الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نسخ الكتاب الخطية
اعتمدنا في تحقيق الكتاب على عشر نسخ خطية، وليس منها نسخة كاملة إلا نسخة تشستربيتي (ش). وأما النسخ الأخرى فعامَّتها إما للنصف الأول من الكتاب ــ أي قدر الجزئين الأولين من طبعتنا ــ أو للنصف الثاني منه.
وهذا وصفها مرتبة بحسب تاريخ نسخها:
1) نسخة قيون أوغلو= ق /الأصل
هي محفوظة بمكتبة «قيون أوغلو» بمدينة قونيا بتركيا، وتقع في 322 ورقة، وإن كان بحسب الترقيم فيه (321 ورقة) لأنه قد تكرر ترقيم ورقتين متتاليتين بالرقم (8). وفي كل صفحة 25 سطرًا غالبًا، وقد يزيد سطر أو ينقص في بعض الصفحات. وهذه النسخة في أصلها تتكوَّن من مجلَّدين، والموجود منهما الأول فقط، من أول الكتاب إلى آخر منزلة الصدق.
على صفحة العنوان: «الجزو الأول من كتاب مدارج السالكين في منازل السائرين. تأليف الشيخ الإمام العالم العامل العلامة .... » .
وتحته قيد وقفٍ بخط مغاير كتبه «فتح الله بن بير أحمد» حيث وقف الكتاب على أخيه الشقيق «صنع الله» ثم على أولاده من بعده. وتحته بخط آخر دعاء مسجوع للمؤلف بأن يتغمده الله بالرحمة والرضوان
…
إلخ.
وتحته كتب «علي بن العزِّ الحنفي» ــ شارح الطحاوية (ت 792) ــ أبياتًا في مدح الكتاب من نظمه بخط يده، وهي:
«صاحِ هذي مدارج السالكينا
…
قد بدت في منازل السائرينا
جِدَّ واصعَدْ تسعدْ فهذا الصراط الـ
…
ـمستقيم الذي إليه دُعينا
لا تَحِدْ عن هذا الصراط ففيه
…
تصحب الأنبياء والصالحينا
إن هُدِينا له فكلُّ ضلالٍ
…
ومخوفٍ ربي يقينًا يقينَا
لستَ في ذي الدنيا مقيمًا فسافِرْ
…
مع خير الرفاق في العالمينا
بيَّن الله والرسولُ سبيل الـ
…
ـحق فيما يُتلى ويُروى إلينا
ثم جاءت ساداتُنا فهَّمونا
…
كلَّ ما كان منه يخفى علينا
وجلاه هذا الإمام بيانًا
…
فتبدَّى للعارفين مبينا
رضي الله عنه كم من صوابٍ
…
بجوابٍ منه إليه هُدِينا
لو كتبنا كلامه بنُضارٍ
…
خالصٍ ما كنَّا له منصفينا
كتبه ناظمه علي بن العز الحنفي»
وفي آخر المجلد كتب الناسخ: «آخر المجلد الأول من كتاب مدارج الساكين في منازل السائرين، ويتلوه في الثاني فصلٌ: ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين: منزلة الإيثار» .
هذه النسخة مجوَّدة ومتقنة، وقد كتبت في حياة المؤلف وقرئت عليه كما جاء منصوصًا على طُرَر كثير من الصفحات، أول ذلك في (ق 17 ب):«بلغ مقابلة وقراءة على مصنفه» ، ثم تكرر ذلك أو نحوه في ما لا يقل عن خمسة وأربعين موضعًا آخرها (ق 228 ب) أي قبل نهاية المجلد بأربع ورقات.
أما عنوان الكتاب في أول النسخة فقد كُتب بعد وفاة المؤلف. وفي النسخة أوراق أخرى أيضا لعلها كتبت بهذا الخط، وهو قديم أيضا ولكن
ليس بخط الناسخ. ومنها قسم من ق 2/ب، وأول 3/أ، والأوراق (189 - 198)، ثم (203 - 206)، وهكذا الصفحة الأخيرة.
ومع قراءة النسخة على المؤلف بقيت فيها أشياء يسيرة من التصحيف والسقط.
2) نسخة حلب= ل
هذه النسخة كانت في حلب، ثم آلت إلى مكتبة الأسد بدمشق برقم (15412، 15413)، وهي ذات ثلاث مجلَّدات، وُجد منها جزءان، أولهما في 239 ورقة، والثاني في 257 ورقة، في كلِّ صفحة 21 سطرًا.
والجزءان يمثِّلان ثلثي الكتاب، حيث يتنهي الجزء الثاني عند انتهاء شرح المؤلف من الدرجة الأولى من منزلة المحبَّة (3/ 413). وقد وقع سقط في الجزء الأول بعد ق 11 مقداره تسع ورقات، وذلك قبل ترقيم النسخة.
كتب على صفحة العنوان من المجلد الأول: «الأول من مدارج السالكين في منازل السائرين. تأليف الشيخ الإمام العالم العامل العلامة
…
».
وتحته أبيات ابن أبي العز التي على نسخة «قيون أوغلو» ، وهنا أيضًا كتبها بخط يده حيث جاء في آخرها:«كتبها ناظمها علي بن العز الحنفي» .
وفي الطرف قيد تملُّك لمعتوق بن علي سنة 1116 هـ، وكذا على أول المجلد الثاني.
والنسخة مقابلة، كما يظهر من قيد المقابلة (بلغ مقابلةً) الوارد في مواضع من المجلدين، وجاء في آخر المجلد الأول ما نصُّه: «بلغ مقابلةً
بأصلٍ مقابَلٍ على أصل مؤلفه مقروءٍ عليه ــ رحمه الله وإيانا ــ في مجالس آخرها في حادي عشر شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة». وفي آخر المجلد الثاني: «قوبل على أصل مقابل بأصلِ مؤلفه مقروءٍ عليه في مجالس آخرها في عشري شهر رجب سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة» .
ولعل النسخة التي قوبلت عليها هذه النسخة هي نسخة قيون أوغلو (ق) التي قرئت على المؤلف كما سبق بيانه. ومما يدل على ذلك أنهما تتفقان في مواضع كثيرة مما اختلفتَا فيها مع النسخ الأخرى. وزيادةً على هذه المقابلة، فهناك قلمٌ آخر جرى عليه في مواضع تعديلًا وتغييرًا، لا سيما في لفظ المتن ليجعله موافقًا لما كان بين يديه من النسخ، مع أن المؤلف صادر عن «شرح التلمساني» في إثبات لفظه كما بينّاه في تعليقاتنا على الكتاب.
أما عن تاريخ نسخها، فمن القطعي أنها نُسخت قبل تاريخ المقابلة المذكور آنفًا، أي قبل ربيع الآخر 773 هـ. وأما ما ورد في آخر المجلد الثاني أنه تم نسخها في سنة (731) فلا يصحُّ، فإنه جاء في قيدٍ مزوَّر، وظاهر جدًّا آثار المسح والكشط تحته، وأنه بخط مغاير لخط الناسخ، ومما يدل على تزويره أنه جاء فيه: «آخر المجلد الثاني، وبه تمَّ الكتاب
…
في سنة 731». ومن المعلوم أن الكتاب لم يتمَّ بعدُ، بل بقي منه نحو ثلثه كما سبق شرحه، فلعلَّ بعض من تملَّك النسخة ناقصةً أراد أن يبيعها، فلما رأى قيدًا في آخرها يدل على أنه يتلوها مجلَّدٌ ثالث، مسح هذا القيد وكشطه ثم كتب مكانه قيدًا مزوَّرًا ليروِّج لنسخته الناقصة على أنها نسخة تامَّة، وأنها كتبت في حياة المؤلف.
ثمَّ إن هذا التاريخ لا يمكن أن يكون ألَّف فيه هذا الكتاب، لأن من أوائل كتبه «تهذيب السنن» ، وقد نصَّ فيه على أنه ألَّفه سنة 732، ثم مما ألَّف بعده:«مفتاح دار السعادة» حيث ذكر «تهذيب السنن» فيه، وكتابنا هذا بعد «المفتاح» حيث أحال فيه عليه، بل قد أحال في كتابنا على «الصواعق المرسلة» وفيه ذكر «المفتاح» . كلُّ هذا يدل على أن الكتاب قد أُلِّف بعد التاريخ المرقوم في القيد المزوَّر بسنين.
وفي طرر النسخة تعليقات لبعض القراء، يصدِّرها بقوله:«حاشية» ، وهي متنوعة، فبعضها تذييل على كلام المؤلف باصطلاحات القوم وإشاراتهم، وفي بعضها نقلٌ لأقوال مشايخ الطريقة في الباب، وبعضُها تعليق على كلام الماتن، وفي بعضها تعقُّب على المؤلف، لا سيما فيما يعزوه إلى مذهب أبي حنيفة، كما في (ق 180/ب) حيث قال:«هذا الحكم المنسوب إلى مذهب أبي حنيفة رحمه الله إنما هو قول أبي يوسف» . وتاريخ هذه التحشية يرجع إلى القرن العاشر، فإنه ختم بعض تعليقاته (ق 228) بقوله: «
…
فيا غربة الإسلام في عاشر قرن».
3) نسخة جامعة الإمام= م
هي محفوظة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية برقم (8860/خ). وهي تتكوَّن من مجلَّد واحدٍ في 181 ورقة، ينقصه بعض الأوراق من آخره. وفي كل صفحة منها 25 سطرًا.
والظاهر أن النسخة كانت تامَّة في مجلدين، فُقد الثاني منهما، وقد جاء في إحدى قيود التملك على صفحة العنوان: «ملكه والجزء الذي يليه
…
».
ولا نعرف تاريخ نسخها بالتحديد، وذلك لسقوط ورقة أو أكثر من آخر المجلد، مما يكون فيها غالبًا قيد النسخ، ولكننا نجزم بأنها من القرن الثامن، أو من أوائل التاسع، وذلك نظرًا إلى خطِّها ولأن على صفحة العنوان قيدَ تملُّكٍ في سنة 805 هـ.
وهذه النسخة قرئت أيضًا على الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب (ت 1285)، فقد جاء في طرة (ق 11/ب) ما نصه:«بلغ قراءة على شيخنا عبد الرحمن بن حسن سلَّمه المنان» ، والظاهر أن المراد به حفيد إمام الدعوة، فإنه قد جاء في قيدٍ على صفحة العنوان:«عارية الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب» .
وهي نسخة جيِّدة، ومقابلة على أصلها المنسوخ منها كما يظهر من قيود المقابلة على بعض الصفحات واستدراكِ السقط في الهوامش مصححًا عليه. والظاهر أنها قوبلت على نسخة أخرى أيضا تشبه ش أو نسخة منقولة منها، وقد أُثبتت الفروق في الهامش مرموزًا لها بـ (خ).
4) نسخة تشستربيتي= ش
توجد هذه النسخة في مكتبة تشستربيتي برقم 3627 في 432 ورقة في جزءين: الجزء الأول منهما ينتهي بورقة 221، ثم الجزء الثاني إلى آخر النسخة، والترقيم مسلسل، وليس عليها تاريخ النسخ، إلّا أن الخط قديم يشبه أن يكون من القرن الثامن، وعلى صفحة الغلاف منها تملكٌ بخط متأخر وليس فيه تاريخ ونصه: «حسبي ربي، تملك هذا الكتاب والملك لله الواحد القهار: العبد المذنب صالح بن عمر المهندس الشامي مولدًا، غفر
الله لهما». وبجانبه تملك آخر لم يظهر فيه الاسم والتاريخ، يذكر فيه الكاتب أنه تملكه بالابتياع الشرعي. وهو بخطه كذلك على صفحة العنوان من الجزء الثاني (222/أ) حيث كتب: (صار هذا الجزء والأول قبله وهما جميع الكتاب ملكًا لكاتبه أفقر العباد إلى مولاه الغني الشريف محمد بن محمد بن أبي الخير الحسني الأرميوني المالكي المؤقت بالجامع الأزهر بالابتياع الشرعي من الشيخ محمد الشهاوي بمال قدره
…
) ثم مطموس. كما كتب أحدهم: «من كتب أبي الخير أحمد عفا الله عنه» . وعليه ختم «بنده خدا مصطفى» أي (عبد الله مصطفى)، وختم آخر لم يظهر المكتوب فيه.
والنسخة بخط نسخي جيد، في كل صفحة منها 31 سطرًا، وعليها آثار التصحيح والمقابلة، تدل عليه أيضًا الدائرة المنقوطة وكتابة «بلغ والحمد لله» في هوامش النسخة إلى آخرها.
ونجد في هامش الورقة (122/أ) بيت شعر للناسخ بقوله: «للكاتب في هذا المعنى:
وها أنا قد خرَّبتُ مصرًا لبغيتي
…
عمارة قصرٍ وهي ما حصلتْ بعدُ»
وبيت آخر في هامش الورقة (244/أ).
وفي هامش الورقة (152/أ) ذكر ما في نسخة (خ)، وقال:«كذا في نسخة صحيحة غير الصورة التي ذكرها الشارح» . وفي هامش الورقة (206/ب) إشارة إلى ما في نسخة «صحيح البخاري» بخط الصغاني خلاف ما في الكتاب.
وهذه التعليقات تدل على أن الناسخ عالم وشاعر. وعلى النسخة
تعليقات أخرى بخط آخر فيها شرح للغريب أو نقول من المصادر أو تتمة للشعر الذي أورده المؤلف، وأحيانًا بعض الأبيات الفارسية.
هذه النسخة هي النسخة الوحيدة الكاملة من النسخ القديمة التي بين أيدينا مع كونها من أصح النسخ وأقلِّها تصحيفا وسقطًا، بخط نسخي واضح، وفيها اهتمام بالضبط والشكل للكلمات الغريبة. وهي تتفق في الغالب مع نسخة حلب. وقد قوبلت على نسخة أخرى أشير إليها في الهوامش بعلامة (ظ).
5) نسخة قره جلبي زاده= ج
هذه النسخة في مكتبة قره جلبي زاده (ضمن المكتبة السليمانية في إستانبول) برقم 214، تحتوي على النصف الأول من الكتاب في 299 ورقة، وعنوانها «إرشاد السالكين إلى شرح منازل السائرين» وفي أولها فهرس ما في هذا المجلد من «المنازل». وعلى صفحة العنوان منها ختم «وقف حسين الشهير بقره جلبي زاده». وفي آخرها ذكر الناسخ وتاريخ النسخ بقوله: (نجز كتابةً على يد العبد الفقير إلى ربه القدير
…
أبي بكر بن أحمد بن محمد بن أحمد بن محمود بن عمر بن أبي بكر بن عترة المعروف بابن الشستري البعلبكي الحنبلي الصوفي
…
وكان الفراغ منه ضحى نهار الأحد سادس شهر ربيع الآخر من شهور سنة ثمانين وسبع مئة من الهجرة النبوية
…
).
والنسخة بخط نسخي جميل، في كل صفحة منها 21 سطرًا. وقد كتبت الفصول والمنازل والوجوه والعناوين فيها بالحبر الأحمر للتمييز، وهي نسخة مصححة ومقابلة على الأصل كما يظهر من هوامشها، وكتبت «بلغ مقابلة» أو «بلغ» عند نهاية كل عشرة أوراق. وفي آخر النسخة: «بلغ مقابلةً
على أصله المنقول منه حسب الطاقة
…
في ربيع الآخر من شهور سنة ثمانين وسبع مئة».
وفي الورقة (193/ب) ذكر المؤلف خمسة أبيات تائية لشيخ الإسلام، فذكر الناسخ تمام الأبيات المذكورة في الهامش. وفي هامش الورقة (226/أ) تعليق لأحد القراء حسن بن محمد الحنبلي ينفي التجسيم عن الحنابلة.
والنسخة في مجملها جيدة يقل فيها التحريف والسقط، والخلاف بينها وبين نسخة تشستربيتي قليل.
6، 7) نسخة ولي الدين بايزيد= ن، د
هذه النسخة ملفقة من نسختين تحتوي كل واحدة منهما على نصف الكتاب، وفيما يلي وصفهما:
أما النصف الأول فهو في مكتبة بايزيد (ولي الدين) باستانبول برقم 1730، في 282 ورقة، كتب بخط نسخي جيد، وفي آخره:(نجز بحمد الله وبركة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم (كذا) على يد كاتبه الفقير إلى الله تعالى الراجي عفوه ومغفرته ورحمته أحمد بن محمد بن محمود يماني الوطن مكي النسب عريب الشام من جملة المساكين
…
وذلك بتاريخ حادي عشري شهر رمضان المعظم من شهور سنة أربع وثمانين وسبع مئة، والحمد لله وحده، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. وحسبنا الله ونعم الوكيل).
وعلى النسخة (وقف الشيخ المعروف بجاوش زاده أحمد أفندي على العلماء ببلدته قسطنطينة
…
في المحرم الحرام سنة ثلاث وسبعين وألف).
وعليها ختمه بذلك. وعلى صفحة عنوانها: «من فضل الله على فقيره علت (؟) أحمد، سنة 981» . وعلى الصفحة التي بعدها: «في نوبة محمد بن علي المالكي» . وعليها أيضًا: «تملك أحمد بن عبد الله الكتبي حقًّا، كتب بدمشق ثاني عشري شهر المحرم سنة
…
وثمان مئة». وعليها بعض النقول عن شيخ الإسلام ابن تيمية وعن بعض التابعين، وأبيات ابن أبي العز الحنفي في مدح الكتاب التي ذكرناها في وصف نسخة قيون أوغلو.
والنسخة مصححة ومقابلة على الأصل كما يظهر من هوامشها، والظاهر أنها منقولة من نسخة جلبي زاده السابقة.
أما النصف الثاني فهو في المكتبة المذكورة برقم 1732، في 387 ورقة، يبدأ من منزلة الإيثار وينتهي بنهاية الكتاب. وفي آخره: (اتفق الفراغ من تحريره يوم الخميس وقتَ الضحى من سادس عشر شهر الله الأصم وهو رجب في سنة سبع وثمانين وسبع مئة بالرباط المعروف بالتربة النورية بمحلة التوثة بالجانب الغربي من مدينة السلام بغداد
…
على يد العبد الضعيف الفقير المحتاج إلى رحمة الملك الكبير عبد اللطيف بن علي بن يحيى بن مصطفى الرومي
…
). وكتب بعدها: «تمت المقابلة من النسخة المنقولة
…
». وفي الصفحة الأولى والأخيرة ختم «وقف شيخ الإسلام ولي الدين أفندي ابن المرحوم الحاج مصطفى آغا بن المرحوم الحاج حسين آغا سنة 1175» . وعلى الصفحة الأولى تملك، ونصه: «مما ساقه سائق التقدير إلى ملك عبده الفقير عبد الحليم بن الشيخ
…
(؟) قدم الكرمغاني، ناله العون الصمداني والفضل الرحماني، في جمادى الآخرة من شهور سنة ثلاث وستين وألف بثمن هو
…
والحمد لله وحده، وصلى الله على من لا نبي بعده» وتحته ختمه.
ونبَّه أحد القراء باللغة التركية على أن مؤلف الكتاب من أصحاب ابن تيمية، ورأيه في ابن عربي شديد. أما مؤلف المتن فهو من الصوفية. وفي هامش الورقة (308/أ): «كان ابن تيمية من علماء علم الظاهر، وصاحب هذا الشرح من تلامذته، وهم قد اختلفوا في الوصال واللقاء في حق النبي عليه السلام في ليلة المعراج، فكيف يسلَّم من كان منهم في غيره؟ ومن [أجل] هذا ترى الشارح أنه يسعى في تطبيق كلام الشيخ قدِّس سره بظاهر الشريعة مهما أمكن. فعليك بشرح عبد الرزاق الكاشاني لهذا المتن، وشرح عفيف الدين التلمساني، وشرح تسنيم
…
محمد
…
».
والورقتان الأوليان منه بخط حديث، وإلى جانب التصحيحات توجد على النسخة تعليقات في مواضع من القراء وخطّ النسخة خط التعليق. وهي توافق غالبًا نسخة حلب.
8) نسخة دار الكتب المصرية= ع
هي محفوظة بدار الكتب المصرية برقم (1522 - تصوف طلعت)، وتقع في 253 ورقة، في كل صفحة 25 سطرًا. وهذه النسخة كانت في جزئين، والموجود منها الجزء الأول من أول الكتاب إلى آخر منزلة الصدق. كتب الناسخ في آخرها:«تم الجزء الأول من شرح منازل السائرين بحمد الله في العشر الأول من ربيع الآخر سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة على يد سيِّد محمد الجمالي البخاري في البلدة الطيبة دمشق صانها الله تعالى عن الآفات» .
ميزة هذه النسخة أنها ترجع إلى أصل مستقل غير الأم التي انحدرت عنها النسخ الستّ الأولى على اختلاف أصولها. ومن ثم بعض الأسقاط
والتصحيفات التي اتفقت عليها النسخ المذكورة ــ ومنها النسخة المقروءة على المؤلف رحمه الله ــ لم يمكن استدراكها وتصحيحها إلا بمعونة هذه النسخة، غير أنها انفردت بزيادات كثيرة قصيرة أو طويلة، وبفروق كبيرة أحيانًا في النص، تنبئ بأن الأصل الذي ترجع إليها أقدم من أصل النسخ الأخرى، فيكون المؤلف قد حذف بعض النصوص التي كتبها أولًا أو صاغها بطريقة أخرى فيما بعد. ولنضرب أولا مثلا للحذف:
فصل النفاق في المجلد الأول من الكتاب يتضمن وصفًا طويلًا رائعًا للمنافقين، وقد بنى المؤلف رحمه الله سجعه على الآيات الواردة في صفاتهم (ص 536 - 552)، وجاء في آخره في نسخة دار الكتب النص الطويل الآتي:
يبدو لنا ــ والله أعلم ــ أن هذه العبارة كتبها المصنف أولًا، ثم رأى لأمر ما حذفها والاكتفاء بما سبق من الفقرات المسجوعة، ولذلك خلت منها النسخ الأخرى.
ومن أمثلة التعديل في الصياغة: ما جاء في نسخة دار الكتب (ل 49): «وهذا الموضع يكثر من غلط فيه من أكابر الشيوخ وأصحاب الإرادة ممن غلظ حجابه، والمعصوم من عصمه الله، وبالله المستعان والتوفيق والعصمة» .
وفي النسخ الأخرى: «وهذا الموضع ممّا غلِطَ فيه من أكابر الشُّيوخ وأصحاب الإرادة مَن غلِط، والمعصوم من عصَمه الله، وبالله المستعان» .
الظاهر ــ والله أعلم ــ أن المؤلف رحمه الله هو الذي عدَّل في العبارة الأولى، ولا شك أن الصياغة الثانية أقوى وأحسن.
والجدير بالذكر أن بعض الزيادات نبّه عليها فوق السطور بكتابة «من» في أولها «وإلى» في آخرها، وقد صرِّح أحيانًا بأنها ليست في الأصل، كما في ل 52، 57، 68.
وبالجملة فهذه الزيادات على ثلاثة أنحاء:
الأول: ما هو من كلام المؤلف قطعًا، وسقط من أصل سائر النسخ لانتقال النظر، والكلام لا يستقيم إلا به. انظر:(2/ 270). أو تدل صياغته على أنه كلام المؤلف لأنه تكلَّم فيه عن نفسه بصيغة المتكلم. انظر: (2/ 460).
الثاني: ما ليس من كلام المؤلف قطعًا بل هو إدراج وإقحام، كأن تكون
الزيادة في كلام لأحد المشايخ نقله المؤلف بالنص من «القشيرية» أو غيرها، وليست فيها هذه الكلمات الزائدة، فانظر على سبيل المثال:(2/ 237، 400، 560). أو أن تكون العبارة سليمة بدون هذه الزيادة، بل الزيادة تفسد السياق وتُذهب المعنى. انظر:(2/ 22، 622).
الثالث: زيادات محتمِلة للأمرين، كأن تكون زيادة كلمة أو كلمات تستقيم العبارة بدونها، فيحتمل أن تكون من كلام المؤلف وسقطت من أصل بقية النسخ ــ وهو بعيد أن يكون بهذه الكثرة ــ، ويحتمل أن تكون أَدرجها الناسخ أو غيره. وكثير من هذه الزيادات لا يزيد المعنى شيئًا، وإنما هو حشو بعطف كلمة مرادفة، أو زيادة وصف مؤكد، أو إظهار للمضمر، ونحو ذلك. فمثلًا في (2/ 524) قال المؤلف:«فأنَّى له بالخلاص من تلك الأشراك؟» فزيد في هذه النسخة: «والشِّباك» . وفي (2/ 568) قال المؤلف: «منعه على استحياء» فزيد فيها: «وإغماض» . وفي (2/ 368) قال المؤلف: «الطغيان، وهو مجاوزة الحدود» فزيد فيها: «في كلِّ شيء» . وفي (2/ 96) ذكر المؤلف خبرًا إسرائيليًّا أن إبليس عرض ليحيى بن زكريا عليهما السلام، «فقال له
…
فقال
…
فقال
…
» بإضمار القائل لوضوحه من السياق، فأُظهر في هذه النسخة القائل في هذه المواضع: «فقال له يحيى
…
فقال يحيى
…
فقال إبليس
…
». وفي (2/ 601) قال المؤلف: «إذ منفعة الشُّكر ترجع إلى العبد» فزيد فيها: «دنيا وآخرةً» .
ومن هذا النوع الثالث أيضًا زيادة آية أو آيات أو أحاديث في بعض المواضع، كأن يكون المؤلف استشهد بآية على مطلب ما، فتُزاد فيها آيات أخر تتعلق به. انظر:(2/ 259، 305، 611).
ومن أجل هذه الزيادات التي لا يوثق بكونها من المؤلف، قد تعاملنا مع هذه النسخة بالحذر والحيطة، فأخذنا بالزيادات التي نقطع بأنها من المؤلف أو التي يغلب على الظن أنها كذلك، وأما سائرها فذكرناها في الهامش.
وأما السقط والتصحيف، فهذه النسخة لا تخلو منهما مثل النسخ الأخرى.
9) النسخة التيمورية= ت
نسخة محفوظة في دار الكتب المصرية رقم 26772 - تصوّف تيمور رقم 155، وهي تمثل الجزء الثاني من الكتاب، يقع هذا المجلد في 161 ورقة، في كل ورقة 33 سطرا في كل سطر نحو 15 كلمة، وخطها نسخيّ حسن، وعلى هوامشها العديد من التعليقات لبيان مباحث الكتاب أو شرح كلمة أو لحق ..
وهي نسخة يمنيّة؛ فناسخها يمني، ونُسخت لأحد أمراء اليمن، ومتملّكوها من اليمن كما هو مقيّد في الورقة الظّهْرية، ثم آلت إلى ملكية العلامة أحمد تيمور باشا بمصر. كتبت سنة 1186 بخط عبد الله بن محمد بن ناصر اليزيدي، كتبها لفخر الدين والإسلام عبد الله بن محيي الدين، كما ذكر في ختام نسخه. وهي منقولة عن نسخة متقدمة كتبت في خمس وعشرين من ربيع الأول سنة 765 بخط عمر بن حمزة بن يونس. والنسخة جيدة في الجملة.
كتب عنوان الكتاب في أعلى الصفحة الظهرية ضمن إطار، وتحته اسم مؤلفه، وفي أسفل الصفحة كتبت الموضوعات التي تضمنها هذا الجزء،
وكتبت على غلافه عدة تملكات بعضها بالقسمة للتركة وبعضها بالشراء الشرعي.
وفي الصفحة الثانية بعد العنوان كتبت عدة أبيات كتبها إسماعيل بن محمد بن إسحاق حين تمام نسخ الجزء الثاني من المدارج لشيخه البدر محمد بن إسماعيل الأمير مع إرجاع النسخة مضمنا أشطارًا من أبيات المتنبي المشهورة:
قفْ وارْوِ لابن القيم الشرح الذي
…
منه المنازل حسنها متكامل
واعكف عليه منشدًا من شرحها
…
«لكِ يا منازلُ في القلوب منازلُ»
واشكر فوائده وقل لسواه قد
…
كشف الغطا عن خافيات رموزها
…
إلى آخرها في سبعة وعشرين بيتًا.
وفي الصفحة نفسها أنشد ثلاثة أبيات لشيخه الملوحي رحمه الله مطلعها:
يا من تكبّر في الأنام وقد عَتَا
…
وحِجَاه عن سُبْل السلام تشتَّتا
10) نسخة مكتبة سليمان بن عبدالله سليمان= ر
نسخة متأخرة من مقتنيات مكتبة سليمان بن عبد الله سليمان الخاصة. موجود منها المجلد الأول في 176 ورقة، والثالث في 166 ورقة. كتبت يوم الخميس 13 رجب 1315 هـ بخط صالح بن محمد بن حمد بن محمد بن سليمان بن جبير كما جاء في آخرها. وقال: إنه قابلها على أصلها من نسخة ذَكَر صاحبُها أنها نُقلت من نسخة منقولة عن نسخة منقولة عن نسخة قُرئت على المصنف رحمه الله تعالى وعليها خطه، فصحت بحمد الله، إلا ما زاغ
عنه البصر أو طغى، أو سبق به القلم، والله أعلم.
وفي أولها نص وقفية للكتاب من قبل ناسخه على طلبة العلم من أهل المَجْمَعة، وجعل النظارة عليه له في حياته ولذريته بعد وفاته، وأشْهَد عليه شاهدين، وكتب الوقفية عبدالعزيز بن عثمان بن ركبان سنة 1323 هـ.
وفي آخرها ترجمة مختصرة للمؤلف في عدة أسطر، ثم خمسة أبيات في الثناء على الصالحين منسوبة لبعض أهل العلم.
وهذه النسخة جيدة في الجملة، وتمتاز ببعض الزيادات في مواضع متعددة كلمة أو كلمتين، وقد تصل سطرًا في أحيان قليلة، وكان تعاملنا مع هذه الزيادات بحسب ما يقتضيه النص، فالزيادة اللازمة أضيفت في مكانها، والتي لم نثبتها في المتن نبهنا عليها في الهامش ما دام النص لا يختل بدونها.
وهناك نسخ أخرى متأخرة للكتاب كتبت في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، فلم نعتمد عليها، وبعضها ليس عليها تاريخ النسخ ولكنها بخط حديث. ولا فائدة من الإشارة إلى هذه النسخ، وإنما نذكر هنا بعض النسخ القديمة التي سعينا للحصول عليها ولم نفلح في ذلك، ولعلنا نتمكن من الاستفادة منها في المستقبل إن شاء الله:
1 -
المكتبة الوطنية بفينا [1547 Mixt](308 ورقة، كتبت سنة 779. تحتوي على النصف الأول من الكتاب).
2 -
الإسكوريال [716](الجزء الأول، 284 ورقة، ليس عليها تاريخ النسخ).
3 -
الآصفية بحيدرآباد [تصوف 225 - 225](في مجلدين).
4 -
دار الكتب المصرية [103 تصوف قوله](328 ورقة، كتبت سنة 936).
5 -
مكتبة طهران الملية [255234](360 ورقة، كتبت سنة 988).
* * * *
خطابٌ ملكيٌّ. وهو نوعان:
أحدهما: خطابٌ يسمعه بأذنه، وهو
(1)
نادرٌ بالنِّسبة إلى عموم المؤمنين.
والثّاني: خطابٌ يُلقى في قلبه، يخاطب به الملَكُ روحَه، كما في الحديث المشهور:"إنّ للملك لَمَّةً بقلب ابن آدم، وللشّيطان لَمَّةً. فلمَّةُ الملك: إيعادٌ بالخير وتصديقٌ بالوعد. ولمّةُ الشّيطان إيعادٌ بالشّرِّ وتكذيبٌ بالوعد". ثمَّ قرأ قوله
(2)
: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} [البقرة: 268]
(3)
.
وقال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال: 12]. قيل في تفسيرها: قوُّوا قلوبهم، وبشِّروهم بالنّصر. وقيل: احضروا معهم القتال
(4)
. والقولانِ حقٌّ، فإنّهم حضروا معهم القتال، وثبَّتوا قلوبَهم.
(1)
ع: "فهو".
(2)
"قوله" ساقط من ع.
(3)
أخرجه الترمذي (2988) والبزار (5/ 394) والنسائي في "الكبرى"(10985) وأبو يعلى (4999) وابن حبان (997) والبيهقي في "شعب الإيمان"(4187) من حديث عبد الله بن مسعود مرفوعًا. قد اختُلِف في رفعه ووقفه، فرجَّح أبو حاتم وأبو زرعة وقفَه كما في "العلل" لابن أبي حاتم (2224). وانظر:"العلل الكبير" للترمذي (654). والأثر الموقوف أخرجه ابن المبارك في "الزهد"(1/ 503 - رواية الحسين المروزي) وأحمد في "الزهد"(859 - دار ابن رجب) وأبو داود في "الزهد"(164) والطبراني (9/ 101) من طرق عن ابن مسعود.
(4)
عبارة البغوي: "قيل: ذلك التثبيت حضورُهم معهم القتالَ ومعونتُهم. أي: ثبِّتوهم بقتالكم معهم المشركين". وقال المؤلف في "الصواعق" كما جاء في "مختصره"(3/ 843): "فهؤلاء ملائكة معيَّنون، وهم الذين أنزلهم الله تعالى يوم بدر للقتال مع المؤمنين".
ومن هذا الخطاب: واعظُ الله في قلوب عباده المؤمنين، كما في "جامع التِّرمذيِّ" و"مسند أحمد"
(1)
من حديث النَّوَّاس بن سَمْعان عن النّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ الله تعالى ضرب مثلًا صراطًا مستقيمًا، وعلى كتفَي الصِّراط سوران لهما أبوابٌ مفتَّحةٌ. وعلى الأبواب ستورٌ مرخاةٌ، وداعٍ يدعو على رأس الصِّراط، وداعٍ يدعو فوق الصِّراط. فالصِّراط المستقيم الإسلام، والسُّوران حدود الله، والأبواب المفتَّحة محارم الله. فلا يقع أحدٌ في حدٍّ من حدود الله حتّى يكشف السِّتر. والدّاعي على رأس الصِّراط كتاب الله، والدّاعي فوق الصِّراط واعظُ الله في قلب كلِّ مؤمنٍ". هذا
(2)
أو معناه. فهذا الواعظ في قلوب المؤمنين هو الإلهام الإلهيُّ بواسطة الملائكة.
وأمّا وقوعه بغير واسطةٍ فممَّا
(3)
لم يتبيَّن بعدُ، والجزمُ فيه بنفيٍ أو إثباتٍ موقوفٌ على الدّليل. والله أعلم.
(1)
الترمذي (2859) وأحمد (17634، 17636). وأخرجه أيضًا ابن أبي عاصم في "السنة"(18 - الظلال) وابن نصر في "السنة"(9، 10 - غراس) والنسائي في "الكبرى"(11169) والطحاوي في "مشكل الآثار"(2142، 2143) والطبراني في "مسند الشاميين"(1147) والحاكم (1/ 73) من طريقين حسنَين عن جبير بن نفير عن النواس بن سمعان به. والحديث صححه الحاكم والألباني.
(2)
م: "فهذا" ويبدو أنه كان كذا في ق، ل، فغيِّر في ق إلى "بهذا" كما في ج، وغيِّر في ل إلى "هذا" كما في ش. ولم يرد "هذا أو معناه" في ع.
(3)
كان في الأصل: "فما"، ولا غبار عليه، ولكنه أصلح كما في النسخ الأخرى.
فصل
النّوع الثّاني من الخطاب المسموع: خطاب الهواتف من الجانِّ، فقد يكون المخاطِبُ جنِّيًّا مؤمنًا صالحًا، وقد يكون شيطانًا مُغْوِيًا. وهذا أيضًا نوعان:
أحدهما: أن يخاطبه خطابًا يسمعه بأذنه.
والثّاني: أن يلقي في قلبه عندما يُلِمُّ به. ومنه وعدُه وأمنيَّتُه حين يعِدُ الإنسيَّ ويمنِّيه، ويأمره وينهاه، كما قال تعالى:{يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ}
(1)
[النساء: 120]. وقال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 268].
وللقلب من هذا الخطاب نصيبٌ، وللأذن أيضًا منه نصيبٌ، والعصمة منتفيةٌ إلّا عن الرُّسل ومجموع الأمّة.
فمن أين للمخاطَبِ أنَّ هذا الخطاب رحمانيٌّ أو ملكيٌّ؟ بأيِّ برهانٍ وبأيِّ دليلٍ؟ والشّيطانُ يقذف في النّفس وحيَه، ويُلقي في السَّمع خطابَه، فيقول المغرور المخدوع: قيل لي، وخُوطِبتُ. صدقتَ، لكنَّ الشّأن في القائل لك والمخاطِبِ! وقد قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه لغَيلان بن سَلَمة ــ وهو من الصّحابة ــ لمّا طلَّق نساءه، وقسَّم ماله بين بنيه: إنِّي لأظنُّ الشّيطان ــ فيما يَسترِقُ من السَّمْع ــ سمِعَ بموتك، فقذَفه في نفسك
(2)
.
(1)
في ع زيادة: {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} .
(2)
أخرجه أحمد (4631) وابن حبان (4156) من حديث معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. قال الحافظ في "نتائج الأفكار" بعد تخريجه: "هذا موقوف صحيح"، انظر:"الفتوحات الربانية" لابن علَّان (4/ 214).
فمَن يأمنُ القُرَّاءُ بعدَك يا شَهْرُ
(1)
!
فصل
النوع الثالث: خطابٌ خياليٌّ، تكون بدايتُه من النّفس، وعودُه إليها، فيثق بأنه
(2)
من خارجٍ، وإنّما هو من نفسه، منها بدأ وإليها يعود!
وهذا كثيرًا
(3)
ما يعرض للسّالك، فيغلط فيه، ويعتقد أنّه خطابٌ من الله عز وجل، كلَّمه به منه إليه. وسببُ غلطه أنَّ اللّطيفة المدركة من الإنسان إذا صفَت من الرِّياضة، وانقطعت عُلَقُها
(4)
من الشّواغل الكثيفة، صار الحكمُ لها، بحكمِ استيلاءِ الرُّوح والقلب على البدن ومصيرِ الحكم لهما. فتنصرف عنايةُ النّفس والقلب إلى تجريد المعاني التي هي متّصلةٌ بهما، وتشتدُّ عناية الرُّوح بها، وتصير في محلِّ تلك العلائق والشّواغل، فتملأ القلبَ، فتصرف
(5)
تلك المعاني إلى النطق
(6)
والخطاب القلبيِّ الرُّوحيِّ بحكم
(1)
يعني: شهر بن حَوشَب. وصدر البيت:
لقد باع شهرٌ دينَه بخريطة
روي أن شهرًا كان على خزائن يزيد بن المهلَّب، فرُفِع عليه بأنه أخذ خريطة. فقال القطامي الكلبي ــ ويقال: سنان بن مكمل النميري ــ هذا الشعر. وضرب المثل بخريطة شهر. انظر: "تاريخ الطبري"(6/ 538 - 539)، و"المعرفة والتاريخ"(2/ 98)، و"ثمار القلوب" (ص 169). وانظر:"سير أعلام النبلاء"(4/ 375).
(2)
ع: "فيتوهَّمه". وغيِّر في ل إلى: "فيتوهم أنه".
(3)
ل، ش:"كثير". وفي ج: "كثير مما يعرض".
(4)
ضبطت العين في الأصل وع بالضم.
(5)
ش: "فتنصرف"، وأشير إلى هذه النسخة في هامش م.
(6)
ع: "المنطق".
العادة. ويتّفق تجرُّدُ الرُّوح، فتَشَكَّلُ
(1)
تلك المعاني للقوّة السّامعة بشكل الأصوات المسموعة، وللقوّة الباصرة بشكل الأشخاص المرئيّة. فيرى
(2)
صورها، ويسمع الخطاب، وكلُّه في نفسه، ليس في الخارج منه شيءٌ. ويحلف أنّه رأى وسمع؛ وصدَق، لكن رأى وسمع في الخارج، أو في نفسه؟ ويتّفق ضعفُ التّمييز، وقلّةُ العلم، واستيلاءُ تلك المعاني على الرُّوح، وتجرُّدُها عن الشّواغل.
فهذه الوجوه الثّلاثة هي وجوه الخطاب، فلا يُسمَعُ غيرها، فإنّما هو
(3)
غرورٌ وخدعٌ وتلبيسٌ. وهذا الموضع مقطع القوم
(4)
، وهو من أجلِّ المواضع لمن حقَّقه وفَهِمَه. والله الموفِّق للصّواب.
فصل
قال
(5)
: "الدرجة الثانية: إلهامٌ يقع عيانًا. وعلامة صحّته أنّه لا يخرِق سِترًا، ولا يجاوز حدًّا، ولا يخطئ أبدًا".
الفرق بين هذا وبين الإلهام في الدّرجة الأولى: أنّ ذلك علمٌ شبيهٌ بالضّروريِّ الذي لا يمكن دفعه عن القلب، وهذا معاينةٌ ومكاشفةٌ. فهو
(6)
(1)
ش: "فتُشَكِّل".
(2)
ما عدا ع: "فترى". و"يسمع" فيما يأتي بإهمال أوله في ع، وفي غيرها:"تسمع".
(3)
ع: "تسمع
…
هي".
(4)
أثبت الفقي: "مقطع القول"، وما ورد في النسخ صواب. انظر:(2/ 483).
(5)
"المنازل"(ص 66). وفي هامش الأصل بإزاء هذا السطر: "بلغ قراءة ومقابلة على مصنفه فسح الله في مدَّته"، وهذا أول موضع ورد فيه البلاغ المذكور.
(6)
ما عدا ع: "وهو".
فوقه في الدّرجة، وأتمُّ منه ظهورًا، ونسبتُه إلى القلب نسبةُ المرئيِّ إلى العين. وذكر له ثلاث علاماتٍ:
أحدها
(1)
: أنّه لا يخرق سترًا، لأنَّ صاحبه إذا كُوشِفَ بحال غيره المستور عنه لا يخرق سِترَه ويكشفه، خيرًا كان أو شرًّا؛ أو أنّه لا يخرق ما ستره الله تعالى من نفسه عن النّاس، بل يستُر نفسَه ويستُر من كوشف بحاله.
الثانية: أنّه لا يجاوز حدًّا، يحتمل وجهين: أحدهما: أنّه لا يتجاوز به إلى ارتكاب المعاصي وتجاوز حدود الله تعالى، مثل كشف الكهّان والكشف الشّيطانيِّ. الثّاني: أنّه لا يقع على خلاف الحدود الشّرعيّة، مثل أن يتجسَّس به العوراتِ التي نهى الله عن التّجسُّس عليها وتتبُّعها. فإذا تتبَّعها ووقع عليها بهذا الكشف، فهو شيطانيٌّ لا رحمانيٌّ.
الثالثة: أنّه لا يخطئ أبدًا، بخلاف الشّيطانيِّ فإنّ خطأه كثيرٌ، كما قال النّبيُّ صلى الله عليه وسلم لابن صائدٍ:"ما ترى؟ ". قال: أرى صادقًا وكاذبًا. فقال: "لُبِّس
(2)
عليك"
(3)
. فالكشف الشّيطانيُّ لا بدّ أن يكذب، ولا يستمرُّ صدقُه البتّة
(4)
.
فصل
قال
(5)
: (الدرجة الثالثة: إلهامٌ يجلو عينَ التّحقيق صرفًا، وينطق عن
(1)
كذا في الأصل وغيره بدلًا من "إحداها"، ومثله شائع في كتب المصنف.
(2)
الضبط من ل، ع، ش.
(3)
أخرجه البخاري (1354) ومسلم (2930) عن ابن عمر رضي الله عنهما بنحوه.
(4)
بعده في ع: "والله أعلم".
(5)
"المنازل"(ص 66). وفيه: "عن الإشارة"، والمؤلف صادر عن "شرح التلمساني"(2/ 364).
عين الأزل محضًا. والإلهام غايةٌ تمتنع الإشارة إليها).
عينُ التّحقيق عنده هي الفناء في شهود الحقيقة، بحيث يضمحلُّ كلُّ ما سواها في ذلك الشُّهود، وتعود الرُّسومُ أعدامًا
(1)
محضةً. فالإلهام في هذه الدّرجة يجلو هذه العين للملهَم صِرْفًا، بحيث لا يمازجها شيءٌ من إدراك العقول ولا الحواسِّ، فإن كان هناك إدراكٌ عقليٌّ أو حسِّيٌّ لم يتمحَّض جلاء عين الحقيقة. والنّاطق عن هذا الكشف عندهم لا يفهم عنه إلّا من هو معه، ومشاركٌ له. وعند أرباب هذا الكشف أنّ كَلَّ الخلق عنه في حجابٍ، وعندهم أنّ العلم والعقل والحال حُجُبٌ عليه، وأنّ خطاب الخلق إنّما يكون على لسان الحجاب، وأنّهم لا يفهمون لغة ما وراء الحجاب من المعنى المحجوب؛ فلذلك تمتنع الإشارة إليه والعبارة عنه، فإنّ الإشارة والعبارة إنّما يتعلَّقان بالمحسوس أو المعقول، وهذا أمرٌ وراء الحسِّ والعقل
(2)
.
وحاصل هذا الإلهام أنّه إلهامٌ ترتفع معه الوسائط كلهُّا وتضمحلُّ وتعدَم، لكن في الشُّهود لا في الوجود. وأمّا الاتِّحاديّة القائلون بوحدة الوجود فإنّهم يجعلون ذلك اضمحلالًا وعدمًا
(3)
في الوجود، ويجعلون صاحب
(1)
ما عدا ع: "أعلاها" وهو تحريف. وكان "تعود" مهملًا في الأصل فوضع بعضهم نقطتين ليقرأ: "نفوذ" كما في النسخ الأخرى ما عدا ع، وهذا تصحيف أيضًا.
(2)
انظر: "شرح التلمساني"(2/ 362 - 366) وقد صدر المؤلف عنه في بعض تفسيره لدرجات الإلهام الثلاث.
(3)
ق، ج:"وعلى ما"، تحريف، وقد أصلح في ل. ويظهر أنه كان في م، ش على الصواب فغيَّره بعضهم إلى الخطأ.
"المنازل" منهم، وهو بريءٌ منهم عقلًا ودينًا وحالًا ومعرفةً. والله أعلم
(1)
.
فصل
المرتبة العاشرة من مراتب الهداية: الرُّؤيا الصّادقة.
وهي من أجزاء النُّبوّة كما ثبت عن النّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "الرُّؤيا الصّادقة جزءٌ من ستّةٍ وأربعين جزءًا من النُّبوّة"
(2)
.
وقد قيل في سبب هذا التّخصيص بالعدد
(3)
المذكور: إنّ أوّل مبدأ الوحي
(4)
كان هو الرُّؤيا الصّادقة، وذلك نصف سنةٍ. ثمّ انتقل إلى وحي اليقظة مدّة ثلاثٍ وعشرين سنةً من حين بُعِث إلى أن توفِّي صلوات الله وسلامه عليه. فنسبةُ مدّة الوحي في المنام من ذلك جزءٌ من ستّةٍ وأربعين جزءًا
(5)
.
وهذا حسنٌ، لولا ما جاء في الرِّواية الأخرى الصّحيحة
(6)
: "إنّها جزءٌ
(1)
الجملة "والله أعلم" ساقطة من ل.
(2)
أخرجه البخاري (6987) ومسلم (2264) من حديث عبادة بن الصامت، وفيه:"رؤيا المؤمن". وفي حديث أبي سعيد في البخاري (6989): "الرؤيا الصالحة"، وكذا في حديث أبي هريرة في مسلم (2263/ 8).
(3)
"بالعدد" ساقط من ع.
(4)
ع: "مبتدأ الوحي".
(5)
نقله الخطابي عن "بعض أهل العلم" في "أعلام الحديث"(4/ 2315)، و"معالم السنن" (4/ 139). وقال ابن بطال أيضًا في "شرح البخاري" (9/ 518):"ذكره أبو سعيد السفاقسي عن بعض أهل العلم".
(6)
أخرجها مسلم (2265) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وقد ذكرها المؤلف هنا بالمعنى.
من سبعين جزءًا". وقد قيل في الجمع بينهما
(1)
: إن ذلك بحسب حال الرّائي، فإنّ رؤيا الصِّدِّيقين من ستّةٍ وأربعين، ورؤيا عموم المؤمنين الصادقين من سبعين. والله أعلم.
والرُّؤيا مبدأ الوحي، وصدقها بحسب صدق الرّائي، وأصدق النّاس رؤيا أصدقهم حديثًا. وهي عند اقتراب الزّمان لا تكاد تخطئ، كما قال النّبيُّ صلى الله عليه وسلم
(2)
. وذلك لبعد العهد بالنُّبوّة وآثارها، فيعوَّض المؤمنون بالرُّؤيا. وأمّا في زمن قوّة نور النُّبوّة، ففي ظهور نورها وقوّته ما يُغني عن الرُّؤيا. ونظير هذا: الكرامات التي ظهرت بعد عصر الصّحابة رضي الله عنهم، ولم تظهر عليهم لاستغنائهم عنها بقوّة إيمانهم، واحتياجِ مَن بعدهم إليها لضعف إيمانهم. وقد نصَّ أحمد رضي الله عنه على هذا المعنى.
قال
(3)
عبادة بن الصّامت رضي الله عنه: رؤيا المؤمن كلامٌ يكلِّم به الرَّبُّ عبدَه في المنام
(4)
.
(1)
هذا الجمع قال به أبو جعفر الطبري في "تهذيب الآثار"، ذكره ابن بطال (9/ 515 - 516).
(2)
انظر حديث أبي هريرة رضي الله عنه في "صحيح البخاري"(7017) و"صحيح مسلم"(2263).
(3)
ع: "وقال".
(4)
لم أجده موقوفًا، وقد أخرجه الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"(494) وابن أبي عاصم في "السنة"(496) والدولابي في "الكنى والأسماء"(2/ 873 - نشرة الفاريابي) والطبراني ــ ومن طريقه الضياء في "المختارة"(8/ 275) ــ، من طريقين عن عثمان بن سعيد بن كثير، عن محمد بن مهاجر، عن جنيد بن ميمون، عن حمزة بن الزبير، عن عُبادة مرفوعًا. وإسناده ضعيف، جنيد بن ميمون مجهول كما قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(7/ 362) والألباني في "ظلال الجنة"(1/ 213)، وحمزة بن عبد الله بن الزبير لم يوثقه غير ابن حبان. وانظر:"الفتح"(12/ 354).
وله طريق آخر عند ابن أبي عاصم (497) عن عُبادة مرفوعًا. وفي إسناده حميد بن عبد الرحمن، لم يوثقه غير ابن حبان. وانظر:"ظلال الجنة"(1/ 214).
وقد قال النّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "لم يبق من النُّبوّة إلّا المبشِّرات". قيل: وما المبشِّرات يا رسول الله؟ قال: "الرُّؤيا الصّالحة يراها المؤمن أو تُرى له"
(1)
.
وإذا تواطأت رؤيا المسلمين لم تكذِبْ. وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه لمّا أُرُوا ليلةَ القدر في العشر الأواخر
(2)
: "أرى رؤياكم قد تواطأت في العشر الأواخر، فمن كان منكم متحرِّيها فليتحرَّها في العشر الأواخر من رمضان"
(3)
.
والرُّؤيا كالكشوف، منها رحمانيٌّ، ومنها نفسانيٌّ، ومنها شيطانيٌّ. وقال النّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"الرُّؤيا ثلاثةٌ: رؤيا من الله، ورؤيا تحزينٌ من الشّيطان، ورؤيا ممّا يحدِّث به الرّجلُ نفسَه في اليقظة فيراه في المنام"
(4)
. والذي هو من أسباب
(1)
انظر حديث أبي هريرة في "صحيح البخاري"(6990)، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما في "صحيح مسلم"(479).
(2)
فوقه في ع: "قال" مع علامة صح بخط الناسخ.
(3)
أخرجه البخاري (1158) ومسلم (1165) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. ولفظ مسلم: "في السبع الأواخر".
(4)
أخرجه البخاري (7017) ومسلم (2263) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقد سبقت الإحالة عليه قريبًا في ذكر الرؤيا عند اقتراب الزمان.
الهداية هو الرُّؤيا التي من الله خاصّةً.
ورؤيا الأنبياء عليهم السلام وحيٌ، فإنّها معصومةٌ من الشّيطان، وهذا باتِّفاق الأمّة. ولهذا أقدم الخليلُ عليه السلام على ذبح إسماعيل بالرُّؤيا. وأمّا رؤيا غيرهم، فتُعْرَض على الوحي الصَّريح، فإن وافقته وإلّا لم يعمل بها.
فإن قيل: فما تقولون إذا كانت رؤيا صادقةٌ، أو تواطأت؟
قلنا: متى كانت كذلك استحال مخالفتها للوحي. بل لا تكون إلّا مطابقةً له، منبِّهةً عليه، أو منبِّهةً على اندراج قضيّةٍ خاصّةٍ في حكمه، لم يعرف الرّائي اندراجها فيه، فيُنَبَّه بالرُّؤيا على ذلك. ومن أراد أن تصدق رؤياه فليتحرَّ الصِّدقَ وأكلَ الحلال والمحافظةَ على الأمر والنّهي، ولينم على طهارةٍ كاملةٍ مستقبلَ القبلة، ويذكر الله حتّى تغلبه عيناه؛ فإنّ رؤياه لا تكاد تكذب البتّة.
وأصدَقُ الرُّؤيا: رؤيا الأسحار
(1)
، فإنّه وقت للنُّزولِ
(2)
الإلهيِّ وسكونِ
(1)
أخرجه أحمد (11240، 11650) والدارمي (2192) والترمذي (2274) وأبو يعلى (1357) وابن حبان (6041) والحاكم (4/ 392) وغيرهم من حديث دراج أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. قال أحمد: أحاديث دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد فيها ضعف، وقال النسائي: دراج منكر الحديث، وقال ابن عدي بعد ما أورد هذا الحديث وغيره:"وعامة هذه الأحاديث التي أمليتها مما لا يتابع دراج عليه". ينظر: "الكامل"(4/ 486 - 493؛ نشرة السرساوي) و"الضعيفة"(1732).
(2)
ش، ج، ع:"النزول"، وكذا كان في الأصل قبل الإصلاح.
الشّياطين. وعكسه رؤيا العَتَمة عند انتشار الشّياطين والأرواح الشّيطانيّة.
وقال عبادة بن الصّامت رضي الله عنه: رؤيا المؤمن كلامٌ يكلِّم به الرّبُّ عبدَه في المنام
(1)
.
وللرُّؤيا ملكٌ موكَّلٌ بها، يُريها العبد في أمثالٍ تناسبه وتشاكله، فيضربها لكلِّ أحدٍ بحسبه. وقال مالكٌ رضي الله عنه:"الرُّؤيا من الوحي"
(2)
، وزجَر عن تفسيرها بلا علمٍ، وقال: أيُتلاعب بوحي الله تعالى؟
(3)
.
ولذكر الرُّؤيا وأحكامها وتفاصيلها وطرق تأويلها مظانُّ مخصوصةٌ بها، يُخرجنا ذكرُها عن المقصود. والله أعلم.
فصل
في بيان اشتمال الفاتحة على الشفاءين: شفاء القلوب وشفاء الأبدان
فأمّا اشتمالها على شفاء القلوب، فإنّها اشتملت عليه أتمَّ اشتمالٍ، فإنّ مدار اعتلال القلوب وأسقامها على أصلين: فساد العلم، وفساد القصد. ويترتّب عليهما داءان قاتلان، وهما الضّلال والغضب. فالضّلال نتيجة فساد العلم، والغضب نتيجة فساد القصد؛ وهذان المرضان هما ملاك أمراض القلوب جميعها.
(1)
تقدم تخريجه قريبًا.
(2)
في هامش ع: "وحيٌ" مع علامة صح.
(3)
حكاه ابن عبد البر في "التمهيد"(1/ 288) ولفظه: "قيل لمالك رحمه الله: أيعبُر الرؤيا كلُّ أحد؟ فقال: أبالنبوة يُلعب؟
…
ثم قال: الرؤيا جزء من النبوة، فلا يتلاعب بالنبوة".
فهداية الصِّراط المستقيم تتضمّن الشِّفاء من مرض الضّلال. ولذلك
(1)
كان سؤال هذه الهداية أفرضَ دعاءٍ على كلِّ عبدٍ، وأوجبَه عليه كلَ يومٍ وليلةٍ في كلِّ صلاةٍ، لشدّة ضرورته وفاقته إلى الهداية المطلوبة، ولا يقومُ غيرُ هذا السُّؤال مقامَه.
والتَّحقُّقُ
(2)
بـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} علمًا ومعرفةً وعملًا وحالًا يتضمّن الشِّفاء من مرض فساد القصد
(3)
. فإنَّ فسادَ القصد يتعلَّق بالغاية
(4)
والوسائل، فمن طلب غايةً منقطعةً مضمحلّةً فانيةً، وتوسَّل إليها بأنواع الوسائل الموصلة إليها كان كلا نوعي قصده فاسدًا. وهذا شأن كلِّ من كان غاية طلبه
(5)
غيرَ الله وعبوديَّته من المشركين ومتَّبعي
(6)
الشّهوات الذين لا غاية لهم وراءها، وأصحاب الرِّياسات المتَّبعين لإقامة رياستهم بأيِّ طريقٍ كان من حقٍّ أو باطلٍ. فإذا جاء الحقُّ معارضًا في طريق رياستهم طحنوه وداسوه بأرجلهم. فإن عجزوا عن ذلك دفعوه دفعَ الصَّائل. فإن عجزوا عن ذلك حبسوه في الطّريق، وحادوا عنه إلى طريقٍ أخرى. وهم مستعدُّون لدفعه بحسب الإمكان، فإذا لم يجدوا منه بدًّا أعطوه السِّكَّة والخطبة، وعزلوه عن التّصرُّف والحكم والتّنفيذ. وإن جاء الحقُّ ناصرًا لهم وكان لهم صالوا به
(1)
ش: "ولهذا".
(2)
ل، ج، ع:"والتحقيق".
(3)
ع: "القلب والقصد".
(4)
ع: "بالغايات".
(5)
ع: "مطلوبه".
(6)
ع: "مبتغي".
وجالوا، وأتوا إليه مذعنين، لا لأنّه حقٌّ، بل لموافقةِ غرضهم وأهوائهم، وانتصارهم به. {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [النور: 48 - 50].
والمقصود: أنّ قصد هؤلاء فاسدٌ في غاياتهم ووسائلهم. وهؤلاء إذا بطلت الغايات التي طلبوها واضمحلَّتْ وفنيَتْ، حصلوا على أعظم الخسران والحسرات. وهم أعظم النّاس ندامةً وتحسُّرًا إذا حقَّ الحقُّ وبطَلَ الباطلُ، وتقطَّعت بهم الأسبابُ والوُصَلُ
(1)
التي كانت بينهم، وتيقَّنوا انقطاعَهم عن ركب الفلاح والسَّعادة. وهذا يظهر كثيرًا في الدُّنيا، ويظهر أقوى من ذلك عند الرَّحيل منها والقدوم على الله تعالى. وسيكثُر
(2)
ظهورُه وتحقُّقه في البرزخ، وينكشف كلَّ الانكشاف يوم اللِّقاء إذا حقَّت الحقائق، وفاز المُحِقُّون، وخَسِر المبطلون، وعلموا أنّهم كانوا كاذبين، وكانوا مخدوعين مغرورين. فياله هنالك من علمٍ لا ينفع عالمَه، ويقينٍ لا يُنجي مستيقنَه.
وكذلك من طلب الغاية العليا والمطلب الأعلى، ولكن لم يتوسَّل إليه بالوسيلة المُوصِلة له
(3)
إليه، بل توسَّل إليه بوسيلةٍ ظنَّها موصِلةً إليه، وهي
(1)
ع: "أسباب الوصل".
(2)
ترك ناسخ ل الثاء والراء من الكلمة فتحرفت في النسخ، والمثبت من الأصل، ج. وفي ع:"ويشتدُّ".
(3)
"له" ساقط من ش.
من أعظم القواطع عنه= فحاله أيضًا كحال هذا، وكلاهما
(1)
فاسد القصد.
ولا شفاء من هذا المرض إلّا بدواء {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، فإنّ هذا الدّواء مركّبٌ من ستّة أجزاءٍ: عبوديّة لله لا لغيره، بأمره وشرعه، لا بالهوى، وبآراء الرِّجال
(2)
وأوضاعهم ورسومهم وأفكارهم، واستعانةٍ على عبوديّته به، لا بنفس العبد وقوّته وحوله ولا بغيره. فهذه أجزاء {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، فإذا ركَّبها الطَّبيبُ
(3)
العالمُ بالمرض، واستعملها المريض، حصل بها الشِّفاء التّامُّ. وما نقَص من الشِّفاء فهو لفوَاتِ جزءٍ من أجزائها، أو اثنين أو أكثر.
ثمّ إنّ القلب يعرض له مرضان عظيمان، إن لم يتداركهما تراميا به إلى التَّلَف ولا بدَّ؛ وهما: الرِّياء، والكبر. فدواء الرِّياء بـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ، ودواء الكبر بـ {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . وكثيرًا ما كنتُ أسمع شيخَ الإسلام ابن تيميّة
(4)
قدّس الله روحَه يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} تدفع الرِّياء، {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} تدفع الكبرياء
(5)
.
فإذا عوفي من مرض الرِّياء بـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ، ومن مرض الكبر والعُجْب بـ {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، ومن مرض الضَّلال والجهل بـ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} = عوفي من أمراضه وأسقامه، ورَفَل في أثواب العافية، وتمَّت عليه
(1)
ل، م:"فكلاهما".
(2)
ع: "ولا بآراء الرجال".
(3)
بعده في ع زيادة: "اللطيف".
(4)
"ابن تيمية" ساقطة من ش.
(5)
انظر: "مجموع الفتاوى"(10/ 277).
النِّعمة، وكان من المنعَم عليهم غيرِ المغضوب عليهم ــ وهم أهلُ فساد القصد الذين عرفوا الحقّ وعدَلوا عنه ــ والضّالِّين، وهم أهلُ فساد العلم الذين جهلوا الحقَّ ولم يعرفوه.
وحُقَّ لسورةٍ تشتمل على هذا الشفاء
(1)
أن يُستشفى بها من كلِّ مرضٍ. ولهذا لمّا اشتملت على هذا الشِّفاء الذي هو أعظم الشفاءين، كان حصول الشِّفاء الأدنى بها أولى، كما سنبيِّنه. فلا شيء أشفى للقلوب التي عقلت عن الله تعالى كلامَه، وفهمت عنه فهمًا خاصًّا، اختصَّها به من معاني هذه السُّورة.
وسنبيِّن إن شاء الله تعالى تضمُّنَها للرّدِّ على جميع أهل البدع بأوضح البيان وأحسن الطُّرق.
فصل
وأمّا تضمُّنها لشفاء الأبدان، فنذكر منه ما جاءت به السُّنّة، وما شهد به
(2)
قواعد الطِّبِّ، ودلَّت عليه التّجربة.
فأمّا ما دلّت عليه السُّنّة، ففي الصّحيح من حديث أبي المتوكِّل عن أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه أنّ ناسًا من أصحاب النّبيِّ صلى الله عليه وسلم مرُّوا بحيٍّ من العرب، فلم يَقْرُوهم، ولم يضيِّفوهم. فلُدِغَ سيِّدُ الحيِّ، فأتوهم، فقالوا: هل عندكم من رقيةٍ، أو هل فيكم من راقٍ؟ فقالوا: نعم، ولكنَّكم لم تَقْرُونا، فلا نفعل حتّى تجعلوا لنا جُعْلًا. فجعلوا على ذلك قطيعًا من الغنم. فجعل رجلٌ منَّا يقرأ عليه بفاتحة الكتاب، فقام كأن لم يكن به قَلَبةٌ. فقلنا: لا تعجلوا حتّى
(1)
ع: "هذين الشناءين".
(2)
ش: "شهدته"، وكذا كان في ق، ل فأصلح، ولم ينقط في م، ج إلا حرف الشين.
نأتي النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فأتيناه، فذكرنا له ذلك. فقال:"وما يدريك أنّها رقيةٌ؟ كلوا، واضربوا لي معكم بسهمٍ"
(1)
.
فقد تضمّن هذا الحديثُ حصولَ شفاء هذا اللّديغ بقراءة الفاتحة عليه، فأغنته عن الدّواء، وربّما بلغت من شفائه ما لم يبلغه الدّواء. هذا مع كون المحلِّ غير قابلٍ، إمّا لكون هؤلاء الحيِّ غيرَ مسلمين، أو أهلَ بخلٍ ولؤمٍ؛ فكيف إذا كان المحلُّ قابلًا!
فصل
وأمّا شهادة قواعد الطِّبِّ بذلك، فاعلم أنَّ اللَّدغة تكون من ذوات الحُمَات والسُّموم، وهي ذوات الأنفس الخبيثة التي تتكيَّف بكيفيّةٍ غضبيّةٍ، تثير
(2)
فيها سمِّيّةً ناريّةً، يحصل بها اللَّدغ. وهي متفاوتةٌ بحسب تفاوت خبث تلك النُّفوس وقوّتها وكيفيّتها. فإذا تكيَّفت أنفسُها الخبيثةُ بتلك الكيفيّة الغضبيّة أحدَثَ لها ذلك طبيعةً سمِّيّةً، تجد راحةً ولذّةً في إلقائها إلى المحلِّ القابل؛ كما يجد الشِّرِّيرُ من النّاس
(3)
راحةً ولذّةً في إيصال شرِّه إلى من يُوصله به
(4)
. وكثيرٌ من النّاس لا يهنأ له
(5)
عيشٌ في يومٍ لا يؤذي فيه أحدًا من بني جنسه، ويجد في نفسه تأذِّيًا بحمل تلك السَّمِّيّة والشّرِّ الذي فيه، حتّى
(1)
أخرجه البخاري (2276) ومسلم (2201) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(2)
ل: "تسير". م، ش:"تسري".
(3)
"من الناس" ساقط من ش.
(4)
كذا "به" في الأصل وغيره إلا ج التي لم ترد فيها. وفي نشرة الفقي: "إليه".
(5)
ق، ش، ج:"لا يناله". وكذا كان في ل، م فأصلح. ويبدو أن في هامش ش إشارة لم تظهر في المصورة إلى هذا التصحيح.
يُفرغه في غيره، فيبرد عند ذلك
(1)
أنينُه، وتسكن نفسُه. ويصيبه في ذلك نظير ما يصيب من اشتدّت
(2)
شهوته إلى الجماع فيسوء خلقُه، وتنغَلُ
(3)
نفسُه حتّى يقضي وطره. هذا في قوّة الشّهوة، وذاك في قوّة الغضب.
وقد أقام الله تعالى بحكمته السُّلطانَ وازعًا لهذه النُّفوس الغضبيّة، فلولا هو لفسدت الأرض وخرب العالم. {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251]. وأباح
(4)
بلطفه ورحمته لهذه النُّفوس من الأزواج وملك اليمين ما يكسر حدّتها.
والمقصود: أنّ هذه النُّفوس الغضبيّة إذا اتّصلت بالمحلِّ القابل أثَّرت فيه. ومنها ما يؤثِّر في المحلِّ بمجرّد مقابلته له، وإن لم يمسَّه، فمنها ما يلتمس
(5)
البصَر، ويُسْقِط الحبَل.
ومن هذا: نظرُ العائن، فإنّه إذا وقع بصره على المَعِين حدثت في نفسه كيفيّةٌ سمِّيّةٌ أثَّرت في المَعِين بحسب عدم استعداده، وكونه أعزلَ من السِّلاح، وبحسب قوّة تلك النّفس. وكثيرٌ من هذه النُّفوس تؤثِّر في المَعِين إذا وُصِف له، فتتكيَّف نفسُه، وتقابله على البعد، فيتأثَّر به. ومنكر هذا ليس معدودًا من
(1)
ش: "فيبرد ذلك عنه"، وأشير إلى هذه النسخة في هامش م.
(2)
تحرَّف في ق، ل إلى "استلت".
(3)
أي تفسد.
(4)
ع: "وأباح الله" بزيادة لفظ الجلالة.
(5)
م، ش، ع:"يطمس"، وكذا في المطبوع، والمثبت من الأصل وغيره صواب محض. والمؤلف يشير إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم:"اقتلوا ذا الطُّفيتين، فإنه يلتمس البصر ويصيب الحبل" أخرجه البخاري (3308) ومسلم (2232) من حديث عائشة رضي الله عنها.