الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: أسرى الحرب
ثمة ارتباط بين المبحث السابق، وبين هذا المبحث، من جهة أن كثيرا مما تم تطبيقه في المبحث السابق هو تطبيق على أسرى الحرب. لكن في هذا المبحث، سيكون الحديث حول مفهوم أدق لهذا المعنى، والمتعلق بالحديث المباشر عن الأسرى.
من المعلوم أن الحرب في كل العصور، يكون فيها أسرى، وهم المحاربون المنهزمون أو المستسلمون. وقد يلحق بهم الأبناء والزوجات وذووهم.
الملفت للنظر أن هناك نصوصا إسلامية فصّلت في أحكام الأسرى، ووضعت لها قواعد متينة تحكمها، لذا كان الأسير عند المسلمين يختلف عن غيرهم. فمبادئ الإسلام تدعو إلى الرّفق بالأسرى، وتوفير الطّعام والشّراب والكساء لهم، واحترام آدميّتهم، والإحسان إليهم (1)(2)
وإن من أبلغ ما يدل على ذلك أن القرآن الكريم مع حثه المسلمين للجهاد؛ إلا أنه مع ذلك يؤكد لهم أن من صفات المؤمنين الصادقين عنايتهم بالأسير المحتاج كعنايتهم بالفقير واليتيم:
(1) راجع: أحكام الأسرى والسبايا في الحروب الإسلامية، ص 147.
(2)
راجع: أحكام الأسرى والسبايا في الحروب الإسلامية، ص 147. ') ">
قال عزيز بن عمير: كنت في الأسارى يوم معركة بدر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«استوصوا بالأسارى خيرا» ، وكنت في نفر من الأنصار، وكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم أكلوا التمر وأطعموني الخبز، بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم (1)
ولما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر (مدينة اليهود) أتى بصفية بنت حيي ومعها ابنة عم لها، جاء بهما بلال فمر بهما على قتلى يهود
…
فقال نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم لبلال: «أُنزِعَت الرحمة من قبلك حين تمر بالمرأتين على قتلاهما!» (2)
بل في أحلك الظروف عندما حُكم على طائفة بني قريظة بالقتل؛ لم ينس رسول الله صلى الله عليه وسلم الإحسان للأسرى في ذلك، وقال لأصحابه: «أحسنوا إسارهم وقيلوهم واسقوهم حتى يبردوا
…
لا تجمعوا عليهم حر الشمس وحر السلاح - وكان يومًا صائفًا - فقيلوهم وأسقوهم وأطعموهم» (3)
(1) المعجم الكبير (977). قال الهيثمي في مجمع الزوائد 6/ 86: وإسناده حسن. ') ">
(2)
الإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر 7/ 739، من رواية ابن إسحاق.
(3)
كتاب المغازي، محمد بن عمر الواقدي 2/ 217. ومعلوم أن الواقدي إمام في المغازي والسير، وهو شيخ المؤرخ المشهور ابن سعد (صاحب الطبقات الكبرى)، ولكنه عند عدد من أئمة الحديث يُعد من المتروكين، وإن وثقه بعضهم، إلا أن هؤلاء الموثّقين لا يرقون في الصناعة الحديثية لدرجة علم من ضعّفه. وعليه فلا يُحتج بحديثه في الأحكام، وإن كان إماما في نقل السير والمغازي. راجع أقوال العلماء حوله في: تهذيب التهذيب، ابن حجر العسقلاني 9/ 324.
وهو موقف ليس بمُستغرب، ولا يقل قائل بأنه من قبيل التناقض! كلا، فقد كان نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم يطبق القانون الذي يستحقه هؤلاء جراء خيانتهم العظمى، ويُطبق القانون الذي يستحقه الأسير وغيره من الرحمة والعناية.
ويقول عمران بن حصين: «كانت ثقيف خلفاء لبني عقيل فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من بني عقيل، وأصابوا معه العضباء
…
فناداه، فقال: يا محمد يا محمد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رقيقا، فرجع إليه، فقال:"ما شأنك؟ " قال إني مسلم، قال:" لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح"، ثم انصرف فناداه، فقال: يا محمد يا محمد، فأتاه، فقال:" ما شأنك؟ "، قال: إني جائع فأطعمني وظمآن فاسقيني، قال: " هذه حاجتك» (1)
(1) صحيح مسلم (1641).
لقد كانت هذه المعاملات للأسرى أسبابا لهداية بعض المشركين للإسلام، فقد «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلا قِبَل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:" ماذا عندك يا ثمامة "؟ فقال: عندي يا محمد خير، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تُنعم؛ تُنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تُعط منه ما شئت، [وكرر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا السؤال لثمامة ثلاث مرات في ثلاثة أيام]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أطلقوا ثمامة "، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل، ثم دخل المسجد، فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. يا محمد والله ما كان على الأرض وجه أبغض إليَّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إليَّ، والله ما كان من دين أبغض إليَّ من دينك، فأصبح دينك أحب الدين كله إليَّ، والله ما كان من بلد أبغض إليَّ من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إليَّ
…
» (1)
والسؤال المهم هنا: ما لذي دفع بهذا الرجل ذي المنزلة العالية في قومه إلى أن يتنازل عن دينه، ثم يحسن إسلامه بعد ذلك؟
(1) صحيح البخاري (4114)، صحيح مسلم (1763).
لا شك أن هذا يرجع إلى حسن المعاملة مع الأسرى والسجناء، وهو ما لم يكن معهودا في ثقافة تلك الأزمان، وكذا لِمَا رأى من حسن خلق هذا النبي معه ومع أصحابه صلى الله عليه وسلم، الأمر الذي بدد الشبه والأكاذيب التي كانت تُثار على الإسلام عند قبائل العرب.
يروي أهل السير أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى ثمامة قال لأصحابه: «هذا ثمامة بن أثال الحنفي، أحسنوا إساره. ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله فقال: اجمعوا ما كان عندكم من طعام فابعثوا به إليه، وأمر بلقحته [ناقة ذات لبن] أن يُغدى عليه بها ويراح» (1) أي يشرب صباحا ومساء.
وأحكام الأسرى في الإسلام جاءت بالتفصيل، ويمكن إيجازها لضيق المقام كالتالي (2)
أ - لو أنَّ المسلمين أخذوا أسرى من أهل الحرب فأرادوا قتلهم، فقال رجلٌ منهم: أنا مسلمٌ، فلا يقتل حتّى يسألوه عن الإسلام، فإن وصفه لهم فهو مسلمٌ، وإن أبى أن يصفه؛ فإنّه ينبغي
(1) السيرة النبوية لابن هشام 6/ 51.
(2)
راجع للتوسع: الموسوعة الفقهية، مادة: أسرى، وأيضا: أحكام الأسرى والسبايا في الحروب الإسلامية، ص 184.
للمسلمين أن يصفوه له، ثمّ يقولوا له: هل أنت على هذا؟ فإن قال: نعم، فهو مسلمٌ، ولو قال: لست بمسلمٍ ولكن ادعوني إلى الإسلام حتى أسلم لم يحلّ قتله.
ب - اتّفق الفقهاء على أنّه يجوز للإمام أن يضع الجزية في رقاب الأسرى.
ج - أنّ الأسير الحربيّ الذي أعلن إسلامه قبل القسمة للغنائم، لا يحقّ للإمام قتله. كما أنه لا يجوز استرقاقه أيضا إن أعلن الإسلام قبل قسمة الغنائم.
د - يتّفق الفقهاء على أنّ الأصل في السّبايا من النّساء والأطفال أنّهم لا يقتلون، وقد جاءت النصوص الإسلامية المتكاثرة منع ذلك، وقد سبق تفصيلها في المبحث السابق.
هـ - تخيير حاكم المسلمين في الرّجال البالغين [غير الأطفال والنساء والشيوخ] من أسرى الكفّار، بين أربع خيارات؛ الأول: قتلهم، الثاني: استرقاقهم، الثالث: المنّ عليهم والعفو عنهم، الرابع مفاداتهم بمالٍ أو نفسٍ أو بمبادلة أسرى أو غير ذلك.
و- يرى غالب الفقهاء تحريم قتل الأسير بعد المعركة.
ونلاحظ أن فتوحات المسلمين كانت واسعة جدا، إذ بلغوا مشارق الأرض ومغاربها، ومع كثر الكتابات التي دونت تاريخهم؛
إلا أننا لا نجد إلا في أحوال نادرة جدا قيامهم بقتل الأسرى، وإن حصل ذلك فهو في حالات محددة، كانت لها ظروفها الخاصة.
لذا نجد في الإسلام أربع خيارات للأسرى من الرجال، وجميعها طبقه المسلمون في حروبهم. وأما النساء والأطفال فكما مر معنا؛ لا يجوز قتلهم عموما، بل إن المسلمين كانوا يُحسنون إليهم، وفي ذلك يقول ابن تيمية:(وكذلك السبي الذي بأيدينا من المسيحيين يعلم كل أحد إحساننا ورحمتنا ورأفتنا بهم، كما أوصانا خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم حيث قال في آخر حياته: «الصلاة وما ملكت أيمانكم» (1) قال الله تعالى في كتابه: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} الإنسان: 8 - 9) (2)
كما من الواضح الاهتمام الدولي المعاصر بأسرى الحرب، وتؤكد " اتفاقية جنيف الثالثة " المتعلقة بأسرى الحرب على عدم استجواب الأسرى بشكل متعسف وقسري، ففي المادة (17): (لا يجوز ممارسة أي تعذيب بدني أو معنوي أو أي إكراه على أسرى
(1) مسند أحمد بن حنبل 3/ 117، سنن ابن ماجه (1625)، وصححه الألباني في إرواء الغليل (2178).
(2)
مجموع الفتاوى، ابن تيمية 28/ 618. ') ">
الحرب لاستخلاص معلومات منهم من أي نوع. ولا يجوز تهديد أسرى الحرب الذين يرفضون الإجابة، أو سبهم، أو تعريضهم لأي إزعاج أو إجحاف)
ونذكر هنا قصة عن نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم، تبين امتناعه من استعمال الأسلوب العنيف مع الأسرى، إذ «لما نزل أصحابه أرض معركة بدر وورد عليهم رواة الماء من قريش وفيهم غلام أسود لبني الحجاج فأخذوه، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه عن قائد عير قريش: أبي سفيان وأصحابه؟ فيقول: ما لي علم بأبي سفيان، ولكن هذا أبو جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف، فإذا قال ذلك ضربوه، فقال: نعم، أنا أخبركم؛ هذا أبو سفيان، فإذا تركوه فسألوه، فقال: ما لي بأبي سفيان علم، ولكن هذا أبو جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف في الناس، فإذا قال هذا أيضا ضربوه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي، فلما رأى ذلك انصرف وقال: (والذي نفسي بيده لتضربوه إذا صدقكم، وتتركوه إذا كذبكم» (1)
(1) صحيح مسلم (1779).