المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌أولًا- تعريف علم المناسبات: المناسبة في اللغة: المقاربة والمشاكلة. وفي الاصطلاح: هي - مباحث في التفسير الموضوعي

[مصطفى مسلم]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌التفسير الموضوعي: "تعريفه- نشأته- تطوره- ألوانه- أهميته

- ‌تمهيد:

- ‌نبذة تاريخية عن نشوء علم التفسير وتطوره ومكانة التفسير الموضوعي:

- ‌تعريف التفسير الموضوعي:

- ‌نشأة التفسير الموضوعي:

- ‌ألوان التفسير الموضوعي:

- ‌اللون الأول:

- ‌اللون الثاني:

- ‌اللون الثالث

- ‌أهمية التفسير الموضوعي:

- ‌مناهج البحث في التفسير الموضوعي:

- ‌أولًا: منهج البحث في موضوع من خلال القرآن الكريم:

- ‌ثانيًا: منهج البحث في التفسير الموضوعي لسورة واحدة

- ‌ثالثا: التفسير الموضوعي لسورة قرآنية

- ‌تحديد محور السورة

- ‌الهدف في السورة القصيرة والسورة الطويلة:

- ‌الإطناب والإيجاز في قضايا عرضتها السورة:

- ‌صلة التفسير الموضوعي بالأنواع الأخرى من التفسير:

- ‌علم المناسبات والتفسير الموضوعي

- ‌مدخل

- ‌أولًا- تعريف علم المناسبات:

- ‌ثانيا: أهمية علم المناسبات وأقوال العلماء فيه

- ‌مدخل

- ‌القسم الأول: المناسبات في السورة الواحدة

- ‌مدخل

- ‌أنواع المناسبات في السورة الواحدة:

- ‌القسم الثاني: المناسبات بين السور

- ‌مدخل

- ‌أنواع المناسبات بين كل سورتين متجاورتين:

- ‌مثال تطبيقي على موضوع من خلال القرآن الكريم" الألوهية من خلال آيات القرآن الكريم

- ‌مقدمات بين يدي الموضوع

- ‌أولا: الألوهية والفطرة

- ‌ثانيًا: اهتمام القرآن الكريم بالتوحيد أكثر من الاهتمام بإثبات وجود الخالق

- ‌ثالثًا: منهج القرآن في إثبات التوحيد منهج فطري

- ‌رابعًا: ربط قضايا العقيدة بمصالح العباد في حياتهم المعاشية

- ‌خامسًا: مجالات الاستدلال على قضية الألوهية

- ‌أبرز أنواع الأدلة على توحيد الله جل جلاله في القرآن الكريم

- ‌مدخل

- ‌أولًا: أدلة الخلق والإبداع

- ‌ثانيًا: أدلة العناية

- ‌ثالثًا: أدلة الفطرة

- ‌رابعًا: البراهين العقلية

- ‌خامسًا: أدلة التوحيد من خلال إثبات صفات الكمال لله سبحانه وتعالى وتنزيهه عن صفات النقص

- ‌الخاتمة:

- ‌مثال تطبيقي في تفسير سورة تفسيرًا موضوعيًّا: "القيم في ضوء سورة الكهف

- ‌تمهيد:

- ‌بين يدي سورة الكهف:

- ‌اسمها وعدد آياتها:

- ‌خصائص سورة الكهف:

- ‌وقت نزولها وسببه:

- ‌أهداف سورة الكهف:

- ‌المناسبات في سورة الكهف

- ‌أولا: المناسبة بين اسم السورة وموضوعاتها

- ‌ثانيًا: المناسبة بين افتتاحية السورة وخاتمتها

- ‌ثالثًا: المناسبة بين مقاطع السورة وهدفها

- ‌افتتاحية سورة الكهف

- ‌الموضوعات الأساسية في الافتتاحية

- ‌المقطع الأول: قصة الفتية المؤمنين

- ‌مدخل

- ‌بين يدي قصص سورة الكهف:

- ‌العرض الإجمالي لقصة الفتية المؤمنين:

- ‌العرض التحليلي للقصة:

- ‌تعقيب واستطراد وتعليل:

- ‌عظات وعبر:

- ‌المقطع الثاني: مفارقات ومواقف في بواعث العزة

- ‌مدخل

- ‌المناسبة بين المقطع الأول والثاني:

- ‌العرض العام للمقطع الثاني:

- ‌عظات وعبر:

- ‌المقطع الثالث: وقفة تأمل في المال والمصير

- ‌مدخل

- ‌المناسبات بين المقطع الثالث وما قبله:

- ‌العرض الإجمالي للمقطع الثالث:

- ‌الفوائد والعظات والعبر في المقطع الثالث:

- ‌المقطع الرابع: الرحلة في طلب العلم

- ‌مدخل

- ‌المناسبات بين المقطع الرابع وما قبله:

- ‌العرض الإجمالي للمقطع الرابع:

- ‌الانطلاق والبحث عن العبد الصالح:

- ‌العظات والعبر من فقرة الانطلاق والبحث عن العبد الصالح:

- ‌اللقاء والحوار:

- ‌العظات والعبر من فقرة اللقاء والحوار:

- ‌الصحبة الكريمة والأحداث العجيبة

- ‌مدخل

- ‌أولها: الجانب النفسي لموسى عليه السلام

- ‌ثانيها: صدمة المفاجأة وهول الحادث

- ‌ثالثها: مبادئ شريعة التوراة

- ‌الفراق بعد تأويل التصرفات الغريبة:

- ‌العظات والعبر من فقرة الصحبة الكريمة والأحداث العجيبة

- ‌مدخل

- ‌تعقيبات وتعليقات:

- ‌المقطع الخامس: قصة ذي القرنين الرجل الطواف

- ‌مدخل

- ‌المناسبات:

- ‌العرض الإجمالي للمقطع الخامس:

- ‌وقفات لابد منها

- ‌الوقفة الأولى: مع ذي القرنين

- ‌الوقفة الثانية: مع السد وموقعه

- ‌الوقفة الثالثة: مع يأجوج ومأجوج؛ حقيقتهم ومصيرهم

- ‌القيم في قصة ذي القرنين:

- ‌العظات والعبر في المقطع الخامس قصة ذي القرنين:

- ‌خاتمة السورة:

- ‌الخاتمة:

- ‌الفهارس

- ‌ فهرس الآيات الكريمة

- ‌ فهرس الأحاديث والآثار:

- ‌ فهرس الأعلام:

- ‌ فهرس المراجع:

- ‌ محتوى الكتاب:

الفصل: ‌ ‌أولًا- تعريف علم المناسبات: المناسبة في اللغة: المقاربة والمشاكلة. وفي الاصطلاح: هي

‌أولًا- تعريف علم المناسبات:

المناسبة في اللغة: المقاربة والمشاكلة.

وفي الاصطلاح: هي الرابطة بين شيئين بأي وجه من الوجوه. وفي كتاب الله تعني ارتباط السورة بما قبلها وما بعدها. وفي الآيات تعني وجه الارتباط في كل آية بما قبلها وما بعدها.

ص: 58

‌ثانيا: أهمية علم المناسبات وأقوال العلماء فيه

‌مدخل

ثانيًا- أهمية علم المناسبات وأقوال العلماء فيه:

علم المناسبات بين سور القرآن الكريم أو بين الآيات في السورة الواحدة من العلوم الدقيقة التي تحتاج إلى فهم دقيق لمقاصد القرآن الكريم، وتذوق لنظم القرآن الكريم وبيانه المعجز، وإلى معايشه جو التنزيل، وكثيرًا ما تأتي إلى ذهن المفسر على شاكلة إشراقات فكرية أو روحية.

وقد اعتبر بعض المفسرين أن نسبة هذا العلم من علم التفسير مثل نسبة علم البيان من علم النحو1.

وهو علم يجعل أجزاء الكلام بعضهًا آخذًا بأعناق بعض، فيقوي بذلك الارتباط ويصير التأليف حاله حال البناء المحكم المتلائم الأجزاء2.

وهو علم تعرف منه علل ترتيب أجزاء القرآن، وهو سر البلاغة لأدائه إلى تحقيق مطابقة المقال لما اقتضاه من الحال.

قال القاضي أبو بكر بن العربي المتوفى سنة 543هـ في "سراج المريدين": "ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتى يكون كالكلمة الواحدة متسعة المعاني منتظمة

1 نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للبقاعي: 1/ 6.

2 البرهان في علوم القرآن للزركشي: 1/ 35، 36.

ص: 58

المباني، علم عظيم لم يتعرض له إلا عالم واحد عمل فيه سورة البقرة. ثم فتح الله عز وجل لنا فيه، فلما لم نجد له حملة ورأينا الخلق بأوصاف البطلة ختمنا عليه وجعلناه بيننا وبين الله ورددناه إليه"1.

قال الزركشي: "وقال بعض مشايخنا المحققين -وسماه السيوطي في الإتقان: الشيخ ولي الدين الملوي، قد وهم من قال: لا يطلب للآي الكريمة مناسبة، لأنها على حسب الوقائع المتفرقة، وفصل الخطاب أنها على سحب الوقائع تنزيلًا وعلى حسب الحكمة ترتيبًا وتأصيلًا، مرتبة سوره كلها وآياته بالتوقيف كما أنزله جملة إلى بيت العزة، ومن المعجز البين أسلوبه ونظمه الباهر والذي ينبغي في كل آية أن يبحث أول كل شيء عن كونها تكملة لما قبلها أو مستقلة، ثم المستقلة ما وجه مناسبتها لما قبلها، ففي ذلك علم جم. وهكذا في السور يطلب وجه اتصالها بما قبلها وما سيقت له"2. ا. هـ.

قال البقاعي في نظم الدرر: "وبهذا العلم يرسخ الإيمان في القلب ويتمكن من اللب، وذلك أنه يكشف أن للإعجاز طريقين: أحدهما: نظم كل جملة على حيالها بحسب التركيب، والثاني: نظمها مع أختها بالنظر إلى الترتيب.

والأول أقرب تناولًا وأسهل ذوقًا، فإن كل من سمع القرآن بما تلته وما تلاها خفي عليه وجه ذلك، ورأى أن الجمل متباعدة الأغراض متنائية المقاصد فظن أنها متنافرة، فحصل له من القبض والكرب أضعاف ما كان حصل له بالسماع من الهز والبسط، ربما شككه ذلك وزلزل إيمانه وزحزح إيقانه

إلى أن يقول: فإذا استعان بالله وأدام الطرق لباب الفرج بإنعام التأمل وإظهار العجز والوقوف بأنه في الذروة من إحكام الربط كما كان من الأوج من حسن المعنى. فانفتح له ذلك

1 نظم الدرر: 1/ 7، والبرهان: 1/ 36.

2 نظم الدرر: 1/ 8، والبرهان: 1/ 37، والإتقان: 2/ 108.

ص: 59

الباب ولاحت له من ورائه بوارق أنوار تلك الأسرار. رقص الفكر منه طربًا وشكر الله استغرابًا وعجبًا وشاط لعظمة ذلك جنانه فرسخ من غير مرية إيمانه

" إلخ1.

ويقول الرازي: "علم المناسبات علم عظيم أودعت فيه أكثر لطائف القرآن وروائعه، وهو أمر معقول إذا عرض على العقول تلقته بالقبول"2.

وعدم مراعاة علم المناسبات بين الآيات يوقع في بعد عن المعنى حتى في الآية الواحدة. وهذا ما حدث لكثير من المفسرين في تفسير آية الأهلة: جاء في سبب نزول صدر الآية عن ابن عباس: سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأهلة فنزلت هذه الآية: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] . وقال أبو العالية: بلغنا أنهم قالوا: يا رسول الله لِمَ خلقت الأهلة؟ فأنزل الله: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} 3.

وفي تفسير الطبري: ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن زيادة الأهلة ونقصانها واختلاف أحوالها فأنزل الله تعالى ذكره هذه الآية جوابًا لهم فيما سألوا عنه.

وبعد أن ساق الروايات في ذلك قال الطبري: فتأويل الآية إذا كان الأمر على ما ذكرنا عمن ذكرنا عنه قوله في ذلك: يسألونك يا محمد عن الأهلة ومحاقها وسرارها وتمامها واستوائها وتغير أحوالها بزيادة ونقصان ومحاق واستسرار، وما المعنى الذي خالف بينه وبين الشمس التي هي دائمة أبدًا على حال واحدة لا تتغير بزيادة ولا نقصان، فقل يا محمد خالف بين ذلك ربكم لتصييره الأهلة التي سألتم عن أمرها ومخالفة ما بينها وبين غيرها فيما خالف بينها وبينه مواقيت لكم ولغيركم من بني آدم في معاشهم ترقبون بزيادتها ونقصانها ومحاقها وسرارها وإهلالكم إياها أوقات حل ديونكم وانقضاء مدة إجارة من استأجرتموه وتصرم عدة نسائكم ووقت صومكم وإفطاركم فجعلها مواقيت للناس.

1 نظم الدرر: 1/ 11-12.

2 البرهان: 1/ 35.

3 تفسير ابن كثير: 1/ 225.

ص: 60

ثم ذكر تأويل قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} [البقرة: 189]، قيل: نزلت هذه الآية في قوم كانوا لا يدخلون إذا أحرموا بيوتهم من قبل أبوابها. وذكر الروايات في ذلك.

وعادة دخول البيوت من ظهورها في حال الإحرام أو عند العودة من سفر كانت عادة متبعة في الجاهلية، وعلى الرغم من ورود الشطر الثاني للآية لإبطال تلك العادة فإن وضعه في المكان المحدد له من قبل الحكيم الخبير لا بد من وجود رابط بين صدر الآية وشطرها الثاني، ولم يشر أحد من المفسرين الذين لا يلتفتون إلى المناسبة بين الآيات إلى ذلك.

ونجد الإمام الرازي -ولأنه يهتم بالمناسبة بين الآيات- أول من التفت إلى ذلك. يقول الرازي -بعد أن ذكر أقوال المتقدمين والروايات التي ذكرها جل المفسرين: "المسألة الثانية: ذكروا في تفسير الآية ثلاثة أوجه:

الأول: وهو قول أكثر المفسرين حمل الآية على هذه الأحوال التي رويناها في سبب النزول، إلا أنه على هذا التقدير صعب الكلام في نظم الآية، فإن القوم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحكمة في تغيير نور القمر فذكر الله تعالى الحكمة في ذلك وهي قوله:{قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} ، فأي تعلق بين بيان الحكمة في اختلاف نور القمر وبين هذه القصة؟

ثم ساق وجوهًا من أقوال المفسرين لتوجيه هذا القول والملاءمة بين أول الآية وآخرها.

ثم ذكر في ثنايا القول الثاني وجهًا في غاية الانسجام حيث قال: "فجعل إتيان البيوت من ظهورها كناية عن العدول عن الطريق الصحيح وإتيانها من أبوابها كناية عن التمسك بالطريق المستقيم"1.

أي إن سؤالهم عن حادثة فلكية دقيقة قبل تمكنهم من علم الفلك وتعاطي أسباب معرفته كمن يأتي البيت من ظهره وذلك مناقض للحكمة والبر.

1 مفاتيح الغيب للرازي: 5/ 126.

ص: 61

هذه أقوال المؤيدين للبحث عن وجه المناسبة بين الآيات في السورة الواحدة وبين السور المتعددة، إلا أن هذا الاتجاه لم يكن مسلمًا به عند جميع العلماء ووجد من يقول إن هذا البحث تكلف محض تأباه طبيعة نزول القرآن، منجمًا، ولم ينقل شيء من ذلك عن سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين.

ولعل أقدم من رفع صوته مستنكرًا لهذا الأمر سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام المتوفى سنة 660هـ.

ونقل السيوطي في الإتقان قوله: "إن ربط آيات القرآن على ترتيب نزوله تكلف لا يليق، إذ إنه يشترط في حسن الكلام أن يقع في أمر متحد مرتبط أوله بآخره، فإن وقع على أسباب مختلفة لم يقع فيه ارتباط، ومن ربط ذلك فهو متكلف بما لا يقدر عليه إلا بربط ركيك، يصان عن مثله حسن الحديث فضلًا عن أحسنه، فإن القرآن نزل في نيف وعشرين سنة في أحكام مختلفة شرعت لأسباب مختلفة، وما كان كذلك لا يتأتى ربط بعضه ببعض"1.

كما نقل عن الإمام أبي حيان صاحب البحر المحيط كلامًا شبيهًا بكلام العز بن عبد السلام وقد ذكر الإمام الشوكاني في تفسيره فتح القدير2، حجج المنكرين لهذا اللون من الربط بين الآيات وأيدهم بحجج وضرب أمثلة، ولعل أوسع مقال في ذلك ما كتبه الشيخ محمد بن عبد الله الغزنوي3، وهو يرد على القائلين بوجود المناسبات. وننقل فيما يلي كلامه بتمامه لأنه يمثل وجهه نظر الرافضين:

يقول الشيخ: اعلم أن كثيرًا من المفسرين جاءوا بعلم متكلف وخاضوا في بحر لم يكلفوا سباحته، استغرقوا أوقاتهم في فن لا يعود عليهم بفائدة. بل

1 الإتقان: 2/ 138.

2 انظر: فتح القدير: 1/ 72 وما بعدها.

3 الشيخ محمد بن عبد الله الغزنوي المتوفى سنة 1296هـ، له تعليقات على تفسير "جامع البيان في تفسير القرآن" للشيخ معين الدين محمد بن عبد الرحمن الحسني الحسيني الإيجي الشافعي المتوفى سنة 894هـ.

ص: 62

أوقعوا أنفسهم في التكلم بمحض الرأي المنهي عنه في الأمور المتعلقة بكتاب الله سبحانه وذلك أنهم أرادوا أن يذكروا المناسبة بين الآيات القرآنية المسرودة على هذا الترتيب الموجود في المصاحف، فجاءوا بتكلفات، وتعسفات يتبرأ منها الإنصاف، ويتنزه عنها كلام البلغاء فضلًا عن كلام الرب سبحانه، حتى أفردوا ذلك بالتصنيف وجعلوه المقصد الأهم من التأليف، كما فعله البقاعي في تفسيره ومن تقدمه ومن تأخره. وإن هذا لمن أعجب ما يسمعه من يعرف أن هذا القرآن ما زال ينزل مفرقًا على حسب الحوادث المقتضية لنزوله منذ نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قبضه الله عز وجل إليه.

وكل عاقل فضلًا عن عالم لا يشك أن هذه الحوادث المقتضية لنزول القرآن متخالفة باعتبار نفسها بل قد تكون متناقضة كتحريم أمر كان حلالًا، وتحليل أمر كان حرامًا، وإثبات أمر لشخص أو أشخاص تناقض ما كان قد ثبت لهم قبله، وتارة يكون الكلام مع المسلمين وتارة مع الكافرين، وتارة مع من مضى وتارة مع من حضر، وحينًا في عبادة، وحينًا في معاملة، ووقتًا في ترغيب ووقتًا في ترهيب، وآونة في بشارة وآونة في نذارة، وطورًا في أمر دنيا وتارة في أمر آخرة، ومرة في تكاليف آتية ومرة في أقاصيص ماضية.

وإذا كانت أسباب النزول مختلفة هذا الاختلاف ومتباينة هذا التباين الذي لا يتيسر معه الائتلاف، فالقرآن النازل فيها باعتبار نفسه مختلف كاختلافها، فكيف يطلب العاقل المناسبة بين العنب والتوت، والماء والنار، والملاح والحادي؟ وهل هذا إلا من فتح أبواب الشك وتوسيع دائرة الريب على من في قلبه مرض، أو كان مرضه مجرد الجهل والقصور؟

فإنه إذا وجد أهل العلم يتكلمون في التناسب بين جميع آي القرآن ويفردون ذلك بالتصنيف تقرر عنده أن هذا الأمر لا بد منه، وأنه لا يكون القرآن بليغًا معجزًا إلا إذا ظهر الوجه المقتضي للمناسبة، وتبين الأمر الموجب للارتباط، فإن وجد الاختلاف بين الآيات رجع إلى ما قاله المتكلمون في ذلك، فوجده تكلفًا محضًا وتعسفًا بينًا، انقدح في قلبه ما كان عليه في عافية وسلامة، هذا على فرض أن نزول

ص: 63

القرآن كان مرتبًا على هذا الترتيب الكائن في المصحف، فكيف وكل من له أدنى علم بالكتاب وأيسر حظ من معرفته يعلم علمًا يقينًا أنه لم يكن كذلك، ومن شك في هذا -وإن لم يكن مما يشك فيه أهل العلم- رجع إلى كلام أهل العلم العارفين بأسباب النزول، المطلعين على حوادث النبوة، فإنه يثلج صدره وينزل عنه الريب بالنظر في سورة من السور المتوسطة، فضلًا عن المطولة، فإنه لا محالة يجدها مشتملة على آيات نزلت في حوادث مختلفة وأوقات متباينة، لا مطابقة بين أسبابها، وما نزل فيها في الترتيب، بل يكفي المقصر أن يعلم أن أول ما نزل {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} وبعده {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّر} ، {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} ، وينظر أي موضع هذه الآيات والسور في ترتيب المصحف. وإذا كان الأمر هكذا، فأي معنى لطلب المناسبة بين آيات نعلم قطعًا أنه قد تقدم في ترتيب المصحف ما أنزل الله متأخرًا، أو تأخر ما أنزل الله متقدمًا؟! فإن هذا عمل لا يرجع إلى ترتيب نزول القرآن بل إلى ما وقع من الترتيب عند جمعه ممن تصدى لذلك من الصحابة، وما أقل نفع مثل هذا وأنزر ثمرته وأحقر فائدته، بل هو عند من يفهم ما يقول، وما يقال له من تضييع الأوقات وإنفاق الساعات في أمر لا يعود بنفع على فاعله، ولا على من يقف عليه من الناس.

وأنت تعلم أنه لو تصدى رجل من أهل العلم للمناسبة بين ما قاله رجل من البلغاء من خطبه ورسائله وإنشاءاته، وإلى ما قاله شاعر من الشعراء من القصائد التي تكون تارة مدحًا وأخرى هجاء، وحينًا تشببًا وحينًا رثاء وغير ذلك من الأنواع المتخالفة. فعمد هذا المتصدي إلى ذلك المجموع فناسب بين فقره ومقاطعه ثم تكلف تكلفًا آخر فناسب بين الخطبة التي خطبها في الحج والخطبة التي خطبها في النكاح ونحو ذلك، وناسب بين الإنشاء الكائن في العزى والإنشاء الكائن في الهنا وما يشابه ذلك، لعد هذا المتصدي لمثل هذا مصابًا في عقله متلاعبًا بأوقاته عابثًا بعمره الذي هو رأس ماله.

وإذا كان مثل هذه بهذه المنزلة وهو ركوب الأحموقة في كلام البشر فكيف تراه يكون في كلام الله سبحانه الذي أعجزت بلاغته بلغاء العرب وأبكمت فصاحته فصحاء عدنان وقحطان.

ص: 64

وقد علم كل مقصر وكامل أن الله سبحانه وصف هذا القرآن بأنه عربي فأنزله بلغة العرب وسلك فيه مسالكهم في الكلام وجرى فيه مجاريهم في الخطاب. وقد علمنا أن خطيبهم كان يقوم المقام الواحد فيأتي بفنون مختلفة وطرائف متباينة فضلًا عن المقامين فضلًا عن المقامات فضلًا عن جميع ما قاله ما دام حيًا وكذلك شاعرهم.

ولنكتف بهذا التنبيه على هذه المفسدة التي يعثر في ساحاتها كثير من المحققين1. ا. هـ.

هذه وجهة النافين لهذا اللون من البحث، وهذه حججهم وردودهم على القائلين بوجود المناسبات بين الآيات والسور.

ولا شك أن هذا العلم دقيق المسالك خفي المدارك، وهو من العلوم التي تحتاج إلى بذل الجهد في التتبع والاستقصاء اللغوي لدلالات الألفاظ القرآنية، والإحاطة بأسباب النزول، والتوسع في أفانين علم البلاغة والأساليب البيانية، وفوق كل ذلك ينبغي أن يكون الباحث ذا حس مرهف ونفس شفافة وذكاء لماح ليدرك سر هذا الترتيب للآيات التي وضعت بجوار بعضها، وقد أكدت الأخبار الصحيحة عن المعصوم أن الفاصل الزمني بينها يتجاوز السنوات العديدة أحيانًا.

ونحن نسلم أن بعض العلماء الباحثين في وجوه المناسبات قد تكلفوا أحيانًا في استخراج وجه المناسبة، ولكن تكلفهم هذا لا ينبغي أن يكون ذريعة لرد الوجوه المعقولة المقبولة التي ذكرها الآخرون.

ونؤمن إيمانًا جازمًا أن ترتيب الآيات في السور كان بأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم لكتبه الوحي، ولم يكن لأحد رأي واجتهاد في ذلك.

1 انظر: التعليقات على تفسير جامع البيان: 13 و14، ط. دار نشر الكتب الإسلامية، الباكستان، الطبعة الثانية 1397هـ/ 1977م. وهو منقول بنصه عن فتح القدير للشوكاني، ج1، ص72، 73.

ص: 65

ونقول إن هذا الترتيب الموحي به لم يكن جزافًا ولا اعتباطًا أو عبثًا وننزه كلام الباري سبحانه وتعالى عن كل ذلك.

كما نقول إن القول بوجود المناسبات أمر يحتمه الاعتقاد بتنزيه كلام الله سبحانه وتعالى عن الفوضى والتناقض:

{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] .

وعلى الباحث أن يبذل قصارى جهده للتعرف على وجه المناسبة بين الآيات، فإن ظهر له شيء من ذلك فذلك نعمة من الله تعالى وفضل عليه، وله أن يقول به ويظهره خدمة لكتاب الله تعالى، وإن خفي عليه وجه المناسبة فعليه أن يمسك ولا يتكلف، وينسب علم ما خفي عليه إلى منزل الكتاب الذي أمر بترتيبه على هذا الشكل، ولا يدرك أسرار كتاب الله كلها أحد من البشر {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 6] .

وسنضرب أمثلة ونماذج على وجه المناسبات بين الآيات في السورة الواحدة وبين السور المتعددة، لعلنا نُكَوِّن بعد ذلك فكرة عن الموضوع وبعدها نتخذ موقفًا من التأييد أو الرفض.

ثالثا- ظهوره وأهم المؤلفات فيه:

أو من أظهر علم المناسبات: يعتبر الإمام أبو بكر النيسابوري المتوفى سنة 324هـ أول من أظهر علم المناسبات في بغداد، وكان يزري على علماء بغداد لجهلهم وجوه المناسبة بين الآيات، وكان لا يني يقول إذا قرئت عليه الآية أو السورة: لم جعلت هذهالآية إلى جنب هذه؟ وما الحكمة في جعل هذه إلى جنب هذه السورة؟

وكذلك أبو بكر ابن العربي المالكي المتوفى سنة 543هـ وتقدمت الإشارة إلى كلامه ضمن كلام البقاعي. كما تجد ذكر المناسبات من خلال تفسيره "أحكام القرآن".

ص: 66

ومن المكثرين في إيراد المناسبات بين الآيات الإمام فخر الدين الرازي المتوفى سنة 606هـ في تفسيره الكبير المسمى بمفاتيح الغيب.

وقد أفرده بالتصنيف الأستاذ أبو جعفر بن الزبير الأندلسي المتوفى سنة 807هـ في كتابه "البرهان في مناسبة ترتيب سور القرآن".

وقد خص الزركشي المتوفى سنة 794هـ في كتابه "البرهان في علوم القرآن" فصلًا خاصًا تحت عنوان "النوع الثاني" معرفة المناسبات بين الآيات، تحدث فيه عن أهمية هذا العلم وضرب أمثلة على المناسبات بين السور، وبين الآيات في السورة الواحدة.

ومن أوسع المراجع في هذا العلم كتاب "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور" لبرهان الدين البقاعي المتوفى سنة 885هـ، حيث ذكر المناسبات بين آيات القرآن الكريم سورة سورة. ويقع كتابه في اثنين وعشرين جزءًا وقد طبع في الهند.

وألف الإمام السيوطي المتوفى سنة 911هـ كتابًا خاصًا سماه "تناسق الدرر في تناسب السور" تحدث فيه عن أهمية علم المناسبات وذكر وجوهًا للمناسبات بين سور القرآن الكريم.

كما خصص النوع الثاني والستين من كتابه الإتقان في علوم القرآن للحديث عن "مناسبات الآيات والسور" ذكر فيه أغلب ما ذكره الزركشي في البرهان، وزاد عليه في الأمثلة.

ومن العلماء المعاصرين الذين كتبوا في علم المناسبات الشيخ عبد الله محمد الصديق الغماري، كتب كتابًا سماه "جواهر البيان في تناسب سور القرآن" ذكر فيه وجه المناسبة بين سور القرآن سورة سورة.

كما تحدث الشيخ محمد عبد الله دراز في كتابه "النبأ العظيم" عن المناسبات بين آيات سورة البقرة.

ص: 67