الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المناسبة بين المقطع الأول والثاني:
هنالك مناسبات واضحة بين الافتتاحية وبين المقطع الأول، والمقطع الثاني فقد ذكرنا أن الافتتاحية تضمنت الحقائق والقيم الصحيحة التي توزن بها المبادئ والتصرفات.
فاشتمل المقطع الأول على قصة أصحاب الكهف وفيها الصراع بين الباطل المتمثل في السلطة الطاغية المتجبرة وبين الحق المتمثل في نور الإيمان ومشعل الحق الذي آمن به الفتية.
أما المقطع الثاني فقد اشتمل أيضًا على لونين من المبادئ والقيم: فالباطل ويتمثل في موقف زعماء قريش المتجبرين المتكبرين على عباد الله بسبب ما أوتوا من مال وجاه، فاتبعوا أهواءهم وطلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم طرد فقراء المسلمين المستضعفين.
وشبه حال هؤلاء القوم بحال صاحب الجنتين الذي أبطرته النعمة فتكبر وتجبر وكفر بالآخرة.
والحق يتمثل في موقف المؤمنين الضعفاء الذين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصبر نفسه معهم، فقد وصفوا بالإخلاص {يُرِيدُونَ وَجْهَه} والمثابرة على طاعة الله وعبادته {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} وضرب لهم المثل بمحاور صاحب الجنتين الذي قال كلمة الحق للغافل المتكبر وبين له أن العزة الحقيقية والغنى الحقيقي لمن ملك الإيمان بالله سبحانه وتعالى واستغنى بما عنده عما في أيدي الناس.
هذه المناسبات بين المقاطع وبين الافتتاحية
أما المناسبات بين المقطعين نفسيهما فمما يرد على الذهن بشأنها -والله أعلم.
1-
لما كان تعلق المقطع الأول بقصة أصحاب الكهف، وهو البند الأول من السؤال الأول الذي وجهته قريش -بتلقين من اليهود- إلى رسول الله وقد جاء الجواب عليه بالتفصيل، ولم تبق شبهة في ذلك، فمما يرد على الذهن -وقد قالوا: لقد جئنا بالأمر الفصل فيما بينكم وبين محمد، فاستقرت النتيجة لصالح محمد صلى الله عليه وسلم أن يفكروا في الإيمان بمحمد، ولكن واقعهم وموروثاتهم الجاهلية لن يستطيعوا التخلي عنها بسهولة. ولن يستسلموا طواعية، فلكي يسمعوا من محمد دعوته وينظروا في أمر الإيمان به، فليطرد هؤلاء الضعفاء من مجلسه لكيلا يعير بهم الأسياد فيقال إنهم جلسوا مع الأرقاء والفقراء والمستضعفين في مجلس واحد. فهذا -في نظرهم- مما يزري بمكانتهم كما أن رائحة جباب هؤلاء تؤذي القوم، فإن كان حريصًا على إسلام السادة الزعماء فليهيئ لهم الجو المناسب اللائق بمقامهم فالمناسبة بين المقطع الأول والثاني كالمناسبة بين المقدمة والنتيجة فلما جاء الجواب على سؤالهم، فالنتيجة المنطقية أن يدخلوا الإسلام ولكن القوم طلبوا ما طلبوا واشترطوا ما اشترطوا ليبرروا موقفهم المعاند ولو بأتفه الأسباب.
2-
الوجه الثاني من المناسبة بين المقطع الأول والثاني: لما ورد ذكر الفتية المؤمنين في المقطع الأول ومنزلتهم في الحفاظ على العقيدة والتضحية في سبيل الله وكرامتهم على الله تعالى.
ناسب أن يذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن في أمته أمثال أولئك فلا ينبغي التفريط فيهم، بل الواجب تقريبهم والعناية بهم فهم عدة الدعوة ووقود المعارك، وهم المخلصون الذين يعتمد عليهم -بعد ذلك- في الملمات والشدائد.
أما الغافلون عن ذكر الله، الساردون في ملذاتهم وشهواتهم، العابدون لأهوائهم فلا خير فيهم، وليسوا أهلًا للقيام بأعباء الدعوة ولا يزنون عند الله جناح
بعوضه، فلا يسمع كلامهم ولا تلبى طلباتهم والله غني عنهم، ثم ضرب لهم المثل بصاحب الجنتين.
3-
ختم المقطع الأول بقوله تعالى: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} .
والآية كالجسر بين المقطعين فطرفها الأول في المقطع السابق يتعلق بالإخبار بحقيقة مكوث أصحاب الكهف، وأنه لا يلتفت إلى أقوال الفئات المتنازعة في شأنهم، فعند الله الذي يعلم غيب السماوات والأرض العلم الحقيقي، واتل ما أنزل عليك في شأنهم، يا محمد من أمور الغيب واستمسك به وبالهدايات التي ترد إليك، ومن هذه الهدايات الصبر مع المتقين المخلصين، وعدم الاغترار بالمظاهر الزائفة والأقوال الخادعة من زعماء الشرك فإنما يزينون لك الحياة الدنيا وقد علمت قيمتها الحقيقية. وهو الطرف الآخر من الجسر إلى المقطع الثاني.
4-
يضاف إلى هذه المناسبات ما تقدم في مبحث المناسبة بين المقاطع وبين هدف السورة وقد ذكرنا هناك أن سوق هذه القصة بمثابة التقريع والتوبيخ لزعماء قريش الذين أهملوا عقولهم وأغفلوا معرفتهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وصدقه ونزاهته وأمانته وأرسلوا إلى اليهود ليعطوهم ما يتحققون به من صدق محمد في دعوته.
فسيق لهم هذا المثل أن من غفل قلبه عن ذكر الله واتبع هواه وكانت قيمه التي يحتكم إليها المال والجاه ضل ضلالًا بعيدًا، ولم يهتد إلى بدائه العقول وإلى نور الفطرة فلا ينظر إلى الأمور إلا بمنظار الغنى المادي وكثرة الرجال وعلو الجاه والمنزلة بين الناس.
فطغيانهم المادي واختلال الموازين والقيم عندهم هو الذي دفعهم إلى هذا التصرف فضرب لهم المثل لبيان الحقائق.