المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌تعقيبات وتعليقات: قبل الانتقال من هذا المقطع أرى لزامًا أن أتعرض - مباحث في التفسير الموضوعي

[مصطفى مسلم]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌التفسير الموضوعي: "تعريفه- نشأته- تطوره- ألوانه- أهميته

- ‌تمهيد:

- ‌نبذة تاريخية عن نشوء علم التفسير وتطوره ومكانة التفسير الموضوعي:

- ‌تعريف التفسير الموضوعي:

- ‌نشأة التفسير الموضوعي:

- ‌ألوان التفسير الموضوعي:

- ‌اللون الأول:

- ‌اللون الثاني:

- ‌اللون الثالث

- ‌أهمية التفسير الموضوعي:

- ‌مناهج البحث في التفسير الموضوعي:

- ‌أولًا: منهج البحث في موضوع من خلال القرآن الكريم:

- ‌ثانيًا: منهج البحث في التفسير الموضوعي لسورة واحدة

- ‌ثالثا: التفسير الموضوعي لسورة قرآنية

- ‌تحديد محور السورة

- ‌الهدف في السورة القصيرة والسورة الطويلة:

- ‌الإطناب والإيجاز في قضايا عرضتها السورة:

- ‌صلة التفسير الموضوعي بالأنواع الأخرى من التفسير:

- ‌علم المناسبات والتفسير الموضوعي

- ‌مدخل

- ‌أولًا- تعريف علم المناسبات:

- ‌ثانيا: أهمية علم المناسبات وأقوال العلماء فيه

- ‌مدخل

- ‌القسم الأول: المناسبات في السورة الواحدة

- ‌مدخل

- ‌أنواع المناسبات في السورة الواحدة:

- ‌القسم الثاني: المناسبات بين السور

- ‌مدخل

- ‌أنواع المناسبات بين كل سورتين متجاورتين:

- ‌مثال تطبيقي على موضوع من خلال القرآن الكريم" الألوهية من خلال آيات القرآن الكريم

- ‌مقدمات بين يدي الموضوع

- ‌أولا: الألوهية والفطرة

- ‌ثانيًا: اهتمام القرآن الكريم بالتوحيد أكثر من الاهتمام بإثبات وجود الخالق

- ‌ثالثًا: منهج القرآن في إثبات التوحيد منهج فطري

- ‌رابعًا: ربط قضايا العقيدة بمصالح العباد في حياتهم المعاشية

- ‌خامسًا: مجالات الاستدلال على قضية الألوهية

- ‌أبرز أنواع الأدلة على توحيد الله جل جلاله في القرآن الكريم

- ‌مدخل

- ‌أولًا: أدلة الخلق والإبداع

- ‌ثانيًا: أدلة العناية

- ‌ثالثًا: أدلة الفطرة

- ‌رابعًا: البراهين العقلية

- ‌خامسًا: أدلة التوحيد من خلال إثبات صفات الكمال لله سبحانه وتعالى وتنزيهه عن صفات النقص

- ‌الخاتمة:

- ‌مثال تطبيقي في تفسير سورة تفسيرًا موضوعيًّا: "القيم في ضوء سورة الكهف

- ‌تمهيد:

- ‌بين يدي سورة الكهف:

- ‌اسمها وعدد آياتها:

- ‌خصائص سورة الكهف:

- ‌وقت نزولها وسببه:

- ‌أهداف سورة الكهف:

- ‌المناسبات في سورة الكهف

- ‌أولا: المناسبة بين اسم السورة وموضوعاتها

- ‌ثانيًا: المناسبة بين افتتاحية السورة وخاتمتها

- ‌ثالثًا: المناسبة بين مقاطع السورة وهدفها

- ‌افتتاحية سورة الكهف

- ‌الموضوعات الأساسية في الافتتاحية

- ‌المقطع الأول: قصة الفتية المؤمنين

- ‌مدخل

- ‌بين يدي قصص سورة الكهف:

- ‌العرض الإجمالي لقصة الفتية المؤمنين:

- ‌العرض التحليلي للقصة:

- ‌تعقيب واستطراد وتعليل:

- ‌عظات وعبر:

- ‌المقطع الثاني: مفارقات ومواقف في بواعث العزة

- ‌مدخل

- ‌المناسبة بين المقطع الأول والثاني:

- ‌العرض العام للمقطع الثاني:

- ‌عظات وعبر:

- ‌المقطع الثالث: وقفة تأمل في المال والمصير

- ‌مدخل

- ‌المناسبات بين المقطع الثالث وما قبله:

- ‌العرض الإجمالي للمقطع الثالث:

- ‌الفوائد والعظات والعبر في المقطع الثالث:

- ‌المقطع الرابع: الرحلة في طلب العلم

- ‌مدخل

- ‌المناسبات بين المقطع الرابع وما قبله:

- ‌العرض الإجمالي للمقطع الرابع:

- ‌الانطلاق والبحث عن العبد الصالح:

- ‌العظات والعبر من فقرة الانطلاق والبحث عن العبد الصالح:

- ‌اللقاء والحوار:

- ‌العظات والعبر من فقرة اللقاء والحوار:

- ‌الصحبة الكريمة والأحداث العجيبة

- ‌مدخل

- ‌أولها: الجانب النفسي لموسى عليه السلام

- ‌ثانيها: صدمة المفاجأة وهول الحادث

- ‌ثالثها: مبادئ شريعة التوراة

- ‌الفراق بعد تأويل التصرفات الغريبة:

- ‌العظات والعبر من فقرة الصحبة الكريمة والأحداث العجيبة

- ‌مدخل

- ‌تعقيبات وتعليقات:

- ‌المقطع الخامس: قصة ذي القرنين الرجل الطواف

- ‌مدخل

- ‌المناسبات:

- ‌العرض الإجمالي للمقطع الخامس:

- ‌وقفات لابد منها

- ‌الوقفة الأولى: مع ذي القرنين

- ‌الوقفة الثانية: مع السد وموقعه

- ‌الوقفة الثالثة: مع يأجوج ومأجوج؛ حقيقتهم ومصيرهم

- ‌القيم في قصة ذي القرنين:

- ‌العظات والعبر في المقطع الخامس قصة ذي القرنين:

- ‌خاتمة السورة:

- ‌الخاتمة:

- ‌الفهارس

- ‌ فهرس الآيات الكريمة

- ‌ فهرس الأحاديث والآثار:

- ‌ فهرس الأعلام:

- ‌ فهرس المراجع:

- ‌ محتوى الكتاب:

الفصل: ‌ ‌تعقيبات وتعليقات: قبل الانتقال من هذا المقطع أرى لزامًا أن أتعرض

‌تعقيبات وتعليقات:

قبل الانتقال من هذا المقطع أرى لزامًا أن أتعرض لثلاث نقاط كثر فيها كلام المفسرين.

أولاها- نبوة الخضر عليه السلام:

اختلف العلماء في نبوة الخضر عليه السلام، فمنهم من قال: إنه نبي، ومنهم من قال: إنه رجل صالح وولي من أولياء الله تعالى.

أستند القائلون بنبوته على جملة من الأدلة منها:

1-

قوله تعالى: {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} والمراد بالرحمة النبوة بدليل قوله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّك} [القصص: 86] . والرحمة المنزلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم النبوة.

ولكن يرد على هذا القول أن كلمة "رحمة" ومشتقاتها ذكرت في القرآن الكريم أكثر من ثلاثمائة مرة، للدلالة على النعم الإلهية في مختلف مجالات الحياة ومنها نعمة النبوة، فالنبوة رحمة لا شك في ذلك، ولكن لا يلزم أن تكون كل رحمة نبوة.

قال البقاعي: قال الحراني: المراد بالرحمة في {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} ما ظهر من كراماته وبالعلم الباطن الخفي المعلوم قطعًا أنه خاص بحضرته سبحانه1.

2-

قوله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} يقتضي أن الله سبحانه وتعالى علمه بغير واسطة، فلا معلم له من البشر ومن كان هذا شأنه لا بد أنه قد تلقى

1 انظر: نظم الدرر: 12/ 106.

ص: 290

علمه بوحي من الله تعالى، وكذلك قول الخضر في نهاية تأويل الأحداث {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} فيدل على أنه أوحي إليه للقيام بهذه التصرفات.

وهذا أيضًا ليس نصًا قطعيًا في الدلالة على نبوته، فقد ثبت قوله عندما التقي بموسى عليه السلام: إني على علم لا ينبغي لك أن تعلمه.

فهو عبد من عباد الله الصالحين الذين أكرمهم الله سبحانه وتعالى بهذا العلم اللدني الخاص، ولا مانع أن يتلقى ذلك عن طريق الإلهام والمكاشفة.

3-

في قول موسى عليه السلام له {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ} قد جعل نفسه تابعًا للخضر والنبي لا يتبع غير النبي في التعليم، لأن في تبعيته لغيره من غير الأنبياء إنزالًا لمكانته، ولا يليق لكونه القدوة في قومه.

وهذا أيضًا غير مسلم به لأن تابعية النبي لغيره لا تصح فيما أصبح باعتبارها نبيًا، أما في غيرها من العلوم الكونية والتجريبية والغيبية فلا مانع من التبعية.

4-

واستدلوا بطريقة الخضر في مخاطبة موسى حيث أبدى له الترفع والتعزز بالعلم الذي عنده، بينما نجد تواضع موسى الشديد، فلو لم يكن نبيًا لما تواضع له موسى هذا التواضع الجم.

وهذا أيضًا مردود لأن موسى عليه السلام أفضل وأعلى مكانة من الخضر عليه السلام على كل الاحتمالات، فإنه نبي مرسل من أولي العزم من الرسل، والخضر مختلف في نبوته، ولم يقل أحد ممن يعتد برأيه إنه رسول.

أما تواضع موسى عليه السلام له فإنه من باب تقدير العلم، وخفض الجناح للعلماء، وهضم حظ النفس، وقد خوطب سيد ولد آدم وأفضل الأنبياء والمرسلين بقول الله تعالى:{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 215] فالتواضع وخفض الجناح لا يدل على أفضلية المتواضع له.

5-

واستدلوا بما ورد في الحديث، أن موسى عليه السلام عندما التقى به قال: السلام عليك، قال: وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل، فقال موسى عليه السلام: من عرفك هذا؟ قال: الذي بعثك إلي.

ص: 291

قالوا: وهذا يدل على أنه عرف ذلك بالوحي، والوحي لا يكون إلا مع النبوة والجواب عن هذا كالجواب عن الدليل الثاني {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} لأن ذلك قد يكون عن طريق الإلهام أو المكاشفة1.

وعلى الرغم من ورود هذه الاحتمالات على هذه الأدلة، والقاعدة تقول:"إذا ورد على الدليل الاحتمال بطل به الاستدلال" فإني أرجح قول القائلين بنبوته والوحي إليه.

وذلك لأن الإلهام والمكاشفة لا يبنى عليهما حكم شرعي، ولا يجوز للولي العمل بمقتضاهما إذا خالفهما ظاهر الشريعة، لعدم العصمة.

بينما الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فمعصومون من تسلط الشياطين عليهم أو التدخل فيما يوحى به إليهم أو يلهمونه، فإلهام الأنبياء والنفث في روعهم، وما يرونه أثناء النوم كل ذلك دليل شرعي تبنى عليه الأحكام الشرعية إلى جانب الوحي بواسطة جبريل عليه السلام إليهم، لذا كان إقدام إبراهيم عليه السلام على ذبح ولده إسماعيل بناء على ما رآه في منامه، حكمًا شرعيًا لازمًا لا مناص من تنفيذه {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102] .

وإقدام الخضر عليه السلام على إتلاف المال وقتل النفس لا بد أن يكون بناء على دليل يقيني لا يتطرق إليه الشك. ولا يكون هذا إلا لنبي من الأنبياء المعصومين من التلبيس والإلقاء والتشويش الذي قال الله سبحانه وتعالى في شأن صون ما يوحي به إليهم {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا، لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الجن: 26-28] .

1 انظر: تفاصيل الأدلة وما ورد عليها في فتح الباري شرح صحيح البخاري للعسقلاني: 6/ 310 وما بعدها.

ص: 292

ثانيها- موت الخضر عليه السلام:

اختلف العلماء في موت الخضر عليه السلام:

ذهب جمهورالعلماء من المحدثين والفقهاء إلى موته، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1-

ظاهر قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء: 34] .

وكلمة بشر نكرة في سياق النفي فتفيد العموم، والخضر عليه السلام داخل في هذا العموم.

2-

قول الرسول صلى الله عليه وسلم يوم بدر: "اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض"1. فلو بقي أحد غيرهم على الأرض لما صح في الإطلاق، فدل على أن لا أحد غير المسلمين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يعبد الله على وجه الأرض على الشكل الصحيح.

3-

حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة صلاة العشاء في آخر حياته -وفي رواية قبل موته بشهر- فلما سلم قام فقال: "أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد"2.

4-

لو كان الخضر حيًا لآمن برسول الله صلى الله عليه وسلم ونصره وقاتل معه ولحضر الجمعة والجماعة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لو كان موسى حيًا لما وسعه إلا اتباعي"3. وقد أخذ الله سبحانه وتعالى الميثاق على النبيين وأممهم أن يؤمنوا برسول الله وينصروه، إذا أدركوا زمن بعثته كما في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِه

1 انظر: صحيح مسلم كتاب الجهاد: 5/ 156.

2 انظر: صحيح البخاري كتاب العلم: 1/ 37.

3 مسند الإمام أحمد: 3/ 387.

ص: 293

وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81] .

ولم يثبت بطريق صحيح مجيء الخضر عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما روي في ذلك من روايات لا يسلم من الطعن والضعف.

وذهبت طائفة من العلماء إلى أن الخضر عليه السلام حي، وهو من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أبرز القائلين بذلك: الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم1، والقرطبي في تفسيره2، وابن الصلاح الشهرزوري في فتاواه3، والنقاش وجهور الصوفية4.

واستدلوا على ما ذهبوا إليه بما يلي:

1-

ذكر ابن عبد البر في "التمهيد" عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجي بثوب، هتف هاتف من ناحية البيت يسمعون صوته ولا يرون شخصه: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته السلام عليكم أهل البيت {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْت} الآية، إن في الله خلفًا من كل هالك، وعوضًا من كل تألف وعزاء من كل مصيبة، فبالله فثقوا وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب.

فكانوا يرون أنه الخضر عليه السلام، يعني أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم5.

2-

أخرج الخطيب وابن عساكر عن علي رضي الله عنه قال: بينا أن أطوف بالبيت إذا رجل متعلق بأستار الكعبة يقول: يا من لا يشغله سمع عن سمع، ويا من لا تغلطه المسائل، ويا من لا يتبرم بإلحاح الملحين، أذقني برد عفوك وحلاوة رحمتك، قلت: يا عبد الله أعد الكلام، قال: أسمعته؟ قلت: نعم، قال: والذي نفس الخضر بيده -وكان هو الخضر- لا يقولهن عبد دبر الصلاة المكتوبة إلا

1 انظر: شرح النووي على صحيح مسلم: 15/ 135.

2 انظر: تفسير القرطبي المسمى بالجامع لأحكام القرآن: 5/ 4081.

3 انظر فتاوى ابن الصلاح: 1/ 185.

4 انظر: تفسير الألوسي المسمى روح المعاني: 15/ 328.

5 انظر: فتح الباري: 6/ 311، والألوسي: 15/ 322، والمستدرك للحاكم: 3/ 58.

ص: 294

غفرت ذنوبه، وإن كانت مثل رمل عالج وعدد المطر وورق الشجر1.

3-

روى الدارقطني في الأفراد وابن عساكر عن ابن عباس أنه قال: الخضر ابن آدم لصلبه ونسيء له في أجله حتى يكذب الدجال.

4-

في التعليق على الحديث الوارد في صفة الدجال -وهو في صحيح مسلم- قال: "يأتي وهو محرم عليه أن يدخل نقاب المدينة فينتهي إلى بعض السباخ التي تلي المدينة فيخرج إليه يومئذ رجل هو خير الناس -أو من خير الناس- فيقول الدجال: أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييته أتشكون في الأمر" الحديث. قال أبو إسحاق: يقال: إن هذا الرجل هو الخضر عليه السلام2.

5-

مشاهدات الناس له في كل عصر ولقاؤهم به في أنحاء الأرض يؤكد استمرار حياته.

والذي يميل إليه القلب، أن أمور الكون تجري على سنن مطردة وإثبات خرق سنة كونية، لا بد له من دليل ثابت قطعي، إما بالمشاهدة المحسوسة أو بالاتصال إلى المعصوم عليه الصلاة والسلام والروايات التي استدل بها القائلون بحياة الخضر عليه السلام لا يتوفر فيها شرط الصحة -فضلًا عن الثبوت القطعي- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرواية ابن عبد البر، قال عنها ابن كثير: إسنادها ضعيف.

والروايات الأخرى ليست مسندة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أن حكايات العامة لا تقوم بها حجة، ولا تثبت بها وبالروايات الضعيفة خارقة لسنة كونية في امتداد عمر إنسان آلاف السنوات. والله أعلم.

ثالثها- قصة الخضر مزلقة قدم:

قصة موسى والخضر عليهما السلام كانت ولا تزال مزلقًا لأقدام كثير من السفهاء والجهلة والزنادقة، حيث ذهبوا إلى الاستدلال بما فعله الخضر عليه السلام

1 انظر: روح المعاني: 15/ 322 ونسبه إلى الخطيب وابن عساكر.

2 أبو إسحاق إبراهيم بن سفيان الفقه، راوي صحيح مسلم، انظر الحديث في صحيح مسلم كتاب الفتن وأشراط الساعة: 8/ 199.

ص: 295

على التفلت من ظواهر أحكام الشريعة وادعوا أنها خاصة بالأنبياء والعوام، أما الخاصة من الأولياء، فإنهم تتجلى لقلوبهم التي خلت من الأغيار الحقائق، فيتصرفون على ضوء هذه الحقائق ولا يتقيدون بالظواهر، ويستدلون على زندقتهم بأفعال الخضر التي كانت مخالفة لظواهر الشريعة.

وأجمع العلماء على أن مثل هذا القول كفر وزندقة وهذا يقتل قبل أن يستتاب أو تعرض عليه التوبة، فإن أصر قتل، على خلاف في ذلك.

يقول الإمام القرطبي: "وهذا القول زندقة وكفر يقتل قائله ولا يستتاب، لأنه إنكار ما علم من الشرائع، فإن الله قد أجرى سنته وأنفذ حكمته بأن أحكامه لا تعلم إلا بواسطة رسله السفراء بينه وبين خلقه، وهم المبلغون عنه رسالته وكلامه، المبينون شرائعه وأحكامه، اختارهم لذلك، وخصهم بما هنالك، كما قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} ، وقال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [البقرة: 213] ، وعلى الجملة فقد حصل العلم القطعي، واليقين الضروري، واجتماع السلف والخلف على أن لا طريق لمعرفة أحكام الله تعالى التي هي راجعة إلى أمره ونهيه، ولا يعرف شيء منها إلا من جهة الرسل، فمن قال: إن هناك طريقًا آخر يعرف بها أمره ونهيه غير الرسل، بحيث يستغني عن الرسل فهو كافر، يقتل ولا يستتاب، ولا يحتاج معه إلى سؤال ولا جواب، ثم هو قول بإثبات أنبياء بعد نبينا عليه الصلاة والسلام، الذي قد جعله الله خاتم أنبيائه ورسله فلا نبي بعده ولا رسول، وبيان ذلك أن من قال يأخذ عن قلبه، وأن ما يقع فيه حكم الله تعالى، وأنه يعمل بمقتضاه، وأنه لا يحتاج مع ذلك إلى كتاب ولا سنة، فقد أثبت لنفسه خاصة النبوة فإن هذا نحو ما قاله عليه الصلاة والسلام: "إن روح القدس نفث في روعي" 1 الحديث2.

1 انظر: كلام القرطبي في تفسيره: 5/ 4080.

2 وانظر حديث "إن روح القدس نفث في روعي" في مجمع الزوائد للهيثمي: 4/ 72 وعزاه إلى الطبراني في الكبير من حديث أبي أمامة.

ص: 296

القيم من خلال قصة موسى والخضر عليهما السلام:

إن القيمة الأساسية التي يدور حولها المقطع الرابع وأحداث هذه الرحلة والصحبة هو "العلم"، ولئن كانت القيم الصحيحة في المقاطع السابقة تقابل بأخرى داخلة فيها التمويه والزيف، فيراد كشف بهرجها وزيفها بإلقاء أنوار القيم الصحيحة عليها لإذابة ذاك الزيف والدجل عنها. فإن الأمر مختلف في هذا المقطع.

إن العلم يعرض هنا على أنه قيمة صحيحة ولكن له مظهران: ظاهر وخفي وينبغي أن لا تحجبنا وسائلنا التي نطلع بواسطتها على الجانب الظاهري عن التسليم بوجود الجانب الخفي الذي أحاط الله سبحانه وتعالى به.

إن العلوم التي بلغها الأنبياء والمرسلون لأممهم وأقاموا صرح الحضارات الإنسانية عليها علوم أساسية لم تستغن عنها البشرية في أي مرحلة من مراحل وجودها. وكانت واسطة العقد في هذه الرسالات السماوية رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، حيث ختمت به وبرسالته النبوات {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] .

وإلى جانب العلوم المستمدة من الوحي الإلهي فهنالك العلوم التجريبية، التي تشكل حصيلة الجهد البشري على مر القرون للتعرف على سنن الله في الكون، للارتقاء بالوسائل التي يستخدمها الإنسان في حياته وتعامله.

وهذه العلوم كلها تكتسب بالجهد البشري، ولوسائل المعرفة من الحواس وغيرها دور في تنميتها والاستزادة منها.

ووراء كل ذلك علم غير خاضع للجهد البشري ووسائله في التعرف والاستزادة وهو علم الغيب الذي تدار شئون الكون به، ومجاله الإيمان المطلق والتسليم لعالمه جل جلاله الذي أحاط بكل شيء علمًا. {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي

ص: 297

كِتَابٍ مُبِينٍ، أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 61-63] .

ولعل من وجوه الحكمة في تأخير ذكر هذه القصة بعد القصتين السابقتين في سورة الكهف، أن القيم الواردة في القصص الثلاث تتباين المدارك البشرية في التعرف عليها.

فالقصة الأولى -قصة الفتية الذين آواهم الكهف- التي اشتملت على ذكر السلطة الجائرة التي أدعت حق الألوهية وموهت على الناس الحقيقة، إن بطلان هذه الدعوى يدركه العقل السليم مهما كان المستوى الثقافي لصاحبه، لأنه أمر مخالف لبدائه العقول وفطرة الإنسان.

بينما لا تدرك جميع العقول القيمة الزائفة في القصة الثانية -قصة صاحب الجنتين- فإن المال والجاه وكثرة الرجال، زينة الحياة الدنيا، ولا تدرك حقيقتها إلا العقول المهتدية بنور الإيمان.

أما القيمة الحقيقية للعلم بمظهره الظاهر والخفي، علم الشرائع والعلم اللدني لا يدرك حقيقته إلا أهل البصائر من المؤمنين الراسخين الذين لا تزعزع إيمانهم الأسباب الظاهرة والنتائج المحتملة، بل يرون خلف الأسباب والمسببات يد القدرة الإلهية والحكمة العليا التي تتجلى فيها حقائق أسماء الله الحسنى وصفاته العلى.

لذا فإننا نقول إن المقابلة هنا في قصة موسى والخضر عليهما السلام ليست مقابلة بين قيم زائفة وأخرى حقة، كما كان الحال في قصة أصحاب الكهف وقصة صاحب الجنتين، بل المقابلة بين قيم صحيحة ظاهرة وقيم صحيحة أخرى غيبية في علم الله المحيط بالحقائق ومآل الأمور.

والمتمسك بالعلم الظاهر محمود الفعال والسلوك، وينبغي أن لا ينكر العلوم الخفية وخاصة إذا وجد من الظواهر الكونية ما لا يمكنه تعليله أو معرفة أسبابه الظاهرة أو إدراك وجه الحكمة فيه، وإنما يعيد العلم إلى الذي يعلم السر في السماوات والأرض.

ص: 298