المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الانطلاق والبحث عن العبد الصالح: - مباحث في التفسير الموضوعي

[مصطفى مسلم]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌التفسير الموضوعي: "تعريفه- نشأته- تطوره- ألوانه- أهميته

- ‌تمهيد:

- ‌نبذة تاريخية عن نشوء علم التفسير وتطوره ومكانة التفسير الموضوعي:

- ‌تعريف التفسير الموضوعي:

- ‌نشأة التفسير الموضوعي:

- ‌ألوان التفسير الموضوعي:

- ‌اللون الأول:

- ‌اللون الثاني:

- ‌اللون الثالث

- ‌أهمية التفسير الموضوعي:

- ‌مناهج البحث في التفسير الموضوعي:

- ‌أولًا: منهج البحث في موضوع من خلال القرآن الكريم:

- ‌ثانيًا: منهج البحث في التفسير الموضوعي لسورة واحدة

- ‌ثالثا: التفسير الموضوعي لسورة قرآنية

- ‌تحديد محور السورة

- ‌الهدف في السورة القصيرة والسورة الطويلة:

- ‌الإطناب والإيجاز في قضايا عرضتها السورة:

- ‌صلة التفسير الموضوعي بالأنواع الأخرى من التفسير:

- ‌علم المناسبات والتفسير الموضوعي

- ‌مدخل

- ‌أولًا- تعريف علم المناسبات:

- ‌ثانيا: أهمية علم المناسبات وأقوال العلماء فيه

- ‌مدخل

- ‌القسم الأول: المناسبات في السورة الواحدة

- ‌مدخل

- ‌أنواع المناسبات في السورة الواحدة:

- ‌القسم الثاني: المناسبات بين السور

- ‌مدخل

- ‌أنواع المناسبات بين كل سورتين متجاورتين:

- ‌مثال تطبيقي على موضوع من خلال القرآن الكريم" الألوهية من خلال آيات القرآن الكريم

- ‌مقدمات بين يدي الموضوع

- ‌أولا: الألوهية والفطرة

- ‌ثانيًا: اهتمام القرآن الكريم بالتوحيد أكثر من الاهتمام بإثبات وجود الخالق

- ‌ثالثًا: منهج القرآن في إثبات التوحيد منهج فطري

- ‌رابعًا: ربط قضايا العقيدة بمصالح العباد في حياتهم المعاشية

- ‌خامسًا: مجالات الاستدلال على قضية الألوهية

- ‌أبرز أنواع الأدلة على توحيد الله جل جلاله في القرآن الكريم

- ‌مدخل

- ‌أولًا: أدلة الخلق والإبداع

- ‌ثانيًا: أدلة العناية

- ‌ثالثًا: أدلة الفطرة

- ‌رابعًا: البراهين العقلية

- ‌خامسًا: أدلة التوحيد من خلال إثبات صفات الكمال لله سبحانه وتعالى وتنزيهه عن صفات النقص

- ‌الخاتمة:

- ‌مثال تطبيقي في تفسير سورة تفسيرًا موضوعيًّا: "القيم في ضوء سورة الكهف

- ‌تمهيد:

- ‌بين يدي سورة الكهف:

- ‌اسمها وعدد آياتها:

- ‌خصائص سورة الكهف:

- ‌وقت نزولها وسببه:

- ‌أهداف سورة الكهف:

- ‌المناسبات في سورة الكهف

- ‌أولا: المناسبة بين اسم السورة وموضوعاتها

- ‌ثانيًا: المناسبة بين افتتاحية السورة وخاتمتها

- ‌ثالثًا: المناسبة بين مقاطع السورة وهدفها

- ‌افتتاحية سورة الكهف

- ‌الموضوعات الأساسية في الافتتاحية

- ‌المقطع الأول: قصة الفتية المؤمنين

- ‌مدخل

- ‌بين يدي قصص سورة الكهف:

- ‌العرض الإجمالي لقصة الفتية المؤمنين:

- ‌العرض التحليلي للقصة:

- ‌تعقيب واستطراد وتعليل:

- ‌عظات وعبر:

- ‌المقطع الثاني: مفارقات ومواقف في بواعث العزة

- ‌مدخل

- ‌المناسبة بين المقطع الأول والثاني:

- ‌العرض العام للمقطع الثاني:

- ‌عظات وعبر:

- ‌المقطع الثالث: وقفة تأمل في المال والمصير

- ‌مدخل

- ‌المناسبات بين المقطع الثالث وما قبله:

- ‌العرض الإجمالي للمقطع الثالث:

- ‌الفوائد والعظات والعبر في المقطع الثالث:

- ‌المقطع الرابع: الرحلة في طلب العلم

- ‌مدخل

- ‌المناسبات بين المقطع الرابع وما قبله:

- ‌العرض الإجمالي للمقطع الرابع:

- ‌الانطلاق والبحث عن العبد الصالح:

- ‌العظات والعبر من فقرة الانطلاق والبحث عن العبد الصالح:

- ‌اللقاء والحوار:

- ‌العظات والعبر من فقرة اللقاء والحوار:

- ‌الصحبة الكريمة والأحداث العجيبة

- ‌مدخل

- ‌أولها: الجانب النفسي لموسى عليه السلام

- ‌ثانيها: صدمة المفاجأة وهول الحادث

- ‌ثالثها: مبادئ شريعة التوراة

- ‌الفراق بعد تأويل التصرفات الغريبة:

- ‌العظات والعبر من فقرة الصحبة الكريمة والأحداث العجيبة

- ‌مدخل

- ‌تعقيبات وتعليقات:

- ‌المقطع الخامس: قصة ذي القرنين الرجل الطواف

- ‌مدخل

- ‌المناسبات:

- ‌العرض الإجمالي للمقطع الخامس:

- ‌وقفات لابد منها

- ‌الوقفة الأولى: مع ذي القرنين

- ‌الوقفة الثانية: مع السد وموقعه

- ‌الوقفة الثالثة: مع يأجوج ومأجوج؛ حقيقتهم ومصيرهم

- ‌القيم في قصة ذي القرنين:

- ‌العظات والعبر في المقطع الخامس قصة ذي القرنين:

- ‌خاتمة السورة:

- ‌الخاتمة:

- ‌الفهارس

- ‌ فهرس الآيات الكريمة

- ‌ فهرس الأحاديث والآثار:

- ‌ فهرس الأعلام:

- ‌ فهرس المراجع:

- ‌ محتوى الكتاب:

الفصل: ‌الانطلاق والبحث عن العبد الصالح:

أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما" 1.

من خلال العرض القرآني للقصة، ومن خلال بعض التفصيلات في السنة النبوية لها، يمكن تقسيم القصة إلى أربع فقرات:

1-

الانطلاق والبحث عن العبد الصالح.

2-

اللقاء والحوار.

3-

الصحبة الكريمة والأحداث العجيبة.

4-

الفراق بعد تأويل التصرفات الغريبة.

ونظرًا لطول الحديث عن أحداث القصة مجتمعة، فالأولى أن نذكر كل فقرة باستقلال في العرض الإجمالي، وكذلك في العظات والعبر، وسأحاول إلقاء الضوء على بعض الجوانب والإشكالات التي أثارها بعض المفسرين على نقاط في القصة من خلال العرض والمناقشة.

1 انظر صحيح البخاري، كتاب التفسير 5/ 232، وصحيح مسلم، كتاب الفضائل 7/ 103.

ص: 262

‌الانطلاق والبحث عن العبد الصالح:

تقدمت الإشارة إلى أن القرآن الكريم لم يذكر عن أسباب رحلة موسى عليه السلام للبحث عن العبد الصالح شيئًا.

إلا أن السنة النبوية أوضحت أن سبب الرحلة كان عتاب الله سبحانه وتعالى لنبيه موسى عليه السلام عندما سئل هل في الأرض أحد أعلم منك؟ قال: لا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه.

وقبل البدء بعرض أحداث الفقرة الأولى من هذا المقطع، أحب أن أتناول جانبًا مما يورده القرآن الكريم من عتاب الله لأصفيائه من خلقه، وذلك لئلا يتسرب للنفوس شيء من وساوس الشيطان تجاه عصمة الأنبياء والمرسلين، ولكيلا تهتز الصورة المشرقة في أذهان المؤمنين عن رسل الكرام.

إن ما يرد في آيات الذكر الحكيم من عتاب لبعض الأنبياء والمرسلين نلحظ

ص: 262

فيه ثلاثة جوانب:

أولها:

إثبات بشرية هؤلاء الأنبياء وأنهم وإن بلغوا قمة الكمالات البشرية فلا تزول عنهم صبغة البشر المخلوق الذي تتنازعه الطاقات والقوى المودعة فيه، فإن صلتهم بالملأ الأعلى، وسعيهم الحثيث لتطبيق ما يوحى إليهم والمسارعة إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى يجعل منهم قدوة لأتباعهم في الإيمان والعمل الصالح، إلا أن دواعي الحاجة الإنسانية من طعام وشراب وسير في الأسواق للكسب والمعاش، وعدم الاطلاع على الغيب ومستقبل الأيام وما يعتورهم من مرض ونسيان وضعف في القوى الجسمية كل ذلك يؤكد بشريتهم فلا يستطيعون النجاة منها، وإلى هذا الجانب أشار القرآن الكريم في دحض شبهة من زعم أن عيسى وأمه إلهين من دون الله. {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ، لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة: 72-75] .

فبلوغ الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه الدرجات العليا من القربى والطاعة لا تخرجهم عن طبيعة البشر ولا يجوز اتخاذهم شركاء مع الله سبحانه وتعالى.

وقد ضلت الأمم السابقة في هذا الأمر فاختلطت عليهم المقاييس، فبلغ من تقديسهم لأنبيائهم وصالحيهم أن عبدوهم من دون الله، كما فعلت النصارى فضلوا وأضلوا.

وأبرزت بعض الأمم جانب البشرية فيهم وضخمته ونفت عنهم المزايا التي يتميزن بها عن غيرهم، فنسبت إليهم كل نقيصة ظلمًا وزورًا فضلوا وأضلوا، كما فعل اليهود في سير أنبيائهم. والمنهج العدل أن يعتقد في اصطفائهم من البشر لحمل رسالة ربهم وتبليغها إلى الناس على خير وجه، وصلتهم بالملأ الأعلى وتلقيهم عن طريق الوحي إليهم. وهي مكانة لا تدانيها مكانة غيرهم من البشر.

إلا أنهم يبقون من البشر {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} .

فوجود النسيان والسهو من بعض الأنبياء تأكيد لهذا الجانب، من غير أن يؤثر على مكانتهم الرفيعة عند ربهم ومولاهم جل جلاله.

ص: 263

ثانيها:

جانب تربوي تعليمي، إن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يمثلون قمة العبودية لله تعالى، وهم القدوة لغيرهم في ذلك.

كما أن سيرتهم الذاتية هي النبراس لغيرهم أثناء السير إلى الله تعالى فلئن وقع منهم بمقتضى الطبيعة البشرية ما يعاتبون عليه سرعان ما يرجعون إلى الله ويلتجئون إلى عفوه ومغفرته ويتفيئون ظلال رحمته ورضوانه.

إن في رسم معالم التوبة والاستغفار واستدرار الرحمة والرضوان من خلال سيرة الأنبياء تشريعًا لأمم، ولو لم تكن هذه الوقائع في سيرهم فأنى للمذنبين أن يدركوا طريق الإنابة إلا ظلال رحمة ربهم.

إن في لجوء آدم عليه السلام إلى ربه بالابتهال، والإنابة {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] .

وفي استسلام نوح عليه السلام لربه ورجوعه إليه، وإيثار رضوانه على ما تطلعت إليه نفسه بشأن ابنه أكبر المعالم التربوية إلى يوم القيامة.

{قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47] .

وفي ابتهال ذي النون في بطن الحوت {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] .

زاد لمن وقع في ضيق الدنيا وتقلبات أحوالها وسدت في وجهه السبل.

وفي إنابة داود عليه السلام واستغفاره وإقباله على ربه بالطاعة والعبادة إدراك للصلة بين العبد وخالقه ومولاه ومالكه. {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ، فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 24، 25] .

لو ترك البشر يشرعون لأنفسهم طريق التوبة والإنابة والاستغفار لما اهتدوا إلى رضوان ربهم، ولضلوا كما ضل من شرع لنفسه شئون حياته الدنيوية إن "الدعاء هو العبادة"1 والشرائع التعبدية كلها من الله سبحانه وتعالى وليس لأحد أن يشرع

1 رواه الترمذي في كتاب التفسير: 4/ 279.

ص: 264

لنفسه والمقربون إلى الله سبحانه وتعالى يدركون ما يليق بالذات القدسية من كمالات وما تنزع عنها الذات القدسية من نقص ومحال، والبشر عاجزون عن ذلك فما يكون كمالًا في حق البشر قد يكون نقصًا محالًا على الذات الإلهية إن وجود الولد والزوجة والقرين والشريك من متطلبات الحياة الإنسانية وتعتبر من الكمالات البشرية ومن عدمها اشتكى من نقص في نفسه.

أما بالنسبة لله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا، تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا، أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا، وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 88-93] . {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ، بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ، لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 100-103] .

ثالثها:

إن من يمعن النظر في الأقوال والأعمال التي عوتب عليها الأنبياء صلوات الله عليهم يجدها لا تخرج عن دائرة الأقوال والأفعال التي تدخل في دائرة الاجتهاد وورود الاحتمالات عليها، والموقف الذي اتخذه النبي في الغالب يكون مما يقال عنه أن الأولى كان الوجه الآخر، إلا أن هذه الأولوية لا تدرك إلا بعد التنبيه الرباني ولا يمكن الاستدلال عليها بالظواهر والأسباب المتاحة عند وجود الحادثة وإلا لأدى إلى ارتكاب النبي المخالفة الواضحة وهم منزهون عن ذلك.

وإذا كان العتاب يرد على خلاف الأولى، والتهديد يرد على الأمر المفروض غير الواقع1.

ص: 265

ولمن العتاب؟ ولمن التهديد؟ لصفوة الله من خلقه وأنبيائه المرسلين إلى عباده فكيف يكون الحال بالنسبة لمن خالف صريح أمره وارتكب صريح نهيه وعصى محكم شرعه.

إن في ذكر هذه الألوان من العتاب إيجاد حاجز نفسي بين العباد وبين المعصية ومخالفة شرائع الله.

وبالنسبة لمعاتبة موسى عليه السلام التي نحن بصدد الحديث عنها فهناك احتمالان لا ثالث لهما:

أ- إنه نسي رد الأمر إلى الله سبحانه وتعالى، كما نسي غيره من الأنبياء والمرسلين: كما نسي آدم عليه الصلاة والسلام، وكما نسي سليمان عليه السلام وكما نسي محمد صلى الله عليه وسلم {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} .

ولكن النسيان في أمور الشرائع والعبادات لا يخلو من نوع من الأثر والتعقيب أو التعليق، فالنسيان في بعض العبادات يجبر بعمل لاحق كالصلاة، وفي بعض المعاملات بتحمل الآثار المالية وإن كانت المؤاخذة الأخروية غير واردة في شأن النسيان فإن التنبيه أو العتاب الدينوي مما يقوم الأمر ويعدله.

هذا لعامة الناس، فكيف الأمر بالنسبة للقدوة وأئمة الهدى الذين تكون أقوالهم وأفعالهم وإقرارهم تشريعًا.

ب- إن موسى عليه السلام عندما نفى أن يكون من الناس من هو أعلم منه، إنما قصد الناس من أمته من بني إسرائيل وفي أمور الشرائع التي كلف بها ومن المعلوم عند العلماء، أن الرسول أعلم الناس بأمور الشرائع المنزلة عليه.

فيستحيل أن يكون في أمته من هو أعلم منه ولو بجزئية من الشريعة لأن في ذلك خدشًا لمقام النبوة.

وقد ذهب بعض العلماء كالإمام الفخر الرازي إلى أن النبي أعلم الناس من أمته بجميع العلوم الموجودة في عهده -ولم يقصرها على الشرائع- لذات

ص: 266

السبب السابق لذا رجح الفخر الرازي أن الذي {عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَاب} هو سليمان عليه السلام نفسه وليس أحد أتباعه المؤمنين به1.

وإني وإن كنت لا أميل إلى ما ذهب إليه الرازي، إلا أن مبدأ كون الرسول أعلم أمته بالشرائع المنزلة عليه مبدأ متفق عليه بين العلماء فقول موسى عليه السلام كان من هذا القبيل، فأخبر عن ظاهر علمه بالمبدأ المقرر.

إلا أن الصلة القلبية للأنبياء بمصدر الوحي والعلوم الربانية تعطي لدائرة المدارك أفقًا أوسع، ودقة أبلغ، فكان العتاب الإلهي، لأن صيغة التعبير جاءت عامة من غير تخصيص ومطلقة من غير تقييد.

أقدم هذه الأسس بين يدي البحث في قصة موسى والخضر عليهما السلام مخافة أن تند بالقلم كلمة أسيء فيها الأدب مع مقام نبي الله موسى عليه السلام، أو يفهم أحد القراء عبارة على خلاف ما أقصد فتورث شبهة في النفس أو استهانة بحق نبي الله، وفي ذلك مزلق وإلحاد في دين الله، {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136] .

وأعود إلى سياق فقرة انطلاق موسى عليه السلام للبحث عن العبد الصالح إننا نستشف من افتتاحية الفقرة أن موسى عليه السلام كان قد تلقى أمرًا من ربه للذهاب إلى العبد الصالح والتعلم منه بدليل هذا الجزم والتصميم {لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} ، لو لم يكن الأمر واجبًا عليه لكان له في بني إسرائيل ما يشغله، ولما كان له أن يتركهم أحقابًا من الزمان وإذا أدركنا أن الحقب فسر بالدهر، والحقبة الواحدة تبلغ ثمانين عامًا وقيل أكثر، إذا علمنا ذلك وأدركنا مدى العزم والتصميم الذي كان عليه موسى عليه السلام للظفر بالعبد الصالح، فلا يكون ذلك إلا عن تكليف كلف به.

ومرة أخرى نفاجأ بوجود الحوت معهما ولم يحدثنا النص القرآني عن حكمة

1 انظر تفسيره مفاتيح الغيب: 24/ 197.

ص: 267

وجوده إلا أن السنة النبوية بينت لنا أيضًا سبب حمله معهم، وهو أن عودة الحياة إليه علامة وصولهم إلى مجمع البحرين مكان وجود العبد الصالح -وأستبعد ما ذهب إليه بعض المفسرين من أنهم حملوه زادًا للسفر، لأن نص الحديث النبوي جعله أمارة البلوغ واللقاء- والقصة مليئة بالمفاجآت وخوارق العادات، التي تبرز جانب قصور العلم البشري، وإحاطة المشيئة الإلهية بالكون وتصريف شئونه.

فلما جلس موسى عليه السلام وفتاه على الصخرة، وكان المفروض أن الفتى مكلف بالحراسة والخدمة ومراقبة الحوت في المكتل، وإخبار موسى عليه السلام بكل ما يطرأ، إلا أن النسيان الذي لا يعهد في مثل هذه الحالة يطرأ على الفتى يوشع بن نون فينسى عودة الحياة إلى الحوت وخروجه من المكتل وذهابه في البحر، وبقاء السرب في البحر، إن أي أمر عادي في حياة الإنسان يمكن أن يغفل عنه بحكم الإلف والعادة، أما مثل هذه الخوارق فلو حدثت مرة واحدة لبقي القلب والعقل والفكر مشغولًا بها طيلة العمر، فما بالك إذا كانت شئون السفر والحصول على المبتغى مترتبًا على عودة الحياة إلى الحوت.

إنها دروس ربانية، ثم لا يشعران بالتعب والحاجة إلى الراحة والطعام إلا بعد مضي بقية اليوم وليلة كاملة من الحادثة، ولا يخطر الأمر على بال الفتى إلا بمناسبة الرجوع إلى المكتل لإخراج الطعام، والشيء بالشيء يذكر {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} .

وعادا أدراجهما فقد تحققت أمارة اللقاء، لكن الصخور تتشابه أين الصخرة التي أويا إليها، إلا أن العلامة الجديدة للاستدلال كان ذاك النفق الذي تركه الحوت كالطاق في البحر، وتماسك الماء عن الجريان عليه بمشيئة الله تعالى:{فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا، فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا} .

ص: 268