الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانيًا: اهتمام القرآن الكريم بالتوحيد أكثر من الاهتمام بإثبات وجود الخالق
وهذه قضية بارزة جدًا يلمسها المتتبع لهدايات القرآن الكريم عند عرض قضايا الألوهية وهذا المنهج متسق تمامًا مع المنهج القرآني في تقرير الحقائق وتشريع الشرائع والأحكام، فكل قضية تعتمد على رصيد الفطرة عند الإنسان يأتي التذكير بها عامًا وإجمالًا، أما القضايا التكليفية التي تثار ليتوصل إليها الإنسان بعقله أو يأتي الوحي ليقرر الالتزام بها ولا تشكل الفطرة أحد مقوماتها ودوافعها، فإن القرآن يكثر من الاستدلال عليها وتوجه الأنظار للحكم الربانية في تقريرها، وكثيرًا ما تذكر دوافع تشريعاتها ونتائج الالتزام بها. وفي القرآن الكريم قضايا كثيرة من هذا القبيل، فمثلًا من الأمور المقررة في الشريعة أن السعي في الأرض وكسب الرزق واتباع الأسباب التي جعلها الله سبحانه وتعالى بين الخلائق للحصول على لقمة العيش، هذا السعي أمر مطلوب شرعًا ومن كان صاحب عيال ولديه القدرة على السعي والكسب يؤاخذ إن ترك السعي وضيع العيال. ولكننا لا نجد أن القرآن الكريم قد تعرض لهذا الجانب -طلب السعي لتحصيل الرزق والمعاش- إلا لمامًا، وفي أحاديث عرضية فمثلًا نجد قوله تعالى:{فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15] جاء في سياق الحديث عن نعم الله على العباد الذي خلق لهم وسائل المعيشة وجعل الأرض ذلولة لهم لا تستعصي عليهم عند السعي عليها أو إقامة المصالح في جنباتها. فكل ذلك يقتضي شكر المنعم المتفضل عليهم بذلك وجاء قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10] ، جاء بعد النهي عن البيع والكسب عند النداء لصلاة الجمعة بعد قوله تعالى
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9] ويقرر علماء الأصول أن الأمر بعد الحظر يفيد الإباحة.
بل نجد أن بعض الآيات تصرف الهمم عن التفكير بالرزق والكسب لأن الله تكفل بهذا الرزق {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِين} [الذاريات: 56-58] .
{وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت: 60] .
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا"1.
والحكمة في عدم الدفع للسعي على الرزق واتباع الأسباب في ذلك علمًا أنه شيء مطلوب كما قدمنا لأن غريزة الإنسان في حب التملك وحب البقاء، وحب تطوير وسائل الرفاه والمتعة كل ذلك كفيل بأن يدفع الإنسان إلى السعي في ذلك.
بينما أمور العبادات والتوجه إلى الطاعات والقربات لا تدفعها إليها الغريزة فكانت الآيات الكثيرة تقررها وتأمر بها.
ومثل ذلك الحقوق المتبادلة بين الوالدين والأولاد.
1 سنن ابن ماجه، كتاب الزهد: 2/ 1394، ومسند الإمام أحمد: 1/ 30.
فالقرآن يقرر في آيات كثيرة وجوب الإحسان إلى الوالدين وخفض الجناح لهما، مثل قوله تعالى:
بينما الحديث عن حقوق الأولاد لا يأتي إلا لمامًا وعرضًا إما عند الحديث عن نعم الله سبحانه وتعالى على الإنسان {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [النحل: 72] وعند نهي الآباء عن ارتكاب الجرائم والفواحش {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام: 151] .
الحكمة في هذا التركيز على جانب والاقتصاد في جانب آخر -والله أعلم- هو أن رصيد الفطرة وغريزة الأبوة كافية لحمل الوالدين على العناية بالأولاد وإيفاء حقوقهم كاملة.
أما الإحسان إلى الوالدين فهو من الأمور التكليفية، حيث لا رصيد فطري دافع فكان التأكيد والاهتمام.
وهذا هو الشأن فيما نحن بصدده من قضية إثبات وجود الخالق، وقضية توحيد الخالق، فإن الإقرار بوجود خالق للكون، والاعتراف بوجود خالق للإنسان، وتوجيه العبادة إلى خالق الحياة، هذا أمر فطري في الإنسان وأمر جبلي لا يستطيع الفكاك منه، إن قضية الألوهية -الإقرار بوجود إله- مركوزة في الفطرة الإنسانية بحيث يستحيل اجتثاثها مهما بذلت من جهود لإزالتها، وإنما كل الذي يجري عليها.
هو تحريفها عن مسارها وظهورها في صورة مشوهة من الانحرافات العقدية مما سبب انحطاطًا في المستوى الخلقي للبشر ومسخًا للملكات والعواطف النبيلة التي ترقيها وتسمو بها عقيدة الألوهية الحقة. فليست القضية إذن بين إنسان يعبد أو لا يعبد -أو يقر بإله أو لا يقر- فالجميع يعبدون بأسلوب أو بآخر.
وإنما الفارق في المعبود: هل الإنسان يعبد الله سبحانه وتعالى المستحق للعبادة فيوحده ولا يتخذ معه ندًا ولا شريكًا، أو أن الإنسان يعبد غير الله من الآلهة التي لا واقع لها في الحقيقة، إن هي إلا أسماء سموها هم وآباؤهم.
فهنا حالتان:
حالة الهدى: فيعبد الناس الله وحده بلا شريك في مراحل البشرية جميعها.
وحالة الضلالة: وتختلف فيها المعبودات من دون الله وتختلف باختلاف الزمان والمكان. لم تعد قضية الأولهية -من حيث إثبات الخالق- من النظريات التي يقام عليها برهان فإن الفطرة الإنسانية السليمة قد شهدت -بضرورة فطرتها، وبديهة فكرتها- بصانع قادر حكيم عليم {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 9] وإن هم غفلوا عن هذه الفطرة في السراء فلا شك أنهم يلوذون إليها في حالة الضراء {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [لقمان: 32] .
يقول الشهرستاني في كتابه "نهاية الإقدام في علم الكلام"1 تعقيبًا على إقرار الفطرة بوجود الخالق: "ولهذا لم يرد التكليف بمعرفة وجود الصانع وإنما ورد بمعرفة التوحيد ونفي الشرك".
1 في ص 124.