المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ منزلة المحاسبة - مدارج السالكين - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة التحقيق

- ‌تحرير عنوان الكتاب

- ‌توثيق نسبة الكتاب للمؤلف

- ‌تاريخ تأليفه

- ‌موضوع الكتاب وترتيب مباحثه

- ‌منهج المؤلف فيه

- ‌«منازل السائرين» وشروحه

- ‌مقارنة الكتاب بأهم شروح «المنازل»

- ‌تعقبات ابن القيم على الهروي

- ‌موارد الكتاب

- ‌أثره في الكتب اللاحقة

- ‌مختصرات ودراسات عن الكتاب

- ‌نسخ الكتاب الخطية

- ‌طبعات الكتاب

- ‌منهج التحقيق

- ‌نماذج من النسخ الخطية

- ‌ مراتب الهداية الخاصّة والعامّة

- ‌المرتبة الثّالثة: إرسال الرّسول الملكيِّ إلى الرّسول البشريِّ

- ‌المرتبة الرّابعة: مرتبة المحدَّث

- ‌المرتبة السابعة: البيان الخاصُّ

- ‌العبادة تجمع أصلين:

- ‌الاستعانة تجمع أصلين:

- ‌ نفاة الحِكَم والتّعليل

- ‌ القدريّة النفاة

- ‌ لزوم {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} لكلِّ عبد إلى الموت

- ‌ انقسام العبوديّة إلى عامّةٍ وخاصّةٍ

- ‌رحى العبوديّة تدور على خمس عشرة قاعدةً

- ‌ عبوديّات اللِّسان

- ‌فصلفلنرجع إلى ذكر منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} التي لا يكون العبدُ من أهلها حتّى ينزل منازلها

- ‌ منزلة المحاسبة

- ‌منزلة التّوبة

- ‌ الفرحُ بالمعصية

- ‌ المجاهرةُ بالذّنب

- ‌شرائطُ التَّوبة

- ‌حقائق التّوبة

- ‌دفعُ القدر بالقدر نوعان:

- ‌سرائرُ حقيقة التّوبة

- ‌ التَّوبة من التَّوبة

- ‌لطائف أسرار التّوبة

- ‌النّاس في الأسباب والقوى والطّبائع ثلاثة أقسامٍ:

- ‌توبةُ الأوساط من استقلال المعصية

- ‌توبةُ الخواصِّ من تضييع الوقت

- ‌ المبادرةُ إلى التَّوبة من الذَّنب فرضٌ على الفور

- ‌هل تصحُّ التّوبة من ذنبٍ مع الإصرار على غيره

- ‌ حقيقةَ التّوبة:

- ‌ التَّوبة النَّصوح وحقيقتها

- ‌ الفرق بين تكفير السّيِّئات ومغفرة الذُّنوب

- ‌التّوبةُ لها مبدأٌ ومنتهًى

- ‌ الحكم بغير ما أنزل الله

- ‌الْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ

- ‌فسقُ العمل

- ‌فسقُ الاعتقاد:

- ‌ توبة المنافق

- ‌ توبةَ القاذف

- ‌ توبة السَّارق

- ‌ الإثم والعدوان

- ‌ الفحشاء والمنكر

- ‌ القول على الله بلا علمٍ

الفصل: ‌ منزلة المحاسبة

‌فصل

فلنرجع إلى ذكر منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} التي لا يكون العبدُ من أهلها حتّى ينزل منازلها

.

فذكرنا منها اليقظة، والبصيرة، والفكرة، والعزم.

وهذه المنازل الأربعة لسائر المنازل كالأساس للبنيان، وعليها مدار منازل السّفر إلى الله تعالى، ولا يتصوَّر السَّفرُ إليه بدون نزولها البتّة. وهي على ترتيب السَّير الحسِّيِّ، فإنَّ المقيمَ في وطنه لا يتأتّى منه السّفر حتّى يستيقظ من غفلته عن السّفر، ثمّ يتبصَّر في أمر سفره وخطره

(1)

وما فيه من المنفعة والمصلحة، ثمّ يفكِّر في أُهبة السّفر والتّزوُّد وإعداد عدَّته، ثمّ يعزم عليه. فإذا عزَم عليه وأجمَعَ قَصْدَه انتقل إلى‌

‌ منزلة المحاسبة

، وهي التّمييز بين ما له وعليه، فيستصحب ما له، ويؤدِّي ما عليه، لأنّه مسافرٌ سفَرَ من لا يعود.

ومن منزل المحاسبة يصحُّ له نزولُ منزلة التّوبة، لأنّه إذا حاسب نفسَه عرَفَ ما عليه من الحقِّ، فخرج منه، وتنصَّل منه إلى صاحبه، وهي حقيقة التّوبة، فكان تقديم المحاسبة عليها لذلك أولى. ولتأخيرها عنها وجهٌ أيضًا، وهو أنّ المحاسبة لا تكون إلّا بعد تصحيح التّوبة. والتَّحقيقُ: أنَّ التَّوبة بين محاسبتين: محاسبةٍ قبلها تقتضي وجوبَها، ومحاسبةٍ بعدها تقتضي حفظَها، فالتّوبةُ محفوفةٌ بمحاسبتين.

وقد دلَّ على المحاسبة قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ

(1)

ش، ع:"وحضره"، خطأ.

ص: 259

نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18]. فأمر سبحانه العبدَ أن ينظر ما قدَّم لغده

(1)

، وذلك يتضمَّن محاسبةَ نفسه على ذلك، والنّظرَ هل يصلُح ما قدَّمه أن يلقى الله به أو لا يصلح؟ والمقصود من هذا النّظر: ما يوجبه ويقتضيه من كمال الاستعداد، وتقديم ما ينجيه من عذاب الله ويبيِّضُ وجهه عند الله.

وقال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: حاسِبُوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وزِنُوها قبل أن تُوزَنوا، وتزيَّنُوا للعرض الأكبر {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} أو قال

(2)

: على من لا تخفى عليه أعمالكم

(3)

.

قال صاحب "المنازل" رحمه الله

(4)

: (المحاسبة

(5)

لها ثلاثة أركانٍ:

(1)

"فأمر

لغده" ساقط من ش.

(2)

ما بعد "الأكبر" إلى هنا زيادة من ع.

(3)

أخرجه أحمد في "الزهد"(ص 99)، وابن أبي الدنيا في "محاسبة النفس" (2) والآجري في "أدب النفوس" (17) وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 52). وقال ابن كثير في "مسند الفاروق" (2/ 612):"أثر مشهور، وفيه انقطاع. وثابت بن الحجاج هذا جزري، تابعي صغير لم يدرك عمر. ولم يرو عنه سوى جعفر بن برقان".

وروي أيضًا من طريق آخر عن جعفر بن برقان عن عمر من غير واسطة، أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان"(10117) وفي "الزهد الكبير"(ص 192).

وروي كذلك عن مالك بن مغول بلاغًا عن عمر بن الخطاب، أخرجه ابن المبارك في "الزهد"(1/ 103) ومن طريقه أبو عبيد في "الخطب والمواعظ"(144) وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(44/ 314، 357). وانظر: "الضعيفة"(1201).

(4)

(ص 12).

(5)

في مطبوعة "المنازل": "والعزيمة"، ولم يُشر المحقق إلى اختلاف النسخ. وكذا في شروح المنازل إلا "شرح سديد الدين الإسكندري"(ص 25) فقد ثبت فيه كما هنا، ومثله في بعض نسخ "شرح القاساني" (ص 54). وفي "شرح المناوي" (ص 68):"ولها ثلاثة أركان". والباب باب المحاسبة، فينبغي أن يذكر فيه أركانها، لا أركان العزيمة التي لم يعدَّها الهرويُّ منزلةً أصلًا.

ص: 260

أحدها: أن تقيس بين نعمته وجنايتك).

يعني: تقايس بينَ ما مِنَ الله وما منك، فحينئذٍ يظهر لك التّفاوتُ، وتعلمُ أنّه ليس إلّا عفوُه ورحمتُه، أو الهلاكُ والعطَبُ.

وفي هذه المقايسة تعلم أنَّ الرَّبَّ ربٌّ والعبدَ عبدٌ، ويتبيَّن لك حقيقةُ النّفس وصفاتُها، وعظمةُ جلال الرُّبوبيّة، وتفرُّدُ الرَّبِّ بالكمال والإفضال، وأنَّ كلَّ نعمةٍ منه فضلٌ، وكلَّ نقمةٍ منه عدلٌ. وأنت قبل هذه المقايسة جاهلٌ بحقيقة نفسك، وبربوبيّة فاطرها وخالقها. فإذا قايستَ ظهَر لك أنَّها منبعُ كلِّ شرٍّ، وأساسُ كلِّ نقصٍ، وأنَّ حدَّها الجاهلة الظّالمة، وأنّه لولا فضلُ الله ورحمتُه بتزكيته سبحانه ما زكت أبدًا؛ ولولا هداه ما اهتدت، ولولا إرشادُه وتوفيقُه لما كان لها وصولٌ إلى خيرٍ البتّة، وأنّ حصول ذلك لها من بارئها وفاطرها، وتوقُّفُه عليه كتوقُّفِ وجودها على إيجاده، فكما أنّها ليس لها من ذاتها وجودٌ، فكذلك ليس لها من ذاتها كمالُ الوجود، فليس لها من ذاتها إلّا العدمُ: عدمُ الذّات وعدمُ الكمال، فهناك تقول

(1)

حقًّا: "أبوء لك بنعمتك عليَّ وأبوء بذنبي"

(2)

.

ثمّ تقيس بين الحسنات والسّيِّئات، فتعلم بهذه المقايسة أيُّهما أكثرُ

(3)

(1)

ش: "يقول"، والمثبت من م. وفي غيرهما أهمل حرف المضارع.

(2)

من سيد الاستغفار، وقد تقدم تخريجه.

(3)

ج، ش:"أكبر"، والمثبت من م، وكذا في "شرح التلمساني"(ص 74). وأهمل في ق، ل.

ص: 261

وأرجَحُ قدرًا وصفةً. وهذه المقايسةُ الثّانيةُ مقايسةٌ بين أفعالك وما منك خاصّةً.

قال

(1)

: (وهذه المقايسةُ تشقُّ على من ليس له ثلاثة أشياء: نورُ الحكمة، وسوءُ الظّنِّ بالنّفس، وتمييزُ النِّعمة من الفتنة).

يعني: أنّ هذه المقايسة والمحاسبة تتوقَّف على نور الحكمة، وهو النُّور الذي نوَّر الله به قلوبَ أتباع الرُّسل، وهو نور الحكمة، فبقدره يرى التَّفاوت، ويتمكَّن من المحاسبة.

ونورُ الحكمة هاهنا: هو العلم الذي يميِّز به بين الحقِّ والباطل، والهدى والضّلال، والضَّارِّ والنَّافع، والكامل والنَّاقص، والخير والشَّرِّ؛ ويُبصر به مراتبَ الأعمال: راجحَها ومرجوحَها، ومقبولَها ومردودَها. وكلَّما كان حظُّه من هذا النُّور أقوى كان حظُّه من المحاسبة أكملَ وأتمَّ.

وأمّا سوءُ الظّنِّ بالنّفس، فإنّما احتاج إليه لأنَّ حسنَ الظّنِّ بالنّفس يمنع من كمال التّفتيش ويُلبِّس عليه، فيرى المساوئَ محاسنَ، والعيوبَ كمالًا، فإنَّ المحبَّ يرى مساوئ محبوبه وعيوبه كذلك.

فعينُ الرِّضا عن كلِّ عيبٍ كليلةٌ

كما أنَّ عينَ السُّخط تُبدي المَساويا

(2)

(1)

"المنازل"(ص 12).

(2)

البيت لعبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب في "الحيوان"(3/ 488)، و"عيون الأخبار"(3/ 11، 76)، و"الكامل" للمبرد (1/ 277)، و"الأغاني" (12/ 212 - الثقافة). والرواية:"ولكنَّ عين السخط" كما أنشده المؤلف في "روضة المحبين"(ص 211) وأشير إليها في هامش ش.

ص: 262

ولا يسيءُ الظّنَّ بنفسه إلّا مَن عرفها. ومَن أحسن ظنَّه بها فهو من أجهل النّاس بنفسه!

وأمّا تمييزُه النِّعمةَ

(1)

من الفتنة، ليفرِّقَ

(2)

بين النِّعمة التي يراد بها الإحسانُ واللُّطفُ، ويُعانُ بها على تحصيل سعادته الأبديّة، وبين النِّعمة التي يراد بها الاستدراجُ. فكم من مستدرَجٍ بالنِّعم وهو لا يشعُر، مفتونٍ بثناء الجهَّال عليه، مغرورٍ بقضاء الله حوائجَه وسَتْرِه عليه! وأكثرُ الخلق

(3)

عندهم أنَّ هذه الثّلاثةَ علامةُ السّعادة والنّجاح. {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [النجم: 30]!

فإذا كملت هذه الثّلاثةُ فيه عرَفَ حينئذٍ أنَّ ما كان من نِعَم الله عليه يجمَعُه على الله فهو نعمةٌ حقيقيَّةٌ، وما فرَّقَه عنه وأخَذَه منه فهو البلاءُ في صورة النِّعمة، والمِحْنةُ في صورة المِنْحة؛ فليحذَرْ، فإنَّما هو مستدرَجٌ. ويميِّزْ

(4)

بذلك أيضًا بين المنّة والحجّة، فلم تُلَبَّسْ

(5)

إحداهما عليه بالأخرى؛ فإنَّ العبدَ بين منّةٍ من الله عليه، وحجّةٍ منه عليه، ولا ينفكُّ منهما.

فاعلم أنَّ الحكمَ الدِّينيَّ

(6)

متضمِّنٌ لمنّته وحجّته. قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران: 164]. وقال:

(1)

م، ش، ع:"تمييز النعمة".

(2)

جواب أمَّا، وقد سبق التعليق على حذف الفاء منه (ص 232).

(3)

ش: "خلق الله".

(4)

معطوف على "فليحذر". ش: "وليميِّز"، وكذا غيِّر في م.

(5)

ج، ع:"فلم تلتبس". والمقصود: وليميِّز بذلك أيضًا بين المنة والحجة، فإن ميَّز لم تلتَبسْ إحداهما بالأخرى. وفي ش:"فكم يلبَس".

(6)

ع: "فالحكم الديني" في موضع "فاعلم أن الحكم الديني".

ص: 263

{بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} [الحجرات: 17]. وقال: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: 149]. والحكمُ الكونيُّ متضمِّنٌ أيضًا لمنّته وحجّته. فإذا حَكَم له كونًا حُكمًا مصحوبًا باتِّصال الحكم الدِّينيِّ به فهو منّةٌ منه عليه. وإن لم يصحبه الدِّينيُّ فهو حجّةٌ منه عليه. وكذلك حكمُه الدِّينيُّ إذا اتَّصل به حكمُه الكونيُّ، فوفَّقه للقيام به، فهو منّةٌ منه عليه. وإن تجرّدَ عن حكمه الكونيِّ صار حجّةً منه عليه. فالمنّةُ باقتران أحد الحكمين بصاحبه، والحجّةُ في تجرُّد أحدهما عن الآخر.

فكلُّ علمٍ صَحِبه عملٌ يُرضيه سبحانه فهو منّةٌ، وإلّا فهو حجّةٌ.

وكلُّ قوّةٍ ظاهرةٍ أو باطنةٍ صَحِبها تنفيذٌ لمرضاته وأوامره فهي منّةٌ، وإلّا فهي حجّةٌ.

وكلُّ حالٍ صَحِبه تأثيرٌ في نصرة دينه والدّعوة إليه فهو منّةٌ

(1)

، وإلّا فهو حجّةٌ.

وكلُّ مالٍ اقترن به إنفاقٌ في سبيل الله وطاعته، لا لطلب الجزاء ولا للشُّكور، فهو منّةٌ من الله عليه، وإلّا فهو حجّةٌ.

وكلُّ فراغٍ اقترن به اشتغالٌ بما يريد الرَّبُّ من عبده فهو منّةٌ عليه، وإلّا فهو حجّةٌ.

وكلُّ قَبولٍ في النّاس وتعظيمٍ ومحبّةٍ، اتّصل به خضوعٌ للرَّبِّ وذلٌّ

(1)

ج: "منه منةٌ"، ومثله في م. وفي ش، ع:"منةٌ منه". وفي الأصل كتبت الكلمة دون إعجامها مرتين، ثم ضرب على الأولى.

ص: 264

وانكسارٌ، ومعرفةٌ بعيب النّفس والعمل، وبذلُ النَّصيحة للخلق= فهو منّةٌ، وإلّا فهو حجّةٌ.

وكلُّ بصيرةٍ وموعظةٍ وتذكيرٍ وتعريفٍ من تعريفات الحقِّ سبحانه إلى العبد، اتّصل به عبرةٌ ومزيدٌ في العقل والمعرفة والإيمان= فهي منّةٌ، وإلّا فهي حجّةٌ.

وكلُّ حالٍ مع الله، أو مقامٍ اتّصل به السَّيرُ

(1)

إلى الله وإيثار مُراده على مراد العبد، فهو منّةٌ من الله. وإن صحِبه الوقوفُ عنده، والرِّضا به، وإيثارُ مقتضاه من لذّة النّفس به، وطمأنينتها إليه، وركونها إليه= فهو حجّةٌ من الله عليه.

فليتأمَّلِ العبدُ هذا الموضعَ العظيمَ الخطرِ، ويميِّزْ بين مواقعِ المنَّةِ ومواقعِ الحجَّة

(2)

، فما أكثرَ ما يلتبس

(3)

ذلك على خواصِّ النّاس وأرباب السُّلوك! والله يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ.

فصل

الرُّكن الثّاني من أركان المحاسبة

(4)

: أن تميِّزَ بين ما للحقِّ

(5)

عليك من

(1)

في الأصل: "به السير به"، وكذا كان في ل، ثم طمس "به" الثانية. وفي ش:"اتصل السَّير به" بحذف "به" الأولى.

(2)

ع: "بين مواقع المنن والمحن والحجج والنعم".

(3)

ع: "يتلبَّس".

(4)

في ع بعده زيادة: "وهو".

(5)

ش: "ما يستحق".

ص: 265

وجوبِ العبوديّة والتزامِ الطّاعة واجتنابِ المعصية، وبين ما لَكَ. والّذي لك هو المباح الشّرعيُّ. فعليك حقٌّ، ولك حقٌّ

(1)

. ولابدَّ من التّمييزِ بين ما لك وما عليك، وإعطاءِ كلِّ ذي حقٍّ حقَّه.

وكثيرٌ من النّاس يجعل كثيرًا ممَّا عليه من الحقِّ من قِسْم ما لَه، فيتخيَّر

(2)

بين فعله وتركه، وإن فعَلَه رأى أنّه فضلٌ قام به، لا حقٌّ أدَّاه!

وبإزاء هؤلاء من يرى كثيرًا ممّا له فعلُه وتركُه، من قِسْمِ ما عليه فعلُه أو تركُه، فيتعبَّد بتركِ ما له فعلُه كترك كثيرٍ من المباحات، ويظنُّ ذلك حقًّا عليه؛ أو يتعبَّد بفعلِ ما له تركُه، ويظنُّ ذلك حقًّا عليه!

مثال الأوّل: من يتعبَّد بترك النِّكاح وتركِ أكل اللّحم والفاكهة مثلًا، أو الطّيِّباتِ من المطاعم والملابس، ويرى لِجهله

(3)

أنَّ ذلك ممَّا عليه، فيوجب على نفسه تركَه، أو يرى تركَه من أفضل القُرَب وأجلِّ الطّاعات. وقد أنكر النّبيُّ صلى الله عليه وسلم على من زعم ذلك. ففي "الصّحيح"

(4)

أنّ نفرًا من أصحاب النّبيِّ صلى الله عليه وسلم سألوا عن عبادته في السِّرِّ، فكأنّهم تقالُّوها، فقال أحدهم: أمّا أنا فلا آكل اللّحم، وقال الآخر: أمّا أنا فلا أتزوّج النِّساء، وقال الآخر: أمّا أنا فلا أنام على فراشٍ. فبلغ النّبيَّ صلى الله عليه وسلم مقالتُهم، فخطَب، وقال: "ما بالُ أقوامٍ يقول أحدهم: أمّا أنا فلا آكل اللّحم، ويقول الآخر: أمّا أنا فلا أتزوّج النساء، ويقول

(1)

بعده زيادة في ع: "فأدِّ ما عليك يأتِك ما لك".

(2)

ج: "فيتحيَّر" وكأن الناسخ وضع علامة الإهمال تحت الحاء. ونحوه في م بالإهمال. وفي غيرهما بالخاء كما أثبت.

(3)

رسمه في ج، م أقرب إلى "بجهله".

(4)

أخرجه البخاري (5063)، ومسلم (1401) من حديث أنس رضي الله عنه.

ص: 266

الآخر: أمّا أنا فلا أنام على فراشٍ؟ لكنِّي أتزوَّج النِّساء، وآكل اللَّحم، وأصوم وأفطر، وأقوم وأنام

(1)

؛ فمن رغب عن سنَّتي فليس منِّي". فتبرَّأ ممَّن رغِب عن سنّته وتعبَّد لله بترك ما أباحه الله لعباده من الطّيِّبات رغبةً عنه، واعتقادًا أنّ الرّغبةَ عنه وهجرَه عبادةٌ! فهذا لم يُميِّز بين ما عليه وما له.

ومثال الثّاني: من يتعبَّد بالعبادات البدعيّة التي يظنُّها جالبةً للحال والكشف والتّصرُّف، ولهذه الأمور لوازمُ لا تحصل بدونها البتّة، فيتعبَّد بالتزام تلك اللَّوازم فعلًا وتركًا، ويراها حقًّا عليه، وهي حقٌّ له، وله تركُها، كفعل الرِّياضات والأوضاع التي رسَمها كثيرٌ من السَّالكين بأذواقهم ومواجيدهم واصطلاحهم، من غير تمييزٍ بين ما فيها من حظِّ العبد والحقِّ الذي عليه!

فهذا لونٌ، وهذا لونٌ.

ومن أركان المحاسبة ما ذكره صاحب "المنازل"، فقال

(2)

: (الثَّالث: أن تعرفَ أنَّ كلَّ طاعةٍ رضيتَها منك فهي عليك، وكلَّ معصيةٍ عيَّرتَ بها أخاك فهي إليك)

(3)

.

رضا العبد بطاعته دليلٌ على حسنِ ظنِّه بنفسه، وجهلِه بحقوق العبوديّة، وعدمِ علمِه بما يستحقُّه الرّبُّ جل جلاله ويليق أن يُعامَل به.

وحاصل ذلك: أنَّ جهلَه بنفسه وصفاتها وآفاتها وعيوب عمله، وجهلَه

(1)

في ع: "وأنام وأقوم" قبل "وأصوم وأفطر".

(2)

(ص 12).

(3)

بعده في "المنازل": "ولا تضع ميزان وقتك من يديك"، ولم يشرحه المؤلف.

ص: 267

بربِّه وحقوقه وما ينبغي أن يُعامَل به= يتولَّد منهما رضاه بطاعاته

(1)

، وإحسانُ ظنِّه بها. ويتولَّد من ذلك من العُجْب والكِبْر والآفات ما هو أكبر من الكبائر الظّاهرة من الزِّنى، وشرب الخمر، والفرار من الزَّحف، ونحوها. فالرِّضا بالطّاعة من رعونات النّفس وحماقتها.

وأربابُ العزائم والبصائر أشدُّ ما يكونون استغفارًا عقيبَ الطَّاعات، لشهودهم تقصيرَهم فيها وتركَ القيام لله بها كما يليق بجلاله وكبريائه، وأنّه لولا الأمرُ لَما أقدَمَ أحدُهم على مثل هذه العبوديّة، ولا رضيها لسيِّده.

وقد أمر الله تعالى وفدَه وحُجّاجَ بيته بأن يستغفروه عقيبَ إفاضتهم من عرفاتٍ، وهو أجلُّ المواقف وأفضلُها، فقال:{فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 198 - 199].

وقال تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران: 17]. قال الحسن رضي الله عنه: مَدُّوا الصّلاةَ إلى السَّحر، ثمّ جلسوا يستغفرون الله عز وجل

(2)

.

وفي "الصّحيح"

(3)

أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا سلَّم استغفر

(4)

ثلاثًا، ثمّ قال:"اللهمَّ أنت السَّلام، ومنك السَّلام، تباركتَ يا ذا الجلال والإكرام".

(1)

ج: "منها رضاه بطاعته".

(2)

أخرجه الطبري في "تفسيره"(21/ 510).

(3)

أخرجه مسلم (591، 592) من حديث ثوبان وعائشة رضي الله عنهما.

(4)

ع: "سلَّم من الصلاة استغفر الله".

ص: 268

وأمره الله سبحانه بالاستغفارِ بعد أداء الرِّسالة، والقيامِ بما عليه من أعبائها، وقضاءِ فرض الحجِّ والجهاد، واقترابِ أجله، فقال في آخر ما أنزل عليه

(1)

: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [سورة النصر]. ومن هاهنا فَهِم عمر وابن عبّاسٍ رضي الله عنهم أنَّ هذا أجلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلَمَه

(2)

به، فأمَره أن يستغفره عقيبَ أداء ما عليه

(3)

، فكان إعلامَه

(4)

بأنّك قد أدّيتَ ما عليك، ولم يبق عليك شيءٌ، فاجعل خاتمته الاستغفار، كما كان خاتمةَ الصّلاة والحجِّ وقيام اللّيل، وخاتمةَ الوضوء أيضًا إذ يقول بعد فراغه

(5)

"اللهمَّ اجعلني من التَّوَّابين، واجعلني من المتطهِّرين"

(6)

.

فهذا شأنُ مَن عرَف ما ينبغي لله ويليق بجلاله من حقوق العبوديّة

(1)

ع: "آخر سورة أنزلت عليه".

(2)

كتب فوقه في ع لفظ الدلالة مع علامة صح.

(3)

تقدَّم تخريجه.

(4)

م، ش:"إعلام"، وكذا كان في ق، ل فأصلح كما أثبت من ج.

(5)

بعده في ع زيادة: "سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك".

(6)

جزء من حديث طويل في الوضوء أخرجه الترمذي (55) عن عمر رضي الله عنه، وقال:"وفي إسناده الاضطراب، ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب كبير شيء"، وأصله عند مسلم (234) بدون هذا القول، قال الحافظ:"لم تثبت هذه الزيادة في هذا الحديث"، وضعَّف شواهده، ينظر:"نتائج الأفكار"(1/ 238 - 244) .. ولكن جنح المؤلف والألباني إلى تحسينه، ينظر:"المنار المنيف (ص 116) و"الإرواء" (96) و"صحيح أبي داود - الأم" (1/ 302).

ص: 269

وشرائطها، لا جهلُ أصحاب الدَّعاوى وشطحاتُهم.

وقال بعضُ العارفين: متى رضيتَ نفسَك وعملَك لله، فاعلم أنّه غيرُ راضٍ به

(1)

. ومَن عرَفَ أنَّ نفسَه مأوى كلِّ عيبٍ وسوء

(2)

، وعملَه عُرْضةُ كلِّ آفةٍ ونقصٍ، كيف يرضى لله نفسَه وعملَه؟

ولله درُّ الشّيخ أبي مدين

(3)

حيث يقول: من تحقَّق بالعبوديّة نظَر أفعالَه بعين الرِّياء، وأحوالَه بعين الدّعوى، وأقوالَه بعين الافتراء

(4)

. وكلَّما عظُم المطلوبُ في قلبك صغُرتْ عندك وتضاءلت القيمةُ التي تبذلها في تحصيله. وكلَّما شهدتَ حقيقة الرُّبوبيّة وحقيقةَ العبوديّة، وعرفتَ الله وعرفتَ النّفس، تبيَّن لك أنَّ ما معك من البضاعة لا يصلح للملك الحقِّ

(5)

، وإنّما يقبله بكرمه وجوده

(6)

.

فصل

وقوله: (وكلُّ معصيةٍ عيّرتَ بها أخاك فهي إليك).

يحتمل أن يريد به: أنّها صائرةٌ إليك ولا بدّ أن تعملَها. وهذا مأخوذٌ من

(1)

لم أقف عليه.

(2)

ع: "وشرّ".

(3)

هكذا في ع، وهو الصواب. وكذا كان في ق، ل، م، فغيِّر إلى "أبي يزيد" كما في ش، ج وكذا في المطبوع.

(4)

"مرآة الجنان"(3/ 355).

(5)

بعده في ع زيادة: "ولو جئت بعمل الثقلين خشيت عاقبتَه".

(6)

بعده في ع زيادة: "وتفضُّلِه، ويثيبك عليه أيضًا بكرمه وجوده وتفضُّله".

ص: 270

الحديث الذي رواه التِّرمذيُّ في "جامعه"

(1)

عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "من عيَّر أخاه بذنبٍ لم يمُت حتّى يعملَه". قال الإمام أحمد رضي الله عنه في تفسيره: هذا

(2)

من ذنبٍ قد تاب منه

(3)

.

وأيضًا ففي التّعيير ضربٌ خفيٌّ من الشَّماتة بالمعيَّر. وفي "التِّرمذيِّ"

(4)

(1)

برقم (2505)، أخرجه أيضًا الطبراني في "الأوسط"(7244) والبيهقي في "شعب الإيمان"(6271، 6356) من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه. قال الترمذي: "حديث حسن غريب، وليس إسناده بمتصل، وخالد بن معدان لم يدرك معاذ بن جبل". وفيه أيضًا محمد بن الحسن الهمداني، كذاب متروك الحديث. وقد حكم عليه بالوضع: ابن الجوزي في "الموضوعات"(1511) والسيوطي في "اللآلي المصنوعة"(2/ 248) والألباني في "الضعيفة"(178) وغيرهم.

وقد روي بإسناد فيه لين عن الحسن البصري بلفظ: "كانوا يقولون" أو "كنا نُحدَّث"، وهو أشبه. أخرجه أحمد في "الزهد"(1633 - دار ابن رجب) وابن أبي الدنيا في "الصمت"(289) وفي "الغيبة والنميمة"(150) وفي "العقوبات"(85).

(2)

ع: "تفسير هذا الحديث".

(3)

نقله الترمذي بعد الحديث المذكور. قال: "قال أحمد: قالوا: من ذنبٍ قد تاب منه". وأحمد هنا: أحمد بن منيع أبو جعفر البغوي شيخ الترمذي، وقد تفرد برواية هذا الحديث.

(4)

برقم (2506) وقال: حسن غريب، وأخرجه أيضًا يعقوب بن سفيان الفسوي في "المشيخة" (76) وابن الأعرابي في "المعجم" (1612) والطبراني في "الكبير" (22/ 53) وفي "الأوسط" (3739) وأبو نعيم في "الحلية" (5/ 186) والبيهقي في "شعب الإيمان" (6355) وغيرهم من حديث القاسم بن أمية (الترمذي: أمية بن القاسم، خطأ) عن حفص بن غياث، عن بُرْد بن سِنَان، عن مكحول، عن واثلة بن الأسقع. والقاسم بن أمية قد اختلف فيه، ومكحول اختلف في سماعه من واثلة.

والحديث ضعَّفه الألباني وخالف الحافظَ في تحسينه، وقد أطال عليه الكلام في "الضعيفة"(5426).

ص: 271

أيضًا مرفوعًا: "لا تُظهِر الشّماتةَ لأخيك، فيرحمَه الله ويبتليَك".

ويحتمل أن يريد: أنّ تعييرَك لأخيك بذنبه أعظمُ إثمًا من ذنبه وأشدُّ من معصيته، لما فيه من صولة الطّاعة، وتزكية النّفس وشكرها، والمناداة عليها بالبراءة من الذّنب، وأنّ أخاك هو الذي

(1)

باء به. ولعلَّ كَسْرتَه بذنبه، وما أحدَث له من الذِّلّة والخضوع، والإزراءِ على نفسه، والتّخلُّصِ من مرض الدّعوى والكبر والعجب، ووقوفِه بين يدي الله ناكسَ الرّأس خاشعَ الطّرف منكسرَ القلب= أنفَعُ له وخيرٌ له من صولةِ طاعتك، وتكثُّرِك بها، والاعتدادِ بها، والمنّةِ على الله وخلقه بها. فما أقربَ هذا العاصيَ من رحمة الله! وما أقرَبَ هذا المُدِلَّ من مَقْت الله! فذنبٌ تَذِلُّ به لديه أحبُّ إليه من طاعةٍ تُدِلُّ

(2)

بها عليه

(3)

، وأنينُ المذنبين أحبُّ إليه من زَجَلِ المسبِّحين المُدِلِّين! ولعلَّ الله أسقاه بهذا الذّنب دواءً استخرج به داءً قاتلًا هو

(4)

فيك ولا تشعر.

فللّه في أهل طاعته ومعصيته أسرارٌ لا يعلمها إلّا هو. ولا يطالعها إلّا أهلُ البصائر، فيعرفون منها بقدر ما تناله معارفُ البشر، ووراء ذلك ما لا

(1)

لم يرد "هو الذي" في ع.

(2)

ج، ش: "يذلّ

يدل" بالياء.

(3)

بعده في ع زيادة: "وإنّك أن تبيت نائمًا وتُصبح نادمًا خيرٌ من أن تبيت قائمًا وتصبح مُعجَبًا، فإنّ المُعجَب لا يصعد له عملٌ. وإنّك إن تضحك وأنت معترفٌ خيرٌ من أن تبكي وأنت مُدِلٌّ". وكتب بعضهم فوقها في أولها: "من" وفي آخرها: "إلى" ثم كتب حاشية نصُّها: "من عند العلامة إلى هاهنا زائد ليس في الأصل".

(4)

"هو" من ع.

ص: 272

يطّلع عليه الكرام الكاتبون! فقد قال النّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إذا زنت أمَةُ أحدكم، فليُقِمْ عليها الحدَّ ولا يثرِّبْ"

(1)

. أي لا يعيِّرْ، من قول يوسف لإخوته:{لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [يوسف: 92]. فإنَّ الميزانَ بيد الله، والحكمُ لله، والسَّوطُ

(2)

الذي ضُرِب به هذا العاصي

(3)

بيد مقلِّب القلوب، والقصدُ: إقامةُ الحدِّ لا التّعيير والتّثريب.

ولا يأمن كرَّاتِ القدر وسطواتِه إلّا أهلُ الجهل بالله. وقد قال تعالى لأعلم الخلق

(4)

، وأقربهم إليه وسيلةً:{(73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا} [الإسراء: 74]. وقال يوسف الصِّدِّيق: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف: 33]. وكان عامّةُ يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا، ومقلِّبِ القلوب"

(5)

. وقال: "ما من قلبٍ إلّا وهو بين إصبَعين من أصابع الرّحمن، إن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يُزيغه أزاغه". ثمّ قال: "اللهمَّ مقلِّبَ القلوب ثبِّت قلوبنا على دينك"

(6)

، "اللهمَّ مصرِّفَ القلوب صرِّف

(1)

أخرجه البخاري (2234) ومسلم (1703) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

ع: "فالسوط".

(3)

ج: "أهل المعاصي".

(4)

بعده في ع زيادة: "به".

(5)

أخرجه البخاري (6617) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(6)

أخرجه أحمد (17630) والنسائي في "الكبرى"(7691) وابن ماجه (199) وابن أبي عاصم في "السنة"(226 - نشرة الجوابرة) وعبد الله بن أحمد في "السنة"(1202) والطبري في "تفسيره"(5/ 231) وغيرهم من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنهما. والحديث صحيح، صححه ابن خزيمة في "التوحيد"(132) وابن حبان (943) والحاكم (1/ 525، 4/ 321) والألباني في "ظلال الجنة"(219).

ص: 273