الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ألوان التفسير الموضوعي:
من خلال الاستعراض التاريخي لنشوء علم التفسير والمؤلفات فيه نستطيع أن نلحظ ثلاثة أنواع من ألوان التفسير الموضوعي.
اللون الأول:
أن يتتبع الباحث لفظة من كلمات القرآن الكريم ثم يجمع الآيات التي ترد فيها اللفظة أو مشتقاتها من مادتها اللغوية، وبعد جمع الآيات والإحاطة بتفسيرها يحاول استنباط دلالات الكلمة من خلال استعمال القرآن الكريم لها. وكثير من الكلمات القرآنية المتكررة أصبحت مصطلحات قرآنية.
فكلمات: الأمة، الصدقة، الجهاد، الكتاب، الذين في قلوبهم مرض، المنافقون، الزكاة، أهل الكتاب، الربا، نجدها تأخذ وجوهًا في الاستعمال والدلالة.
فالمتتبع لمثل هذا يخرج بلون من التفسير لأساليب القرآن الكريم في استخدام مادة الكلمة ودلالاتها.
وقد سبقت الإشارة إلى أن كتب غريب القرآن، وكتب الأشباه والنظائر قد تضمنت هذا اللون من التفسير، وهي العمدة في مثل هذه الأبحاث.
إلا أن المؤلفات القديمة من هذا اللون بقيت في دائرة دلالة الكلمة في موضعها. ولم يحاول مؤلفوها أن يربطوا بينها في مختلف السور، فبقي تفسيرهم للكلمة في دائرة الدلالة اللفظية.
أما المعاصرون الذين كتبوا في هذا اللون فقد تتبعوا الكلمة وحاولوا الربط
بين دلالاتها في مختلف المواضع فكان أشبه ما يكون باللون الثاني من التفسير الموضوعي.
وفيما يلي ننقل نموذجًا على هذا اللون من التفسير الموضوعي من كتاب الدامغاني:
نموذج من كتاب: "إصلاح الوجوه والنظائر"، للدامغاني:
قال الدامغاني تحت مادة "خ ي ر"1:
"خ ي ر" على ثمانية أوجه:
المال، الإيمان، الإسلام، أفضل، العافية، الأجر، الطعام، الظفر والغنيمة.
فوجه منها1 الخير بمعنى المال، قوله سبحانه في سورة البقرة:{إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} يعني مالًا. كقوله تعالى فيها: {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} وكقوله تعالى في سورة البقرة: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ} أي لا تنفقوا مالًا وقوله تعالى فيها: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} يعني من مال، وقوله تعالى في سورة "ص":{إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} يعني حب المال، وكقوله تعالى في سورة النور:{إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} يعني مالًا.
الثاني: الخير يعني الإيمان. قوله تعالى في سورة الأنفال: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأسْمَعَهُمْ} يعني لو علم الله فيهم إيمانًا، كقوله تعالى فيها:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا} يعني إيمانًا، كقوله تعالى في سورة هود:{وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا} يعني إيمانًا.
الثالث: الخير يعني الإسلام. قوله تعالى في سورة البقرة: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} يعني الإسلام، نظيرها في سورة "ق":{مَنَّاعٍ لِلْخَيْر} يعني الإسلام نزلت في الوليد بن المغيرة منع ابن أخيه أن يسلم، نظيرها في سورة "ن".
1 إصلاح الوجوه والنظائر للدامغاني: 167-169، ط. دار العلم للملايين.
الرابع: خير يعني أفضل. قوله تعالى في سورة المؤمنون: {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} يعني أفضل الراحمين، كقوله تعالى في سورة يونس:{وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِين} أى أفضل الحاكمين، ونحوه قوله تعالى في سورة الزخرف:{أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} يقول أفضل من هذا.
الخامس: الخير يعني العافية. قوله تعالى في سورة الأنعام: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} يعني بعافية.
السادس: الخير يعني الطعام. قوله تعالى في سورة القصص: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} يعني الطعام.
الثامن: الخير يعني به الظفر والغنيمة والطعن في القتال قوله تعالى في سورة الأحزاب: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} يعني ظفرًا وغنيمة".
ونلاحظ أن المؤلف لم يربط بين أصل الكلمة واستعمالاتها وسياق الآيات التي وردت فيها الكلمة: ليبني عليها هداية قرآنية أو ليستنبط من دلالات اللفظة وسياق استعمالاتها توجيهًا قرآنيًا معينًا. وإنما بقيت الكلمة حيث وردت في نطاق الدلالة اللفظية المفردة.
نموذج من كتاب "المفردات في غريب القرآن"، للراغب الأصفهاني، المتوفى سنة 502هـ في كلمة "أمة":
والأمة: كل جماعة يجمعهم أمر ما: إما دين واحد، أو زمان واحد، أو مكان واحد، سواء كان ذلك الأمر الجامع تسخيرًا أو اختيارًا. وجمعها أمم.
وقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} أي كل نوع منها على طريقة قد سخرها الله عليها بالطبع. فهي بين
ناسخة كالعنكبوت، وبانية كالسرقة1، ومدخرة كالنمل، ومعتمدة على قوت وقته كالعصفور والحمام إلى غير ذلك من الطبائع التي تخصص بها كل نوع.
وقوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَة} أي صنفًا واحدًا وعلى طريقة واحدة في الضلال والكفر.
وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي في الإيمان.
وقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} أي جماعة يتخيرون العلم والعمل الصالح يكونون أسوة لغيرهم.
وقوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} أي على دين مجتمع.
قال الشاعر: وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع.
وقوله تعالى: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} أي حين. وقرئ بعد أمه2: أي نسيان. وحقيقة ذلك بعد انقضاء أهل عصر أو أهل دين.
وقوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ} أي قائمًا مقام جماعة في عبادة الله، نحو قولهم: فلان في نفسه قبيلة.
وروي أنه يُحشر زيد بن عمرو بن نفيل أمة وحدة3.
وقوله تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} أي جماعة.
وجعلها الزجاج ههنا للاستقامة، وقال تقديره ذو طريقة واحدة، فترك الإضمار4.
ثم انتقل إلى لفظة "أمي" ودلالات الكلمة، ثم إلى كلمة "الإمام" ودلالاتها، ثم إلى كلمة "الأم" بمعنى القصد، وختم المادة بالحديث عن حرف "أما".
وفي كل ذلك لم يتعرض لسياق الآيات التي استخدمت فيها كلمة "أمة" وإنما تعرض لها في مواطنها ولم يفصل القول في عناصر تكوين دلالات هذه اللفظة ولا مقومات استمرارها ودورها.
وقارن ذلك بما كتبه الدكتور أحمد حسن فرحات حول مصطلح الأمة ودلالتها اللغوية والفكرية والشرعية.
1 السُرْفَة: بضم السين وسكون الراء وفتح الفاء، دودة القز.
2 هي قراءة الحسن، انظر: القراءات الشاذة لعبد الفتاح القاضي: 57.
3 أسد الغابة في معرفة الصحابة: 2/ 143.
4 انظر: المفردات للراغب: 27-28.