الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خوف الفرقة والاختلاف بين قومه عذرًا له في عدم التشديد في الإنكار ومُقاومة القوم والانفصال عنهم حين لا ينفع الإنكار
قال تعالى: {إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} .
فنراه عليه السلام: لم يشدد في الإنكار خوف الخلاف، ولم يعتزل القوم خوف الخلاف.
مما يوضح لنا خطر الخلاف والفرقة، وأهمية الوحدة والائتلاف والتي تعلو فوق أي خلاف في الرأي أو وجهة من وجهات النظر.
الفصل الثاني: أهل السنة والجماعة
.
المبحث الأول: من هم أهل السنة والجماعة
.
لا يخفى على أحد أنَّ المسائل المهمة التي توسعت فيها شِقة الخلاف مسألة تعدد المذاهب أو تعدد المدارس العقدية بلغة اليوم- وكل مدرسة تلقب نفسها أهل السنة والجماعة - وإنكار بعضهم على بعض صحة هذا الانتماء ويعدون غيرهم من أصحاب الفرق الضالة التي أشار إليها الحديث.
معنى السنة لغة: الطريقة.
شرعًا: سنة النبي صلى الله عليه وسلم من أقوال وأفعال وإقرار وسائر أحواله ويلحق بها سنة الخلفاء الراشدين «فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي» .
فأهل السنة إذًا:
المتبعون لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم.
يقابلهم في الوصف:
أهل البدعة المتبعون لبدع الأمور ومحدثاتها المعرضون عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء.
الجماعة لغة: العدد الكثير من الناس، أو طائفة يجمعها غرض واحد.
اصطلاحًا: جماعة المسلمين المجتمعين على قول واحد في أصول المسائل الشرعية الواقفين موقفًا واحدا من كبرى القضايا الإسلامية.
يقابلهم في الوصف:
أهل الفرقة، أو أصحاب الشذوذ.
قال عليه الصلاة والسلام: «عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد وه من الاثنين أبعد، ومن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، ومن سرته حسنته وساءته سيئته فذلكم المؤمن» (1)
نشأته: استمر الحال كما كانوا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولم نسمع بهذا الاسم إلا بعد أن حدثت الفتنة في عهد عثمان رضي الله عنه ثم ظهر التشيع في عهد علي رضي الله عنه، وما حدث في عهده من اختلاف وتَفرّق أدى إلى ظهور لقب أهل السنة والجماعة تلقائيًا، واشتهر على ألسنة العلماء مقابل فرق:(الخوارج (2) الشيعة (3)
(1) جزء من حديث رواه الترمذي، ك الفتن، 2091، وقال حديث حسن صحيح غريب.
(2)
الخوارج: أطلق على النفر الذين خرجوا على علي رضي الله عنه بعد قبوله التحكيم عقب معركة صفين وطالبوه أن يعترف بالكفر ثم يتوب منه، وسموا بالحرورية لانحيازهم إلى حروراء قرب الكوفة، وظهروا كجماعة بعد التحكيم وعيّنوا شبث بن ربيعي التميمي أميرًا لهم، ومن أصولهم تكفير مرتكب الكبيرة، ووجوب الخروج على الأئمة إذا وقعوا في معصية، تكفير من رضي بالتحكيم، وإنكارهم للشفاعة. (انظر الفصل في الملل والنحل، 4/ 156، د. أحمد جلي: دراسة من الفِرَق في تاريخ المسلمين، 51 وما بعدها).
(3)
الشيعة: ظهرت كردة فعل للخوارج، فبايعوا عليًا رضي الله عنه، ثم تطورت إلى القول بإمامته والطعن في خلافة مَن قبله، وهم فِرق كثيرة أهمها: الإمامية أو الاثنا عشرية لأنهم يقولون باثني عشر إمامًا من أهل البيت ابتداءً من علي رضي الله عنه إلى الحسين العسكري، أبرز أصولهم إمامة علي، والعصمة للأئمة، والعلم اللدني، والرجعة والتُقية، والغلو في علي رضي الله عنه إلى مرتبة الألوهية عند بعضهم، عندهم مصحف يسمى مصحف فاطمة غير القرآن. (انظر الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة، 55، بتصرف).
الرافضة (1)).
ثم حدثت فتنة ثانية نشأ منها فرقة:
القدرية (2) والمرجئة (3)
ثم فتنة ثالثة نشأ منها فرقة:
الجهمية (4) ونحوهم.
(1) الرافضة: من الأسماء التي أطلقت على الشيعة، وعددها 24 فرقة أو خمس وعشرون ومنهم الإمامية، وأطلق عليهم أهل السنة هذا الاسم لرفضهم الخلافة إلا لعلي رضي الله عنه. (انظر الأشعري: مقالات الإسلاميين، 1/ 88، ود. علي المغربي: الفرق الكلامية الإسلامية، 152 - 153، ط1).
(2)
القدرية: اسم أطلقه أهل السنة على من قال بالقدر أي قدرة الناس على أفعالهم ونفي قدرة الله، وهم المعتزلة الذين اعتنقوا هذا المبدأ، رغم رفض المعتزلة لهذا الاسم، وكان أول من قال بالقدر: معبد الجهني وكان يجالس الحسن البصري ثم تركه. (انظر د. علي المغربي: الفرق الكلامية الإسلامية، 206).
(3)
المرجئة: من أرجأ أو أخر العمل عن الإيمان، وقالوا: لا يضر مع الإيمان ذنب، ونشأت بسبب الكلام على مرتكب الكبيرة أهو مؤمن أم لا، وقيل بدأ لما قتل عثمان رضي الله عنه فامتنعت طائفة من الحكم بينه وبين علي رضي الله عنه وقالوا: نرجئ أمرهما إلى الله لما قالت طائفة: علي كان أولى بالإمامة. (انظر محمد أبو زهرة: تاريخ المذاهب الإسلامية، 119 وما بعدها).
(4)
الجهمية: زعيمهم جهم بن صفوان الذي تتلمذ على يد معبد الجهني، وعظمت فتنته توفي سنة 128 هـ-، أول ما ظهرت في المائة الثانية من الهجرة لما عُرِّبت كتب اليونان، من أصولهم إنكار الصفات والقول بأن كلام الله مخلوق والقول بنفي القدر. (انظر الفرق بين الفِرق، 199، الملل والنحل، 1/ 87).
روي عن سعيد بن المسيب أنه قال وقعت في الأمة الفتنة الأولى يعني مقتل عثمان رضي الله عنه فلم تبق من أصحاب بدر أحدًا، ثم وقعت الفتنة الثانية يعني الحرة فلم تبق من أصحاب الحديبية أحدًا، ثم وقعت الثالثة فلم ترفع وللناس طباخ أي لم يتبق من الصحابة أحد (1)(2)
إذًا: هؤلاء الذين فرقوا دينهم شيعًا يقابلون البدعة بالبدعة.
- فالشيعة غلوا في علي.
- الرافضة رفضوا عليًا.
- الخوارج غلوا في الوعيد.
- المرجئة غلوا في الوعد.
- الجهمية غلوا في التنزيه (وقعوا في نفي الصفات).
- المشبهة (3) غلوا في الإثبات حتى وقعوا في التشبيه (4)
(1) انظر البخاري، ك المغازي، رقم 3720.
(2)
انظر البخاري، ك المغازي، رقم 3720. ') ">
(3)
المشبهة: الذين ساووا بين الخالق والمخلوق في الصفات أو الذات، ظهروا عن أصناف من الروافض الغلاة، منهم البيانية، وقيل عن السبئية وهم نوعان: منهم من شبه ذات الله بذات المخلوق، ومنهم من شبه صفاته بصفاتهم. (انظر الفرق بين الفرق، 217، البريكان: القواعد الكلية: 41 - 43).
(4)
شرح الطحاوية، 528. ') ">
ثم استمر لقب أهل السنة والجماعة (1) على عمومه وشموله حتى وجدت المدارس العقدية وانتسب كل قوم لعلمائهم:
فانتسب قوم لأصحاب الحديث (الأثرية).
وآخرون لأبي الحسن الأشعري (الأشعرية).
وآخرون لأبي منصور الماتريدي (الماتريدية).
ففي خراسان والعراق والشام مشهور أن أهل السنة هم الأشاعرة. وأكثر الأقطار الأخرى مشهور أن أهل السنة هم الماتريدية.
وعند أهل الحديث وجمهور الحنابلة مشهور أن أهل السنة هم الأثرية.
واستمروا هكذا يحترم بعضها بعضًا.
ولكن ظهرت هناك اختلافات لأسباب، وهي على نوعين:
أ - خلاف بين أهل السنة وغيرهم.
سبب هذا الخلاف:
1 -
دخول الفلسفة إلى العالم الإسلامي فدخلت العقليات في
(1) فنلاحظ أن هذا اللقب ظهر نظرًا للاختلاف في مسائل عقدية كبرى تعتبر من ثوابت الإسلام لا قضايا مختلف فيها.
العلوم الإلهية.
2 -
تأثر بعضهم بشُبه اليهود والنصارى.
3 -
دخول بعض الأعراب وبعض أهل الأديان الأخرى إلى الإسلام مع بقاء ما في صدورهم من ضغائن للمسلمين، ومنهم جماعة كانوا يتحينون الفرصة للانقضاض على هذا الدين (خرج منهم ابن سبأ وغيره).
ب - خلاف بين أهل السنة أنفسهم.
سبب هذا الخلاف:
1 -
الاحتمال في بعض النصوص (يجعل دلالتها ظنية).
2 -
التفاوت بين العلماء في فهم النصوص واختلاف مداركهم وتنوع مناهجهم في الوصول إلى الأحكام، فكما اختلف كثير من الصحابة في المسائل الفقهية، اختلفوا في بعض المسائل العقدية.
أمثلة الاختلافات العقدية:
1 -
رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم ربه في يوم الإسراء.
2 -
اختلافهم في تعريف الكرسي، وأيهما أسبق الحوض أو الميزان.
3 -
اختلافهم في الإسراء هل كان بالروح فقط أم بالجسد مع الروح.
4 -
اختلافهم في حديث الميت وهل يعذب ببكاء أهله؟
موقف أهل السنة من هذه الاختلافات: لا تؤثر في وحدة
الجماعة لأنها قضايا خلافية.
القاضي عياض يقول في رؤية نبينا صلى الله عليه وسلم لله تعالى يوم المعراج: (وأما وجوبه لنبينا صلى الله عليه وسلم والقول بأنه رآه بعينه فليس فيه قاطع ولا نص إذ المعول على آية النجم والتنازع فيها مأثور والاحتمال ممكن ولا أثر قاطع متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
الأصل:
الاختلاف في كبرى المسائل (سواء فقهي أو عقدي) غير وارد.
الاختلاف في صغرى المسائل من (فقهي أو عقدي " وارد.
والقول أن الاختلافات كانت في الفقه فقط غير صحيح.
نعم ضاق الخلاف في باب العقائد نسبيًا لأن الأصول والثوابت لا تتغير، وتوسع في الفقه لاتساع الأمة وعالمية الرسالة ومرونة الشريعة.
أمثلة للاختلافات الفرعية:
القراءة خلف الإمام في الصلاة، كيفية صلاة الوتر، سجود السهو، وضع اليد في الركوع، كثير من أحكام الصلاة والصيام (1)
صفة أهل السنة:
البغدادي صاحب كتاب (الفَرق بين الفِرق) يقول: فأما الفرقة الثالثة
(1) السفاريني: لوامع الأنوار، 1/ 73 ط2، مؤسسة الخافقين، ومقدمة الفَرق بين الفِرق، 4 - 5. ') ">
والسبعون: فهي أهل السنة والجماعة من فريقي الرأي والحديث دون من يشتري لهو الحديث، وفقهاء هذين الفريقين وقراؤهم ومحدثوهم ومتكلمو أهل الحديث فيهم، كلهم متفقون على مقالة واحدة في: توحيد الصانع - وصفاته وأسمائه وفي عدله وفي حكمته وفي أبواب النبوة والإمامة وفي أحكام الآخرة وفي مسائل أصول الدين. وإنما يختلفون في:
الحلال والحرام من فروع وأحكام - أو بعض فروع العقائد - وليس بينهم فيما اختلفوا فيه منها تضليل ولا تفسيق.
وهم الفرقة الناجية، ويجمعها الإقرار بتوحيد الصانع وقدم صفاته الأزلية وإجازة رؤيته من غير تشبيه ولا تعطيل.
مع الإقرار بكتب الله ورسله وتأييد شريعة الإسلام وإباحة ما أباحه القرآن، وتحريم ما حرمه القرآن مع قبول ما صح من سنة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم واعتقاد الحشر والنشر وسائر أمور الآخرة.
فمن قال بهذه الحجة التي ذكرناها، ولم يخلط إيمانه بها بشيء من بدع الخوارج والروافض والقدرية، وسائر أهل الأهواء فهو من جملة الفرقة الناجية، إن ختم الله له بها ودخل في هذه الجملة جمهور الأمة وسوادها الأعظم من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة والأوزاعي وأهل الظاهر.
ولما سئل الإمام أحمد بن حنبل عن صفة المؤمن قال:
صفة المؤمن من أهل السنة والجماعة: من يشهد أن لا إله إلا الله
وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، وأقر بجميع ما أتت به الأنبياء والرسل وعقد قلبه على ما أظهر من لسانه ولم يشك في إيمانه ولم يُكَفِّر أحدًا من أهل التوحيد بذنب وفوض أمره إلى الله ولم يقطع بالذنوب العصمة من عند الله، وترحم على جميع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كبيرهم وصغيرهم، وأن القرآن كلام الله عز وجل منزل غير مخلوق والإيمان قول وعمل يزيد ونقص .... الخ (1) ويقول الإمام الشاطبي في الاعتصام ما خلاصته:" إنَّ الخلاف بين الفرق المُخرِج عن الفرقة الناجية هو الخلاف في معنى كلي في الدين وقاعدة من قواعد الشريعة لا في جزئي من الجزيئات، إذ الجزئي والفرع الشاذ لا ينشأ عنه مخالف يقع بسببها التفرق شيعًا، وإنما ينشأ التفرق عند وقوع المخالفة في الأمور الكلية ويجري مجرى القاعدة الكلية كثرة الجزيئات"(2)
وقال ابن تيمية رحمه الله: " فما زال في الحنبلية من يكون ميله إلى نوع من الإثبات الذي ينفيه طائفة أخرى منهم، ومنهم من يمسك عن النفي والإثبات جميعًا ففيهم جنس التنازع الموجود في جميع الطوائف، ولكن نزاعهم في مسائل الدق، وأما الأصول الكبار فهم متفقون عليها ولهذا كانوا أقل الطوائف تنازعًا وافتراقًا، لكثرة
(1) انظر ص 26 - 28. ') ">
(2)
انظر ص 2/ 712. ') ">