الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نبذة تاريخية عن نشوء علم التفسير وتطوره ومكانة التفسير الموضوعي:
بينت الآيات القرآنية الحكمة الإلهية من خلق الإنس والجن في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] .
كما بينت السنة الإلهية في بعثهم بعد موتهم لمحاسبتهم عن الأمانة التي حملوها: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115] .
وبين الخلق والتكليف والإعادة بعد الموت.
لم يتركه لعقله واجتهاداته وأهوائه في التعرف على أسلوب العبادة، ومنهجه في الحياة الدنيا، بل أرسل إليه الرسل وأنزل الكتب لهدايته:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] .
وكانت السنة الإلهية أن يكون الرسل من الأقوام المرسل إليهم وبلسانهم. وذلك أداء للرسالة على أحسن وجه، وليتحقق الغرض من إرسالهم ببيان الهدايات بأيسر الطرق إلى الأقوام {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4] .
لذلك كان الرسول المكلف بالتبليغ هو أوعى الناس لمهمته وأكثرهم علمًا وإحاطة برسالته، وبالتالي أقدرهم على بيان مراد الله سبحانه وتعالى من كتابه وآياته.
وهذه السنن والحكم الإلهية تتجلى في خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم ورسالته. وقد نزلت الآيات الكريمة تبين هذه الجوانب بيانًا كاملًا:
فتارة يتكفل له ربه سبحانه وتعالى بحفظ القرآن: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] .
وتارة أخرى يتعهد له ربه سبحانه وتعالى بجمع القرآن له وتوضيحه لاستيعابه: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 17-19] .
وتارة يأمره ربه بتبليغ الآيات الكريمة للناس ومجاهدتهم بالقرآن: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان: 52] .
لذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم عباد الله بكتاب الله، إذ إن تبليغ الرسالة على الوجه الأكمل مترتب على فهمه لمحتوى الرسالة جملة وتفصيلًا، وهذا أمر تفرضه بدهيات الأمور {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] .
ويأتي بعد فهم الرسول صلى الله عليه وسلم للقرآن الكريم فهم الصحابة رضوان الله عليهم وإن كان فهمهم له جملة "لظاهره على الإجمال ولأحكامه على التفصيل".
وليس من الضروري إحاطتهم التامة بمعاني القرآن الكريم بحيث لا تغيب عنهم شاردة ولا واردة، نقول ذلك لما نقل إلينا عن الصحابة رضي الله عنهم، فعلى الرغم من رجوعهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم المرة تلو الأخرى لبيان ما أشكل عليهم فهمه، أو لإزالة غموض اعتور فهمهم للآيات البينات، تنقل إلينا كتب التفسير والروايات الصحيحة من السنة النبوية أن بعض الصحابة كان يستفسر عن بعض الآيات والمعاني إلى مرحلة متأخرة من حياتهم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمثلًا تنقل لنا الروايات أن عمر بن الخطاب سأل على المنبر في إحدى خطبه عن "الأب" في قوله تعالى:{وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31]، ثم عاد إلى القول: وما يضرك لو لم تعلم معناها1، فإن في بحث هذه الأمور التي لا ينبني عليها حكم عملي تكلفًا لا فائدة منه، لذا كان الصحابة رضوان الله عليهم يكتفون فيما يتعلق بالجوانب النظرية من فروع العقائد، أو ما يتعلق بسير الأمم، أو تخليق السماوات والأرض
…
فكانوا يكتفون بموطن العظة والعبرة ومجمل الاعتقاد فيها. بل جاء النهي القرآني الصريح عن الخوض في مثل هذه الأمور التي لا تدخل في إطار الأحكام العملية، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا
1 انظر: الإتقان في علوم القرآن للسيوطي: 2/ 113.
حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ، قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} [المائدة: 101، 102] .
كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم النهي عن الاستفسارات التي لا يكون لها واقع عملي في حياة المسلمين. يقول عليه الصلاة والسلام: "إن أعظم المسلمين جرمًا من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته"1. وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ذروني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم" 2.
وفي الحديث الآخر الصحيح: "إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودًا فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها"3.
والحكمة الإلهية في ذلك -والله أعلم- أن انصراف الأمة إلى الأمور النظرية والفرعيات التي لا ترتبط بالأحكام العملية يؤدي إلى الفرقة والنزاع وإلى الجدل العقيم والترف الثقافي، والأمة الإسلامية أمة جهاد ودعوة وعمل فلا يليق بها مثل هذه المشاغل، وبخاصة في الصدر الأول في مرحلة تأسيس الدولة الإسلامية.
بالإضافة إلى ما تقدم فإن إمكانات الصحابة رضوان الله عليهم الثقافية واللغوية لم تكن على مستوى واحد في الإدراك والفهم والاستنباط.
روى البخاري في صحيحه عن الشعبي عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: أخذ عدي عقالًا أبيض وعقالًا أسود حتى كان بعض الليل نظر فلم يستبينا، فلما أصبح قال: يا رسول الله جعلت تحت وسادتي فقال: "إن وسادك إذًا لعريض أن كان الخيط الأبيض والأسود تحت وسادتك"4.
وكان منهم من لازم الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يفارقه في سفر ولا حضر، فاطلع على
1 رواه البخاري في كتاب الاعتصام: 8/ 142، ومسلم في كتاب الفضائل: 7/ 92.
2 رواه مسلم في صحيحه في كتاب الفضائل: 7/ 91.
3 أخرجه ابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه. انظر: الدر المنثور للسيوطي: 3/ 208.
4 صحيح البخاري، كتاب التفسير: 5/ 156.
أسباب النزول وما كان يرافق أحوال الوحي مما لم يدركه الآخرون، كل ذلك أوجد ملكة ذهنية وعلمية لم تتوافر لغيرهم.
يقول مسروق: "جالست أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فوجدتهم كالإخاذ -الغدير- فالإخاذ يروي الرجل، والإخاذ يروي الرجلين، والإخاذ يروي العشرة، والإخاذ يروي المائة، والإخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم"1.
{أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17] .
وفي الرواية التي أخرجها أبو الشيخ وابن مردويه والحاكم في صحيحه عن ابن عباس ما يدل أن بعض الصحابة كان يفهم بعض الآيات على غير وجهها الصحيح فيقع في محظور. يقول ابن عباس: إن الشراب كانوا يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأيدي والنعال والعصي، حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: لو فرضنا لهم حدًا فتوفي ما كانوا يضربون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أبو بكر يجلدهم أربعين حتى توفي ثم كان عمر من بعدهم فجلدهم كذلك أربعين، حتى أُتي برجل من المهاجرين الأولين قد شرب فأمر به أن يجلد، فقال: لم تجلدني؟ بيني وبينك كتاب الله، قال: وفي أي كتاب الله تجد أن لا أجلدك؟ قال: فإن الله تعالى يقول في كتابه: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وأحسنوا. شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرًا وأحدًا والخندق والمشاهد، فقال عمر: ألا تردون عليه؟ فقال ابن عباس: هؤلاء الآيات نزلت عذرًا للماضين وحجة على الباقين، عذرًا للماضين لأنهم لقوا الله قبل أن حرم عليهم الخمر، وحجة على الباقين لأن الله يقول:{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ} حتى بلغ الآية الآخرى، فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا، فإن الله نهى أن يشرب الخمر، فقال عمر: فماذا ترون؟ فقال علي بن أبي طالب: نرى أنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذي وإذا هذي افترى، وعلى المفتري ثمانون جلدة فأمر عمر فجلد ثمانين2.
1 التفسير والمفسرون للذهبي: 1/ 30.
2 انظر الدر المنثور للسيوطي: 3/ 162.
وفي عهد التابعين اتسعت دائرة الأقوال في التفسير نظرًا لحاجة الناس إلى تفسير القرآن الكريم، وذلك:
- لبعد العهد عن عصر النزول، ولانتشار الإسلام.
- ودخول أقوام فيه ممن لم تكن لديهم خلفية عن الثقافة الإسلامية، بل كان لبعضهم خلفيات ثقافية أخرى ممن اعتنقوا ديانات قبل الإسلام.
- كما ولد في الإسلام جيل لم يكن على علم تام بأساليب العربية وما رافق نزول القرآن إلا ما تلقوه عن الصحابة رضوان الله عليهم.
وكان إلى هذا العهد يتناقل التفسير بطريق الرواية، فالصحابة يروون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يروي بعضهم عن بعض، والتابعون يروون عن الصحابة كما يروي بعضهم عن بعض.
- وفي أواخر عهد بني أمية وأوائل العصر العباسي بدأ عصر التدوين، فجمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. فطاف الآفاق رجال كان شغلهم الشاغل جمع ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان على رأس هؤلاء:
ابن شهاب الزهري، المتوفى سنة 124هـ.
وشعبة بن الحجاج، المتوفى سنة 160هـ.
ووكيع بن الجراح، المتوفى سنة 197هـ.
وسفيان بن عيينة، المتوفى سنة 198هـ.
وروح بن عبادة البصري، المتوفى سنة 205هـ.
وعبد الرزاق بن همام الصنعاني، المتوفى سنة 211هـ.
وآدم بن إياس، المتوفى سنة 220هـ.
وأحمد بن حنبل، المتوفى سنة 241هـ.
وعبد بن حميد، المتوفى سنة 249هـ.
وابن ماجه، المتوفى سنة 273هـ.
وابن جرير الطبري، المتوفى سنة 310هـ.
وغيرهم كثير
…
ولكن لم يصلنا شيء عن تفاسيرهم سوى تفسير مجاهد، وتفسير عبد الرزاق الصنعاني، وتفسير ابن ماجه، وتفسير ابن جرير الطبري.
وكان إلى هذا العهد يجمع التفسير على أنه باب من أبواب الحديث، يدون فيه ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كبار الصحابة مما يتعلق بتفسير آية أو آيات.
ولم يبحث عن تفسير كل آية من آيات القرآن الكريم، وإنما يذكر فيه ما ثبت بطريق السند نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحد الصحابة.
ولم نجد تفسيرًا مستقلًا للقرآن الكريم تتبع القرآن سورة سورة أو آية آية قبل بداية القرن الثالث الهجري، على الرغم من أن الروايات تذكر أن مجاهدًا المتوفى سنة 104هـ سأل ابن عباس ومعه ألواحه، فكتب تفسير القرآن كاملًا، إلا أن التفسير المطبوع لا يختلف عن التفاسير المأثورة لآيات متفرقة. كما قيل إن سعيد بن جرير المتوفى سنة 94هـ كتب تفسيرًا كاملًا للقرآن الكريم. كما يقال إن عمرو بن عبيد شيخ المعتزلة كتب تفسيرًا للقرآن عن الحسن البصري المتوفى سنة 116هـ. إلا أننا لا نستطيع أن نجزم بصحة هذه الروايات لأن هذه التفاسير لم يصلنا منها إلا القليل، ووصلت أجزاء من بعضها.
ولعل أقدم تفسير كامل لآيات القرآن الكريم، وصلنا وتحت أيدينا، وهو تفسير شيخ المفسرين ابن جرير الطبري المتوفى سنة 310هـ.
ثم توالت المؤلفات في التفسير وتشعبت ألوانها حسب اتجاهات أصحابها والفنون التي أجادوا فيها، إلا أن الذي يهمنا هنا:
هل كان بين تلك المؤلفات ما نطلق عليه اليوم اسم التفسير الموضوعي؟
وقيل البدء باستعراض تلك المؤلفات لنتعرف على المراد من مصطلح "التفسير الموضوعي".