الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد اختلف في الحكمة في التخفيف لهما فقيل: ليبادر إلى صلاة الفجر في أول الوقت، وبه جزم القرطبي (1) وقيل: ليستفتح لاة النهار بركعتين خفيفتين كما يصنع في صلاة الليل ليدخل في الفرض أو ما يشابهه بنشاط واستعداد تام، ذكره الحافظ في الفتح والعراقي في شرح الترمذي
(1) المفهم لما أشكل من صحيح مسلم 2/ 362. ') ">
المبحث التاسع: صفة القراءة فيهما:
اختلف العلماء في الجهر بالقراءة فيهما على ثلاثة أقوال (1)(2)
الأول: المستحب فيهما الإسرار، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وأكثر العلماء.
واستدلوا بحديث عائشة المتقدم، حيث إن المفهوم من ظاهره أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ فيهما سرا، ولولا ذلك لم تشك عائشة هل قرأ فيهما بأم القرآن أم لا.
الثاني: المستحب فيهما الجهر؛ لظاهر حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ فيهما بقل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد ولولا أن قراءته لم تكن جهرا ما علم أبو هريرة بما كان يقرأ فيهما.
(1) حاشية العدوي 1/ 360، الفواكه الدواني 1/ 195، بداية المجتهد 1/ 392، فتح الباري 3/ 62.
(2)
حاشية العدوي 1/ 360، الفواكه الدواني 1/ 195، بداية المجتهد 1/ 392، فتح الباري 3/ 62. ') ">
ومثله حديث ابن عمر: «رمقت النبي صلى الله عليه وسلم شهرا، فكان يقرأ في الركعتين قبل الفجر قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد» (1). قال الترمذي هذا حديث حسن
الثالث: مذهب التخيير بين الإسرار والجهر. ووجه هذا القول الجمع بين حديثي عائشة وأبي هريرة.
والراجح - والله أعلم - أن السنة فيهما الإسرار وذلك لأمور:
الأول: أنه جاء في رواية ابن سيرين: " يسر فيهما بالقراءة " وقد صححه ابن عبد البر (2)
الثاني: أنه كان من عادته صلى الله عليه وسلم أن يجهر ببعض السورة كما في حديث أبي قتادة في صفة قراءته صلى الله عليه وسلم في صلاة الظهر: (ويسمعنا الآية أحيانا)(3) وعليه فلا يلزم من معرفة أبي هريرة وابن عمر وغيرهما لقراءة النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يجهر فيها بكل قراءته.
الثالث: أن هذا هو هديه صلى الله عليه وسلم في سائر السنن الرواتب.
(1) سنن الترمذي الصَّلَاةِ (417)، سنن النسائي الِافْتِتَاحِ (992)، سنن ابن ماجه إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَالسُّنَّةِ فِيهَا (1149)، مسند أحمد (2/ 94).
(2)
روى ابن أبي شيبة بسنده عن ابن سيرين عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في ركعتي الفجر قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد يسر فيهما القراءة ". صححه ابن عبد البر فانظر: التمهيد 24/ 40 - 41، شرح الزرقاني 1/ 373، فتح الباري 3/ 62.
(3)
متفق عليه: رواه البخاري ح 725، باب القراءة في الظهر، ورواه مسلم ح 451، باب القراءة في الظهر والعصر.
المبحث العاشر: الاضطجاع بعدهما وفيه مطلبان:
المطلب الأول: مشروعيته:
اختلف العلماء في الضجعة بعد ركعتي الفجر على سبعة أقوال:
الأول: مشروعية الاضطجاع واستحبابه، حكاه الترمذي عن بعض العلماء، وكان أبو موسى ورافع بن خديج وأنس بن مالك يفعلونه، واختلف فيه عن ابن عمر، وهذا قول الفقهاء السبعة، وهو مذهب الشافعية، ورواية عن أحمد (1) وأما علماء الحنفية فلم ينصوا عليها وظاهر كلام ابن عابدين القول بمشروعيتها (2)(3)
ودليل هذا القول ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع» (4). قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه
وعن عائشة قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن» (5) متفق عليه. وهذا لفظ رواية البخاري (6)
(1) سنن الترمذي، أبواب الصلاة، باب ما جاء في الاضطجاع بعد ركعتي الفجر، ورواه أبو داود ح 1232، وانظر: مصنف ابن أبي شيبة 2/ 55، المغني 2/ 542، كشاف القناع 1/ 423، المجموع 2/ 524، نيل الأوطار 3/ 24.
(2)
ابن عابدين 2/ 21.
(3)
ابن عابدين 2/ 21. ') ">
(4)
رواه الترمذي، أبواب الصلاة، باب ما جاء في الاضطجاع بعد ركعتي الفجر.
(5)
صحيح البخاري الْجُمُعَةِ (1160)، سنن النسائي قِيَامِ اللَّيْلِ وَتَطَوُّعِ النَّهَارِ (1762)، سنن ابن ماجه إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَالسُّنَّةِ فِيهَا (1198)، مسند أحمد (6/ 254).
(6)
رواه البخاري، ك التهجد، باب الضجعة على الشق الأيمن بعد ركعتي الفجر، ومسلم، ك صلاة المسافرين، باب صلاة الليل
…
1/ 511.
الثاني: أنه واجب، لا بد من الإتيان به، وهذا مذهب ابن حزم الظاهري، وقواه الشوكاني (1)
ودليل هذا القول ظاهر الأمر في حديث أبي هريرة المتقدم.
الثالث: أنه مكروه وبدعة، نقله القاضي عياض عن مالك وجمهور العلماء وجماعة من الصحابة، منهم ابن مسعود وابن عمر - على اختلاف في الرواية عنه - ومن التابعين النخعي وسعيد بن المسيب وابن جبير، وهو رواية عن أحمد (2)
واستدل لهذا القول باختلاف أحاديث عائشة ففي بعضها أنه اضطجع بعد صلاة الليل وفي بعضها بعد ركعتي الفجر فدل على أنه لم يكن مقصود النبي صلى الله عليه وسلم، وحيث لم يكن سنة قبلهما فكذلك بعدهما (3)
وكذلك بما روي عن ابن عمر أنه قال فيها: هي بدعة. وجاء أنه كان يحصب من يفعله (4)
الرابع: أنه خلاف الأولى، وهذا مروي عن الحسن (5)
(1) المحلى 3/ 118، نيل الأوطار 3/ 27، حاشية ابن عابدين 2/ 21. ') ">
(2)
مصنف ابن أبي شيبة 2/ 55، المغني 2/ 542، فتح الباري 3/ 57، شرح العيني على أبي داود 5/ 150، مواهب الجليل 2/ 75، نيل الأوطار 3/ 26.
(3)
المجموع 2/ 524، نيل الأوطار 3/ 26. ') ">
(4)
رواه أي الحصب عبد الرزاق ح 4722، وابن أبي شيبة 2/ 54، وصححه ابن حجر في الفتح 3/ 57. ') ">
(5)
مصنف ابن أبي شيبة 2/ 55، فتح الباري 3/ 57. ') ">
الخامس: يستحب لمن قام الليل دون غيره، واختار هذا ابن العربي، فيفعل ذلك استجماما لصلاة الصبح.
واستدل لهذا بقول عائشة رضي الله عنها: «إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يضطجع لسنة ولكنه كان يدأب ليله فيستريح» (1)
السادس: أنه غير مقصود لذاته وإنما المقصود الفصل بين الراتبة والفريضة، وهذا الفصل يحصل بالتحول والقعود والحديث ونحو ذلك، وهذا رواية عن الإمام الشافعي رواها عنه البيهقي (2)
وقد يستدل لهذا القول بحديث عائشة رضي الله عنها وفيه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى سنة الفجر فإن كنت مستيقظة حدثني وإلا اضطجع» (3)
القول السابع:
أنها تستحب في البيت دون المسجد، هذا مذهب بعض السلف، وهو محكي عن ابن عمر، قال ابن حجر: وقواه بعض شيوخنا بأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله في المسجد، وصح عن ابن عمر أنه كان يحصب من يفعله في المسجد (4) وكذا روي عن عمر أنه رأى
(1) رواه عبد الرزاق في مصنفه 3/ 43 ح 4722.
(2)
المجموع 2/ 524، فتح الباري 3/ 57، نيل الأوطار 3/ 25. ') ">
(3)
متفق عليه: رواه البخاري ح 1161، ومسلم ح 743.
(4)
تقدم أنه عند عبد الرزاق ح 4722، وابن أبي شيبة 2/ 54، وانظر: فتح الباري 3/ 57. ') ">
رجلا اضطجع بعد الركعتين فقال: احصبوه! أو ألا تحصبوه؟ (1)
الراجح:
الصحيح هو القول بمشروعيتها: قال ابن قدامة: اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في قوله وفعله أولى من اتباع من خالفه كائنا من كان (2)
وقصر ذلك على من ركعهما في البيت دون المسجد قوي، وهو ظاهر فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولعله المراد بالأمر في حديث أبي هريرة، خاصة أنه تقرر أن أداء السنة الراتبة في البيت هو أفضل كما سيأتي في المبحث الحادي عشر، ولأجل ذلك كان بعض السلف يحصبون من يفعله في المسجد، ولأن في ذلك صيانة للمساجد، وحفاظا على المروءة حين مخالطة أهل الفضل (3) وقد صارت المساجد ولله الحمد كظيظا بالمصلين كما هو الحال في الحرمين وغيرهما، ولا يخفى ما في الاضطجاع في المساجد والحال هذه من البعد، والقول بقصر ذلك على من كان قد قام الليل وجيه كما اختاره ابن العربي، إذ هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم وهديه، ويتحقق بذلك الفصل والاستجمام لصلاة الصبح، ويستأنس له بحديث عائشة
(1) رواه ابن أبي شيبة 2/ 54. ') ">
(2)
المغني 2/ 542. ') ">
(3)
حاشية ابن عابدين 2/ 21. ') ">
رضي الله عنها الذي ذكرناه في القول الخامس، وإن كان قد نوقش الاستدلال به بأمرين:
الأول: أن الحديث ضعيف، قال ابن حجر: فيه راو لم يسم (1)
الثاني: أن هذا ظن منها وتخمين وليس بحجة وإنما الحجة في قوله وفعله صلى الله عليه وسلم.
ولكن يمكن أن يجاب عنهما:
فأما الأول: فقد يحتمل التقوية على قول، فقد قال ابن جريج وهو ثقة: حدثني من أصدق كما في رواية عبد الرزاق عنه.
وأما الثاني: فإن الاضطجاع بعد قيام الليل هو من فعله صلى الله عليه وسلم ويحمل قوله عليه.
ولكن بعد أن ترجح القول بالمشروعية فإن مما ينبه عليه أن هذا اضطجاع قصير وليس بنوم، فإن خشي النوم، أو الكسل عن الفريضة بعدها، فإن المحافظة على الفريضة أولى، والله تعالى أعلم.
وأما القول بالوجوب فضعيف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تركه أحيانا، قال الإمام البخاري: باب من تحدث بعد الركعتين ولم يضطجع ثم ذكر حديث عائشة رضي الله عنها وفيه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى
(1) فتح الباري 3/ 57، نيل الأوطار 3/ 27. ') ">
سنة الفجر فإن كنت مستيقظة حدثني وإلا اضطجع» (1) قال ابن حجر: وبذلك احتج الأئمة على عدم الوجوب.
وأما القول الثالث والرابع فردا بفعله وقوله صلى الله عليه وسلم كما في حديث عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهما، وكونه صلى الله عليه وسلم اضطجع بعد صلاة الليل فلا يمنع أن يضطجع بعد ركعتي الفجر، ولا يلزم من اضطجاعه قبلهما ألاّ يضطجع بعدهما، ولعله صلى الله عليه وسلم ترك الاضطجاع بعدهما بعض الأوقات بيانا للجواز (2)
وأما إنكار ابن مسعود وابن عمر، وقول النخعي: هي ضجعة الشيطان، فيجاب عنه بأمرين:
الأول: أنه محمول على أنه لم يبلغهم الأمر بفعله صلى الله عليه وسلم ولا بأمره.
وقول ابن عابدين: "ولا يخفى بعد عدم البلوغ إلى هؤلاء الأكابر الذين بلغوا المبلغ الأعلى لا سيما ابن مسعود الملازم له حضرا وسفرا وابن عمر المتفحص عن أحواله في كمال التتبع والاتباع "(3) انتهى؛ غير مسلم؛ لأن أحدا لا يدعي الإحاطة بكل
(1) متفق عليه: رواه البخاري ح 1161، ومسلم ح 743.
(2)
المجموع 2/ 524، نيل الأوطار 3/ 27. ') ">
(3)
حاشية ابن عابدين 2/ 21. ') ">
السنة، وهذا مما كان يفعله صلى الله عليه وسلم في بيته، وقد كانت ساعة لا يدخل عليه فيها ابن عمر رضي الله عنهما (1) فلا يستبعد خفاء هذه السنة عنه وعن غيره.
الثاني وصوبه ابن عابدين: حمل إنكارهم على علة الفصل بين النافلة والفريضة أو على فعله في المسجد بين أهل الفضل (2)
ويقوي هذا أنه روي عن ابن عمر أنه كان يفعلها (3)
على أن ما روي عن ابن عمر من المنع إسناده ضعيف كما قاله النووي، ولو صح فهو شذوذ
(1) رواه البخاري ح 1126. ') ">
(2)
حاشية ابن عابدين 2/ 21. ') ">
(3)
رواه ابن أبي شيبة 2/ 54. ') ">
المطلب الآخر: صفته:
السنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم في فعله أنه كان يضطجع على شقه الأيمن كما في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها (1) ولكن هل يتعين على الشق الأيمن أم تتحقق السنة بالاضطجاع على الأيسر؟
(1) رواه البخاري، ك التهجد، باب الضجعة على الشق الأيمن بعد ركعتي الفجر، ومسلم، ك صلاة المسافرين، باب صلاة الليل
…
1/ 511.
وجهان للعلماء، فمن رأى أن المراد بالاضطجاع الفصل لم يتقيد بالأيمن، ومن أطلق يخص القادر بالاضطجاع على الشق الأيمن.
ومن عجز فهل يسقط عنه الطلب، أم يومئ جهة الأيمن، أم يضطجع على الأيسر؟ قال الحافظ: لم أقف فيه على نقل إلا أن ابن حزم قال: يومئ ولا يضطجع على الأيسر. قال الشوكاني: وهو الظاهر (1)
(1) فتح الباري 3/ 57، نيل الأوطار 3/ 27.
المبحث الحادي عشر: مكان أدائها:
كان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يصليهما في بيته قبل الفريضة، لما جاء في حديث ابن عمر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي ركعتي الفجر والمغرب والعشاء في بيته» (1)
ولا شك أن هذا الهدي هو أفضل في حق الإمام اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن هل الأفضل للمأمومين أن يركعوهما في البيت ثم يخرجوا إلى المسجد إلى أن تقام الصلاة؟ أم يبكروا للصلاة ويركعوهما في المسجد ثم ينتظروا إقامة الصلاة!
هذا محل بحث، والأقرب والله تعالى أعلم أن اتباع السنة أولى إلا
(1) رواه البخاري ح 1126.
لمن خاف فوات الفريضة لبعد المسجد عنه، أو خاف فوات تكبيرة الإحرام، فإن تحصيل الفضيلة المتصلة أولى من المنفصلة، ويتوجه للمأموم أن يركعهما في المسجد إذا كان ذلك أصلح لقلبه، أو كان في البيت ما يذهب خشوعه ويشوش عليه أمر صلاته.
قال أبو داود: ما رأيت أحمد ركعهما - يعني ركعتي الفجر - في المسجد قط إنما كان يخرج فيقعد في المسجد حتى تقام الصلاة (1) ويشهد لتقديم القول باستحبابها في البيت غير فعله صلى الله عليه وسلم العموم في حثه صلى الله عليه وسلم على صلاة النافلة في البيت، فعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا» (2) وفي رواية لمسلم أيضا: «صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا» (3)
وعند البخاري ح 698 عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ حجرة قال: حسبت أنه قال من حصير في رمضان، فصلى فيها ليالي، فصلى بصلاته ناس من أصحابه، فلما علم بهم جعل
(1) المغني 2/ 543.
(2)
متفق عليه: رواه البخاري، ك التهجد، باب التطوع في البيت، ورواه مسلم، 29 باب استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد ح 777.
(3)
رواه مسلم، 29 باب استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد ح 777.
يقعد، فخرج إليهم، فقال: " قد عرفت الذي رأيت من صنيعكم، فصلوا أيها الناس في بيوتكم فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة» (1).
قال النووي في شرح مسلم: " وإنما حث على النافلة في البيت لكونه أخفى وأبعد من الرياء، وأصون من المحبطات، وليتبرك البيت بذلك، وتنزل فيه الرحمة والملائكة، وينفر منه الشيطان كما جاء في الحديث الآخر، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الأخرى:«فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيرا» (2)
(1) صحيح البخاري الْأَذَانِ (731)، صحيح مسلم صَلَاةِ الْمُسَافِرِينَ وَقَصْرِهَا (781)، سنن الترمذي الصَّلَاةِ (450)، سنن النسائي قِيَامِ اللَّيْلِ وَتَطَوُّعِ النَّهَارِ (1599)، سنن أبي داود الصَّلَاةِ (1447)، مسند أحمد (5/ 186)، موطأ مالك النِّداءِ لِلصّلاةِ (293)، سنن الدارمي الصَّلَاةِ (1366).
(2)
شرح مسلم للنووي 2/ 399، باب استحباب صلاة النافلة في بيته - كتاب صلاة المسافرين وقصرها، والرواية الأخرى المشار إليها هي عند مسلم ح 778 في الباب المذكور.
المبحث الثاني عشر: الحديث بعدهما:
اختلف السلف رضي الله عنهم في جواز الكلام بعد ركعتي الفجر على قولين:
الأول: الكراهة إلا لحاجة، وهذا مروي عن طائفة من السلف منهم ابن مسعود وابن جبير وعطاء، وحكي عن سعيد بن المسيب. قال النخعي: كانوا يكرهون الكلام بعد الركعتين (1)(2) وهذا القول هو
(1) المصنف لابن أبي شيبة 2/ 55، نيل الأوطار 3/ 29.
(2)
المصنف لابن أبي شيبة 2/ 55، نيل الأوطار 3/ 29. ') ">
مذهب الكوفيين وهو رواية عن الإمام أحمد، وهو قول إسحاق (1)
قال أبو عبيدة: ما من أحد أكره إليه الكلام بعد ركعتي الفجر حتى يصلي الغداة من ابن مسعود (2) وقال مجاهد: رأى ابن مسعود رجلا يكلم آخر بعد ركعتي الفجر فقال: إما أن تذكرا الله وإما أن تسكتا (3)
ووجه هذا القول أن هذا الوقت وقت ذكر واستغفار لا يشغل بغير ذلك.
الثاني: الجواز لحاجة ولغير حاجة، وهذا مذهب الجمهور (4) واستدل لهذا القول بحديث عائشة رضي الله عنها وفيه:«أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى سنة الفجر فإن كنت مستيقظة حدثني وإلا اضطجع» (5)
قال النووي في شرح لمسلم: فيه دليل على إباحة الكلام بعد سنة
(1) الفروع 1/ 486، الإنصاف 2/ 177، تحفة الأحوذي 2/ 392. ') ">
(2)
المصنف لابن أبي شيبة 2/ 55. ') ">
(3)
المصنف لابن أبي شيبة 2/ 55. ') ">
(4)
التاج والإكليل 2/ 74، الفروع 1/ 486، كشاف القناع 1/ 423، المدونة 1/ 125، شرح مسلم للنووي 5/ 367.
(5)
متفق عليه: رواه البخاري ح 1161، ومسلم ح 743.
الفجر وهو مذهبنا ومذهب مالك والجمهور (1)
وما روي عن ابن مسعود لا يثبت عنه وأما كونه وقت استحباب الاستغفار فلا يمنع ذلك من الكلام.
ولا شك أن الاشتغال في ذلك الوقت الفاضل بالاستغفار والذكر وقراءة القرآن أو تعليم العلم لهو من أفضل القربات، وأن الإعراض عن حديث العوام خاصة في أمور الدنيا أولى بالكيس، والله أعلم.
(1) شرح مسلم للنووي 5/ 367. ') ">
المبحث الثالث عشر: التنفل بعدها:
اختلف العلماء في جواز التنفل بالصلاة بعد طلوع الفجر الثاني وسبب الخلاف هو هل وقت النهي عن الصلاة بعد الفجر متعلق بطلوع الفجر أم بأداء صلاة الفجر؛ فالمشهور من مذهب أحمد وهو قول أهل الرأي والليث والأوزاعي هو الأول (1)(2) وعند أحمد في رواية أخرى وهو مذهب الشافعية والظاهرية أن النهي متعلق بفعل الصلاة (3)
(1) مختصر اختلاف العلماء 1/ 252، التمهيد 20/ 101، المغني 2/ 529.
(2)
مختصر اختلاف العلماء 1/ 252، التمهيد 20/ 101، المغني 2/ 529. ') ">
(3)
المحرر للرافعي 27، المغني 2/ 529، شرح منتهى الإرادات 1/ 529، المحلى 3/ 28. ') ">
وقد استدل للقول الأول بحديث: «إذا طلع الفجر فلا صلاة إلا ركعتي الفجر» (1) وحديث: «لا صلاة بعد طلوع الفجر إلا سجدتان» (2) وحديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تصلوا بعد الفجر إلا سجدتين» (3)
واستدل من علق النهي بفعل الصلاة بحديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ولا صلاة بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس» (4) وبحديث عمرو بن عبسة وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: «صل صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس» (5) ووجه الدلالة من الحديثين أنه رتب النهي على فعل
(1) رواه الطبراني في الأوسط. صحيح الجامع الصغير 1/ 246.
(2)
رواه الدارقطني، ك الصلاة، باب النهي عن الصلاة بعد صلاة الفجر وبعد صلاة العصر.
(3)
رواه أبو داود ك الصلاة، باب من رخص في الركعتين بعد العصر إذا كانت الشمس مرتفعة، والترمذي، أبواب الصلاة، باب ما جاء لا صلاة بعد طلوع الفجر إلا ركعتين، وقد ضعفه ابن حزم بل قال هي رواية ساقطة مطروحة. المحلى 3/ 28، وقال ابن عبد البر: في إسناده مجهولون لا تقوم بهم حجة. التمهيد 20/ 102.
(4)
متفق عليه: رواه البخاري، ك مواقيت الصلاة، باب لا يتحرى الصلاة قبل غروب الشمس، ومسلم ك صلاة المسافرين، باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها.
(5)
رواه مسلم ك صلاة المسافرين، باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها.
الصلاة.
والراجح والله أعلم أن تعليق النهي بفعل الصلاة هو الصحيح فأدلته أصح وأصرح، ولو كان النهي متعلقًا بطلوع الفجر لصليت ركعتا الفجر وفريضته في وقت نهي ولم يقله أحد فيما أعلم.
وعلى هذا ينبني القول بجواز التنفل بعد ركعتي الفجر فمن علق النهي بأداء الصلاة جاز على أصله التنفل بعد أداء ركعتي الفجر، ومن علق النهي بطلوع الفجر منع من الصلاة إلا سنة ركعتي الفجر قبلها.
ولكن مما ينبه إليه أن السنة ألا يصلى بعد طلوع الفجر إلا ركعتا الفجر لفعل النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث ابن عمر عن حفصة رضي الله عنهم قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طلع الفجر لا يصلي إلا ركعتين خفيفتين» (1)
وعلى القول بالمنع فهل هو خاص بالتطوع المطلق من غير ذوات السبب فتجوز صلاة ما له سبب كصلاة فائتة الليل أو تحية المسجد لمن صلى ركعتي الفجر في بيته ثم جاء إلى المسجد؟ أم أن المنع
(1) رواه مسلم / ك صلاة المسافرين، باب استحباب ركعتي الفجر والحث عليهما
…
ح 723.
في الجميع؟ قولان للعلماء:
الأول: المنع واستدلوا بحديث ابن عمر السابق: «لا صلاة بعد الفجر إلا سجدتين» ، وهو قول الأكثر بل حكاه الترمذي إجماعا فقال بعد روايته لحديث ابن عمر:"وهو ما أجمع عليه أهل العلم، كرهوا أن يصلي الرجل بعد طلوع الفجر إلا ركعتي الفجر "(1)
وقد تعقب الترمذي غير واحد من أهل العلم منهم القاضي عياض والقرطبي في المفهم لما أشكل من صحيح مسلم وابن حجر في التلخيص وغيرهم.
قال القرطبي: هذا الإجماع الذي حكاه الترمذي إنما هو على كراهة التنفل المبتدأ وأما ما كان بحسب سبب فقد ذكرنا الخلاف فيه في باب تحية المسجد (2) وقد ذكر هناك الاختلاف عن مالك فيمن ركع ركعتي الفجر في بيته هل يحيي المسجد أو لا يحييه؟ قولان عنه (3)
وقال ابن حجر: "دعوى الترمذي الإجماع على الكراهة لذلك
(1) جامع الترمذي ك الصلاة الباب السابق. ') ">
(2)
المفهم 2/ 362. ') ">
(3)
المفهم 2/ 353. ') ">
عجيب، فإن الخلاف فيه مشهور حكاه ابن المنذر وغيره، وقال الحسن البصري: لا بأس به وكان مالك يرى أن يفعله من فاتته صلاة بالليل" (1)
وروي عن مالك أنه قال:" من غلبته عينه ففاته بعض حزبه أو ركوع كان يركعه بالليل فأرجو أن يكون خفيفا أن يصليه بعد طلوع الفجر، أما غير ذلك فلا يعجبني أن يصلي بعد انفجار الصبح إلا ركعتين"(2)
والجواز مروي عن عائشة ومجاهد والحسن وعروة وعطاء (3)
وقد قوى ابن عبد البر القول بجواز تحية المسجد خاصة لمن صلى ركعتي الفجر في بيته ثم أتى المسجد وحمل حديث ابن عمر في النهي على فرض صحته على التطوع في البيت مما لم يندب إلى فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قد أمر الداخل إلى المسجد أن يركع ركعتين قبل أن يجلس، وهو أثبت سندا من حديث النهي، كما قوى هذا من جهة النظر وهو أن ركعتي تحية المسجد من فعل
(1) تلخيص الحبير 1/ 191. ') ">
(2)
المدونة 1/ 125. ') ">
(3)
المحلى 3/ 29 - 30، التمهيد 20/ 103. ') ">
الخير فلا ينهى عنه ما لم ترد سنة بالنهي عنه من وجه لا معارض له
ولكن الأولى كما ذكرنا ألا يصلي بعد ركعتي الفجر إلا الفريضة اتباعا للسنة كما في حديث حفصة المتقدم، ومن صلاهما في البيت فإنه يتحرى بقدومه إلى المسجد إقامة الصلاة، والله تعالى أعلم.
المبحث الرابع عشر: صلاة الراكب لهما:
أجمعت الأمة على أن المكتوبة لا تجوز إلى غير القبلة، ولا على الدابة إلا في شدة الخوف (1)(2) واتفق الأئمة على جواز التنفل المطلق على الراحلة، واختلف في الرواتب، وما يعنينا هنا هو راتبة الفجر فقد اختلف أهل العلم في صلاة الراكب لها على أقوال:
التوقف والجواز وعدمه، والأول نقل عن أحمد رحمه الله، والثاني عليه الجمهور وهو الصحيح من مذهب الحنابلة صححه في الإنصاف (3) والثالث مذهب الحنفية ورواية عن أحمد
(1) الإعلام بفوائد عمدة الأحكام 2/ 485، فتح الباري 2/ 742.
(2)
الإعلام بفوائد عمدة الأحكام 2/ 485، فتح الباري 2/ 742. ') ">
(3)
المدونة 1/ 80، روضة الطالبين 1/ 210، شرح العمدة 4/ 533، الفروع 1/ 486، الإنصاف 2/ 176. ') ">
واستدل للجواز بحديث ابن عمر رضي الله عنهما وغيره قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبح على راحلته يؤمئ برأسه قبل أي وجهة توجه، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك في الصلاة المكتوبة» (1)
(1) متفق عليه: رواه البخاري، ك تقصير الصلاة، باب ينزل للمكتوبة، ومسلم ح 700.
المبحث الخامس عشر: خصائصها.
بالنظر إلى ما مر من المباحث وغيرها يمكن تسجيل بعض الخصائص التي تفردت بها هاتان الركعتان عن غيرها من الرواتب:
أولا: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرص عليها أشد منه على غيرها من الرواتب والنوافل.
ثانيا: أنها تصلى حضرا وسفرا بخلاف غيرها من الرواتب حيث لا تصلى في السفر.
ثالثا: الاختلاف في وجوبها.
رابعا: مشروعية الاضطجاع بعدها.
خامسا: التنصيص على ما يقرأ فيهما.
سادسا: مشروعية تخفيفها.
هذا ما تيسر في هذا البحث، وما فيه من صواب فمن الله، وما فيه من خطأ فأستغفر الله منه إنه هو الغفور الرحيم، وصلى الله وسلم على رسوله محمد وعلى آله وصحبه.