الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اللقاء والحوار:
هذه الفقرة على وجازتها واختصار عباراتها تعد من الذخائر القرآنية التي لا يحاط بمعانيها وقد استنبط المفسرون آدابًا وحكمًا من هذه الآيات المعدودة، وسأذكر طرفًا من هذه الحكم عند الحديث عن العظات والعبر.
لكني أذكر قبل ذلك: المنزلق الذي هلك فيه بعض الناس.
لقد ضلت طائفتان في شأن أفضلية موسى على الخضر عليهما السلام، والمنطلق الذي انطلقوا منه أن الأستاذ ينبغي أن يكون أفضل من التلميد فكيف يذهب موسى عليه السلام للتلقي من الخضر عليه السلام؟
فذهبت طائفة -مقتفية أثر اليهود- إلى أن موسى المذكور في القصة ليس موسى بن عمران رسول الله، وإنما هو رجل آخر من بني إسرائيل وكان نوف البكالي يقول بهذا وهو ما رد عليه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كما تقدم في حديث البخاري.
والدافع لهذه الطائفة للذهاب هذا المذهب هو أن في هذا التلقي ازدراء وتحقيرًا لنبي الله موسى عليه السلام، وهم يريدون بهذا الإنكار إبعاده عن ذلك.
وضلت طائفة أخرى عندما قررت المبدأ نفسه وقالت إن الأستاذ ينبغي أن يكون أفضل من التلميذ، ولما ثبت أن نبي الله موسى عليه السلام ذهب إلى ولي الله الخضر عليه السلام، فالخضر أفضل من موسى والولي أفضل من النبي، وعمموا هذه القاعدة إلى أبعد من ذلك ليقولوا، إن الولي قد يصل إلى مرتبة لا يبلغها ملك مقرب ولا نبي مرسل. وهذه ضلالة وجهالة، فالولي أحد أتباع نبي من الأنبياء وأحد المتلقين لشرائع الله عن طريق النبي، فكيف يكون أفضل من النبي نفسه أو تكون مرتبته أعلى من مرتبة النبي؟
وقد ذهب ابن حجر العسقلاني في فتح الباري إلى كفر القائلين بهذا القول لمخالفتهم أمرًا معلومًا من الدين بالضرورة.
والقول الحق في ذلك: أن الخصوصية لا تقتضي الأفضلية، كما أن الأفضل قد يتلقى من الفاضل، ولا يعد ذلك نزولًا للملتقي عن مرتبته أو مكانته أو ازدراء له وتحقيرًا.
وموسى عليه السلام أفضل من الخضر بالاتفاق، لأنه نبي ورسول، أنزل الله عليه التوراة وأسمعه كلامه {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} كما أنه من أولي العزم من الرسل المذكورين في قوله الله تعالى:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب: 7] . والخضر عليه السلام مختلف في نبوته، وليس رسولًا باتفاق1.
وخلال اللقاء القصير تدور محاورة بين الرجل الصالح وبين موسى عليه السلام، نلاحظ فيه شخصية الرجل الصالح المملية للشروط، الواقفة موقف
1 ذهب جمهور العلماء من أهل السنة والجماعة إلى التفريق بين النبي والرسول:
فالنبي: من أتاه الوحي من الله ونزل عليه الملك بالوحي.
والرسول: من يأتي بشرع على الابتداء أو بنسخ بعض أحكام شريعة قبله. فكل رسول نبي لا العكس. انظر: أصول الدين لأبي منصور البغدادي: 154.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:
"النبي هو الذي ينبئه الله وهو ينبئ بما أنبأ الله به، فإن أرسل مع ذلك إلى من خالف أمر الله ليبلغه رسالة من الله إليه فهو رسول وأما إذا كان إنما يعمل بالشريعة قبله ولم يرسل هو إلى أحد يبلغه عن الله رسالة فهو نبي وليس برسول". انظر: كتاب النبوات: 172.
فالتفريق عند ابن تيمية ينصب على قضية المبالغين أو المكلفين فإن كانوا من أتباع شريعة سابقة ووجد فيهم التقاعس عن أمور الشريعة فالنبي يجدد أمر الشريعة في نفوس هؤلاء وفي الأصل لم يكونوا مخالفين معاندين أما الرسول فيرسل إلى قوم مخالفين ليبلغهم رسالات الله سواء كانت شريعة منزلة عليه ابتداء أو شريعة رسول سابقة عليه.
بينما التفريق بين النبي والرسول على قول أبي منصور البغدادي فينصب على الشريعة نفسها فالنبي يكون على شريعة نبي سابق عليه، يوحي إليه لتجديدها في نفوس الأتباع أو دعوة المخالفين إليها.
أما الرسول فيأتي بشريعة مستقلة ابتداء أو بنسخ وزيادة أو تعديل في شريعة من سبقه.
المعلم المربي، الواثقة من نفسها المتحدثة عن الحقائق الغيبية.
كما نلاحظ شخصية موسى عليه السلام المتلهفة لطلب المعرفة، المتواضعة أشد درجات التواضع، الحريصة على الظفر بالقبول عند الرجل الصالح ولقد أشارت الآيات الكريمة إلى جانب من تفخيم شأن الرجل الصالح، فهو عبد من خواص عبيد الله، المنسوبين إلى الله جلا جلاله والعبودية منتهى درجات الكمالات الإنسانية وما ذكر أحد في القرآن الكريم بصفة العبودية المنسوبة إلى الله تعالى إلا في سياق التكريم والتشريف1.
كما أن في ذكر إيتائه رحمة من عند الله إضفاء مزايا جليلة على مكانته وفي ذكر تعليمه العلم اللدني تشريف وتوقير له. كل ذلك في قوله تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} .
ولعل سياق النص الكريم يدل بإشاراته وظلاله إلى ما ورد في الحديث الصحيح من سبب خروج موسى عليه السلام، وعتب الله سبحانه وتعالى له. ليلقى من الرجل الصالح لونًا من ألوان الاستعلاء بالعلم اللدني. ولكن هذا. الاستعلاء لا يخرجه من إعادة الفضل والنعمة إلى مسديه كما ورد في صحبح البخاري: "فسلم عليه موسى فكشف عن وجهه وقال: هل بأرضك من سلام، من أنت؟ قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، قال: فما شأنك؟ قال: جئت لتعلمني مما علمت رشدًا، قال: أما يكفيك أن التوراة بيدك؛ وأن الوحي يأتيك؟ يا موسى إن لي علمًا لا ينبغي لك أن تعلمه، وإن لك علمًا لا ينبغي لي أن أعلمه
…
فأخذ طائر بمنقاره من البحر، وقال: والله ما علمي وعلمك من جنب علم الله إلا كما أخذ هذا الطائر بمنقاره من البحر"2.
إن الإشارة إلى سعة علم الله في هذا الموقف تذكير لموسى عليه السلام
1 انظر: مقطع افتتاحية سورة الكهف عند الحديث عن قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} : 193 من الكتاب.
2 انظر: صحيح البخاري، كتاب التفسير: 5/ 233.
لساعة النسيان التي كانت وراء هذه الرحلة العلمية1. وهي في نفس الوقت من الحوافز لحرص موسى عليه السلام للمصاحبة والتلقي، لذا نراه يوافق مسبقًا على الشروط وأنه سيكون عند حسن ظن العبد الصالح به، ولا ينسى أن يربط ذلك بالمشيئة الربانية {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} .
ووقفة مع دلالات هذه الفقرة وعظاتها وعبرها.
1 ذهب المفسرون مذهبين في الدافع للخضر عليه السلام إلى القول: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} في بداية اللقاء. الأول: لبيان أن المجال الذي يعمل فيه -تنفيذًا لأوامر ربه- غير المجال الذي كلف به موسى لأداء رسالة ربه، ولكي لا يتوهم موسى أن يتهمه بالقصور أو العجز، فأسرع إلى بيان السبب، بأن هذا ليس مما كلف به موسى والأنبياء المرسلون الآخرون، بل هو من الأشياء التي لم يحط بها البشر خبرًا، فإن لم يصبر عليها موسى فليس مؤاخذًا ولا متهمًا بالتقصير، فقال:{وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرً} ، تبريرًا وإعذارًا مسبقًا لموسى إن لم يصبر.
والمذهب الثاني للمفسرين: هو أن الخضر اختار الكلمات والأسلوب قصدًا إلى التعليم وإبراز مكانة العلم وعزته، لذا جاء قوله مؤكدًا بخمس مؤكدات:
أ- "إن" المفيدة للتوكيد.
ب- لن والنفي بها آكد من النفي بغيرها من أدوات النفي.
جـ- العدول عن -لن تصبر- إلى قوله: {لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} وذاك يفيد نفي الصبر بطريق برهاني فكأنه قال له: إني مطلع على أحوالك وقدرتك على الاحتمال فوجدتك بعد المعاينة أنك لا تستطيع الصبر.
د- تنكير "صبرًا" في سياق النفي، والنكرة في سياق النفي تفيد العموم، فكأنه قال: لا تصبر معي أصلًا شيئًا ولو يسيرًا من الصبر.
هـ- ثم تعليل عدم الصبر بعدم إحاطته بهذه الأمور مؤكد خامس.
فعلى هذا المذهب قول الخضر: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} تعجيب من شأنه وتوجيه تربوي لاستشرافه وعزمه.
ولعل ما تقدم في الحديث الصحيح من دوافع الخروج ونقاط الحوار بينهما يرجح المذهب الثاني. وهو الذي رجحته وجريت عليه في الفقرات اللاحقة.