانًا، قال: وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة، فقال له الخضر: ما علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر، ثم خرجا من السفينة فبينما يمشيان على الساحل إذا أبصر الخضر غلامًا يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه بيده فقتله، فقال له موسى:{أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا، قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} ، قال: وهذا أشد من الأولى، {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا، فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} أي مائلًا: فقال الخضر بيده "فأقامه"، فقال موسى: قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا {لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا، قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وددنا
1 النول: الأجر.
2 إمرًا: أي منكرًا من قولهم: أمر الأمر، أي كبر وكثر، كقولهم استفحل الأمر. انظر: المفردات: 30.