المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌العرض الإجمالي للمقطع الخامس: - مباحث في التفسير الموضوعي

[مصطفى مسلم]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌التفسير الموضوعي: "تعريفه- نشأته- تطوره- ألوانه- أهميته

- ‌تمهيد:

- ‌نبذة تاريخية عن نشوء علم التفسير وتطوره ومكانة التفسير الموضوعي:

- ‌تعريف التفسير الموضوعي:

- ‌نشأة التفسير الموضوعي:

- ‌ألوان التفسير الموضوعي:

- ‌اللون الأول:

- ‌اللون الثاني:

- ‌اللون الثالث

- ‌أهمية التفسير الموضوعي:

- ‌مناهج البحث في التفسير الموضوعي:

- ‌أولًا: منهج البحث في موضوع من خلال القرآن الكريم:

- ‌ثانيًا: منهج البحث في التفسير الموضوعي لسورة واحدة

- ‌ثالثا: التفسير الموضوعي لسورة قرآنية

- ‌تحديد محور السورة

- ‌الهدف في السورة القصيرة والسورة الطويلة:

- ‌الإطناب والإيجاز في قضايا عرضتها السورة:

- ‌صلة التفسير الموضوعي بالأنواع الأخرى من التفسير:

- ‌علم المناسبات والتفسير الموضوعي

- ‌مدخل

- ‌أولًا- تعريف علم المناسبات:

- ‌ثانيا: أهمية علم المناسبات وأقوال العلماء فيه

- ‌مدخل

- ‌القسم الأول: المناسبات في السورة الواحدة

- ‌مدخل

- ‌أنواع المناسبات في السورة الواحدة:

- ‌القسم الثاني: المناسبات بين السور

- ‌مدخل

- ‌أنواع المناسبات بين كل سورتين متجاورتين:

- ‌مثال تطبيقي على موضوع من خلال القرآن الكريم" الألوهية من خلال آيات القرآن الكريم

- ‌مقدمات بين يدي الموضوع

- ‌أولا: الألوهية والفطرة

- ‌ثانيًا: اهتمام القرآن الكريم بالتوحيد أكثر من الاهتمام بإثبات وجود الخالق

- ‌ثالثًا: منهج القرآن في إثبات التوحيد منهج فطري

- ‌رابعًا: ربط قضايا العقيدة بمصالح العباد في حياتهم المعاشية

- ‌خامسًا: مجالات الاستدلال على قضية الألوهية

- ‌أبرز أنواع الأدلة على توحيد الله جل جلاله في القرآن الكريم

- ‌مدخل

- ‌أولًا: أدلة الخلق والإبداع

- ‌ثانيًا: أدلة العناية

- ‌ثالثًا: أدلة الفطرة

- ‌رابعًا: البراهين العقلية

- ‌خامسًا: أدلة التوحيد من خلال إثبات صفات الكمال لله سبحانه وتعالى وتنزيهه عن صفات النقص

- ‌الخاتمة:

- ‌مثال تطبيقي في تفسير سورة تفسيرًا موضوعيًّا: "القيم في ضوء سورة الكهف

- ‌تمهيد:

- ‌بين يدي سورة الكهف:

- ‌اسمها وعدد آياتها:

- ‌خصائص سورة الكهف:

- ‌وقت نزولها وسببه:

- ‌أهداف سورة الكهف:

- ‌المناسبات في سورة الكهف

- ‌أولا: المناسبة بين اسم السورة وموضوعاتها

- ‌ثانيًا: المناسبة بين افتتاحية السورة وخاتمتها

- ‌ثالثًا: المناسبة بين مقاطع السورة وهدفها

- ‌افتتاحية سورة الكهف

- ‌الموضوعات الأساسية في الافتتاحية

- ‌المقطع الأول: قصة الفتية المؤمنين

- ‌مدخل

- ‌بين يدي قصص سورة الكهف:

- ‌العرض الإجمالي لقصة الفتية المؤمنين:

- ‌العرض التحليلي للقصة:

- ‌تعقيب واستطراد وتعليل:

- ‌عظات وعبر:

- ‌المقطع الثاني: مفارقات ومواقف في بواعث العزة

- ‌مدخل

- ‌المناسبة بين المقطع الأول والثاني:

- ‌العرض العام للمقطع الثاني:

- ‌عظات وعبر:

- ‌المقطع الثالث: وقفة تأمل في المال والمصير

- ‌مدخل

- ‌المناسبات بين المقطع الثالث وما قبله:

- ‌العرض الإجمالي للمقطع الثالث:

- ‌الفوائد والعظات والعبر في المقطع الثالث:

- ‌المقطع الرابع: الرحلة في طلب العلم

- ‌مدخل

- ‌المناسبات بين المقطع الرابع وما قبله:

- ‌العرض الإجمالي للمقطع الرابع:

- ‌الانطلاق والبحث عن العبد الصالح:

- ‌العظات والعبر من فقرة الانطلاق والبحث عن العبد الصالح:

- ‌اللقاء والحوار:

- ‌العظات والعبر من فقرة اللقاء والحوار:

- ‌الصحبة الكريمة والأحداث العجيبة

- ‌مدخل

- ‌أولها: الجانب النفسي لموسى عليه السلام

- ‌ثانيها: صدمة المفاجأة وهول الحادث

- ‌ثالثها: مبادئ شريعة التوراة

- ‌الفراق بعد تأويل التصرفات الغريبة:

- ‌العظات والعبر من فقرة الصحبة الكريمة والأحداث العجيبة

- ‌مدخل

- ‌تعقيبات وتعليقات:

- ‌المقطع الخامس: قصة ذي القرنين الرجل الطواف

- ‌مدخل

- ‌المناسبات:

- ‌العرض الإجمالي للمقطع الخامس:

- ‌وقفات لابد منها

- ‌الوقفة الأولى: مع ذي القرنين

- ‌الوقفة الثانية: مع السد وموقعه

- ‌الوقفة الثالثة: مع يأجوج ومأجوج؛ حقيقتهم ومصيرهم

- ‌القيم في قصة ذي القرنين:

- ‌العظات والعبر في المقطع الخامس قصة ذي القرنين:

- ‌خاتمة السورة:

- ‌الخاتمة:

- ‌الفهارس

- ‌ فهرس الآيات الكريمة

- ‌ فهرس الأحاديث والآثار:

- ‌ فهرس الأعلام:

- ‌ فهرس المراجع:

- ‌ محتوى الكتاب:

الفصل: ‌العرض الإجمالي للمقطع الخامس:

نوع القصص الذي كان فيه تثبيت قلب الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يقول عنه سبحانه وتعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49] . لتكون إفحامًا لأولئك الذين أرادوا إطفاء نور الله بتوجيه هذه الأسئلة التعجيزية، ولتكون دليل صدق على أن هذا وحي من الله {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111] .

= البشرية على ضوء الهدايات المستمدة منه.

وفقد إحدى الدعامتين يؤدي إلى نتائج غير محمودة، فالحضارة اليونانية والرومانية قديمًا والحضارة الغربية حديثًا اعتمدت على الدعامة الأولى "الأسباب الظاهرة" فسببت الشقاء للإنسانية. وفقدت الحضارة النصرانية هذه الدعامة واعتمدت على الثانية فقط فأصيبت بالشلل والعجز.

أما الحضارة التي نتجت من فتوحات ذي القرنين، والحضارة الإسلامية التي سادت العالم -يوم كان المسلمون قادة العالم- فقد أخذت بالدعامتين فأنتجت السعادة للبشرية.

ص: 303

‌العرض الإجمالي للمقطع الخامس:

في هذا المقطع قصة ذي القرنين وجولاته الثلاث في مغرب الشمس ومطلعها وبين السدين، وكما هو الشأن في القصص القرآني لا تخبرنا الآيات الكريمة عن اسم ذي القرنين ونشأته ولا عن زمانه أو مكانه1، وإنما تحدثنا عن شيء حول شخصيته وعن رحلاته الثلاث:{إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} .

إنه شخص مكن له رب السماوات والأرض الخالق المدبر المتصرف في شئون الكون، رب العزة والجبروت مكن له في الأرض وآتاه من كل شيء سببًا، وينصرف ذهن السامع أو القارئ إلى وجوه التمكين له في الأرض،

1 ليس مهمة القصة القرآنية تسجيل الحدث التاريخي من زاوية تدوينية بحتة وإنما يكون التركيز على مواطن العظة والعبرة وهي تتحقق من غير ذكر للزمان والمكان في أغلب الأحيان، وحتى الأسماء أحيانًا كما مر في قصة أصحاب الكهف وصاحب الجنتين وصاحب موسى عليه السلام. وانظر ما ذكرناه في المقطع الأول عن مزايا القصص القرآني.

ص: 303

- مكن له في العلوم والمعرفة واستقراء سنن الأمم والشعوب صعودًا وهبوطًا.

- مكن له في سياسة النفوس أفرادًا وجماعات تهذيبًا وتربية وانتظامًا.

- مكن له في أسباب القوة من الأسلحة والجيوش وأسباب القوة والمنعة والظفر.

- مكن له في أسباب العمران وتخطيط المدن وشق القنوات وإنماء الزراعة.

مهما قيل ومهما تصور من أسباب التمكين الحسنة التي تليق برجل رباني قد مكن له في هذه الأرض يمكن أن يدخل تحت قوله تعالى: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} . ويبقى للتصور مجال وللخيال سعة لاستشفاف صور هذا التمكين وأشكاله، وذلك من خلال المؤكدات العدة التي وردت في الآية الكريمة1.

ويبدأ ذو القرنين رحلته الأولى -ولا نعلم نقطة الانطلاق فيها- إلى أن يبلغ مغرب الشمس حيث يجدها الرائي أنها تغرب في موضع ما حسب ما تكون الجهة أو الموضع الذي يقف عنده فيما أنه كان في أقصى الغرب وكان أمامه البحر أو بحيرات ومستنقعات وجدها تغرب في عين حمئة2.

ووجد عندها -أي العين الحمئة- قومًا، وهل كلف ذو القرنين من قبيل الله تعالى أن يحمل إليهم رسالة؟ وهل كان نبيًا؟ أو ملكًا صالحًا من أتباع أحد الأنبياء؟ أو أن تمكينه منهم جعل لسان حاله يقول بأن يتخذ فيهم سيرة حسنة حسب المفاهيم التي أتلزمها في حياته؟

ظاهر النص يدل على أنه كان مكلفًا بذلك من غير تحديد وسيلة التكليف.

1 المؤكدات في الآية: "إن" المفيدة التوكيد والنصب، و"نا" ضمير المتكلم المعظم نفسه، وفي "له" المفيدة للتخصيص، والعموم المستفاد من قوله:{مِنْ كُلِّ شَيْء} .

2 يميل الدكتور عبد العليم خضر في كتابه "مفاهيم جغرافية في القصص القرآني، قصة ذي القرنين" إلى تحديد بحر إيجة وأنه البحر الغربي الذي بلغه، وأن خليج أزمير الذي يصب فيه نهر "غديس" الذي يحمل معه الأتربة والطين البركاني من الأناضول: هو العين الحمئة. انظر: 244.

ص: 304

بهذا الأمر، ومن ثم كان المبدأ الذي سار عليه فيهم {أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا، وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} .

إنها سياسة العدل التي تورث التمكين في الحكم والسلطة وفي قلوب الناس الحب والتكريم للمستقيمين، وإدخال الرعب في قلوب أهل الفساد والظلم1. فالمؤمن المستقيم يجد الكرامة والود والقرب من الحاكم، ويكون بطانته وموضع عطفه وثقته ورعاية مصالحه وتيسير أموره.

أما المعتدي المتجاوز للحد، المنحرف الذي يريد الفساد في الأرض فسيجد العذاب الرادع من الحاكم في الحياة الدنيا، ثم يرد إلى ربه يوم القيامة ليلقى العقوبة الأنكى بما اقترفت يداه في حياته الأولى.

ولم يعين السياق القوم الذين اتخذ فيهم ذو القرنين هذه السياسة الحكيمة كما أهمل ذكر المدة التي مكثها بينهم والنتائج التي توصل إليها، وكأن الأمر المفروغ منه أن تثمر هذه السيرة العادلة والمبادئ السامية حضارة ربانية وتقدمًا وسعادة وطمأنينة لذا لا داعي لذكرها والوقوف عندنا.

ثم تأتي رحلة المشرق فيصل إلى مكان يبرز لعين الرائي أن الشمس تطلع من خلف الأفق، ولم يحدد السياق أهو بحر أم يابسة، إلا أن القوم الذين كانوا عند مطلع الشمس كانوا في الأرض مكشوفة بحيث لا يحجبهم عند شروقها مرتفعات

1 جاء التعبير القرآني في السياق بـ"ظلم". ويطلق الظلم في الآيات الكريمة على معان عدة منها: الشرك وهو أشد أنواع الظلم {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم} [لقمان: 13]، {يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} [البقرة: 54] .

- والسعي في الأرض بالفساد وارتكاب الفحشاء والموبقات {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135] .

- والاعتداء على الناس وأكل أموالهم بالباطل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا، وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا} [النساء: 30] .

وقد أوصل الدامغاني معاني الظلم في القرآن إلى تسعة معان. انظر: قاموس القرآن أو إصلاح الوجوه والنظائر في القرآن للدامغاني: 308.

ص: 305

جبلية أو أشجار سامقة، ولعلها كانت بعض الصحاري الممتدة أو السهول الواسعة، فالمكان لم يحدد والستر لم يعين {لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} 1.

ونظرًا لوضوح سياسة ذي القرنين في الشعوب التي تمكن منها، وهو الدستور المعلن في رحلة الغرب لم يكرر هنا إعلان مبادئه، لأنها منهج حياة ودستور ودولة مترامية الأطراف وسياسة أمم فهو ملتزم بها أينما حل أو ارتحل {كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا} .

إلا أن الرحلة الثالثة تختلف عن الرحلتين السابقتين من حيث طبيعة الأرض والتعامل مع البشر سكان المنطقة، ومن حيث الأعمال التي قام بها فلم يقتصر فيها على الأعمال الجهادية لكبح جماح الأشرار والمفسدين، بل قام بعمل عمران هائل.

أما الأرض فوعرة المسالك، وأما السكان -وكان وعورة الأرض قد أثرت على طبائعهم وطريقة تخاطبهم مع غيرهم- فهناك المشقة في التفاهم والمخاطبة بحيث لا يكاد الإنسان منهم يقدر على التعبير عما في نفسه، ولا أن يفقه ما يحدثه به غير بني قومه {وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} إما في أسلوب التخاطب والتعامل -كما أسلفنا- أو من التخلف الحضاري والبدائية في العادات والمفاهيم والمصطلحات.

فلما وجدوا القوة في دولة ذي القرنين والعدل والصلاح في سيرته -وعدل السلطان بفتح أمامه القلوب قبل فتح الجيوش الأمصار- لجئوا إليه لحمايتهم من

1 الستر يطلق على الحواجز الطبيعية من الجبال والأشجار، وكذلك على ما يحجب ضوء الشمس من الأمور الصناعية من بنيان وملابس، وبكل احتمال مما سبق قال بعض المفسرين.

ويرجع الدكتور عبد العليم خضر أن الموضع الذي وصل إليه القرنين في جوله المشرق هي المناطق الصحراوية المطلة على المحيط الهندي وتعرف باسم "غيدروسيا" وكانت مأوى القبائل المتأخرة وكانت تغير على تخوم الدولة المجاورة فأراد ذو القرنين تأديبها وحماية حدود دولته الشرقية منهم. انظر: مفاهيم جغرافية: 269.

ص: 306

هجمات تلك القبائل الهمجية المفسدة، قبائل يأجوج ومأجوج التي كانت تشن عليهم هجماتهم من خلف الجبلين المتقابلين من الممر الضيق الذي بينهما وذلك بإقامة سد بين الصدفين1، مقابل خراج يدفعونه إليه من أموالهم.

ونظرًا لأن القضية التي وضعها ذو القرنين نصب عينيه هي الإصلاح ومقاومة الفساد والشر، والحكم بالعدل بين الناس، ولم يكن همه جمع المال أو قصد العلو في الأرض بإذلال الشعوب، فقد رفض عرضهم، وتطوع بإقامة السد على أن يتطوعوا هم من جانبهم بتقديم الجهد البشري، فمنه الخبرة والتصميم والإشراف، وعليهم الطاقة العمالية والمواد الأولية المتوافرة في بلادهم.

وكان أيسر طريق لإقامة السد هو ردم ما بين الجبلين أولًا بفلزات الحديد الذي تتخلله قطع الفحم والخشب، حتى إذا تساوت قمة الحديد بقمة الجبلين المتقابلين، أمر بالنفخ لإيقاد النار بالحطب الذي يتخلل الفلزات لتسخين الحديد، حتى إذا جعله نارًا لشدة احمراره وتوهجه أفرغ عليه النحاس المذاب يتخلل الحديد ويختلط به فيصبح قطعة واحدة وكتلة متماسكة وجدارًا أملس بين الجبلين.

وهكذا حقق الأمن والطمأنينة لهؤلاء القوم المتخلفين، فلم تستطع قبائل يأجوج ومأجوج تسور الرد ولم يستطعوا ثقبه والنفاذ من خلاله2.

ولما أنجز ذو القرنين هذا العمل الضخم الرائع، لم تأخذه نشوة البطر والغرور بل أعاد النعمة إلى مسديها، نعمة العلم والخبرة إلى واهبها، ونعمة التوفيق للعمل الصالح إلى الذي مكن له في الأرض، {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} .

ومن إيحاء هذا الموقف العظيم وهو يطل على البناء الشامخ ومن ورائه أفواج قبائل يأجوج ومأجوج المتلاطمة وهي لا تستطيع القلب ولا النقب تذكر مصير

1 الصدفان: الجبلان: المتناوحان أي المتقابلان، ولا يقال للواحد صدف وإنما يقال صدفان للاثنين لأن أحدهما يصادف الآخر. تفسير الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 11/ 61.

ونسبه لابن عطية.

2 سنعود إلى الحديث عن ذي القرنين، والسد، ويأجوج ومأجوج في مباحث مستقلة.

ص: 307

الأرض وما عليها ومن فيها، وهذه خواطر المؤمنين المصدقين بوعد ربهم فإن مصير الأرض والجبال الدك والتدمير {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ، وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً، فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} [الحاقة: 13-15] .

إنها المشاعر الإيمانية تجاه خالق السماوات والأرض المتصرف في شئون الكون ذي العزة والجبروت بيده مقاليد الأمور مصير كل شيء إليه.

{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} .

إنه نموذج الحاكم الصالح الذي أدرك مهمته في الحياة، لقد مكن له في الأرض فجاب الآفاق لنشر العدل والخير والصلاح وقمع الشر والفساد، والأخذ على يد الظالم ومناصرة الضعيف والمظلوم، ودرء العدوان، وإقامة العمران في الأرض من غير أن يكون له حظ دنيوي في كل ذلك بل ابتغاء مرضاة ربه، وإيثارًا للدار الباقية على الفانية فلم يشغله السلطان والجاه والمال والخبرة عن ذكر الله وشكره والتطلع إلى يوم المعاد.

ص: 308