الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عظات وعبر:
لقد أطلنا في العرض الإجمالي لهذا المقطع، لذا نكتفي به عن العرض التحليلي مخافة الإطالة وتجنبًا للتكرار، وبعض النقاط الهامة سنذكرها في جملة فقرات العظات والعبر.
اشتمل هذا المقطع على حكم جليلة -شأن المقاطع جميعًا- وفيما يلي نذكر جملة منها:
1-
في تقديم الحديث عن فقراء الصحابة والصبر معهم، وعدم سماع قول المشركين الغافلين عن ذكر الله على قصة صاحب الجنتين حكم منها:
أ- ربط المثل والقصة بالواقع المحسوس المشاهد أشد أثرًا في النفس وأقوى دلالة على المطلوب، فعندما ذكر واقع هؤلاء وأولئك ومصير كل، جاء المثل ليقرر الحقائق ويبين القيم والمعاني التي يعتنقها كل فريق.
ب- وجود شبه ومناسبة بين الفتية المؤمنين، أصحاب الكهف، وبين الفتية الفقراء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ج- لو ذكرت قصة صاحب الجنتين بعد قصة أصحاب الكهف مباشرة لكان الانتقال من قصة إلى قصة، وفي ذلك إغراق في الخيال للمستمع والقارئ وإيغال في الأمور النظرية. مما يؤدي إلى أثر عكسي عليهما بينما التنويع في أسلوب العرض بين الأحداث الواقعية وضرب الأمثلة وسوق القصص ينشط الذهن ويحمل النفس على التفاعل مع القضايا المعروضة.
2-
ينبغي أن تكون الدعوة جماهيرية المنحى، ولا يجوز حصرها في طبقة معينة، وإذا حاولت طبقة ما: من المثقفين، أو النجار أو العمال، أو الفلاسفة، أو العسكريين حصر القيادة فيهم ستقع الفجوة بين القاعدة الجماهيرية، وبين القيادة، ويؤدي بالتالي هذا الوضع إلى تبلد إحساس القيادة بمشاكل عامة المسلمين، وتزداد النقمة من العامة على القيادة، لذا كان الصبر مع الحريصين على الدعوة المقبلين على الالتزام بمبادئها، والتضحية في سبيلها من أساسيات الصفات القيادية في الزعامة المؤمنة.
والمخلصون الباذلون الربانيون هم بطانة القيادة وموضع شوراها بغض النظر عن الأنساب والطبقات والمستوى المعاشي {وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} .
3-
المرونة في الدعوة والتدرج مع المدعوين في حملهم على الالتزام بمبادئ الدعوة، وترغيبهم فيها وتحبيبها إلى نفوسهم بشتى الأساليب كل ذلك شيء مرغوب فيه -وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم مليئة بالشواهد على ذلك- أما إذا تعلق الأمر بالمساومة على مبادئ الدعوة وتعديل منهجها وتغيير حقائقها، فينبغي على الداعية أن يقف وقفة صارمة صريحة، وإفهام المدعوين أن الله غني عن العالمين وأن دخولهم في دعوة الحق تكريم لهم وتشريف لمقامهم، وليس تشريفًا للدعوة فإن شرفها تستمده من المصدر الذي أنزلها، {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17] .
وهذا ما اشتملت عليه الآيات الكريمة {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} .
ومثل هذا الأسلوب يفعل فعله في نفوس المترددين والمساومين الراغبين في المداهنة ويترك أثرًا في أذهانهم لإعادة النظر في مواقفهم من الدعوة.
4-
جاء عرض مصير الفريقين على طريقة اللف والنشر غير المرتب، وذلك لحكمتين:
أ- للمناسبة بين ذكر الفتية أصحاب الكهف، والفتية من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم.
ب- لتعقيب ذكر الغافلين المتكبرين بذكر سوء مصيرهم، فما يفصلهم عنه سوى حاجز الموت ليروا النار المعدة لهم {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا} .
5-
الجزاء من جنس العمل، أبدل كل فريق بمجالس تعكس صورة أعمالهم في الحياة الدنيا.
أ- لقد كان الغافلون المتبطرون يعيشون حياة الرفاه والترف في الدنيا، فكانوا يجلسون في أماكن خاصة تحيط بها السرادقات تحجبهم عن أعين الناس، فلا يستطيع أحد اقتحامها عليهم، لئلا تفسد أمزجتهم ويكدر عليهم صفو استمتاعهم، وكانت هذه المجالس تعد خصيصًا لهذه المناسبات، وقد أبدلوا
بها اليوم نارًا أحاط بهم سرادقها، فلا يستطيعون النجاة من النار، ولا اقتحام السرادقات، فهم في عذاب مقيم، وهذه المجالس جاهزة لهم معدة تنتظر ورودهم إليها.
ب- كانوا في مجالسهم الدنيوية ينادون على الخدم والغلمان للاستزادة من الشراب ويشربون الكئوس المترعة للمزيد من النشوة والفتوة والنشاط وأبدوا بها يوم القيامة زبانية جهنم، كلما اشتد عليهم الحريق والعذاب بالنار استغاثوا بالماء ليطفئ اللهيب في أجوافهم {يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} إذا رفعوا الإناء إلى أفواههم جاءهم لفح الماء ولهبه فتساقطت أبشار الوجوه في الإناء، هذا فعلها في الوجوه فكيف تفعل بالجوف والأمعاء.
جـ- كانوا يظنون أن السعادة كل السعادة في هذا اللون من المجالس والخدم والشراب، وأن من أوتي في الدنيا مثل هذا فقد نعم في حياته ولا يريد عنها بديلًا.
فأدركوا في الآخرة حقيقة ما كانوا عليه، ووجدوا الشفاء الذي صاروا إليه، فأدركوا أن متعًا زائفة هذا مصيرها ساءت لذة وفي الآخرة {بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} .
أما أهل التقوى والصدق، الذين حبسوا أنفسهم على طاعة الله وتدبر آياته، وكانت لهم مجالسهم وهيئاتهم ومرافقهم قد أبدلهم الله عز وجل بها مجالس ومرافق خيرًا منها:
أ- أما مجالسهم في الدنيا فقد كانت الحصباء في الأودية والشعاب أو في قعر البيوت المظلمة وفي السراديب والأقبية مخافة اطلاع الجبابرة عليهم -وأغلبهم من الأرقاء والمستضعفين والموالي- فيسيمونهم سوء العذاب.
أبدلهم الله سبحانه وتعالى بها الحدائق الغناء والبساتين الملتفة الأشجار تجري من تحت أقدامهم الأنهار.
ب- كانت ملابسهم في حياتهم الدنيا جبب الصوف تفوح منها رائحة العرق
ولا تكاد تجد على أحدهم رداء وإزارًا، فمنهم من اشتمل بإزاره فعقده بين منكبيه، ومنهم من لا رداء له. ومنهم من تخلل بعباءة إنهم كانوا حفاة عراة جياعًا.
لقد بوأهم الله سبحانه وتعالى في جنات الخلد مقاعد صدق عند مليك مقتدر وحلوا حلل الكرامة والعز والشرف، فهي أيديهم -التي طالما وضعت فيها القيود والأكبال- أساور من ذهب وفضة، ويلبسون الحلل السندسية من رقيق الحرير وغليظه، تفروح من مجالسهم رائحة المسك والعنبر.
ج- كانوا في حياتهم الدنيا يفترشون الأرض ويلتحفون السماء ويتخذون الحجاة والصخور الصماء وسائد ومتكًأ.
أما اليوم فلهم أرائك وعروش كعروش الملوك والسلاطين، وأين العروش الدنيوية الزائلة من أرائك الجنة الباقية.
إن العيش عيش الآخرة، وكل نعيم سوى نعيم الجنة زائل، وساء كل مرتفق إلا مرتفق الجنة فنعم الثواب وحسنت مرتفقًا.
6-
منطق الفكر المادي: خطوات تجر بعضها بعضًا ومقدمات تؤدي إلى نتائج:
أ- الانطلاق من النفس "أنا" والنظر إلى الأشياء بمنظارها والتحاكم إلى هواها في معرفة قيم الأشياء وحقائقها وإذا أوتي المرء مزية أو قدرة أو كفاءة، أسند ذلك إلى الفضل الذاتي والطبيعة.
ب- حصر اللذة والمتعة والسعادة في المحسوسات البهيمية العاجلة.
جـ- إنكار الغيبيات، واليوم الآخر والحساب والجزاء، تشبثًا باللذة الفانية، وشهوات النفس الوضيعة وعدم التفكير بالعواقب إبقاء لها وتغريرًا وخداعًا للنفس.
د- اختلال التوازن والمحاكة العقلية الصحيحة فيحسبون أن القيم التي يعاملهم بها أهل الدنيا، تظل محفوظة لهم في الملأ الأعلى،
فما داموا يستطيلون على أهل الأرض فيظنون أن لهم عند أهل السماء مكانًا ملحوظًا: "ألا ساء ما يظنون".
7-
سنة الله في خلقه أن لا يزيل النعمة عن العباد بمجرد كفرهم، فقد يمتع الكافر طول حياته بماله وصحته وولده، وفي ذلك استدراج له، أما إذا أصبحت الصحة والثروة والأتباع وسيلة طغيان واحتقار وإذلال لعباد الله الصالحين، فإن عقوبة الله العاجلة له بالمرصاد.
8-
المال والبنون، زينة الحياة الدنيا، يجعلها أهل الدنيا قيمًا وهي أعراض زائلة، وبذلك يعيبون، الحقائق، ويبنون عليها أمور الآخرة وهو وهم وسراب خلب ذهبت بآمالهم أدراج الرياح.
الباقيات الصالحات هي القيم الصحيحة وبها توزن الأعمال وهي سبب السعادة في الآخرة.