الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القسم الثاني: المناسبات بين السور
مدخل
…
القسم الثاني: المناسبات بين السور
إن القول بوجود المناسبات بين السور يعتمد على القول بأن ترتيب السور في المصحف توفيفي لا اجتهادي.
لذا كان لا بد من عرض أقوال القائلين بذلك مع أدلتهم، ومناقشة أدلة القائلين بأن ترتيب السور كان باجتهاد من الصحابة رضوان الله عليهم.
ذهب جمهور العلماء إلى أن ترتيب السور في المصحف توقيفي أيضًا للأدلة الكثيرة في ذلك، وسنورد جملة منها فيما بعد.
أما من ذهب إلى أن اجتهادي أو بعضه توقيفي وبعضه اجتهادي فلا مستند لهم في قولهم سوى أمرين أو بالأحرى شبهتين:
الشبهة الأولى:
قالوا إن مصاحف بعض الصحابة لم تكن مرتبة ترتيب مصحف عثمان رضي الله عنه فمصحف علي رضي الله عنه كان أوله: اقرأ ثم المدثر ثم "ن" ثم المزمل ثم تبت ثم التكوير وهكذا إلى آخر المكي والمدني، أي كان مرتبًا حسب زمن النزول.
ومصحف ابن مسعود كان أوله البقرة ثم النساء ثم آل عمران.
وهذا لا حجة فيه لهم لأن مصاحف الصحابة كانت مصاحف شخصية لم يحاولوا أن يلزموا بها أحدًا، ولم يدعوا أن مخالفتها محرمة. والمرء قد يكتب لنفسه مصحفًا أو سورًا معينة يخشى من التباس الأمر فيها نسيانًا أو غير ذلك. فيكتب بالطريقة التي يشأ وهذا ما يفسر لنا القول بأن بعض الصحابة لم يكتب في مصحفه
المعوذتين وأن بعضهم كان قد كتب في مصحفه سورة الخلع والحفد المنسوخة كأبي بن كعب. ولهذا لما اجتمعت الأمة على ترتيب عثمان رضي الله عنه أخذوا به وتركوا مصاحفهم الشخصية، ولو كانوا يرون أن ترتيب المصحف اجتهادي لدعوا إلى التمسك بترتيبهم الخاص ولم يتنازلوا عنه.
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الخلاف لفظي فقط في الادعاء أن ترتيب السور اجتهادي حيث نقلوا عن الإمام مالك قوله: إنما ألفوا القرآن على ما كانوا يسمعونه من النبي صلى الله عليه وسلم مع قوله بأن ترتيب السور اجتهاد منهم فآل الخلاف إلى أنه: هل ذاك بتوقيف قولي أو بمجرد استناد فعلي1؟
الشبهة الثانية:
اعتمدوا على حديث ضعيف جدًا -بل يمكن أن يقال إنه لا أصل له- لأن إسناده يدور على "يزيد الفارسي" الذي رواه عن ابن عباس. ويزيد الفارسي هذا يذكره البخاري في الضعفاء -انظر تعليق أحمد شاكر على الحديث رقم 399 في مسند الإمام أحمد، ج1 ص329.
فقد ورد هذا الحديث على الشكل التالي:
حدثنا يحيى بن سعيد ثنا سعيد ثنا عوف ثنا يزيد -يعني الفارسي- قال أبي أحمد بن حنبل وثنا محمد بن جعفر ثنا عوف عن يزيد قال: قال لنا ابن عباس رضي الله عنهما: قلت لعثمان بن عفان: "ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا -قال ابن جعفر- بينهما سطرًا بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطوال؟ ما حملكم على ذلك؟ " قال عثمان رضي الله عنه: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مما يأتي عليه الزمان ينزل عليه من السور ذوات العدد وكان إذا أُنزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده يقول: "ضعوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا" وينزل عليه الآيات فيقول: "ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا" وينزل عليه الآية
1 البرهان للزركشي: 1/ 257.
فيقول: "ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا" وكانت الأنفال من أوائل ما أنزل بالمدينة وبراءة من آخر القرآن. فكانت قصتها شبيهة بقصتها فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها وظننت أنها منها فمن ثم قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطرًا "بسم الله الرحمن الرحيم" قال ابن جعفر ووضعتها في السبع الطوال1.
وهذه الرواية الضعيفة لا تقوم بها حجة، ولا تقف أمام الروايات الكثيرة الصحيحة عن الصحابة رضوان الله عليهم الذين كانوا يحزبون القرآن على الترتيب المدون في المصحف. وإجماع الأمة على هذا المصحف بترتيبه الحالي، ولو كان الأمر محل الخلاف لنقلت إلينا الاجتهادات الكثيرة وبخاصة ما يتعلق بأمر كهذا الأمر "ترتيب المصحف".
وذهب الجمهور إلى أن ترتيب السور في المصحف توقيفي، واستدلوا على ذلك بأدلة منها:
- ما رواه أحمد وأبو داود عن أوس بن أبي أوس عن حذيفة الثقفي قال: "طرأ علي حزبي من القرآن فأردت أن لا أخرج حتى أقضيه" فسألنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: كيف تخزبون القرآن؟ قالوا: نحزبه ثلاث سور وخمس سور وسبع سور وتسع سور وإحدى عشرة وثلاث عشرة، وحزب المفصل من "ق" حتى نختم2.
فهذا يدل على أن ترتيب السور على ما هو في المصحف الآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- أخرج ابن أشتة في كتاب المصاحف عن طريق ابن وهب عن سليمان بن بلال قال: سمعت ربيعة يسأل: لم قُدِّمت البقرة وآل عمران، وقد نزل قبلهما بضع
1 انظر: مسند الإمام أحمد: 1/ 329، وتعليق أحمد شاكر عليه.
2 انظر: المسند: 4/ 9، ومختصر سنن أبي داود، كتاب رمضان: 2/ 114.
وثمانون سورة بمكة وإنما أنزلنا بالمدينة؟ فقال: قدمنا وألف القرآن على علم ممن ألفه به ومن كان معه فيه واجتماعهم على علمهم بذلك فهذا مما ينتهي إليه ولا يسأل عنه1.
ومما استدل به الجمهور على أن ترتيب السور في المصحف توقيفي قول عبد الله بن مسعود، في بني إسرائيل والكهف ومريم:"إنهن من العتاق الأول وهن من تلادي"2 أي من قديم ما أنزل، وقد ذكرها بالترتيب الوارد في المصحف.
كما أن الجمع بين السور المتشابهة في فواتحها مرة، والتفريق بينها مرة أخرى يدل على أن ذلك لم يكن عن اجتهاد، فقد وردت السور المبدوءة بـ"حم" وتسمى آل حاميم أو الحواميم مجتمعة في مكان واحد، بينما فرقت المسبحات، وهي السور التي تبدأ بـ"سبح، يسبح، سبح، سبحان" والمنطق البشري يقتضي التوحيد في الجميع أو التفريق في الجميع.
لقد عرف عن الصحابة رضوان الله عليهم حرصهم الشديد على حفظ القرآن الكريم، وكل ما يتعلق بشئونه؛ وقد وقف أبو بكر مترددًا في قضية جمعه في مكان واحد عندما اقترح عمر بن الخطاب ذلك بعد حروب الردة خشية استشهاد القراء وضياع شيء مما كتب عليه، وكذلك كان تردد زيد بن ثابت عندما أسندت إليه المهمة، وكل منهما يقول: كيف أفعل شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم3؟
فكيف يتم ترتيب المصحف باجتهاد عثمان بن عفان ومن معه، ولا يسمع صوت واحد يعترض عليهم في ذلك؟ اللهم إلا أن يكون عن علم منهم جميعًا أن ترتيب السور في المصحف بهذا الشكل كان معلومًا للجميع أنه بتوقيف من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإذا سُلِّم هذا فلننظر إلى أنواع الروابط بين سور القرآن الكريم، ولنضرب لذلك أمثله موضحة.
1 الإتقان للسيوطي: 1/ 84.
2 رواه البخاري، كتاب التفسير: 5/ 223.
3 انظر الحديث في: صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن: 6/ 98.