المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أنواع المناسبات في السورة الواحدة: - مباحث في التفسير الموضوعي

[مصطفى مسلم]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌التفسير الموضوعي: "تعريفه- نشأته- تطوره- ألوانه- أهميته

- ‌تمهيد:

- ‌نبذة تاريخية عن نشوء علم التفسير وتطوره ومكانة التفسير الموضوعي:

- ‌تعريف التفسير الموضوعي:

- ‌نشأة التفسير الموضوعي:

- ‌ألوان التفسير الموضوعي:

- ‌اللون الأول:

- ‌اللون الثاني:

- ‌اللون الثالث

- ‌أهمية التفسير الموضوعي:

- ‌مناهج البحث في التفسير الموضوعي:

- ‌أولًا: منهج البحث في موضوع من خلال القرآن الكريم:

- ‌ثانيًا: منهج البحث في التفسير الموضوعي لسورة واحدة

- ‌ثالثا: التفسير الموضوعي لسورة قرآنية

- ‌تحديد محور السورة

- ‌الهدف في السورة القصيرة والسورة الطويلة:

- ‌الإطناب والإيجاز في قضايا عرضتها السورة:

- ‌صلة التفسير الموضوعي بالأنواع الأخرى من التفسير:

- ‌علم المناسبات والتفسير الموضوعي

- ‌مدخل

- ‌أولًا- تعريف علم المناسبات:

- ‌ثانيا: أهمية علم المناسبات وأقوال العلماء فيه

- ‌مدخل

- ‌القسم الأول: المناسبات في السورة الواحدة

- ‌مدخل

- ‌أنواع المناسبات في السورة الواحدة:

- ‌القسم الثاني: المناسبات بين السور

- ‌مدخل

- ‌أنواع المناسبات بين كل سورتين متجاورتين:

- ‌مثال تطبيقي على موضوع من خلال القرآن الكريم" الألوهية من خلال آيات القرآن الكريم

- ‌مقدمات بين يدي الموضوع

- ‌أولا: الألوهية والفطرة

- ‌ثانيًا: اهتمام القرآن الكريم بالتوحيد أكثر من الاهتمام بإثبات وجود الخالق

- ‌ثالثًا: منهج القرآن في إثبات التوحيد منهج فطري

- ‌رابعًا: ربط قضايا العقيدة بمصالح العباد في حياتهم المعاشية

- ‌خامسًا: مجالات الاستدلال على قضية الألوهية

- ‌أبرز أنواع الأدلة على توحيد الله جل جلاله في القرآن الكريم

- ‌مدخل

- ‌أولًا: أدلة الخلق والإبداع

- ‌ثانيًا: أدلة العناية

- ‌ثالثًا: أدلة الفطرة

- ‌رابعًا: البراهين العقلية

- ‌خامسًا: أدلة التوحيد من خلال إثبات صفات الكمال لله سبحانه وتعالى وتنزيهه عن صفات النقص

- ‌الخاتمة:

- ‌مثال تطبيقي في تفسير سورة تفسيرًا موضوعيًّا: "القيم في ضوء سورة الكهف

- ‌تمهيد:

- ‌بين يدي سورة الكهف:

- ‌اسمها وعدد آياتها:

- ‌خصائص سورة الكهف:

- ‌وقت نزولها وسببه:

- ‌أهداف سورة الكهف:

- ‌المناسبات في سورة الكهف

- ‌أولا: المناسبة بين اسم السورة وموضوعاتها

- ‌ثانيًا: المناسبة بين افتتاحية السورة وخاتمتها

- ‌ثالثًا: المناسبة بين مقاطع السورة وهدفها

- ‌افتتاحية سورة الكهف

- ‌الموضوعات الأساسية في الافتتاحية

- ‌المقطع الأول: قصة الفتية المؤمنين

- ‌مدخل

- ‌بين يدي قصص سورة الكهف:

- ‌العرض الإجمالي لقصة الفتية المؤمنين:

- ‌العرض التحليلي للقصة:

- ‌تعقيب واستطراد وتعليل:

- ‌عظات وعبر:

- ‌المقطع الثاني: مفارقات ومواقف في بواعث العزة

- ‌مدخل

- ‌المناسبة بين المقطع الأول والثاني:

- ‌العرض العام للمقطع الثاني:

- ‌عظات وعبر:

- ‌المقطع الثالث: وقفة تأمل في المال والمصير

- ‌مدخل

- ‌المناسبات بين المقطع الثالث وما قبله:

- ‌العرض الإجمالي للمقطع الثالث:

- ‌الفوائد والعظات والعبر في المقطع الثالث:

- ‌المقطع الرابع: الرحلة في طلب العلم

- ‌مدخل

- ‌المناسبات بين المقطع الرابع وما قبله:

- ‌العرض الإجمالي للمقطع الرابع:

- ‌الانطلاق والبحث عن العبد الصالح:

- ‌العظات والعبر من فقرة الانطلاق والبحث عن العبد الصالح:

- ‌اللقاء والحوار:

- ‌العظات والعبر من فقرة اللقاء والحوار:

- ‌الصحبة الكريمة والأحداث العجيبة

- ‌مدخل

- ‌أولها: الجانب النفسي لموسى عليه السلام

- ‌ثانيها: صدمة المفاجأة وهول الحادث

- ‌ثالثها: مبادئ شريعة التوراة

- ‌الفراق بعد تأويل التصرفات الغريبة:

- ‌العظات والعبر من فقرة الصحبة الكريمة والأحداث العجيبة

- ‌مدخل

- ‌تعقيبات وتعليقات:

- ‌المقطع الخامس: قصة ذي القرنين الرجل الطواف

- ‌مدخل

- ‌المناسبات:

- ‌العرض الإجمالي للمقطع الخامس:

- ‌وقفات لابد منها

- ‌الوقفة الأولى: مع ذي القرنين

- ‌الوقفة الثانية: مع السد وموقعه

- ‌الوقفة الثالثة: مع يأجوج ومأجوج؛ حقيقتهم ومصيرهم

- ‌القيم في قصة ذي القرنين:

- ‌العظات والعبر في المقطع الخامس قصة ذي القرنين:

- ‌خاتمة السورة:

- ‌الخاتمة:

- ‌الفهارس

- ‌ فهرس الآيات الكريمة

- ‌ فهرس الأحاديث والآثار:

- ‌ فهرس الأعلام:

- ‌ فهرس المراجع:

- ‌ محتوى الكتاب:

الفصل: ‌أنواع المناسبات في السورة الواحدة:

‌أنواع المناسبات في السورة الواحدة:

ذكر للمناسبات بين الآيات في السورة أنواعًا:

النوع الأول: المناسبة بين الآيات في السورة الواحدة

ومن أمثلة ذلك:

1-

في سورة النساء: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [الآيات: 51-57] .

هذه الآيات نزلت في كعب بن الأشرف عندما ذهب إلى مكة بعد انتصار المسلمين في بدر يحرض المشركين على الأخذ بثأرهم. فسألوه: من أهدى سبيلًا: المؤمنون أم المشركون؟ فقال: بل أنتم، أنتم أهدى من المؤمنين سبيلًا. أخرج عبد الرزاق وابن جرير عن عكرمة أن كعب بن الأشرف انطلق إلى المشركين من كفار قريش فاستجاشهم على النبي صلى الله عليه وسلم، وأمرهم أن يغزوه وقال: إنا معكم نقاتله، فقالوا: إنكم أهل كتاب وهو صاحب كتاب، ولا نأمن أن يكون هذا مكرًا منكم، فإن أردت أن نخرج معك فاسجد لهذين الصنمين، وآمن بهما ففعل، ثم قالوا: نحن أهدى أم محمد، فنحن ننحر الكوماء، ونسقي اللبن على الماء، ونصل الرحم، ونقري الضيف، ونطوف بهذا البيت، ومحمد قطع رحمه وخرج من بلده، قال: بل أنتم خير وأهدى، فنزلت فيه:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} 1 الآية.

وجاء بعد هذه الآيات قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58] .

وهذه الآية نزلت في شأن عثمان بن طلحة بن أبي طلحة العبدري صاحب

1 انظر: الدر المنثور للسيوطي: 2/ 563.

ص: 70

سدانة الكعبة لما أخذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة يوم الفتح ثم رده عليه1.

وبين الآيتين ست سنوات ومع ذلك فالمناسبة بين الآيات الأولى والآية الأخيرة في غاية الوضوح، حيث ذكر المفسرون: أن أحبار اليهود كانوا على اطلاع بما في كتبهم من وصف محمد صلى الله عليه وسلم وأخذت عليهم المواثيق للإيمان به ونصرته: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81] . ثم خان هؤلاء الأحبار هذه الأمانة، ونقضوا الميثاق، ولم يؤدوا هذه المسئولية، فالسياق سياق تحمل مسئولية وأمانة وأدائها على الوجه المطلوب المبرئ للذمة.

فالموضوع واحد والسياق منسجم تمامًا على الرغم من وجود الفاصل الزمني.

2-

المناسبات بين الآيات الكريمة في سورة البقرة:

{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ}

{لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}

{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} ....

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ}

{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} ....

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى}

{ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيم} [البقرة: 255-260]2.

فمن الممكن أن يقال: إن آية الكرسي قد بينت صفات الجلال والكمال لله سبحانه وتعالى وحده وإذا كان الأمر بهذا الشكل من الوضوح فالعقول السليمة تؤمن به من غير حاجة إلى إكراه، لوضوح البراهين إلا أن بعض العقول قد يؤثر عليها ولاءاتها وارتباطها فتحرفها عن سلوك الطريق القويم في التفكير والاستدلال فتخرجها هذه الولاءات من نور الفطرة إلى ظلمات الشرك. أما الذين آمنوا فوليهم

1 انظر: تفسير ابن كثير: 1/ 515.

2 الدرر المنثور للسيوطي: 2/ 570.

ص: 71

الله الذي يزيد هذه الفطرة نورًا وضياءًا وإذا التبس بها شيء أنقذها الله سبحانه وتعالى من تلك الظلمات إلى النور.

ومن الأمثلة على انحراف التفكير نمروذ الذي زعم في نفسه الألوهية علمًا أنه أدرى الناس بحقيقة عجزه. ثم تفسيره للإحياء والإماتة، ولكنه بهت عندما جوبه بأن من شأن الإله التصرف المطلق في الكون.

ثم عقب على ذلك بأن حقيقية الإماتة والإحياء ما حدث لعبد الله الصالح عزير وحماره وما أجراه الله سبحانه وتعالى على يد خليله إبراهيم عليه السلام في إحياء الطيور الأربعة. ثم انتقل إلى إحياء من لون آخر: وهو إحياء النفوس بالصدقة والإنفاق في سبيل الله وموت النفوس وخنق الأجر وإماتته بالمن والأذى.

3-

ومثال آخر قوله تعالى في سورة الزمر:

فالسورة مكية كلها إلا قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ، وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [53-55] .

فقد نزلت في المدينة وذكروا سببًا لنزولها:

أخرج الشيخان عن ابن عباس أن ناسًا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، فأتوا محمد صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزل {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} ونزل:{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} 1.

وفي رواية محمد بن إسحاق قال نافع عن عبد الله بن عمر عن عمر رضي الله عنهما في حديثه قال: كنا نقول ما الله بقابل ممن افتتن صرفًا ولا عدلًا ولا توبة، عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم. قال: وكانوا يقولون ذلك

1 صحيح البخاري، كتاب التفسير: 6/ 33، وصحيح مسلم، كتاب الإيمان: 1/ 79.

ص: 72

لأنفسهم قال: فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل الله تعالى فيهم في قولنا وقولهم: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} إلى قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُون} . قال عمر رضي الله عنه: فكتبتها بيدي في صحيفة وبعثت بها إلى هشام بن العاص رضي الله عنه. فقال هشام: لما أتتني جعلت أقرءوها بذي طوى أصعد بها فيه وأصوات ولا أفهمها حتى قلت اللهم أفهمنيها، قال: فألقي الله عز وجل في قلبي أنها إنما أنزلت فينا وفيما كنا نقول في أنفسنا، ويقال فينا، فرجعت إلى بعيري فجلست عليه فلحقت برسوله الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة1.

فالآيات مدينة كما تفيد روايات أسباب النزول، إلا أن وضعها في السورة المكية منسجم تمام الانسجام مع ما قبلها وما بعدها. وأقرأ الآيات:{أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ، وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ، أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر: 52-56] .

فنجد أن الآيات متلاحمة تمام التلاحم فلما كان بسط الرزق والتضييق فيه مظنة الإسراف على النفس فمع البسط الترف وارتكاب المحرمات والموبقات وصرفه على الشهوات.

وفي حال التضييق السعي للحصول عليه ولو بالعدوان. وفي كلا الأمرين ظلم للنفس، فاقتضت الحكمة الإلهية عدم التيئيس من رحمة الله تعالى، وفتح باب التوبة لهم للالتجاء إليه سبحانه وتعالى، وحذرهم من التسويف خشية حلول العذاب المفاجئ، فبعض أصابع الندم على تفريطه في جنب الله، وكما يكون الانحراف

1 تفسير ابن كثير: 4/ 60.

ص: 73

في المال والرزق يكون الانحراف عن السلوك القويم والصراط المستقيم في الأعمال الأخرى كما دلت رواية سبب النزول.

والجادة المستقيمة في كل ذلك اتباع شرع الله سبحانه وتعالى في سائر الأحوال والالتزام بمنهجه القويم، وهذا الاتباع هو الذي يجنب الإنسان الحسرة والندامة في الآخرة.

فهل تشعر بأي فجوة في السياق أو أي قفزة في النظم المحكم؟

النوع الثاني: مناسبة فواتح السور لخواتمها

حيث نجد أن السورة تبدأ بأمر ثم تختم بنفس الموضوع.

ومن الأمثلة على ذلك:

1-

افتتحت سورة الكهف بقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا، قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ} الآيات، وختمت السورة بقوله تعالى:{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا، قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} . فالحديث في أول السورة وخاتمتها عن كلام الله المنزل الموحى به على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

2-

وافتتحت سورة المؤمنون بقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} حيث تحدثت عن فلاح المؤمنين الذين يتصفون بهذه الصفات النبيلة. وختمت السورة بقوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ، وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} حيث ذكرت عاقبة الكفر وعدم فلاح الكافرين فالفلاح لمن اتصف بصفات معينة، والهلاك وعدم الفلاح لمن لم يتصف بها.

3-

وافتتحت سورة الفرقان بقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} وختمت بقوله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا

ص: 74

دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} فالإنذار وبيان مهمة الرسول وأحواله هو محور السورة عمومًا ومدار الكلام في طرفيها خصوصًا.

4-

وفي سورة يوسف كان الابتداء {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ، إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} .

وختمت السورة بقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} والعلاقة أوضح من أن تحتاج إلى بيان.

5-

وتبتدئ سورة الحجر بقوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ، رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ، ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ، وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ، مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ، وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} .

فالحديث عن القرآن وموقف المشركين المعاندين منه ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد كذبوا بالقرآن وسخروا من رسول الله واتهموه بالجنون.

وتختم السورة بقوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ، فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ، الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ، وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} . نعم كان يضيق صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كانوا يقولونه ويفترونه عليه من اتهامه بالجنون، ولكن الله سيكفيه أمر المفترين المستهزئين، فما عليه إلا الصبر والالتجاء إلى الله بالعبادة والتوكل.

6-

وتبدأ سورة النحل بقوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ، يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} وتختم بقوله تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ، إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} فلا بد بعد الإنذار من الصبر بعض الوقت لمعرفة مدى تجاوب القوم فإن

ص: 75

تمادوا في غيهم ومكرهم أخذهم العذاب فلا ينبغي الحزن عليهم.

7-

ونلحظ ذلك حتى في السور المدنية الطويلة:

ففي سورة البقرة كان البدء بقوله تعالى: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 1-4] .

وتختم السورة بقوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 285-286] .

فالبدء بالغيب بشكل عام وإقامة فرائض الإسلام، والإيمان بما أنزل إلى الرسول وما أنزل من قبل واليقين بالآخرة.

وفي الختام الحديث عن إيمان الرسول والمؤمنين بما أنزل إليه وبالله وملائكته، وهن من الغيب وبالكتب والرسالات السابقة وسؤال الله المغفرة فإليه المصير يوم القيامة.

8-

وفي سورة آل عمران المدينة:

تبتدئ السورة بقوله تعالى: {الم، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ، مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} .

فالحديث عن الحي القيوم منزل الكتب والرسالات، ذي العذاب الشديد المنتقم لمن كفر بها وأعرض عنها -أي موقف الناس منها.

وتختم السورة بقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 199-200] .

ص: 76

فالحديث عن طائفة من أهل الكتاب الذين آمنوا بالله وما أنزل إليهم وما أنزل على رسول الله والحديث عن الرسالات وموقف الناس منها. ثم الأمر بالصبر والمصابرة والمرابطة. ففيه تهديد ووعيد لأولئك ووعد بالفلاح للمؤمنين.

9-

وفي سورة النساء كانت الافتتاحية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [1-3]، فالحديث عن الأصل الإنساني وصلات الرحم والحقوق المالية للمستضعفين منهم. وختمت السورة بقوله تعالى:{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} وهي الآية الثالثة في قسمة أموال التركة، وبيان حقوق الورثة فيها.

إن من أمعن النظر في هذه الأمثلة المختلفة لا يستطيع أن ينكر وجود المناسبات بينها على الرغم من اختلاف زمن النزول وأسبابه وموضوعاته، وهذا غيض من فيض، ومن تتبع التفاسير التي أولت هذا الجانب اهتمامها يظفر بالأمثلة الكثيرة التي لا تحصى.

ص: 77