الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقال عكرمة: والله لئن لم ينجني من البحر إلا الإخلاص، لا ينجيني في البر غيره، اللهم إن لك علي عهدا إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمدا صلى الله عليه وسلم حتى أضع يدي في يده، فلأجدنه عفوا كريما، فجاء فأسلم. وأما عبد الله بن سعد بن أبي السرح فإنه اختبأ عند عثمان بن عفان، فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة جاء به حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه وسلم، قال يا رسول الله بايع عبد الله، قال: فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثا كل ذلك يأبى. فبايعه بعد ثلاث، ثم أقبل على أصحابه فقال: أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله، فقالوا: وما يدرينا يا رسول الله ما في نفسك، هلا أومأت إلينا بعينك، قال: إنه لا ينبغي لنبي أن يكون له خائنة أعين» (1)
وليس المهم هنا التفاصيل الدقيقة لمصير هؤلاء؛ إنما المراد الإشارة إلى سعة قبول النبي صلى الله عليه وسلم لإسلام الشعوب حتى ولو أبدوا عداوة كبرى، فإن هذا لا يمنع أن يكونوا من المسلمين ويحسن إسلامهم. فعكرمة لما أسلم حسُن إسلامه وأصبح كاتبا للوحي القرآني عند النبي صلى الله عليه وسلم، وحسبك بها من فضيلة وقرب.
(1) سنن النسائي (المجتبى)(4067)، وصححه ابن الملقن في: البدر المنير 9/ 153.
المطلب الثاني: فرض الجزية، كأحد الخيارات السلمية
الجزية: مال يؤخذ من غير المسلمين نظير السماح لهم بالبقاء
على دينهم والسماح لهم بالعيش كمواطنين؛ حقوقا وواجبات، في المجتمع المسلم (1)
من أوضح النصوص في موضوع الجزية؛ قول الله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} التوبة: 29
وقبل تفصيل الحديث عن موضوع الجزية، يحسن الإشارة إلى معنى هذه الآية والتي يرى فيها أهل الكتاب في زمننا أنها دليل على دعوة الإسلام إلى الإذلال والاحتقار.
(1) جاء في الموسوعة الفقهية، مادة: جزية: (وقد اختلفت وجهات نظر الفقهاء في تعريف الجزية اصطلاحًا تبعا لاختلافهم في طبيعتها، وفي حكم فرضها على المغلوبين الذين فتحت أرضهم عنوة "أي قهرًا لا صلحًا". فعرّفها الحنفية والمالكية بأنها: "اسم لما يؤخذ من أهل الذمة، فهو عام يشمل كلّ جزية، سواء أكان موجبها القهر والغلبة وفتح الأرض عنوة، أم عقد الذمة الذي ينشأ بالتّراضي. وعرّفها الحصني من الشافعية بأنها: " المال المأخوذ بالتراضي لإسكاننا إياهم في ديارنا، أو لحقن دمائهم وذراريهم وأموالهم، أو لكفّنا عن قتالهم". وعرّفها الحنابلة بأنها: "مال يؤخذ منهم على وجه الصّغار كل عام، بدلا عن قتلهم، وإقامتهم بدارنا". قال القليوبي: "تطلق -أي الجزية- على المال وعلى العقد وعليهما معا").
وابتداء، وكما مر بنا سابقا، فإن الإسلام أكرمَ جنس الإنسان، وإن كان يرى أن المسلم خير من غير المسلم. ومما لا شك فيه أن غلبة المسلمين لغيرهم، وطلبهم الجزية؛ فيه إذلال لمن يدفعها، وهو ما يحصل في كل فترات التاريخ. والأمة التي لا تقبل الإسلام؛ جُعل لها بدلا من قتالها وإكراهها على الدين أن تدفع الجزية، وهذا في حقيقته ليس عزا للمغلوبين، لانتفاء الاختيار في الامتناع عنها إلا بحرب المسلمين. وهو الخيار الذي ربما لا تريده تلك الأمم.
وهنا نشير إلى معنى هذه الآية عند بعض علماء المسلمين (1)(2)
أما تفسير قوله: (عَنْ يَدٍ)، فقال ابن حجر:(أي عن طيب نفس، وكل من أطاع لقاهرٍ وأعطاه عن طيب نفس من يد؛ فقد أعطاه عن يد. وقيل معنى قوله: (عَنْ يَدٍ) أي: نعمة منكم عليهم، وقيل: يعطيها من يده ولا يبعث بها) (3)
وأما الأمر بالصغار الوارد في قوله: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} ، فهو معنى لا يمكن أن يتنافى مع ما رأيناه في أقوال النبي صلى الله عليه وسلم من وجوب البر والعدل، وحرمة الظلم والعنت، وهو ما فهمه علماء الإسلام. ففسره الشافعي بأن تجري عليهم أحكام الإسلام، أي العامة منها، فالجزية علامة على خضوع الأمة المغلوبة للخصائص العامة للأمة
(1) راجع للتوسع: غير المسلمين في المجتمع المسلم، منقذ السقار، ص 50.
(2)
راجع للتوسع: غير المسلمين في المجتمع المسلم، منقذ السقار، ص 50. ') ">
(3)
فتح الباري 6/ 259. ') ">
الغلبة.
وأما ما نُقل عن بعض الفقهاء من صور في معنى الصغار؛ فهي مما استقبحه العلماء وأنكروه، ومن ذلك ما نقله " تقي الدين الحصني الشافعي " عن بعضهم:(وتؤخذ على وجه الصغار والإهانة؛ بأن يكون الذمي قائمًا، والمسلم جالسًا، ويأمره أن يخرج يده من جيبه، ويحني ظهره، ويطأطئ رأسه، ويصب ما معه في كفة الميزان، ويأخذ المستوفي بلحيته، ويضرب في لهزمته، وفي مجمع اللحم بين الماضغ والأذن!)، ثم ذكر" الحصني " تعقيب " النووي " على ذلك بقوله:(قال الجمهور تؤخذ برفق كأخذ الديون. فالصواب الجزم ببطلانها [أي تلك الصفات] وردها على من اخترعها، ولم ينقل أنه عليه الصلاة والسلام ولا أحد من الخلفاء الراشدين فعل شيئا منها).
ثم نقل عن الرافعي قوله: (والأصح عند الأصحاب تفسير الصغار بالتزام أحكام الإسلام وجريانها عليهم، وقالوا: أشد الصغار على المرء؛ أن يُحكم عليه بما لا يعتقده، ويضطر إلى احتماله)(1)
ولما ذكر ابن القيم صورًا شبيهة ذكرها الفقهاء، عقّب بقوله: (وهذا كله مما لا دليل عليه، ولا هو مقتضى الآية، ولا نقل عن رسول الله، ولا عن الصحابة أنهم فعلوا ذلك. والصواب في الآية: أن الصغار هو التزامهم لجريان أحكام الملة عليهم، وإعطاء الجزية، فإن التزام
(1) كفاية الأخيار، تقي الدين الحصني 1/ 511. ') ">
ذلك هو الصغار) (1)
ولا يفوتني هنا الإشارة إلى أن هذه التفاسير لمفهوم الصغار في الآية تصلح أن تكون مثالا لما أشرت له مرارا عن منهج الانتقائية في دراسات الأديان، فهذه الصفات الغريبة التي ذكرها بعض الفقهاء موجودة في كتب فقهية معتمدة، فهل ذِكْرُ الفقهاء لها يكون حاكما على منهج الإسلام؟
- دوافع فرض الجزية ولوازمها:
تُعد مسألة الجزية من أكثر المسائل المثارة حول قبول الإسلام للتعددية داخل المجتمع المسلم، فعدد من المستشرقين الذين لم تخل دراساتهم من اتخاذ نظام الجزية ذريعة للتهجم على الدين الإسلامي (2) ولذا كان من المهم بسط الحديث حولها، وكيف أن المسلمين مارسوا فيها صنوفا غير معهودة من التسامح مع غير المسلمين.
ومن أهم المستشرقين الذين بذلوا جهودا كبيرة لمناقشة نظام الجزية عند العرب المسلمين خلال القرنين الأول والثاني من ظهور الإسلام: المستشرق الألماني " ج. فيلهاوزن "، والذي أصدر كتابا ضخما أسماه:"المملكة العربية وسقوطها".
(1) أحكام أهل الذمة، ابن القيم، ص 120 - 121. ') ">
(2)
راجع: الاستشراق الإسرائيلي في المصادر العبرية، ص 206. ') ">
وعلى الرغم من البحوث القيمة التي تضمنها هذا الكتاب؛ فإن تحامله وغيره من المستشرقين على الدين الإسلامي وتعصبه لديانته، جعله يهاجم نظام الجزية، ويرى في المسيحيين الذين رفضوا الإسلام ودفعوا الجزية بأنهم شهداء للتعصب الإسلامي!
وعلى الرغم من وجود نظام الزكاة الواجب على المسلم دفعها؛ فإن المستشرقين عادة ما يتجاهلون هذا النظام في حديثهم عن الجزية، مع أن الزكاة مطلوبة من كل مالك للمال من المسلمين، حتى لو كان طفلا.
إن نظام الزكاة يعد خير الوسائل لحل المشكلات الاقتصادية في المجتمع، ولكنها لا تُفرض إلا على المسلمين، ونظرا لأن فتوحات المسلمين كانت مصحوبة بإعطاء حرية الاعتقاد لأهل تلك البلاد؛ فلم يكن للمسلمين أخذ الزكاة من المسلم وترك غير المسلم، والذي لا تجب عليه الزكاة نظرا لعدم إسلامه.
ولما كان الإسلام يحترم الملكية الفردية احتراما شديدا؛ فمعنى ذلك أن مُلاّك الأراضي وأصحاب الثروات الذين يرفضون اعتناق الإسلام يصبحون في حالة مالية أفضل بكثير من حالة مواطنيهم الذين يهديهم الله للإسلام، حيث لن يدفع رافضو الإسلام شيئا من الزكاة ما داموا غير مسلمين.
ومما لا مراء فيه؛ أن مثل هذا الوضع يشجع الناس على عدم اعتناق الدين الإسلامي، هذا من جهة. ومن جهة أخرى؛ كان لزاما
على كل فرد أن يدفع للدولة ما يمكنه أن يُسهم به لسد النفقات الباهظة التي تحتاج كل هيئة حاكمة للقيام بالتزاماتها نحو المواطنين، سواء من ناحية المحافظة على الأمن، أم توفير نفقات الجيش، وما عدا ذلك من الخدمات العامة التي تلتزم بها الحكومة الإسلامية (1)
ويحسن هنا الإشارة إلى أن الفقهاء المسلمين لم يتفقوا حول حقيقة الجزية؛ فمنهم من قال: هي عقوبة على الإصرار على الكفر.
ومنهم من قال: إنّها عوض عن معوّض (إما عوض عن النّصرة، أو بدل عن العصمة أو حقن الدّم، وسكنى دار الإسلام).
ومنهم من قال إنها صلة ماليّة وليست عوضا عن شيء؟ (2) لكن ما يهمنا هنا في موضوع الجزية ما يتعلق بها من عقد الذمة الذي يُعطى لغير المسلمين، إذ إن الجزية في الإسلام ليست مسألة مال يؤخذ من غير المسلم، بل هو عقد ذمة يلتزم به المسلمون مع رعاياهم من الدول التي فتحوها، وهذا العقد له تبعات كثيرة، ومن أهم هذه التبعات؛ الدفاع عنهم ضد كل من يتعرض لهم في أموالهم أو أنفسهم، بظلم أو جور، حتى لو كان هذا الاعتداء من نفس دين
(1) الجزية في الإسلام، محمد كامل المحامي ص 6 وما بعدها. ') ">
(2)
راجع: الموسوعة الفقهية، مادة: جزية، فقرة: 19، ومناقشة للأقوال في: أحكام أهل الذمة، ابن القيم، ص 105.
أهل الذمة (1)
وهذا الأحكام ليست مسألة نظرية لم يكن لها تطبيق على الواقع، بل إن غالب هذه الأحكام عُرفت من خلال تطبيقات المسلمين لها في فتوحاتهم، نظرا لكونها أوامر شرعية في دين المسلمين، وليست منهجا سياسيا محضا.
ومما يؤكد هذا المنهج الإسلامي؛ أن المسلمين في عصر الخلفاء الراشدين - والذين يمثلون المنهج الإسلامي الذي جاء به نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم كانوا يُوصون بأهل الذمة خيرا نظرا لما التزم به المسلمون من حمايتهم، وفي هذا نجد الخليفة الثاني من خلفاء الإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوصي من سيكون خليفة بعده، وذلك في مرض موته، بقوله:(وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم أن يوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتل من وراءهم، وألاّ يكلَّفوا فوق طاقتهم)(2)
وبهذه السياسة سار الفاتحون، وعلموا أن إعطاء الجزية له ضريبته على المسلمين، ولقد سجلت معاهدات المسلمين في ذلك أشياء غريبة جدا، لا يمكن توقُّع كونها بين جيش مهزوم وجيش منتصر. ومن ذلك قول الصحابي خالد بن الوليد رضي الله عنه في صلحه مع
(1) راجع: دواعي الفتوحات الإسلامية ودعاوى المستشرقين، جميل المصري، ص 83. ') ">
(2)
صحيح البخاري (1328). ') ">
أهل الحيرة من المسيحيين: (إني عاهدتكم على الجزية والمنعة
…
فإن منعناكم فلنا الجزية، وإلا فلا، حتى نمنعكم) (1)
ولما انسحب المسلمون من مدينة" حمص " في فتوحات الشام، وكانت الحرب آنذاك مع القوات الرومية صاحبة القوة العسكرية، قام المسلمون بمبادرة هي أغرب ما تكون في العمليات العسكرية، فقد أعادوا الجزية لأهل حمص، مخالفين بذلك كل ما يتوقع الناس من جند ينسحب من مدينة، ووقف أهلها مشدودين لذلك، فبين المسلمون لهم الأمر، وقالوا:(شُغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم، فأنتم على أمركم. فقال أهل حمص: لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم)(2)
وهذا ما تتابع على ذكره فقهاء الإسلام، وقاموا بالدعوة إليه وتطبيقه.
إن هذه الجزية التي فرضها المسلمون لم تكن أمرا يشق على غير المسلمين، حيث إنها بديل عن الدفاع عنهم (حسب رأي بعض الفقهاء)، ولذا فقد كان المسلمون أحيانا في فتوحاتهم يُسقطونها فيما لو حارب أهل تلك البلاد مع المسلمين ضد أعدائهم، كما فعل " عتبة بن فرقد " مع أهل أذربيجان في معاهدته معهم، حيث قال: (هذا ما
(1) تاريخ الطبري (تاريخ الأمم والملوك) 2/ 319. ') ">
(2)
فتوح البلدان، البلاذري ص 143. ') ">
أعطى عتبة بن فرقد عامل عمر بن الخطاب أمير المؤمنين أهل أذربيجان، سهلها وجبلها وحواشيها وشفارها وأهل مللها كلهم، الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم، على أن يؤدوا الجزية على قدر طاقتهم. . ومن حشر منهم في سنة وضع عنه جزاء تلك السنة) (1)
وفي كتاب العهد الذي كتبه " سويد بن مقرن " في فتوحات الشرق الإسلامي أيام الخلفاء الراشدين، لمنطقة دهيستان وجرجان:(إن لكم الذمة وعلينا المنعة، على أن عليكم من الجزاء في كل سنة على قدر طاقتكم، على كل حالم، ومن استعنا به منكم فله جزاؤه في معونته عوضا من جزائه، ولهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم، ولا يغير شيء من ذلك)(2)
وفي عهد سراقة بن عمرو لأهل أرمينية: (هذا ما أعطى سراقة بن عمرو عامل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب شهر براز وسكان أرمينية والأرمن من الأمان. أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم وملتهم؛ ألا يضاروا ولا ينتقضوا، وعلى أهل أرمينية .. أن ينفروا لكل غارة، وينفذوا لكل أمر ناب أو لم ينب رآه الوالي صلاحا، على أن توضع الجزاء عمن أجاب إلى ذلك، إلا الحشر، والحشر عوض من جزائهم،
(1) تاريخ الطبري 2/ 540. ') ">
(2)
تاريخ الطبري 2/ 538. ') ">
ومن استغنى عنه منهم وقعد فعليه مثل ما على أهل أذربيجان من الجزاء والدلالة والنزل يوما كاملا، فإن حشروا وضع ذلك عنهم) (1)
- أهل الملل الذين تؤخذ منهم الجزية:
هذه المسألة تغيب أو يندر الإشارة إليها في عدد من الكتابات التي تكلمت عن السلام والحرب أو العلاقات الدولية في الإسلام! ولكون الخلاف موجودا في كتب الفقهاء؛ فمن الحسن الإشارة إليه، لأنه جزء من تراث علماء الإسلام، لنحاول الوصول فيه إلى الرأي الصواب الذي يُوافق الأدلة القرآنية والنبوية.
اختلف العلماء فيمن تؤخذ منه الجزية، ومُلخّص ذلك يذكره ابن القيم بقوله: (قال أحمد والشافعي: لا تؤخذ إلا من الطوائف الثلاث التي أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، وهم: اليهود والمسيحيون والمجوس، ومن عداهم فلا يقبل منهم إلا الإسلام أو القتل.
وقالت طائفة: في الأمم كلها، إذا بذلوا الجزية قبلت منهم: أهل الكتابين بالقرآن، والمجوس بالسنة، ومن عداهم ملحق بهم، لأن المجوس أهل شرك لا كتاب لهم فأخْذُها منهم دليل على أخذها من جميع المشركين، وإنما لم يأخذها صلى الله عليه وسلم من عبدة الأوثان من العرب لأنهم أسلموا كلهم قبل نزول آية الجزية [التوبة 29]، فإنها نزلت بعد [غزوة] تبوك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فرغ من قتال العرب واستوثقت
(1) تاريخ الطبري 2/ 541. ') ">
كلها له بالإسلام، ولهذا لم يأخذها من اليهود الذين حاربوه؛ لأنها لم تكن نزلت بعد، فلما نزلت أخذها من نصارى العرب ومن المجوس، ولو بقي حينئذ أحد من عبدة الأوثان بذَلَها لقبلها منه كما قبلها من عبدة الصلبان والنيران، ولا فرق ولا تأثير لتغليظ كفر بعض الطوائف على بعض.
ثم إن كفر عبدة الأوثان ليس أغلظ من كفر المجوس، وأي فرق بين عبدة الأوثان والنيران، بل كفار المجوس أغلظ، وعباد الأوثان كانوا يقرّون بتوحيد الربوبية وأنه لا خالق إلا الله، وأنهم إنما يعبدون آلهتهم لتقربهم إلى الله سبحانه وتعالى، ولم يكونوا يقرون بصانعين للعالم أحدهما خالق للخير، والآخر للشر، كما يقوله المجوس، ولم يكونوا يستحلون نكاح الأمهات والبنات والأخوات، وكانوا على بقايا من دين إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه.
وأما المجوس فلم يكونوا على كتاب أصلا، ولا دانوا بدين أحد من الأنبياء لا في عقائدهم ولا في شرائعهم، والأثر الذي فيه أنه كان لهم كتاب فرفع ورفعت شريعتهم لما وقع ملكهم على ابنته لا يصح البتّة، وو صح لم يكونوا بذلك من أهل الكتاب، فإن كتابهم رفع وشريعتهم بطلت، فلم يبقوا على شيء منها.
ومعلوم أن العرب كانوا على دين إبراهيم عليه السلام، وكانت له صحف وشريعة، وليس تغيير عبدة الأوثان لدين إبراهيم عليه السلام وشريعته بأعظم من تغيير المجوس لدين نبيهم وكتابهم، لو صح فإنه
لا يعرف عنهم التمسك بشيء من شرائع الأنبياء عليهم الصلوات والسلام، بخلاف العرب، فيكف يجعل المجوس الذين دينهم أقبح الأديان أحسن حالا من مشركي العرب. وهذا القول أصح في الدليل كما ترى.
وفرقت طائفة ثالثة بين العرب وغيرهم فقالوا: تؤخذ من كل كافر إلا مشركي العرب) (1)
- التيسير في أخذ الجزية وتقليل الأصناف المأخوذة منهم:
من المهم أيضا أن تعلم أن هذه الجزية تقع على المقتدر من غير المسلمين، ولذا فقد كان المسلمون لا يأخذونها من المرأة ولا الطفل، وحتى الرهبان المعزولين في معابدهم، ولم تكن تؤخذ من الشيوخ العاجزين، ولم تكن هذه الجزية مرتفعة بحيث لا يقدر عليها الرجال، كانت دينارا أو دينارين، وقد تصل في بعض دول الإسلام - بعد عهد الخلفاء الراشدين - إلى أربعة دنانير. وفي ذلك يقول " دربير " في كتابه" المنازعة بين العلم والدين": (إن المسلمين ما كانوا يتقاضون من مقهوريهم إلا شيئًا ضئيلاً من المال، لا يقارن بما كانت تتقاضاه
(1) زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن القيم 5/ 91. وقد فصل القول بشكل أوسع في كتابه الآخر: أحكام أهل الذمة، ص 87.
منهم حكوماتهم الوطنية) (1)
قال ابن قدامة: (ولا جزية على صبي ولا زائل عقل ولا امرأة، لا أعلم بين أهل العلم خلافا في هذا، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأبو ثور. وقال ابن المنذر: ولا أعلم عن غيرهم خلافهم)(2)
وقال ابن القيم: (ولا جزية على شيخ فان ولا زمن (3) ولا أعمى ولا مريض لا يرجى برؤه بل قد أيس من صحته، وإن كانوا موسرين، وهذا مذهب أحمد وأصحابه وأبي حنيفة ومالك والشافعي في أحد أقواله، لأن هؤلاء لا يقتلون ولا يقاتلون فلا تجب عليهم الجزية، كالنساء والذرية) (4)
وهذه الأقوال لفقهاء الإسلام هي ما سار عليه المسلمون الأوائل في عهد الخلفاء الراشدين " تنظيرا وتطبيقا"، وهي تؤكد العناية بأهل الذمة، وأن الجزية عندما أخذت منهم فلها ما يقابلها من حقوق
(1) نقلا عن: روح الدين الإسلامي، عفيف طبارة ص 406، وراجع: غير المسلمين، منقذ السقار، ص 45. ') ">
(2)
المغني، ابن قدامة 10/ 573. ') ">
(3)
الزمن: المريض مرضا طويلا. راجع: القاموس الفقهي، سعدي أبو حبيب، حرف (الزاي)، ص 160. ') ">
(4)
أحكام أهل الذمة ص 161. ') ">
كانت تجب على المسلمين لأهل الذمة، إذ لم يكونوا محل إهمال - كما يروج البعض لذلك - بل كانوا محل عناية عند المسلمين الأوائل، ولذا لما أبصر خليفة المسلمين الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه شيخا من أهل الذمة يسأل الناس، فقال له: ما لك؟ قال: ليس لي مال، وإن الجزية تؤخذ مني، قال له عمر: ما أنصفناك! أكلنا شيبتك، ثم نأخذ منك الجزية، ثم كتب إلى عماله ألاّ يأخذوا الجزية من شيخ كبير. قال: ثم أجرى عليه من بيت المال ما يصلحه (1)
وعندما فتح خالد بن الوليد أجزاءً من الشام في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم كتب في ذلك عدة معاهدات مع أهل تلك البلاد، ومن ذلك ما كتبه لأهل الحيرة:(وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن العمل أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنيا فافتقر وصار أهل دِينه يتصدقون عليه، طرحت جزيته، وعيل من بيت المسلمين، وعياله)(2)
وكان الخليفة الصالح: عمر بن عبد العزيز يطلب من واليه في البصرة: (وانظر من قِبَلَك من أهل الذمة، قد كبرت سنه، وضعفت قوته، وولت عنه المكاسب؛ فأجر عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه)(3)
(1) الأموال لابن زنجويه (165)، الأموال، لأبي عبيد القاسم بن سلام (119). ') ">
(2)
الخراج، لأبي يوسف، ص 155. ') ">
(3)
الأموال، لأبي عبيد القاسم بن سلام، (119). ') ">
لقد كان خلفاء النبي صلى الله عليه وسلم يراعون أحوال غير المسلمين من العدل وعدم الظلم، ولئن كانت الجزية مقدارا قليلا من المال؛ إلا أن الخلفاء الراشدين كانوا يخافون من أي ظلم يحصل من أخذها. فلما جاء لعمر مال الجزية قال لمن جاء بها: إني لأظنكم قد أهلكتم الناس، قالوا: لا والله ما أخذنا إلا عفوا صفوا، قال: بلا سوط ولا نوط؟ قالوا: نعم، قال: الحمد لله الذي لم يجعل ذلك على يدي ولا في سلطاني (1)
وكان الخليفة الرابع من خلفاء النبي صلى الله عليه وسلم وهو علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوصي أحد ولاته حول غير المسلمين من أهل الذمة، ويقول:(انظر إذا قدمت عليهم فلا تبيعن لهم كسوة شتاء ولا صيف، ولا رزقا يأكلونه، ولا دابة يعملون عليها، ولا تضربن أحدا منهم سوطا واحدا في درهم، ولا تقمه على رجله في طلب درهم، ولا تبع لأحد منهم عرضا في شيء من الخراج، فإنا إنما أمرنا أن نأخذ منهم العفو. فإن أنت خالفت ما أمرتك به؛ يأخذك الله به دوني، وإن بلغني عنك خلاف ذلك عزلتك)(2)
وعندما كانت تقع حوادث ظلم لأهل الذمة من ذوي النفوذ الجائر بين وقت وآخر - وهو ما حدث في بعض الدول التي تلت
(1) الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام (99). ') ">
(2)
الخراج، لأبي يوسف، ص 17. ') ">
عهد الخلفاء الراشدين الأربعة - كانت تلك المظالم دائما ما تُقابل بالرفض من الضمير الخلقي للمجتمع المسلم، وكان العلماء يجابهونها في تلك الأحيان. وعلى كل فليس هناك ما يدل على كونها أكثر أو أشيع من حوادث الظلم التي تقع من السلطات الجائرة على المسلمين أنفسهم (1)
ولما قام أحد خلفاء بني أمية وهو " الوليد بن يزيد " بإجلاء نصارى قبرص مخافة أن يعينوا الروم، قام ضده علماء الإسلام. يقول في ذلك " إسماعيل بن عياش ": فاستفظع ذلك المسلمون، واستعظمه الفقهاء، فلما ولي يزيد بن الوليد ردهم إلى قبرص، فاستحسن المسلمون ذلك من فعله، ورأوه عدلاً (2)
وهكذا فقد كان المسلمون يملكون قانونا واضحا في مجتمعاتهم التي كانت تحوي غيرهم، يعبّر عن ذلك " غوستاف لوبون ":(وكانت الطريق التي يجب على الخلفاء (الأولين) أن يسلكوها واضحة، فعرفوا كيف يحجمون عن حمل أحد بالقوة على ترك دينه، وعرفوا كيف يبتعدون عن إعمال السيف فيمن لم يسلم، وأعلنوا في كل مكان أنهم يحترمون عقائد الشعوب وأعرافها وعاداتها، مكتفين بأخذهم - في مقابل حمايتهم - جزية زهيدة تقلُّ عما كانت تدفعه
(1) التسامح والعدوانية بين الإسلام والغرب، صالح الحصين، ص 117. ') ">
(2)
فتوح البلدان، البلاذري، ص 161. ') ">