الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوم على ترك العدل، فإنَّ العدل واجبٌ على كلِّ أحدٍ لكلِّ أحدٍ في كلِّ حال. وقال بعض السلف: ما عاملتَ من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه، والعدل به قامت السماوات والأرض) (1)
وقال القرطبي في تفسير الآية [المائدة 2] التي مرت قبل قليل: (ودل الآية أيضًا على أن كفر الكافر لا يمنع من العدل عليه، وأن يُقتصر بهم على المستحق من القتال والاسترقاق، وأن المُثلة [التمثيل بجثث الأموات] بهم غير جائزة، وإن قتلوا نساءنا وأطفالنا، وغمّونا بذلك؛ فليس لنا أن نقتلهم بمثله قصدًا لإيصال الغم والحزن إليهم)
ويدلُّ تاريخ الإسلام في كل العصور على أنَّ المسلمين الملتزمين طبَّقوا هذا المبدأ دون استثناء.
هذا هو المفهوم الإسلامي الذي تصوره علماء الإسلام، وطبقه المسلمون في حروبهم.
(1) تفسير ابن كثير 2/ 12. ') ">
المبحث الثاني: خيارات الحرب في الإسلام
ثمة تساؤل يكثر حوله البحث: هل كانت الحروب الإسلامية تُعطي مجالا أرحب وأوسع للأمم المغلوبة، أو أنها كانت تسير على سياسة دموية، تتقصد اجتياح الدول وليس هداية الشعوب؟
قبل الإجابة على هذا؛ أشير إلى أن الإسلام كغيره من الأديان والثقافات الواقعية قد شرع الحرب بأسبابها، وأيا كان الاختلاف في هذه الأسباب، فهي تبقى مشروعة، إلا أن تميّز الإسلام يظهر في الطرائق التي سلكها في ذلك.
وقد يكون مُستغرَبا - عند كثير ممن يجهل حقائق دين الإسلام - أن قواعد القتال لم تكن متروكة لاجتهادات القواد السياسيين، بل منذ تشريع الجهاد في الإسلام تجد التوجيه القرآني والنبوي لما يجب أن يكون عليه المقاتل المسلم أثناء قتاله، بأن يكون هذا الجهاد وفق قواعد ثابتة لا تُغيرها العداوات أو الاعتداءات الخارجية. وهذه القواعد طالب بها القرآن في عدة مواطن:{وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} المائدة: 2
هذه النصوص وغيرها كثير أصبحت مؤثرة في نفس المسلم الذي يرجو نصرة دينه، وقد أثمر ذلك وجود منهج أخلاقي حربي، له
قواعده ومنطلقاته التي لم يُعرف لها مثيل قبل الإسلام، فهي ليست موغلة في المثالية لدرجة تصل إلى السلبية، وليست بشديدة شرسة لا ترحم النفس الإنسانية.
وقبل الحديث عن الخيارات الحربية الإسلامية؛ نُذكّر هنا أن الحرب خيار مكروه في الإسلام، وهو مكروه من طبيعة النفس البشرية، خاصة إن كانت في حالة الضعف والخوف، كما أخبر القرآن بذلك:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} البقرة: 216
لذا فإن البعض يظن أن الحرب الإسلامية مبنية على طبيعة إسلامية في حب القتال، لكن عندما نتأمل الهدي النبوي نلاحظ خلاف ذلك، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه:«أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية» (1)
قال النووي: (إنما نهى عن تمني لقاء العدو لما فيه من صورة الإعجاب والاتكال على النفس، والوثوق بالقوة، وهو نوع بغي، وقد ضمن الله تعالى لمن بُغي عليه أن ينصره. ولأنه يتضمن قلة الاهتمام العدو واحتقاره، وهذا يخالف الاحتياط والحزم. وتأوله بعضهم على النهي عن التمني في صورة خاصة وهي إذا شك في المصلحة فيه
(1) سبق تخريجه وهو في الصحيحين.
وحصول ضرر، وإلا فالقتال كله فضيلة وطاعة. والصحيح الأول، ولهذا تممه صلى الله عليه وسلم بقوله صلى الله عليه وسلم:«واسألوا الله العافية» (1). وقد كثرت الأحاديث في الأمر بسؤال العافية، وهي من الألفاظ العامة المتناولة لدفع جميع المكروهات في البدن والباطن، في الدين والدنيا والآخرة) (2)(3)
وكثيرا ما ظن بعض الجاهلين بأحكام الإسلام أن ليس ثمة خيار أبدا لتلك الشعوب المغلوبة إلا سيف الإسلام، وأن الإسلام في الأصل ما انتشر إلا بحد السيف (4) فهل كان السيف أحد الخيارات حقيقة؟
عندما نراجع أقوال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن نجد له توجيهًا واضحًا في هذا الموضوع، وهو قوله في وصيته الجيش: «
…
وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال - أو خلال - فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم .. ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكفَّ عنهم .. فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم. فإنهم هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم
…
» (5)
(1) صحيح البخاري التَّمَنِّي (7237)، صحيح مسلم الْجِهَادِ وَالسِّيَرِ (1742).
(2)
شرح النووي على صحيح مسلم 12/ 45 - 46.
(3)
شرح النووي على صحيح مسلم 12/ 45 - 46. ') ">
(4)
سبق إشارة لذلك في: المبحث الأول / المطلب الثالث: المبادئ الحربية: آراء متعارضة وشهادات منصفة / تحت عنوان: الهجمة على الحرب الإسلامية.
(5)
رواه مسلم 3/ 1356 (4619).