الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا هو التصوّر القانوني في الأنظمة الدولية المعاصرة حول هذه النقطة، ولئن كان هذا التصور نجح في بعض الأحيان، فقد لاقى فشلا في أحيان أخرى. ونحن هنا لسنا بصدد مناقشة مصداقية تطبيق هذه القوانين، بقدر ما نريد تصوير المفاهيم، وربطها بالتعاليم الحربية التي أمر بها الإسلام.
المطلب الأول: التعاليم الإسلامية في منع الإبادة والإفساد
لا يمكن لأي باحث منصف في التاريخ الحربي للأمم إلا وأن يقف مُعجبا بتلك التعاليم الإسلامية التي وضعت - بشكل واضح- قوانين الحرب والسلام والعلاقات الدولية، وجعلت من الإسلام - وهو الدين المُتّهم بأنه دين السيف - يحوي عددا من القوانين الإنسانية التي تحارب ما يُسمى بـ (جرائم الحرب وغيرها).
وإني لأعجب أشد العجب من تلك الحماية على تعاليم الإسلام وخاصة عندما ننظر في الحالة الحربية التي كانت عليها الدول قبل الإسلام، وكيف كانت الشعوب تباد ويُنكّل بها؛ حتى جاء الإسلام و " شرّع " قوانين ضد هذه التصرفات. لا نستطيع استثناء أي شعب من استعمال تلك الإبادات، وخاصة تلك الحروب الطاحنة
التي كانت بين اليهود وغيرهم في دخول كنعان (1)(2) أو بين الفرس والروم (3)
لقد كان للإسلام فضل السبق في التمييز بين المقاتلين وغيرهم من المدنيين الذين لا يقاتلون، وهو الأمر الذي تم تقنينه دوليا في القوانين الدولية الإنسانية.
فالنبي صلى الله عليه وسلم الذي جعل القتال ضرورة عندما يمنع من نشر دينه هو الذي كان يوجه جيوشه بعبارات قليلا ما تجد مثلها في الحروب السابقة، بل لا تجد مثلها أصلا. فكان يوصيهم بقوله:«اغزوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا [طفلا]» (4)
كما أن النبي صلى الله عليه وسلم يؤكد على منع قتل الأطفال والشيوخ والنساء في المعارك، وقد روي عنه:«ولا تقتلوا شيخا فانيا، ولا طفلا، ولا صغيرا، ولا امرأة» (5) بخلاف الجيوش الإسرائيلية - كما سنرى- وما صنعت بأطفال أعدائهم، ونسائهم وشيوخهم، بل كل نفس.
(1) راجع في نصوص التوراة: تثنية 7:2، وَ 7: 16 و 20: 14 - 18، خروج 34: 12 - 13، وغيرها كثير.
(2)
راجع في نصوص التوراة: تثنية 7:2، وَ 7: 16 و 20: 14 - 18، خروج 34: 12 - 13، وغيرها كثير. ') ">
(3)
المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار (الخطط)، تقي الدين المقريزي 3/ 762. ط مكتبة مدبولي. ') ">
(4)
صحيح مسلم (1731).
(5)
سنن أبي داود (2614)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (3270).
«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة، فرأى الناس مجتمعين على شيء، فبعث رجلا، فقال: انظر علام اجتمع هؤلاء؟ فجاء، فقال: على امرأةٍ قتيل، فقال صلى الله عليه وسلم: " ما كانت هذه لتقاتل» (1). قال وعلى المقدمة [للجيش] خالد بن الوليد، فبعث رجلا فقال:«قل لخالد لا يقتلن امرأة ولا عسيفا» (2)
وروى ابن عمر أن امرأة وُجِدت في بعض مغازي النبي صلى الله عليه وسلم مقتولة، فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان
قال ابن عبد البر: (أجمع العلماء على القول بهذا الحديث ولم يختلفوا في شيء منه، فلا يجوز عندهم الغلول ولا الغدر ولا المثلة، ولا قتل الأطفال في دار الحرب)(3)
هكذا كانت تعاليم الإسلام الحربية حول هذه المسألة، والتي ما زالت حتى اليوم تواجه الأنظمة القانونية الدولية مشكلات في سبيل تطبيق النظام فيها على المخالفين من مجرمي الحرب. ولقد كان
(1) سنن ابن ماجه الْجِهَادِ (2842)، مسند أحمد (4/ 179).
(2)
سنن أبي داود (2667)، مسند أحمد بن حنبل 3/ 488، وصححه ابن حبان في صحيحه:(4791). والعسيف هو الأجير، وقيل الشيخ الكبير، وقيل العبد. راجع النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 3/ 236.
(3)
التمهيد لابن عبد البر 24/ 233. ') ">
حال الفتوحات في الدولة الإسلامية الأولى مُطبقا لهذه المبادئ بشكل تام، وكانوا على قدر كبير من الحرص على سلامة الشعوب. فعن الأسود بن سريع قال:«أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وغزوت معه، فأصبت ظهرا، فقتل الناس يومئذ، حتى قتلوا الولدان - وقال مرة: الذرية - فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " ما بال أقوام جاوزهم القتل اليوم حتى قتلوا الذرية "، فقال رجل: يا رسول الله إنما هم أولاد المشركين، فقال: " ألا إن خياركم أبناء المشركين. ثم قال: ألا لا تقتلوا ذرية، ألا لا تقتلوا ذرية» (1)
وهذا ما تمثله خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأولهم أبو بكر الصديق، والذي كان يوصي قائد جيشه:« .. إني موصيك بعشر: لا تقتلن امرأة، ولا صبيا، ولا كبيرا هرما، ولا تقطعن شجرا مثمرا، ولا تخربن عامرا، ولا تعقرن شاة ولا بعيرا إلا لمأكله، ولا تحرقن نخلا ولا تفرقنه، ولا تغلل، ولا تجبن» (2)
لقد كانت هذه التعاليم واضحة تماما في أذهان المسلمين عند قتالهم لأي عدو لهم، وكما هو واضح من النصوص السابقة أنه عندما
(1) سنن النسائي الكبرى (8616)، مسند أحمد بن حنبل 3/ 435 واللفظ له، وصححه الحاكم في المستدرك على الصحيحين، ووافقه الذهبي (2566).
(2)
موطأ مالك (965). وسند هذا الأثر ضعيف لإرساله، ولكن معناه روي من عدة طرق. راجع: نيل الأوطار للشوكاني 8/ 75.
تحدث تجاوزات من أحد أفراد الجيش؛ فإن هذا يُعد خرقا لأحكام الشرع الإسلامي، والذي جعل قواعد تُنظم ما يُمكن أن نطلق عليه: الحرب الأخلاقية.
يقول ابن تيمية - وهو الإمام الذي اشتهر بالجهاد في كثير من الميادين - في معرض بيانه لعدد من القواعد الحربية: (وإذا كان أصل القتال المشروع هو الجهاد، ومقصوده هو أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، فمن امتنع من هذا قوتل باتفاق المسلمين، وأما من لم يكن من أهل الممانعة والمقاتلة كالنساء والصبيان والراهب والشيخ الكبير والأعمى والزمِن ونحوهم، فلا يقتل عند جمهور العلماء إلا أن يقاتِل بقوله أو فعله، وإن كان بعضهم يرى إباحة قتل الجميع لمجرد الكفر إلا النساء والصبيان
…
والأول هو الصواب، لأن القتال هو لمن يقاتلنا إذا أردنا إظهار دين الله
…
وذلك أن الله تعالى أباح من قتل النفوس ما يُحتاج إليه في صلاح الخلق، كما قال تعالى {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} البقرة 217، أي أن القتل وإن كان فيه شر وفساد ففي فتنة الكفار من الشر والفساد ما هو أكبر منه.
فمن لم يمنع المسلمين من إقامة دين الله لم تكن مضرة كفره إلا على نفسه، ولهذا قال الفقهاء: إن الداعية إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة يعاقب بما لا يعاقب به الساكت
…
ولهذا أوجبت الشريعة قتال الكفار ولم توجب قتل المقدور عليهم منهم، بل إذا أُسر