المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أولا: أدلة الخلق والإبداع - مباحث في التفسير الموضوعي

[مصطفى مسلم]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌التفسير الموضوعي: "تعريفه- نشأته- تطوره- ألوانه- أهميته

- ‌تمهيد:

- ‌نبذة تاريخية عن نشوء علم التفسير وتطوره ومكانة التفسير الموضوعي:

- ‌تعريف التفسير الموضوعي:

- ‌نشأة التفسير الموضوعي:

- ‌ألوان التفسير الموضوعي:

- ‌اللون الأول:

- ‌اللون الثاني:

- ‌اللون الثالث

- ‌أهمية التفسير الموضوعي:

- ‌مناهج البحث في التفسير الموضوعي:

- ‌أولًا: منهج البحث في موضوع من خلال القرآن الكريم:

- ‌ثانيًا: منهج البحث في التفسير الموضوعي لسورة واحدة

- ‌ثالثا: التفسير الموضوعي لسورة قرآنية

- ‌تحديد محور السورة

- ‌الهدف في السورة القصيرة والسورة الطويلة:

- ‌الإطناب والإيجاز في قضايا عرضتها السورة:

- ‌صلة التفسير الموضوعي بالأنواع الأخرى من التفسير:

- ‌علم المناسبات والتفسير الموضوعي

- ‌مدخل

- ‌أولًا- تعريف علم المناسبات:

- ‌ثانيا: أهمية علم المناسبات وأقوال العلماء فيه

- ‌مدخل

- ‌القسم الأول: المناسبات في السورة الواحدة

- ‌مدخل

- ‌أنواع المناسبات في السورة الواحدة:

- ‌القسم الثاني: المناسبات بين السور

- ‌مدخل

- ‌أنواع المناسبات بين كل سورتين متجاورتين:

- ‌مثال تطبيقي على موضوع من خلال القرآن الكريم" الألوهية من خلال آيات القرآن الكريم

- ‌مقدمات بين يدي الموضوع

- ‌أولا: الألوهية والفطرة

- ‌ثانيًا: اهتمام القرآن الكريم بالتوحيد أكثر من الاهتمام بإثبات وجود الخالق

- ‌ثالثًا: منهج القرآن في إثبات التوحيد منهج فطري

- ‌رابعًا: ربط قضايا العقيدة بمصالح العباد في حياتهم المعاشية

- ‌خامسًا: مجالات الاستدلال على قضية الألوهية

- ‌أبرز أنواع الأدلة على توحيد الله جل جلاله في القرآن الكريم

- ‌مدخل

- ‌أولًا: أدلة الخلق والإبداع

- ‌ثانيًا: أدلة العناية

- ‌ثالثًا: أدلة الفطرة

- ‌رابعًا: البراهين العقلية

- ‌خامسًا: أدلة التوحيد من خلال إثبات صفات الكمال لله سبحانه وتعالى وتنزيهه عن صفات النقص

- ‌الخاتمة:

- ‌مثال تطبيقي في تفسير سورة تفسيرًا موضوعيًّا: "القيم في ضوء سورة الكهف

- ‌تمهيد:

- ‌بين يدي سورة الكهف:

- ‌اسمها وعدد آياتها:

- ‌خصائص سورة الكهف:

- ‌وقت نزولها وسببه:

- ‌أهداف سورة الكهف:

- ‌المناسبات في سورة الكهف

- ‌أولا: المناسبة بين اسم السورة وموضوعاتها

- ‌ثانيًا: المناسبة بين افتتاحية السورة وخاتمتها

- ‌ثالثًا: المناسبة بين مقاطع السورة وهدفها

- ‌افتتاحية سورة الكهف

- ‌الموضوعات الأساسية في الافتتاحية

- ‌المقطع الأول: قصة الفتية المؤمنين

- ‌مدخل

- ‌بين يدي قصص سورة الكهف:

- ‌العرض الإجمالي لقصة الفتية المؤمنين:

- ‌العرض التحليلي للقصة:

- ‌تعقيب واستطراد وتعليل:

- ‌عظات وعبر:

- ‌المقطع الثاني: مفارقات ومواقف في بواعث العزة

- ‌مدخل

- ‌المناسبة بين المقطع الأول والثاني:

- ‌العرض العام للمقطع الثاني:

- ‌عظات وعبر:

- ‌المقطع الثالث: وقفة تأمل في المال والمصير

- ‌مدخل

- ‌المناسبات بين المقطع الثالث وما قبله:

- ‌العرض الإجمالي للمقطع الثالث:

- ‌الفوائد والعظات والعبر في المقطع الثالث:

- ‌المقطع الرابع: الرحلة في طلب العلم

- ‌مدخل

- ‌المناسبات بين المقطع الرابع وما قبله:

- ‌العرض الإجمالي للمقطع الرابع:

- ‌الانطلاق والبحث عن العبد الصالح:

- ‌العظات والعبر من فقرة الانطلاق والبحث عن العبد الصالح:

- ‌اللقاء والحوار:

- ‌العظات والعبر من فقرة اللقاء والحوار:

- ‌الصحبة الكريمة والأحداث العجيبة

- ‌مدخل

- ‌أولها: الجانب النفسي لموسى عليه السلام

- ‌ثانيها: صدمة المفاجأة وهول الحادث

- ‌ثالثها: مبادئ شريعة التوراة

- ‌الفراق بعد تأويل التصرفات الغريبة:

- ‌العظات والعبر من فقرة الصحبة الكريمة والأحداث العجيبة

- ‌مدخل

- ‌تعقيبات وتعليقات:

- ‌المقطع الخامس: قصة ذي القرنين الرجل الطواف

- ‌مدخل

- ‌المناسبات:

- ‌العرض الإجمالي للمقطع الخامس:

- ‌وقفات لابد منها

- ‌الوقفة الأولى: مع ذي القرنين

- ‌الوقفة الثانية: مع السد وموقعه

- ‌الوقفة الثالثة: مع يأجوج ومأجوج؛ حقيقتهم ومصيرهم

- ‌القيم في قصة ذي القرنين:

- ‌العظات والعبر في المقطع الخامس قصة ذي القرنين:

- ‌خاتمة السورة:

- ‌الخاتمة:

- ‌الفهارس

- ‌ فهرس الآيات الكريمة

- ‌ فهرس الأحاديث والآثار:

- ‌ فهرس الأعلام:

- ‌ فهرس المراجع:

- ‌ محتوى الكتاب:

الفصل: ‌أولا: أدلة الخلق والإبداع

‌أولًا: أدلة الخلق والإبداع

جاءت أدلة الخلق والإبداع من خلال آيات القرآن الكريم على أوجه مختلفة للدلالة على توحيد الله سبحانه وتعالى وتفرده بالإيجاد، وتناولت مجالات الخلق المختلفة من أمور في الكون وفي الحياة والإنسان والنبات والظوارهر الجوية، تارة بالإجمال وتارة بالتفصيل، وبأساليب متنوعة من استفهام إلى حصر عن طريق النفي والإثبات وإلى إثارة تساؤلات وإلى لفت نظر في الكون المحيط لمعرفة البدء والنهاية والمصير.

ولعل الحكمة في تنوع هذه الأساليب في العرض أن يجد المرء في جميع أحواله النفسية والفكرية ما يلفت النظر للتدبر في آيات الخالق ووحدانيته.

ففي حالات يكون الإنسان مستغرقًا في التأمل في الكون الواسع الهائل بأجرامه وكواكبه ومساراتها وأفلاكها من غير أن يركز تفكيره على زاوية محددة معينة في هذا الكون فيجد من الآيات الكريمة ما تناولت هذا التعميم والشمول.

وفي بعض الحالات يكون شديد التأمل في زاوية من زوايا الكون أو في ظاهرة فلكية محددة فيجد القرآن الكريم قد أشار في مواطنه إلى مثل هذا التأمل.

وكثيرًا ما يلفت نظر الإنسان إلى أحد مخلوقات الله سبحانه وتعالى من الدواب والحشرات أو الطيور فيستغرق في التفكير بشأنها ونجد أن القرآن الكريم قد عرض مثل هذه الجوانب في المخلوقات ولفت النظر إلى دقة الخلق والصنع والإبداع فيها.

وهكذا في سائر مجالات الحياة والكون من البحار والأشجار والأنهار

بل

ص: 121

قد يخطر على فكر الإنسان أمور مجردة كفكرة الخلق والإبداع نفسها أو التناسق والجمال في قضية الإبداع، وكل هذه الأمور قد عرضها القرآن بأساليب شتى.

وفيما يلي سنحاول أن نتعرف على جملة من الآيات القرآنية التي تناولت قضية الخلق والإبداع من جوانب مختلفة:

1-

يثير القرآن الكريم أحيانًا قضية الخلق والإبداع بشكلها العام المجرد عن مخلوق محدد يثير ذهن الإنسان ويثير المحاكمة العقلية لديه فلنتأمل قول الله تعالى:

{أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الرعد: 16] .

إن العموم المأخوذ من {كُلِّ شَيْءٍ} يشمل أي مخلوق يمكن أن يخطر للإنسان، وللعقل البشري أن يتجول بين مخلوقات الله سبحانه وتعالى التي يمكنه أن يتصورها لتصلح مثالًا لوقوع فعل الخلق عليه وليكون نموذجًا لصنعة الله وإبداعه.

ويدخل في هذا العموم هؤلاء المعاندون وآلهتهم المزعومة فإنهم أشياء أيضًا قد خلقهم الله سبحانه وتعالى من العدم، فهل يستطيعون إقامة البرهان على أنهم أوجدوا أنفسهم أو أن غير الله سبحانه وتعالى خلقهم، بل الواحد القهار هو المتفرد بالخلق والإيجاد ومثل هذا الشمول نجده في قوله تعالى:{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2]، وقوله:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ، وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر: 49-50] . وفي الآيتين الأخيرتين يضاف إلى الشمول أو العموم في الخلق قضية التقدير، فليس الخلق العشوائي بل الخلق القدر بمقادير معينة وأوصاف محددة قد أوجدها الله سبحانه تعالى وأبدعها لتؤدي دورًا معينًا ووظيفة معينة بين المخلوقات.

2-

ومن الآيات التي تتحدث عن الخلق والإبداع آيات تتحدث عن مجالات متعددة للخلق من غير أن تخصص جانبًا منها بالتفصيل والتركيز.

ص: 122

فآيات تتناول الكون والسماوات والأرض بشكل عام، وآيات أخرى تتناول عرض مخلوقات في الكون وظواهر كونية وإشارات إلى مخلوقات مختلفة، وكأن القصد من ذلك إثارة التساؤلات في الذهن حولها من الذي خلقها، ومن الذي صورها على هذا الشكل. فلنتدبر قول الله تعالى:{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ، هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [لقمان: 10-11] .

إنها جولة تأملية في السماوات التي لا ترون لها عمدًا، والأرض المستقرة بسكانها من غير اضطراب. وهذه الدواب المبثوثة في جنباتها، تعيش حسب طرائقها الخاصة في معايشها وأسلوب تعاملها ودفاعها عن نفسها ثم هذا الماء الذي جعل منه كل شيء حي، كلها مخلوقات تسبح خالقها وتوحده، فأروني مخلوقات للشركاء المزعومين؟!

- وفي آية فاطر ألوان وأصباغ أخرى من هذه المخلوقات البديعة تثير الدهشة للمتأمل فيها! {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ، وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 27-28] .

إن في كل نوع من هذه الأنواع ألوانًا مختلفة المذاق فالثمرات التي تسقى أشجارها بماء واحد، وتتغذى بتربة واحدة تخرج مختلفة الألوان والحجوم والطعوم.

والجبال هذه المخلوقات الضخمة على الرغم من أنها من مادة الأرض ومعادنها، ودورها واحد في ترسية الأرض وحفظ توازنها، مختلفة السلاسل والطرق والأصباغ فمن بيضاء ناصعة البياض ومن حمراء قانية الاحمرار، ومن سوداء حالكة السواد، ومنها الهشة والصلبة والمشتملة على زبر الحديد والنحاس وعروق الذهب والفضة.

أما الاختلاف الأشد والتنوع الأكثر ففي عالم الأحياء فالناس مختلفو الأطوال

ص: 123

والأشكال والألوان {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم: 22] القدرات العقلية والنفسية والاستعدادات الروحية

وقل مثل ذلك في الأنعام والدواب.

إن الآيتين تناولت شرائح متباينة من المخلوقات، ولكن بقي في حدود الإجمال مع كل شريحة منها ولم يدخل إلى تفاصيلها الدقيقية، وإنما هو لفت النظر إلى الاختلاف بينها فمن شريحة الثمار والنبات إلى شريحة الطبيعة الجامدة الصماء، إلى شريحة الكائنات الحية من إنسان ودواب وأنعام.

3-

إلا أننا نجد أن آيات كثيرة تخصص مجالًا واحدًا من المجالات ثم تفصل فيه تفصيلًا دقيقًا بل قد تدخل في التفصيلات ما لا تدركه حواسنا ومعلوماتنا الحاضرة، ولعل أمام الأجيال اللاحقة فسحة من البحث والتقصي والتدبر لإدراك جوانب ودقائق أخرى، ولا يحيط بعلم الخالق أحد فلننظر في قوله تعالى في مجال الكون:

{وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ، أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ، وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ، وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ، وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 29-33] . إنها جولة في أقطار السماوات والأرض ممتدة عريقة في القدم، ونظرة ثاقبة في أصل السماوات والأرض يوم كانتا رتقًا ملتصقة متحدة مشكلة من مادة واحدة، ففتقها خالقها سبحانه وتعالى، إن مداركنا لا تصل بصورة قاطعة إلى هذا الرتق، وكيفية الفتق وإن كانت العلوم الفلكية والطبيعية بدأت تخطر خطوات بدائية ولكنها حثيثة للتعرف على أصل الكون بدراسة ظواهر بعض الكواكب، وبعد أن عرفوا أن مادة القمر من نفس مادة الأرض، وقد علموا في السابق ما في النيازك ومخلفات الشهب التي تسقط على الأرض من الفضاء، وأنها من معادن مشابهة لأنواع المعادن في الأرض. إن هذه الحقيقة الهائلة التي نقرءوها في هذه الآيات هي مجال أبحاث كبار المختصين ولا تقل الحقيقة الثانية في

ص: 124

ضخامتها في علم الأحياء عن الحقيقة الأولى.

وقد أصبح من بدهيات العلم الحديث البحث عن الحياة يوجد الماء، ليس على الأرض وحدها بل في الكواكب الأخرى.

- والحقيقة الثالثة في هذه الآيات هي خلق الجبال وإسناد دور الإرسال وحفظ التوازن للأرض بواسطتها، وقد أصبح هذا الدور للجبال من مسلمات العلم الحديث وتشبيه الجبال في آيات أخرى بالأوتاد من أدق التشبيهات واقعًا ووظيفة.

إننا نكتفي بالإشارات هنا، لأننا لسنا بصدد ذكر الحقائق التفصيلية التي توصل إليها العلم الحديث، وهي تلقي أمثلة تطبيقية تفصيلية على هذه الحقائق العامة الضخمة.

- ومما يلقي أضواء على هذه الحقائق ما ورد في سورة فصلت في قوله تعالى: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ، ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ، فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت: 9-12] .

- وفي مجال الإنسان.

إن الآيات القرآنية التي تتحدث عن الإنسان من الوفرة بحيث لم تدع شأنًا من شئونه ولا حالة من حالاته إلا وتطرقت إليه فمن خلقه وتكوينه في أطواره المختلفة إلى كونه جنينًا. وعناية الله سبحانه وتعالى به، ثم بيان شأن طفولته، ورضاعه وفطامه ومشاعره وعواطفه، وهدايته وأحواله الفطرية وتطلعاته وآماله، اهتداء وانحرافًا ومصيرًا ومآلًا ثم حال الموت والبرزج والبعث إلى أن يستقر في المقر النهائي.

وفي أسلوب عرض الأدلة المتعلقة بالإنسان نلحظ ذات الأسلوب الذي عرضت به الآيات في الكون من إشارات عامة إلى خلق الإنسان إلى تفصيل في خلقه وأطواره إلى ذكر جزئيات في بعض أوصافه وأحواله:

ص: 125

1-

فمن الآيات العامة التي أشارت إلى خلق الإنسان وتفرد الله سبحانه وتعالى بهذا الخلق قوله تعالى: {خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن: 14] .

- وفي آيات أخرى أشار إلى طور آخر من خلقه: مثل قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا، إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان: 1-2] .

- وقوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ، خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ، يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 5-7] .

- وقوله تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ، أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} [الواقعة: 57-59] .

- وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس: 77] .

- وقوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق: 1-2] .

2-

وإلى جانب الإشارة إلى خلق الإنسان العام، وإلى بعض المراحل في خلقه، نجد الآيات الأخرى قد ربطت بين هذه المراحل وفصلت خلقه تفصيلًا، مما يبرز جانب الإبداع ويثير التأمل في الحكمة الإلهية في خلق الإنسان وتكوينه، ليصل الإنسان من خلال تدبره في خلقه وتكوينه وأطوار حياته إلى وحدانية الخالق سبحانه وتعالى وتفرده في خلق هذا الكائن الغريب في خلقته واستعداداته. فلنتدبر قوله تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ، وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ، وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 26-29] .

وقوله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْأِنْسَانِ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ

ص: 126

السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة: 7-9] .

وكل هذه الآيات التي تشير إلى مرحلة أو أكثر من مراحل تكوين الإنسان، ترد في سياق الحديث عن إثبات أمر الألوهية والتوحيد وكثيرًا ما يربط بين هذا الخلق في هذا الطور وبين قضية الإعادة بعد الموت المشابهة للخلق من النطفة -البذرة- بقضية الإنبات من عجب الذنب يوم القيامة كما صحت بذلك الأحاديث1.

تعقيب على أدلة الخلق والإبداع:

لقد تحطمت شبهات الملاحدة القديمة والحديثة فأصبحت خاوية على عروشها بعد أن ألقي عليها قذائف الحق الإلهي.

وكلما حاول أهل الباطل أن ينفخوا الروح في بقايا الأشلاء المتناثرة من نظرية الصدفة، أو قدم العالم المادي، برزت جوانب من الحقائق القرآنية -وربما على أيدي غير المسلمين وبخاصة على أيدي العلماء التجريبيين- لتزهق الباطل مرة أخرى.

ولنسمع من أقوال بعضهم ما يلقي أضواء على ما توصولوا إليه من حقائق علمية تثبت حدوث العالم المادي وتبرهن على وجود نهاية له.

اكتشف علماء القرن التاسع عشر الميلادي ما يسمى بقانون الطاقة الحرارية والطاقة المتاحة.

وملخص هذا القانون يفيد أن: الحرارة تنتقل دائمًا من "وجود حراري" إلى "عدم حراري"، والعكس غير ممكن، وهو أن تنتقل دائمًا هذه الحرارة من "وجود حراري قليل" أو "وجود حراري عدم" إلى "وجود حراري أكثر" فإن ضابط التغير هو التناسب بين "الطاقة المتاحة" و"الطاقة غير المتاحة".

وبناء على هذا الكشف العلمي فإن الطاقة الحرارية للكون في تناقص مستمر

1 في الصحيحين من حديث أبي هريرة: "ويبلى كل شيء من الإنسان إلا عجب ذنبه فيه يركب الخلق".

انظر: صحيح البخاري، كتاب التفسير: 6/ 34، وصحيح مسلم، كتاب الفتن: 8/ 210.

ص: 127

وكفاءة عمل الكون في تناقص مضطرد، ولا بد من وقت تتساوى فيه حرارة جميع الموجودات، وحينذاك لا تبقى أية طاقة مفيدة للحياة والعمل، وسيترتب على ذلك أن تنتهي العمليات الكيميائية والطبيعية وتنتهي -تلقائيًا- مع هذه النتيجة "الحياة".

هذا إذا استمر النظام في الكون من غير تدخل ووضع نهاية لسيره في الدنيا وانطلاقًا من هذا الحقيقية المتقدمة، يثبت قطعًا أن الكون ليس بأزلي.

يقول "إدوارد لوثركسيو" وهو متخصص في علم الحيوان: وهكذا أثبتت البحوث العلمية "دون قصد" أن لهذا الكون بداية، فأثبتت تلقائيًا وجود الإله لأن كل شيء ذي بداية لا يمكن أن يبتدئ بذاته، ولا بد أن يحتاج إلى الخالق.

- والاكتشاف العلمي حول سعة الكون -أو توسعه المستمر- يدل من جانب آخر على أن هذا الكون يتوسع بشكل مذهل وبسرعة لا تتصور، ولا بد أن هذا التوسع كان ابتداء من بداية حركتها قوة معينة وحسب نظام معين، وأن هذا التوسع لا بد أن يصل إلى مداه النهائي، ثم يعود الكون مرة أخرى للتقلص بعد انعدام القوة الدافعة لهذا التوسع، وعندئذ سيؤدي إلى ارتباط الأجرام السماوية وتجمعها في نقطة المركز.

إن كونًا هذا شأنه في التمدد والتوسع، ثم مآله إلى الانكماش والتقلص لا بد أن تكون قدرة الخالق هي التي كانت وراء البداء وإلى الله المنتهى، فلا يمكن للعدم أن يوجد بداية ونهاية لشيء.

ولو ذهبنا نستعرض الآيات التي تحدثت عن الحيوان والنبات، وذكرنا الحقائق العلمية التي توصل إليها العلم الحديث لاستغرق منا وقتًا طويلًا، ولخرج بنا عن الشرح الإجمالي لبيان أدلة الخلق والإبداع التي ذكرها القرآن الكريم عن تفرد الله سبحانه وتعالى في هذا الخلق والإبداع لا شريك له {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف: 51] .

ص: 128