الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثالثًا: المناسبة بين مقاطع السورة وهدفها
ذكرنا في السابق أهداف سورة الكهف واخترنا أحدها لنجعله محور البحث في تفسير السورة موضوعيًا، وقلنا: إن مقاطع السورة تدور حول الهدف لإبرازه وتقريره فما وجه الصلة بين مقاطع سورة الكهف وبين "القيم".
وذكرنا في تبرير اختيارنا لعنوان البحث "القيم في ضوء سورة الكهف" أن من أدرك الحقائق التي وردت في سورة الكهف ملك الميزان الذي يفرق به بين الصحيح والسقيم والحق والباطل، ولما كان موضوع إثبات صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته من الأهداف الأساسية ومن المحاور التي تدور حولها السورة، فإن الميزان الذي تدلنا عليه سورة الكهف هو الفيصل الذي نتعرف به على صدق هذه الدعوة وعلى صدق الرسول الذي جاء بها.
إذا أدركنا ذلك وحددنا هذا الهدف، سهل علينا الربط بين مقاطع السورة كلها وبين الهدف الذي تبرزه السورة وتقرره.
تمثل القصص الأربع التي وردت في سورة الكهف مقاطعها الرئيسية إلى جانب الافتتاحية والخاتمة.
وتضمن فاتحة السورة وخاتمتها للقيم الصحيحة التي توزن بها الأمور تقدم الحديث عنه في بحث المناسبات بين الافتتاحية والخاتمة.
أما المقاطع الأربعة الأخرى وبالأحرى القصص الأربع في السورة فإنها وثيقة الصلة أيضًا بهدف السورة.
- فقصة أصحاب الكهف وكذلك قصة ذي القرنين واضحة الاتصال بهدف السورة لأن القصتين جاءتا إجابة للسؤال الموجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ورد في سبب النزول.
- أما قصة صاحب الجنتين فاتصالها بالسؤال أيضًا من زاوية الاستنكار على
قريش في أصل التوجه بالسؤال. وفيما يلي تفصيل ذلك:
إن قريشًا لم تكن بحاجة إلى مثل هذا السؤال والاستفسار للتأكد من صدق محمد صلى الله عليه وسلم، فإن محمدًا قد عاش بينهم وليدًا وترعرع في ديارهم شابًا يافعًا ثم كهلًا، وهم أعرف الناس بشئونه كلها، وينبغي أن يكونوا المرجع العدل الذي يرجع إليه الناس في شأن محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه الحقيقة برزت على ألسنة بعض زعمائهم في لحظات وعي وتعقل:
قال ابن هشام: قال ابن إسحاق: قال النضر بن الحارث فقال: يا معشر قريش إنه والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد، قد كان محمد فيكم غلامًا حدثًا، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثًا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم به، قلتم: ساحر، لا والله ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم، وقلتم: كاهن، لا والله ما هو بكاهن، قد رأينا الكهنة وتخالجهم وسمعنا سجعهم، وقلتم: شاعر، لا والله ما هو بشاعر، قد رأينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها: هزجه ورجزه، وقلتم: مجنون، لا والله ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون، فما هو بخنقه، ولا وسوسته، ولا تخليطه، يا معشر قريش فانظروا في شأنكم، فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم1.
كان هذا حديث أحد زعمائهم عن شخص محمد صلى الله عليه وسلم، وكان حدث آخر منهم عن القرآن الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم:
"والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإنه لمغدق أسفله وإنه لمثمر أعلاه، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه وإنه ليحطم ما تحته وما هو بقول بشر"2.
كانت تلك شهادة حق من الوليد بن المغيرة في لحظة صدق مع نفسه.
فعلى الرغم من إدراك القوم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق دعوته كانوا يحاولون طمس نور الحق بأي وسيلة يتمكنون منها، وكانوا يصرون على موقفهم المعادي
1 سيرة ابن هشام مع حاشية الروض الأنف: 2/ 38.
2 سيرة ابن هشام مع حاشية الروض الأنف: 2/ 12 مع اختلاف في الألفاظ.
ويحاولون تبريره بأي حجة كانت، مهما كانت واهية متناقضة مع مداركهم وقناعاتهم الذاتية، والسبب الدافع لهم إلى كل ذلك هو اختلال موازين القيم عندهم، فقد أعماهم الجاه وحب المال أن ينظروا إلى القيم إلا من خلالها، وهذه القيم الزائفة هي التي حملتهم على طلب إبعاد فقراء المسلمين وضعفائهم من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم لكيلا يراهم الناس يجالسون الأرقاء المستضعفين فيعيروهم بذلك.
إن مثل هؤلاء في طمس نور الفطرة في نفوسهم، واستيلاء سكرة المال والجاه على بصائرهم كمثل صاحب الجنتين الذي أعماه الغرور بالمال والجاه وكثرة النشب والأولاد فكفر بربه الذي خلقه من تراب ثم من نطفة ثم سواه رجلًا.
فالقصة وثيقة الصلة بموقف قريش الذين أرسلوا إلى اليهود في المدينة ليسألوهم عن شأن محمد ودعوته، ولو كانوا ذوي حكمة وتعقل وفطر سليمة لما تصرفوا مثل هذا التصرف الكاشف عن سفاهة وحقد، فعندهم من أمارات صدق محمد صلى الله عليه وسلم في سيرته وإطلاعهم على رجاحة عقله، وطهارة ذيله واستقامة سلوكه ونبل أخلاقه وعظيم أمانته ما يغنيهم عن الترحال والاستفسار.
بالإضافة إلى ملكتهم البيانية في إدراك فصاحة الكلم وبلاغته فهم أمراء البيان ومنهم خطباء المحافل وشعراء المواسم، فبإمكانهم أن يدركوا حقيقة القرآن وأنه ليس من قول البشر.
- أما قصة موسى والخضر عليهما السلام، فلها صلة وثيقة بالهدف أيضًا، فهو توبيخ وتأنيب لليهود الذين يشكلون الطرف الثاني في اختبار صدق محمد صلى الله عليه وسلم.
لقد لقنت اليهود وفد قريش أسئلة تاريخية وعلمية لاختبار صدق محمد صلى الله عليه وسلم فيما جاء من دعوة الحق.
والأسئلة التعجيزية لا تكون الوسيلة المثلى دائمًا للتعرف على الحقيقة. كان الأليق باليهود -وهم أهل الكتاب الأول، ولديهم من الهدايات والوحي المنزل- أن يتدبروا حياة النبي صلى الله عليه وسلم، بعد سؤال الوفد عن دقائق حياته وشأنه -كما فعل
قيصر الروم عندما سأل أبا سفيان عنه-1، وكان عليهم أن يتدبروا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الهدايات ويقارنوها بما عندهم -كما فعل النجاشي رضي الله عنه-2 ليحكموا بعد ذلك على الدعوة وصاحبها، هاتان الوسيلتان هما المنهج الصحيح الذي كان على اليهود أن يسلكوه. أما مثل هذه المعلومات الغيبية فإن الجهل بها ليس دليلًا على عدم صدق المسئول، فهذا موسى عليه السلام، وهو من أعظم أنبياء بني إسرائيل قاطبة ومن أولي العزم من الرسل، ومجال افتخار اليهود جميعًا قد جهل أمورًا ثلاثة في رحلته مع الخضر عليه السلام، ولم يؤثر ذلك في مكانته عند بني إسرائيل ولا من أذهان المسلمين، ولم يقل أحد إن جهله بها قد أثر على صدقه في نبوته، ومقامه عند ربه.
فلماذا تجعلون -معشر اليهود- مثل هذه الاستفسارات وسيلة تشكيك في دعوة الحق التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم.
ولئن لجأت قريش إلى مثل هذا الموقف لأن الموازين مختلة عندهم وليسوا أهل علم وكتاب سماوي، وقد انطمست أنوار الفطرة لديهم فإن لديكم مقاييس الوحي السماوي -مما لم تطاوله أيديكم بالتحريف والتشويه- وبواسطتها يمكنكم تقويم الدعوات والمواقف والأشخاص وإدراك الصادق من غيره.
ومن هذا الجانب أيضًا نجد أن قصة موسى والخضر عليهما السلام وثيقة الصلة بهدف سورة الكهف، وبالقيم الصحيحة التي اشتملت عليها، وبالموازين المختلفة والقيم الزائفة التي تبناها المنحرفون والمفسدون. فكل القصص الأربع -التي تشكل المقاطع الأساسية في السورة- توجه الأنظار إلى ما ينبغي أن يكون عليه الحال تجاه دعوة الحق، وتبرز القيم الصحيحة التي تتخذ موازين لتمييز الحق والصدق والصواب من غيرها.
لقد اشتملت القصص الأربع في سورة الكهف أسباب الفتن الأساسية في الحياة الدنيا؛ فتنة السلطان، والمال، والعلم، والأسباب.
1 انظر تفصيل ذلك في صحيح البخاري، كتاب بدء الوحي: 1/5.
2 انظر تفصيل ذلك في: السيرة النبوية لابن هشام مع حاشية الروض الأنف: 2/ 88.
ولهذا كانت قراءة سورة الكهف نورًا كاشفًا وعلاجًا ناجحا للفتن جميعها، فإن قيم هذه الأشياء إذا أدركت في ضوء الإيمان بالله واليوم الآخر، علم المؤمن أنها قيم مموهة داجلة ما لم ترتبط بالإيمان بالله سبحانه وتعالى ورجاء مثوبته يوم القيامة.
فكانت تمثل القيم الحقيقية في سورة الكهف عقيدة وسلوكًا عصمة من أنواع الدجل كلها، وعلى رأسها فتنة المسيح الدجال.