الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لسادتها السابقين من الضرائب)
المطلب الثالث: إعلان الحرب
إن خيار الحرب هو آخر الخيارات الإسلامية، بل قد يمكن لنا القول: إنه ليس من الخيارات؛ إذ الخيارات: أن يدخلوا في الإسلام ويكونوا كالمسلمين بلا أي تفرقة أو تمييز، أو أن يقبلوا بالجزية، وفي حال رفض الخيارات يُرجع إلى ضرورة الحرب لفرض الهيمنة، وهو الحل غير المرغوب فيه أصلا.
أضف إلى ذلك أن حالة الحرب كانت هي السائدة قبل الإسلام، ولكنها حرب تختلف عن الحرب الإسلامية التي يصدق عليها بأنها أكثر الحروب أخلاقية، ولذا تقول المستشرقة الألمانية " زيغريد هونكه ":(فما يدعيه بعضهم من اتهامهم [أي المسلمين] بالتعصب والوحشية إن هو إلا مجرد أسطورة من نسج الخيال، تكذبها آلاف من الأدلة القاطعة في تسامحهم وإنسانيتهم في معاملاتهم مع الشعوب المغلوبة)(1)(2)
لقد لفت الإسلام أنظار كثير من غير المسلمين بمنهجيته في فتح البلاد الأخرى، يقول فليب حتى (أبرز ما يلفت النظر في الفتوح العربية ليس تلك السرعة وذلك النظام اللذين تمت بهما - بغير دمار
(1) شمس العرب تسطع على الغرب، زيغريد هونكه، ص 357.
(2)
شمس العرب تسطع على الغرب، زيغريد هونكه، ص 357. ') ">
لا مبرر له إلا قليلاً - ولكن تلك السهولة التي انتقلت بها البلاد المفتوحة من حال الحرب إلى حال السلم، ومن التغلّب إلى الإدارة) (1)
كيف تتصور من جيش خرج من دياره في حرارة صيف الجزيرة العربية، ويغزو أرضا تصعب الحياة فيها! هل يمكن لجيش كهذا قد أنهكه التعب أن يتذكر - والحال هذه - تلك المبادئ الأخلاقية التي كان ينادي بها وقت السلم؟
إن هذه الحالة يصعب تصورها في الحياة المعاصرة التي أصبح حديث السلام فيها يصمّ الآذان، ولكن ما إن يأتي الابتلاء تتناسى كثير من الدول والشعوب هذه المبادئ الجميلة. وعندما نسلّم بأن للقيم الأخلاقية أثرًا في العلاقات الدولية تواجهنا مشكلة أخرى، هي الغموض في تحديد الأخلاق الدولية، وكما يقول خبير العلاقات الدولية " جوزف فرانكل ": (إن الذي يجعل الأخلاق الدولية على ما هي عليه من غموض هو أن معناها لم يحدِّد قطُّ بوضوح، كما أنه لم يوجد بعدُ اتفاقٌ بين المفكِّرين على العلاقة بين قواعد الأخلاق الفردية وقواعد الأخلاق الدولية. تذهب إحدى المدارس الفكرية متبعة في ذلك " ميكيافيلي " إلى إنكار الأخلاق الدولية كلية
…
غير أن أغلب المفكرين يقرون بوجود الأخلاق الدولية، ولكنهم يميزون بينها
(1) الإسلام منهج حياة، فليب حتى، ص 162. ') ">
وبين الأخلاق الفردية.
إن أي تحليل واقعي للعلاقات الدولية لا يسعه أن يُتقبل دون مناقشة دعاوى رجال السياسة المكررة في كل البلدان بأنهم محكومون بالقيم الأخلاقية. إن من الواضح أن الأخلاق كثيرًا ما تستدعى وبأسماء مختلفة لا لشيء إلا لإضفاء قدر من الاحترام على مصالح الأنانية للدولة، كما أن اللجوء إلى الأخلاقية تبرير شائع مريح في يد الطرف الذي يعارض الحقوق القانونية لطرف آخر) (1)
وعندما نقارن ونتأمل في حال الفتوحات الإسلامية الأولى نجدها تنادي قبل الحرب بمبادئ أخلاقية، لم تمنعها الشدة والضيق الذي تعيشها تلك المبادئ، كما سيأتي خلال عرض الموقف الإسلامي من القتل الجماعي وقتل الآمنين من النساء والشيوخ والأطفال، والعناية بالأسرى (2)
ونورد هنا مثالاً واحدا من هذه النظرية الأخلاقية أثناء الحرب. فقد جاء في الروايات التي وصفت فتح المسلمين مدينة خيبر المحصّنة بشكل متين، «فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قريبا من عشرين ليلة، وكانت أرضا وخمة [رديئة] شديد الحر، فجهد
(1) العلاقات الدولية، جوزيف فرانكل، ص 169، وللتوسع في منهجية العلاقات الدولية، راجع: العلاقات الدولية، صالح الحصين، ص 13 - 33.
(2)
سيأتي في المبحث الثالث والمبحث الرابع. ') ">
المسلمون جهدا شديدا .... وجاء عبد حبشي أسود
…
فأقبل بغنمه حتى عهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاءه قال: ماذا تقول، وماذا تدعو إليه؟ قال:" أدعو إلى الإسلام وأن تشهد أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله وألاّ نعبد إلا الله "، قال العبد: فماذا لي إن أنا شهدت وآمنت بالله؟ قال: " لك الجنة إن مت على ذلك"، فأسلم. قال: يا نبي الله، إن هذه الغنم عندي أمانة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أخرجها من عسكرنا وارمها بالحصباء، فإن الله سيؤدي عنك أمانتك، ففعل، فرجعت الغنم إلى سيدها».
وفي رواية قال هذا العبد: «يا نبي الله هذه الغنم عندي أمانة، قال: " أخرجها من المعسكر، ثم صح بها وارمها بالحصباء؛ فإن الله سيؤدي عنك أمانتك» وأعجبت رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمته. أي كونه يحفظ الأمانة (1)
لقد صرحت الروايات الصحيحة بأن الصحابة كانوا في هذه الغزوة في جهد جهيد، حتى اضطروا إلى ذبح الحُمُر وطبخها، ولكن مُنعوا من أكلها، حتى أكفؤوا القدور. وفي هذه الحالة الصعبة جاءهم هذا العبد بقطيع من الأغنام، وهي مملوكة لعدوهم، ومن أسهل الأشياء أن يعتبروا هذه الغنائم المباحة لهم، لأنهم في حالة حرب، والراعي قد أسلم ودخل في جيش المسلمين، ولكن رسول الله صلى الله علي وسلم لم
(1) هذا الروايات جاءت في: دلائل النبوة، للبيهقي 4/ 220. ') ">
يرض ذلك، لأن الراعي كان قد أخذ الغنم من مُلاكها بعقد أمانة، فأمره بردها لأصحابها، ولو كان ذلك في تلك الحاجة الشديدة (1)
- محاولة تجنب الحرب قدر المستطاع:
المتمعن في سيرة نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم يلحظ عليه أمرا مهما في علاقاته مع الشعوب الأخرى، ذلك أنه لا يجد طريقا فيه هداية للناس للإسلام وابتعاد عن القتل والدماء إلا سلكه، ولو كان ذلك يتنافى أحيانا مع سلطاته السياسية والاعتراض على فرضها، ذلك لأنه صاحب هدف ورسالة واضحة، وليس من أهداف هذه الرسالة الدعوة إلى الحرب والسيطرة على الأمم، والإعمال فيها قتلا وتشريدا؛ بقدر ما هي فرض الإسلام لهداية الناس، ولذا كان يفضل (الوسائل السلمية لحل النزاعات)
ومن تلك الطرق التي سلكها النبي صلى الله عليه وسلم للابتعاد عن الحروب، ولحقن دماء الشعوب الأخرى؛ أنه كان أحيانا يتعهد بإبقاء زعماء البلاد المحارِبة في السلطة إن هم دخلوا في الإسلام، فقد كتب صلى الله عليه وسلم إلى ملك عُمَان كتابا وبعثه مع عمرو بن العاص، وفيه: «بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد بن عبد الله إلى " جيفر " و " عبد " ابني
(1) سماحة الأحكام الشرعية في علاقة المسلمين بغيرهم، محمد تقي العثماني، ص 313 - 314. ') ">
الجلندي: سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوكما بدعاية الإسلام أسلما تسما، فإني رسول الله على الناس كافة لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين، فإنكما إن أقررتما بالإسلام ولّيتكما، وإن أبيتما أن تقرا بالإسلام فإن ملككما زائل عنكما، وخيلي تحل بساحتكما وتظهر نبوتي على ملككما» (1)
وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى صاحب اليمامة هوذة: «بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى هوذة بن علي، سلام على من اتبع الهدى. واعلم أن ديني سيظهر إلى منتهى الخف والحافر، فأسلم تسلم، وأجعل لك ما تحت يديك» (2)
وكان بعض المشركين يشترطون بعض الشروط التي يرون فيها ضمانا لتحقيق مصالحهم، مما يتعلق بإدارة شؤونهم وشؤون المنطقة التي يعيشون فيها، ولذا لما اشترط أهل ثقيف أن تكون الزعامة في قبيلتهم ولا يأتيهم أمير من خارجها؛ جعل لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، وقال: «
…
وأن لا يؤمر عليهم إلا بعضهم على بعض»
ولقد كانت نظرة الإسلام إلى الحرب أنها ضرورة لا يُلجأ إليها إلا بقدرها، ومن الأفضل تجنبها، كما جاء في الحديث: «أيها الناس
(1) زاد المعاد، ابن القيم، ص 3/ 693.
(2)
زاد المعاد، ابن القيم 3/ 696.
لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية» (1) ولذا لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم بذاك الحريص على خوضها فيما لو تم الوصول للغايات من طريق آخر.
قبل الصلح الذي عقده النبي صلى الله عليه وسلم مع مشركي مكة، كانت هناك محاولات سلمية للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حتى قال صلى الله عليه وسلم " لبديل بن ورقاء الخزاعي " وقد جاء صادا للنبي صلى الله عليه وسلم عن المسجد الحرام:«إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاؤوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر؛ فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا. وإن هم أبوا، فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن الله أمره» (2).
وإن من ينظر في تفاصيل هذا الصلح؛ ليجد فيها حرصا نبويا على عدم الحرب، حتى عندما كتبوا معاهدة الصلح كان فيها بعض النصوص التي تُقلل من شأن ومكانة النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك رضي بها: (فقال النبي صلى الله عليه وسلم «بسم الله الرحمن الرحيم". قال سهيل: أمّا الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب. فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اكتب باسمك اللهم". ثم قال "هذا ما قاضى عليه محمد سول الله ". فقال سهيل والله لو كنا
(1) سبق تخريجه وهو في الصحيحين.
(2)
صحيح البخاري الشُّرُوطِ (2734)، مسند أحمد (4/ 332).