الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: الحرب في الإسلام ودوافعها
قبل الشروع في الحديث هنا ينبغي أن نحذر كثيرا ونحن نتحدث حول هذا الأمر الحساس؛ أن نحذر من التأثر كثيرا بلغة الحياة العصرانية التي تقوم على تنازلات في دينها.
إن الدراسات المعاصرة (غير الإسلام) حول الإسلام وإن تطورت إلى الأفضل في تصويرها لهذا الدين، فقد أصبحت الآن أكثر استكشافا لأوامر الإسلام، وبدا واضحا - وكثيرا ما قرأته - أن بعض الأحكام التي يستحيي بعض المسلمين أن يُظهرها، لم تعد تلك الأحكام خافية على المتربصين، الذين أصبحوا ينقلون بشكل مباشر من كتب المسلمين، وذلك نظرا للثورة الثقافية التي جاءت بعد "الشبكة العالمية" وتدوين كتب الإسلام فيها.
ومن هنا فنحن نحاول صياغة المفهوم الحربي الإسلامي من خلال نصوصه المقدسة في القرآن والسنة النبوية، مسترشدين بأفعال الخلفاء الراشدين، وأقوال علماء الإسلام.
المطلب الأول: هل شرع الإسلام الحرب
؟
إن الحقيقة التي لا مناص عن قولها هي أن الإسلام دين استعمل السيف كما استعمل الرحمة، ولم يكن القتال في الإسلام غاية نهائية بقدر ما كان مقصده هداية الشعوب وبسط النفوذ. وكان فيه رحمة كبيرة لغير المسلمين، بأن أنار لهم الطريق، ووضع عنهم شدة
أديانهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا نبي الرحمة، ونبي التوبة، وأنا المقفى، وأنا الحاشر، ونبي الملاحم» (1)
هذا التصور المقتضب حول الإسلام أثار جدلا كبيرا حوله منذ قديم الزمان، واشتد هذا الجدل في العصور المتأخرة التي كثر الحديث فيها حول السلام، وأصبحت الديانة الإسلامية محل الاتهام في الوقت الذي استبعد فيه - لأسباب مجهولة - الحديث عن الأديان الأخرى التي لا تقل شأنا في تعاليمها الحربية عن الإسلام.
وإذا تقرر بشكل قاطع أن الإسلام بحضارته الكبيرة لم يكن قاعدة شاذة عن الحضارات السابقة في كونه استعمل الحرب في بعض الجوانب، بقي أن نتكلم عن التميّز الخلقي الإسلامي في هذه الحرب، حتى أضحى ذلك مثيرا للإعجاب والتعجّب من قِبل كثير من غير المسلمين.
من الأشياء اللافتة التي تحدث في الزمن الحاضر أن عددا ممن يتحدث عن حرب الإسلام وسيفه؛ يتحدث عنه من زاوية الأنظمة الدولية المعاصرة وتقنيتها لمبادئ الحرب. ومع أن الإسلام قد توافق مع كثير من هذه القوانين؛ إلا أننا لا بد أن نؤكد على المثالية العالية في هذه القوانين، والتي أثبتت حروب القرن الأخير (قرن نشر ثقافة
(1) الشمائل المحمدية للترمذي، ص 306، وصححه الألباني في مختصر الشمائل (316).
السلام) فضلا عن غيره، أن تلك القوانين غير قابلة للاحترام، ولم تجد تطبيقا لها في تلك الحروب بشكل مُرضٍ، بينما الحرب الإسلامية كانت عقيدة يؤمن المسلمون الأوائل بتعاليمها، نظرية وتطبيقا.
وهنا يقال: إن القتال في الإسلام أو " الجهاد في سبيل الله " يُعد من أهم الأعمال التي يقوم بها المسلم لإرضاء الله، إذ فيه دفع النفس وتعريضها للهلاك، من أجل دين الله.
إن موضوع الجهاد - الذي ثار حوله كثير من النقاش والكتابات والمناظرات - يبقى فضله واضحًا تمام الوضوح في نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية، فلا مجال أصلا لإنكار الجهاد كأساس متين من أسس الإسلام، ولا يمكن لأحد (يصح أن يكون مسلما) أن يُشكك في تشريعه وأحكامه، وإن كان هذا التشكك أصبح أمرا متوقعا في زمننا المعاصر الذي كثرت فيه الانتسابات للأديان على أنها قوميات.
إن القرآن مليء بآيات الجهاد التي تجعل المسلمين يتوقون له، ويتشرفون بأن يكونوا من المجاهدين، ومن ذلك:
وأما النصوص التي جاءت في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فهي كثيرة جدا، وسأذكر منها شيئا يسيرا مما ورد في الصحيحين، ومن ذلك:
- عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: «قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما يعدل الجهاد في سبيل الله عز وجل؟ قال: " لا تستطيعوه "، قال: فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثا، كل ذلك يقول: " لا تستطيعونه ". وقال في الثالثة " مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله. لا يفتر من صيام ولا صلاة، حتى يرجع المجاهد في سبيل الله تعالى» (1)
- ويقول صلى الله عليه وسلم: «مثل المجاهد في سبيل الله- والله أعلم بمن يجاهد في سبيله- كمثل الصائم القائم. وتوكَّلَ الله للمجاهد في سبيله بأن يتوفاه أن يدخله الجنة، أو يرجعه سالما مع أجر أو غنيمة» (2)
ويقول أيضا صلى الله عليه وسلم: «لغدوة في سبيل الله أو روحة، خير من
(1) صحيح البخاري (2633)، صحيح مسلم (1878) واللفظ له.
(2)
صحيح البخاري (2635).
الدنيا وما فيها» (1)
- وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين» (2).
والأحاديث في فضل الجهاد في الإسلام كثيرة، وفي التنفير من التقاعس عنه أيضا كثيرة ووعيدها كبير، لا يسع المقام لإيرادها (3) وإنما المقصود بيان أن مسألة الحرب الجهادية التي كان يقودها النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه لم تكن شيئا غير موجود، بل هي حقيقة تاريخية يقينية، وكانت أمرًا يتشرف به أهل ذلك الزمان ومن يسير على هديهم.
وهنا نتساءل: ما دمنا نعلم أن الإسلام استعمل الحرب؛ فما هي الدوافع لهذه الحروب الإسلامية؟
قبل أن نشير إلى أسباب الحرب والجهاد في الإسلام، لا بد من العلم أن الحرب في الإسلام تنطلق من منطلق مهم، مضبوط بضابط عدم الإكراه على الدين:{لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} البقرة: 256. هذا من جهة.
ومن جهة أخرى؛ فالحرب في الإسلام هي حالة غير محببة ولا مرغوب فيها، ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: «أيها الناس
(1) صحيح البخاري (2639)، صحيح مسلم (1880).
(2)
حيح مسلم (1886).
(3)
راجع أهمية الجهاد في الدعوة إلى الله، علي العلياني، ص 234 - 253.
لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية» (1)
نحن هنا لا نريد بسط الكلام حول مسألة دوافع الحرب الإسلامية، إذ إن هناك حديثا طويلا حوله، وهو أمر لا يكاد يخلو منه أي كتاب في موضوع العلاقات الدولية في الإسلام، أو الحرب والسلام فيه. إلا أن من المناسب أن نطّلع على خلاصة حول طريقة الكتّاب الإسلاميين في عرض تلك الأسباب التي تدور بين أمرين:
الأول: رد العدوان.
الثاني: حمل الدعوة الإسلامية، على خلافٍ بينهم في المراد من ذلك، وهل يشمل فرض سلطان المسلمين على تلك الأمم لتأمين نشر الإسلام؟
والملاحِظ للكتابات الإسلامية (المعاصرة) حول أسباب الحرب يمكن أن يستنتج ما يلي:
- هناك اتفاق على كون الاعتداء على المسلمين سببا من أسباب القتال.
- الكثير من الكتّاب ذكروا أن الاعتداء على أهل الذمة (من غير المسلمين) كالاعتداء على المسلمين، ومن لم يذكر ذلك كأنه اعتبر الاعتداء على المسلمين يشمل الاعتداء على أهل الذمة، لأنهم في حماية المسلمين، ويجب على الدولة الإسلامية الدفاع عن رعاياها
(1) صحيح البخاري (2804)، وصحيح مسلم (1742).
من أهل الذمة كما تدافع عن المسلمين (1)
- بعض الكتّاب ذكروا أن الاعتداء أو الظلم الواقع على الأمم المتحالفة مع المسلمين يعتبر سببا من أسباب القتال، بل يضيف بعضهم أن القتال يقوم لأي ظلم يواجهه حتى غير حلفاء المسلمين.
- الكثير من الكتّاب حصروا مفهوم القتال من أجل حمل الدعوة الإسلامية - أو من أجل حماية نشر الإسلام - في حال حصول الاعتداء على حَمَلة الدعوة أو المستجيبين لها، أو حالة منع دعوة غير المسلمين إلى الإسلام.
- القليل من الكتاب المعاصرين ذكروا ما مؤداه أن ضم الدول غير الإسلامية إلى الدولة الإسلامية وتطبيق النظام الإسلامي عليها- عند القدرة على ذلك - هو سبب من أسباب القتال المشروعة في
(1) راجع: الكافي في فقه ابن حنبل 4/ 364، الرسالة القبرصية (ضمن مجموع فتاوى ابن تيمية 28/ 618). وينقل القرافي عن ابن حزم إجماعا لعلماء المسلمين لا تجد له نظيرًا عند أمة من الأمم، فينقل من كتابه " مراتب الإجماع " أن من كان في الذمة، وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه، وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح ونموت دون ذلك صونا لمن هو في ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة. وحكى في ذلك إجماع الأمة. (الفروق، للقرافي 3/ 29 - 30). أقول: هذا النص لم أعثر عليه في كتاب ابن حزم المطبوع " مراتب الإجماع "، وما في مضمون النص ليس بغريب في نصوص علماء الإسلام.