الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعقيب واستطراد وتعليل:
جاء في سبب النزول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للقوم القرشيين -عندما سألوه الأسئلة الثلاثة: "ائتوني أخبركم غدًا"، فلبث الوحي فترة حتى أرجف أهل مكة.
وجاء أثناء التعقيب على المجادلين في شأن أهل الكهف -عددهم، ومدة لبثهم:{وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} .
لا شك أن في هذا الإرجاء في الجواب -في هذا الموقف الحرج- إحراجًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل من حكمة في هذا الإرجاء؟!
إننا نعتقد جازمين أن الحكمة كل الحكمة، والخيرة للمرء فيما اختاره الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين، وعلى رأسها الخيار الذي يختاره الله سبحانه وتعالى لأنبيائه ورسله، وقد يظهر لنا وجه الحكمة وقد يخفى، ولكن مشيئة الله وخيرته في ذلك خير وأبقى.
ولعل من وجوه الحكمة في هذا الإرجاء ما ندركه في الأمور الثلاثة التالية:
أ- جانب تربوي للأمة من خلال هذا الموقف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى المؤمن أن يربط كل شيء بمشيئة الله سبحانه وتعالى وإرادته، ولا يغفل عن ذلك، وإن غفل عنه فليذكره في أول سانحة أو خاطرة {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيت} 1.
ب- أن في هذا الإرجاء برهانًا -بصورة غير مباشرة- لقريش على أن محمدًا ليس له من أمر الوحي سوى التلقي والتبليغ، وأنه مكلف بهذه المهمة ومؤاخذ على التقصير فيها، وليس له أن يختلق شيئًا من عند نفسه، أو يبدل شيئًا أو يقدم أو يؤخر أو يكتم، وهذا الجانب أكدته آيات كثيرة:{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 44-46] .
وإذا تذكرنا أن أصل الاستفسار وإيراد الأسئلة كان للتحقق من صدق محمد صلى الله عليه وسلم في دعوى الرسالة أدركنا أهمية هذا اللون البرهاني من واقع الأحداث
1 لم يأت التنبيه على ذكر المشيئة إلا بعد الإجابة على سؤله، وفي ذلك تكريم لرسوله وإيناس لنفسه، لأن في المبادرة بالنهي توهم الإعراض عن الإجابة، وهذا شأن تعليم الحبيب المكرم.
ومجريات الأمور، فجو الحادثة والسور والآيات كلها متجهة لإثبات صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وإبطال أساليبهم وبيان زيف مواقفهم وما يحاولون الوصول إليه من إبطال دعوة النبوة وتبرير مواقفهم الشركية، واطلاعهم على حقيقة ما يعتقدون ويتبنون من قيم.
"ج" لو جاء الجواب في الوقت الذي حدده رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، لمرت الحادثة كأي حادثة مرت في العلاقات بين القوم مما كان يجري في العلاقات اليومية.
لكن عندما انصب اهتمام قريش على هذه الأسئلة، وكان التحديد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم كان الإرجاء والتأجيل، كما تقول الرواية -حتى أرجف أهل مكة- فقد أصبحت النفوس متشوفة متطلعة، وقد كثرت الأقاويل والإشاعات بين القوم.
وهذا أسلوب من أساليب الدعوة لشد الانتباه وإشغال الرأي العام بقضية الدعوة، ثم إذا جاءت الإجابة عند الحاجة الماسة إليها فإنها أوقع في النفس وأشد تأثيرًا.
ولعل هذا هو المراد بالإشارة التعقيبية على موضوع المشيئة {وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} .
فما يأتي من نتائج وثمرات مترتبة على هذا الإرجاء فهو أقرب رشدًا.
ولعل مثل هذه اللفتة بعد آيات حادثة الإفك {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} وذلك لما يترتب على هذه الحادثة من جوانب تربوية، وإبراز فضل آل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه الطاهرات، وآل أبي بكر، وما كشف عن معادن كريمة في نفوس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإبرازًا لهذا الجانب ولسوق بعض الفوائد نستطرد إلى ما ذكره القرآن الكريم من أحداث متشابهة كان فيها الإرجاء وعدم تلبية طلب النبي مما حدث ليوسف عليه السلام.
ففي قصة يوسف عليه السلام، طلب من الناجي -من صاحبي السجن-
{اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّك} [يوسف: 42] . حيث كانت نفسه تتشوف إلى الخروج من السجن، وقد كانت الأيام الأولى، أو قل الأشهر الأولى من سجنه، ولنتصور الحالة التي كان عليها بلاط الملك وحاشيته في هذه الآونة:
1-
كانت الشائعات التي تموج بها المدينة وأهل البلاط حول امرأة العزيز وفتاه، ومما أجبر الملك -على الرغم من تأكده من براءة يوسف- على أن يزج بيوسف في السجن قطعًا للقيل والقال. فعودة يوسف على الساحة من جديد يلقي بالوقود على النار من جديد ويذكي الشائعات والأراجيف مرة أخرى.
2-
امرأة العزيز التي شففها حب يوسف، لئن كانت الصدمة قد صعقتها عندما امتنع يوسف ولم يرضخ لرغبتها الجامحة، إلا أن تعلق القلب به لا يمكن أن يسكن خلال هذه الفترة القصيرة، بل لعلها أعادت شيئًا من معنوياتها المنهارة عندما ِأقامت الحجة على قريناتها من نسوة المدينة، واستلت منهن الاعتراف قسرًا، بأن أي أنثى لو كان مكانها لوقفت مثل هذا الموقف ولحاولت مثل هذه المحاولة وهي كأنثى معذورة في هذه المراودة في منطق الإناث، فإخراج يوسف من السجن مرة أخرى وخلال هذه الفترة القصيرة سيجلعها متوفرة للثأر من كرامتها وإعادة المحاولة مرة أخرى، وستلقي متاعب جديدة في طريق يوسف عليه السلام، الذي يعده ربه سبحانه وتعالى على عينه لمهمة أعظم من ذلك. ليكون أبا الأنبياء، وليتمكن من إحضار آباء الأسباط الذي ستكون منهم أسباط بني إسرائيل.
3-
لو خرج يوسف عليه السلام من السجن في هذه المرحلة فلن يشعر به أحد، لعدم الحاجة إليه في هذا الظرف، فهو أحد أفراد الحاشية -وما أكثرهم- والبلاد في بحبوحة من عيشها ورغد من رزقها، أما عندما تكون هنالك بوادر أزمات سياسية أو اقتصادية أو عسكرية فإن أهل الكفاءات والخبرات في هذه المجالات تتعلق بهم القلوب، ويمكن أن تضحى الجماهير بأرواحها في سبيل الحفاظ على حياتهم، وتبوئهم المكانة السامية الرفيعة، لأنها تنظر إليهم أنهم المنقذون لها في هذه المرحلة، وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر، وهذا ما كان يهيئه الله سبحانه وتعالى ليوسف.
لقد كان في الأفق بوادر مجاعة طاحنة -ولو بعد سبع سنوات مخصبة- فإن السبع العجاف التي تأكلها سيكون وقتًا عصيبًا إن لم تعد العدة من الآن وإن لم يكن التصرف حكيمًا، ستقع البلاد في مآزق وأزمات قد تثير الناس إلى الثورة والدمار، -والعامة والرعاع لا تسوقهم إلا بطونهم- إذن فالأمر جد، ولا بد من الاستعداد.
ويأتي دور يوسف عليه السلام لإملاء شروطه إذن، فبدلًا من أن يكون المعترف بإنعام الملك عليه لإخراجه من السجن -ليضيف رقمًا مهملًا على أرقام الحاشية- يكون الملك هو الراغب الملح في الإفراج عنه:
فالشرط الأول: أن يعاد إليه اعتباره، وتظهر براءته للناس جميعًا، وعلى رءوس الأشهاد، ولتكن صاحبة الدعوى أول المقرين والمعترفين، ولتذكر الحقيقة كاملة، {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف: 51] .
الشرط الثاني: أن يتوجه الملك مع أعيان البلاط بالتأنيب والتوبيخ للمتسببات في هذه الأراجيف حول يوسف، {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} [يوسف: 51] .
وبعد أن ازدادت ثقة الملك بيوسف عليه السلام وأدرك قيمته وخبرته وأنه كنز لا يقدر بقيمة من المال ولا يساويه جيش من الرجال. ارتفعت مكانته عنده، وكانت هذه الثقة وهذه المكانة مقدمات لإيجاد القابلية عنده ليكون من أتباع دعوة يوسف عليه السلام، -ولم لا- فهو موطن سره وشوراه، وبطانته التي يعتمد عليها، فربما يكون النبي المرسل الذي يلقنه الهدايات الربانية وكان في الشرائع السابقة من الأمور المعتادة أن يوجد النبي في أمة، ويجود ملك تابع للنبي وشريعته، وبيده السلطة التنفيذية كما ورد ذلك في قصة طالوت1. ولا شك أن كون النبوة ورئاسة الدولة
1 انظر الآيات في سورة البقرة من 246-248.
في يد واحدة أمكن لأمر الرسالة وأقوى لسلطان الدولة، وأدعى لنشر العدالة. وبعد أن تبوأ يوسف عليه السلام هذه المكانة عند الملك ورجال الدولة، وفي قلب الجماهير مما جاء التعبير عنه على لسان الملك {قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف: 54] ، جاء دور يوسف لإملاء شرطه الثالث والأخير:{قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55] .
أفليس الإرجاء كان الأفضل وأن اختيار الله سبحانه وتعالى هو الخيرة وفيه الفلاح والنجاح.
4-
ولا نغفل أن في هذا الإرجاء في قصة يوسف عليه السلام خاصة، كان لون من ألوان التربية الربانية وبيان سنة في دعوات الله سبحانه وتعالى فإن السجن وما فيه من تذوق مرارة الحرمان، وقطع الاعتماد على الأسباب وتقوية الصلة بالله سبحانه وتعالى والتوكل عليه.
إنها مدرسة الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى. فهذه الحكمة لا تقل عن الحكم الثلاث الأولى.
1 لفظه التمكين في القرآن الكريم لا تأتي إلا للشيء الذي لا تسعفه الأسباب المادية من الوصول إليها، فيأتي بأسباب وتدابير ربانية غير عادية.