المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

قال صاحب "المنازل" رحمه الله (1) : (و‌ ‌حقائق التّوبة ثلاثة أشياء: تعظيمُ - مدارج السالكين - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة التحقيق

- ‌تحرير عنوان الكتاب

- ‌توثيق نسبة الكتاب للمؤلف

- ‌تاريخ تأليفه

- ‌موضوع الكتاب وترتيب مباحثه

- ‌منهج المؤلف فيه

- ‌«منازل السائرين» وشروحه

- ‌مقارنة الكتاب بأهم شروح «المنازل»

- ‌تعقبات ابن القيم على الهروي

- ‌موارد الكتاب

- ‌أثره في الكتب اللاحقة

- ‌مختصرات ودراسات عن الكتاب

- ‌نسخ الكتاب الخطية

- ‌طبعات الكتاب

- ‌منهج التحقيق

- ‌نماذج من النسخ الخطية

- ‌ مراتب الهداية الخاصّة والعامّة

- ‌المرتبة الثّالثة: إرسال الرّسول الملكيِّ إلى الرّسول البشريِّ

- ‌المرتبة الرّابعة: مرتبة المحدَّث

- ‌المرتبة السابعة: البيان الخاصُّ

- ‌العبادة تجمع أصلين:

- ‌الاستعانة تجمع أصلين:

- ‌ نفاة الحِكَم والتّعليل

- ‌ القدريّة النفاة

- ‌ لزوم {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} لكلِّ عبد إلى الموت

- ‌ انقسام العبوديّة إلى عامّةٍ وخاصّةٍ

- ‌رحى العبوديّة تدور على خمس عشرة قاعدةً

- ‌ عبوديّات اللِّسان

- ‌فصلفلنرجع إلى ذكر منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} التي لا يكون العبدُ من أهلها حتّى ينزل منازلها

- ‌ منزلة المحاسبة

- ‌منزلة التّوبة

- ‌ الفرحُ بالمعصية

- ‌ المجاهرةُ بالذّنب

- ‌شرائطُ التَّوبة

- ‌حقائق التّوبة

- ‌دفعُ القدر بالقدر نوعان:

- ‌سرائرُ حقيقة التّوبة

- ‌ التَّوبة من التَّوبة

- ‌لطائف أسرار التّوبة

- ‌النّاس في الأسباب والقوى والطّبائع ثلاثة أقسامٍ:

- ‌توبةُ الأوساط من استقلال المعصية

- ‌توبةُ الخواصِّ من تضييع الوقت

- ‌ المبادرةُ إلى التَّوبة من الذَّنب فرضٌ على الفور

- ‌هل تصحُّ التّوبة من ذنبٍ مع الإصرار على غيره

- ‌ حقيقةَ التّوبة:

- ‌ التَّوبة النَّصوح وحقيقتها

- ‌ الفرق بين تكفير السّيِّئات ومغفرة الذُّنوب

- ‌التّوبةُ لها مبدأٌ ومنتهًى

- ‌ الحكم بغير ما أنزل الله

- ‌الْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ

- ‌فسقُ العمل

- ‌فسقُ الاعتقاد:

- ‌ توبة المنافق

- ‌ توبةَ القاذف

- ‌ توبة السَّارق

- ‌ الإثم والعدوان

- ‌ الفحشاء والمنكر

- ‌ القول على الله بلا علمٍ

الفصل: قال صاحب "المنازل" رحمه الله (1) : (و‌ ‌حقائق التّوبة ثلاثة أشياء: تعظيمُ

قال صاحب "المنازل" رحمه الله

(1)

: (و‌

‌حقائق التّوبة

ثلاثة أشياء: تعظيمُ الجناية، واتِّهامُ التّوبة، وطلبُ أعذار الخليقة).

يريدون بالحقائق: ما يتحقَّق به الشَّيءُ، ويتبيَّن صحّتُه وثبوتُه، كما قال النّبيُّ صلى الله عليه وسلم لحارثة

(2)

: "إنّ لكلِّ حقٍّ حقيقةً، فما حقيقةُ إيمانك؟ "

(3)

.

فأمّا تعظيم الجناية، فإنّه إذا استهان بها لم يندم عليها، وعلى قدر تعظيمها يكون ندمُه على ارتكابها. فإنَّ مَن استهان بإضاعة فَلْسٍ مثلًا لم يندم على إضاعته، فإذا علم أنّه دينارٌ اشتدّ ندمُه، وعظمت إضاعتُه عنده. وتعظيمُ الجناية يصدر عن ثلاثة أشياء: تعظيم الأمر، وتعظيم الآمر، والتَّصديق بالجزاء.

(1)

"منازل السائرين"(ص 10).

(2)

كذا في النسخ وبعض المصادر المتأخرة الآتي ذكرها، وفي أغلب المصادر:"الحارث بن مالك".

(3)

هذا الحديث رُوي معضلًا من طرق عن صالح بن مسمار، وجعفر بن برقان، وزبيد اليامي (وهم من أتباع التابعين) عن النبي صلى الله عليه وسلم. ينظر:"زهد ابن المبارك"(1/ 106) و"مصنف عبد الرزاق"(20014) و"مصنف ابن أبي شيبة"(31064) و"شعب الإيمان"(10108) و"تاريخ دمشق"(54/ 227).

ورُوي معضلًا أيضًا من طريق محمد بن أبي الجهم ــ وهو من أتباع التابعين ــ عن الحارث بن مالك قصته. أخرجه الطبراني (3/ 266) وابن عساكر (54/ 179).

ورُوي مسندًا من طريقين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، كما في "مسند البزار"(13/ 333) و"تاريخ دمشق"(38/ 274)، في أحدهما متروك، وفي الآخر مجهول. وقد ضعَّفه العراقي في "تخريج الإحياء"

قال العراقي في "المغني عن حمل الأسفار"(كتاب الصبر): "أخرجه البزار من حديث أنس، والطبراني من حديث الحارث بن مالك، وكلا الحديثين ضعيف".

ص: 285

وأمّا اتِّهامُ التّوبة، فلأنّها حقٌّ عليه، ولا يتيقَّن أنّه أدَّى هذا الحقَّ على الوجه المطلوب منه، الذي ينبغي له أن يؤدِّيه عليه، فيخاف

(1)

أنّه ما وفَّاها حقَّها، وأنّها لم تُقبَل منه، وأنّه لم يبذل جهدَه في صحّتها، أو أنَّها توبةُ علَّةٍ وهو لا يشعر بها، كتوبة أرباب الجوائح والإفلاس، والمحافظين على جاهاتهم ومنازلهم بين النّاس، أو أنّه تاب محافظةً على حاله، فتاب للحال لا خوفًا من ذي الجلال، أو أنّه تاب طلبًا للرَّاحة من الكدِّ في تحصيل الذَّنب، أو إبقاءً على عِرضه وماله ومنصبه، أو لضعفِ داعي المعصية في قلبه وخمودِ نار شهوته، أو لمنافاة المعصية لما يطلبه من العلم والرِّزق، ونحو ذلك من العلل التي تقدَح في كونِ التَّوبةِ خوفًا من الله تعالى، وتعظيمًا له ولحرماته، وإجلالًا له، وخشيةً من سقوط المنزلة عنده ومن البعد والطّرد عنه والحجاب عن رؤية وجهه في الدّار الآخرة. فهذه التّوبةُ لونٌ، وتوبةُ أصحاب العلل لونٌ

(2)

.

ومن اتِّهام التّوبة أيضًا: ضعفُ العزيمة، والتفاتُ القلب إلى الذَّنب اللَّفْتَةَ بعد اللَّفْتةِ

(3)

، وتذكُّر حلاوة مواقعته، فربَّما تنفَّسَ، وربَّما هاج هائجُه.

ومن اتِّهام التّوبة: طمأنينتُه ومعرفتُه من نفسه بأنّه قد تاب، حتّى كأنّه قد أُعطِيَ منشورًا بالأمان! فهذا من علامات التُّهمة.

(1)

ش: "يخاف". وقد وضع عليه بعضهم في ل علامة اللحق بحيث يشطب أوله، ثم كتب في الهامش:"إلا بأن" مع علامة "صح"، يعني:"إلا بأن يخاف".

(2)

وانظر ما سيأتي في (ص 478).

(3)

طمس بعضهم في ل لام التعريف من اللَّفتتين. وفي م، ع:"الفينة بعد الفينة". وفي ش: "الهينة بعد الهينة"، تحريف.

ص: 286

ومن علاماتها: جمودُ العين، واستمرارُ الغفلة، وأنه لم يَستحدِثْ بعد التّوبة أعمالًا صالحةً لم تكن له قبلُ.

فالتّوبة المقبولة الصّحيحة لها علاماتٌ:

منها: أن يكون بعد التّوبة خيرًا ممّا كان قبل الخطيئة.

ومنها: أنّه لا يزال الخوف مصاحبًا له، لا يأمن طرفةَ عينٍ. فخوفُه مستمرٌّ إلى أن يسمع قولَ الرُّسل لقبض روحه:{أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30]، فهناك يزول الخوف.

ومنها: انخلاعُ قلبه، وتقطُّعُه ندَمًا وخوفًا. وهذا على قدر عِظَمِ الجناية وصِغَرِها. وهذا تأويل ابن عيينة لقوله تعالى:{لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 110] قال: تقطُّعها بالتّوبة

(1)

. ولا ريب أنَّ الخوفَ الشّديدَ من العقوبة العظيمة يُوجِب انصداعَ القلب وانخلاعَه، وهذا هو تقطُّعُه، وهذا حقيقةُ التَّوبة، لأنّه يتقطَّع قلبُه حسرةً على ما فرَط منه، وخوفًا من سوء عاقبته. فمن لم يتقطَّع قلبُه في الدُّنيا على ما فرَّط

(2)

حسرةً وخوفًا، تقطَّع في الآخرة إذا حقَّت الحقائقُ، وعاين ثوابَ المطيعين، وعقابَ العاصين. فلا بدَّ من تقطُّعِ القلب إمّا في الدُّنيا وإمّا في الآخرة.

ومن موجَبات التّوبةِ الصّحيحةِ أيضًا: كَسْرةٌ خاصَّةٌ تحصل للقلب لا

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره"(6/ 1886)، وانظر:"معاني الزجاج"(2/ 470)، و"النكت والعيون"(2/ 405).

(2)

بعده في ش، ع زيادة "من"، وقد استدركت في حاشية م يعني:"فرَطَ منه".

ص: 287

يشبهها شيءٌ. ولا تكون لغير الذنب

(1)

، لا تحصل بجوعٍ، ولا رياضةٍ، ولا حبٍّ مجرَّدٍ. وإنّما هي أمرٌ وراء هذا كلِّه، تكسر القلبَ بين يدي ربِّه كسرةً تامّةً قد أحاطت به من جميع جهاته، وألقَتْه بين يدي ربِّه طريحًا ذليلًا خاشعًا، كحال عبدٍ جانٍ آبقٍ من سيِّده، فأُخِذَ، وأُحضِرَ بين يديه، ولم يجد من يُنجيه من سطوته، ولم يجد منه بدًّا ولا عنه غَناءً ولا منه مهربًا، وعلِم أنّ حياته وسعادته وفلاحه

(2)

ونجاته في رضاه عنه، وقد علِمَ إحاطةَ سيِّده

(3)

بتفاصيل جناياته. هذا مع حبِّه لسيِّده، وشدّةِ حاجته إليه، وعلمِه بضعفِه وعجزِه وقوّةِ سيِّده، وذُلِّه وعِزِّ سيِّده. فيجتمع من هذه الأحوال كَسْرةٌ وذلّةٌ وخضوعٌ، ما أنفعها للعبد! وما أجزلَ عائدَها

(4)

عليه! وما أعظمَ جبرَه بها

(5)

! وما أقربه بها من سيِّده

(6)

! فليس شيءٌ أحبَّ إلى سيِّده من هذه الكسرة والخضوع والتّذلُّل والإخبات، والانطراح

(7)

بين يديه، والاستسلام له!

فلله ما أحلى قوله في هذه الحال: أسألك بعزِّك وذلِّي لك إلّا رحمتني. أسألك بقوّتك وضعفي، وبغناك عنِّي وفقري إليك. هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك. عبيدُك سواي كثيرٌ، وليس لي سيِّدٌ سواك. لا ملجأ ولا

(1)

ج: "التائب". وفي ع: "المذنب".

(2)

بعده في ش زيادة: "ونجاحه"، وقد استدركت في هامش م.

(3)

ج: "إحاطة علم سيده".

(4)

ع: "أجدى عائدتها".

(5)

ج: "خيرها".

(6)

ج: "إلى سيده".

(7)

ج: "والاطراح".

ص: 288

منجى منك إلّا إليك. أسألك مسألةَ المسكين، وأبتهل إليك ابتهالَ الخاضع الذّليل، وأدعوك دعاءَ الخائف الضَّرير، سؤالَ من خضعَتْ لك رقبتُه، ورغِمَ لك أنفُه، وفاضت لك عيناه، وذلَّ لك قلبُه.

يا مَن ألوذُ به فيما أؤمِّلُه

ومَن أعوذ به فيما أُحاذِرُهُ

(1)

لا يجبُر النّاسُ عظمًا أنت كاسرُه

ولا يَهِيضُون عَظْمًا أنت جابرُهُ

(2)

فهذا وأمثاله من آثار التّوبة المقبولة. فمن لم يجد ذلك في قلبه فليتَّهِمْ توبتَه، وليرجع إلى تصحيحها. فما أصعبَ التّوبةَ الصّحيحةَ بالحقيقة! وما أسهلها باللِّسان والدّعوى! وما عالج الصّادقُ شيئًا أشقَّ عليه من التّوبة الصّادقة الخالصة، فلا حول ولا قوّة إلّا بالله.

وأكثر النّاس المتبرِّئين

(3)

عن الكبائر الحسِّيّة والقاذورات في كبائر مثلِها أو أعظمَ منها أو دونَها، ولا يخطر بقلوبهم أنّها ذنوبٌ ليتوبوا منها! فعندهم من الإزراءِ على أهل الكبائر واحتقارِهم، وصولةِ طاعاتهم عليهم، ومنَّتِهم على الخلق بلسان الحال، واقتضاءِ بواطِنهم لتعظيم الخلق لهم على طاعاتهم اقتضاءً لا يخفى على أحدٍ غيرهم، وتوابعِ ذلك= ما هو أبغَضُ إلى الله تعالى وأبعَدُ لهم عن بابه من كبائر أولئك. فإن تدارك الله أحدَهم بقاذورةٍ أو كبيرةٍ تُوقِعُه ليكسر بها نفسه، ويعرِّفه بها قدره، ويُذِلَّه بها، ويُخرِجَ بها صولةَ

(1)

كذا "فيما أحاذره" في جميع النسخ هنا وفي آخر هذه المنزلة (2/ 50). وفي "الديوان": "مما أحاذره".

(2)

البيتان للمتنبي في "ديوانه"(ص 38 - 39)، وقد أنشدهما المصنف له في "شفاء العليل"(ص 240).

(3)

ع: "المتنزِّهين".

ص: 289

الطّاعة من قلبه = فهي رحمةٌ في حقِّه، كما أنّه إذا تدارك أصحابَ الكبائر بتوبةٍ نصوحٍ وإقبالٍ بقلوبهم إليه، فهو رحمةٌ في حقِّهم، وإلّا فكلاهما على خطرٍ.

فصل

وأمّا طلب أعذار الخليقة، فهذا له وجهان: وجهٌ محمودٌ، ووجهٌ مذمومٌ حرامٌ.

فالمذموم: أن يطلب أعذارَهم نظرًا إلى الحكمِ القدَريِّ وجريانِه عليهم، شاؤوا أم أبوا، فيعذِرَهم بالقدَر.

وهذا القَدْرُ ينتهي إليه كثيرٌ من السّالكين النّاظرين إلى القدر الفانين في شهوده، وهو ــ كما تقدّم ــ دربٌ خَطِرٌ جدًّا، قليل المنفعة، لا يُنجِي وحده.

وأظنُّ هذا مراد صاحب "المنازل"، لأنّه قال بعد ذلك

(1)

: (إنَّ مشاهدةَ العبدِ الحُكمَ لم تدَعْ له استحسانَ حسنةٍ ولا استقباحَ سيِّئةٍ، لصعوده من جميع المعاني إلى معنى الحُكْم).

وهذا الشُّهودُ شهودٌ ناقصٌ مذمومٌ، إن طرَدَه صاحبُه، فعذَر أعداءَ الله وأهلَ مخالفته ومخالفة رسله، وطلَب أعذارهم= كان مضادًّا لله في أمره، عاذرًا من لم يعذِره الله، طالبًا عذرَ من لامه الله وأمَر بلَومِه. وليست هذه موافقةً لله، بل موافقتُه لومُ هذا، واعتقادُ أنّه لا عذر له عند الله ولا في نفس الأمر. فالله عز وجل قد أعذَر إليه، وأزال عذرَه بالكلِّيّة. ولو كان معذورًا في نفس الأمر عند الله لما عاقبه البتّة، فإنّ الله أرحَم وأغنى وأعدَل من أن يعاقب

(1)

في ذكر "لطائف سرائر التوبة"(ص 11) وسيأتي الكلام عليه في محلّه أيضًا.

ص: 290

صاحبَ عذرٍ، فلا أحدَ أحبُّ إليه العذرُ من الله. ومن أجل ذلك أرسل الرُّسل وأنزل الكتب، إزالةً لأعذار خلقه، لئلّا يكون لهم عليه حجّةٌ. ومعلومٌ أنَّ طالبَ عذرهم ومُصحِّحَه مقيمٌ لحجّةٍ قد أبطلها الله من جميع الوجوه! فلله الحجّة البالغة.

ومن له عذرٌ من خلقه كالطِّفل الذي لا يميِّز، والمعتوه، ومن لم تبلغه الدّعوة، والأصمِّ الأعمى

(1)

الذي لا يبصر ولا يسمع= فإنَّ الله لا يعذِّب هؤلاء بلا ذنبٍ البتّة. وله فيهم حكمٌ آخر في المعاد، يمتحنهم بأن يرسل إليهم رسولًا يأمرهم وينهاهم، فمن أطاع الرّسول منهم أدخله الجنّة، ومن عصاه أدخله النّار. حكى ذلك أبو الحسن الأشعريُّ عن أهل السُّنّة والحديث في "مقالاته"

(2)

. وفيه عدَّة أحاديث بعضها في "مسند أحمد"، كحديث الأسود بن سريع

(3)

،

(1)

ع: "والأعمى".

(2)

في "مقالات الإسلاميين"(ص 296): "وأن الأطفال أمرهم إلى الله، إن شاء عذَّبهم، وإن شاء فعل بهم ما أراد". وفي "الإبانة"(ص 34): "وقولنا في أطفال المشركين أن الله تعالى يؤجِّج لهم في الآخرة نارًا، ثم يقول لهم: اقتحموها، كما جاءت بذلك الرواية". وانظر: "مجرَّد مقالات الأشعري"(ص 144 - 145). وانظر: "درء التعارض"(8/ 401، 435 - 438)، و"الردّ على الشاذلي"(ص 129)، و"مجموع الفتاوى"(4/ 246). والمصنف قد أفاض الكلام على المسألة في "طريق الهجرتين"(2/ 842 - 877) و"أحكام أهل الذمة"(2/ 1086 - 1130) و"تهذيب السنن"(3/ 214 - 222).

(3)

أخرجه أحمد (16301) وإسحاق في "مسنده"(41) وابن حبان (7357) والطبراني في "الكبير"(1/ 122) والبيهقي في "القضاء والقدر"(644) وفي "الاعتقاد"(ص 169) والضياء في "المختارة"(4/ 255، 256)، وفي إسناده انقطاع بين قتادة والأحنف بن قيس. وأخرجه بنحوه البزار (2174 - كشف الأستار) من طريق قتادة عن الحسن عن الأسود بن سريع، وفي سماع الحسن من الأسود خلاف، انظر:"جامع التحصيل"(165). ويشهد له حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي تخريجه.

ص: 291

وحديث أبي هريرة

(1)

.

ومن طعن في هذه الأحاديث بأنّ الآخرة دارُ جزاءٍ لا دارُ تكليفٍ، فهذه الأحاديث مخالفةٌ للعقل= فهو جاهلٌ، فإنَّ التَّكليفَ إنّما ينقطع بدخول دار القرار: الجنّة أو النّار، وإلّا فالتَّكليفُ واقعٌ في البرزخ وفي العرصات. ولهذا يدعوهم إلى السُّجود له في الموقف، فيسجد المؤمنون له طوعًا واختيارًا، ويُحال بين الكفّار والمنافقين وبين السُّجود

(2)

.

والمقصود: أنّه لا عذر لأحدٍ البتّةَ في معصية الله ومخالفة أمره، مع علمِه بذلك، وتمكُّنِه من الفعل والتّرك. ولو كان له عذرٌ لما استحقَّ العقوبةَ واللّومَ، لا في الدُّنيا ولا في العقبى.

فإن قيل: هذا كلامٌ بلسان الجاه

(3)

بالشّرع، ولو نطقتَ بلسان

(1)

أخرجه أحمد (16302) وإسحاق (42) والبزار (2175 - كشف الأستار) والبيهقي في "الاعتقاد"(ص 111) والضياء (4/ 255)، وإسناده حسن لأجل معاذ بن هشام الدستوائي .. وأخرجه بنحوه إسحاق (514) وابن أبي عاصم في "السنة"(413 - نشرة الجوابرة) وأسد بن موسى في "الزهد"(97، 98) من طريقين منقطعين عن أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه بنحوه موقوفًا على أبي هريرة: عبد الرزاق في "التفسير"(2/ 292) والطبري في "تفسيره"(14/ 526) من ثلاثة طرق عنه. وانظر: "الصحيحة"(1434) و"ظلال الجنة"(404).

(2)

يشير إلى قوله تعالى في سورة القلم (42): {صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ} وانظر: "طريق الهجرتين"(2/ 876).

(3)

م: "الجاه والشرع".

ص: 292

الحقيقة

(1)

لعذرتَ الخليقةَ، إذ هم صائرون إلى مشيئة الله فيهم وما قضَاه وقدَّره عليهم ولا بدّ، فهم مَجارٍ لأقداره، وسهامُها نافذةٌ فيهم، وهم أغراضٌ لسهام الأقدار لا تخطئهم البتّة. ولكن من غلَب عليه مشاهدةُ الحكم الشّرعيِّ لم يمكنه طلبُ العذر لهم، ومن غلَب عليه مشاهدةُ الحكم الكونيِّ عذَرهم. فأنت معذورٌ في الإنكار علينا بحقيقة الشّرع، ونحن معذورون في طلب العذر بحقيقة الحكم، وكلانا مصيبٌ.

فالجواب من وجوهٍ:

أحدها: أن يقال: العذر إن لم يكن مقبولًا لم يكن نافعًا. والاعتذارُ بالقدَر غير مقبولٍ، ولا يُعذَر به أحدٌ، ولو اعتذر فهو كلامٌ باطلٌ لا يفيد شيئًا البتّة، بل يزيد في ذنب الجاني، وغضبِ الرَّبِّ عليه. وما هذا شأنُه لا يشتغل به عاقلٌ.

الثّاني: أنَّ الاعتذارَ بالقدَر يتضمَّن تنزيهَ الجاني نفسَه وتبرئة ساحتِه ــ وهو الظّالم الجاهل ــ والحملَ على القدر، ونسبةَ الذّنب إليه، وتظليمَه بلسان الحال والقال، بتحسين العبارة وتلطيفها. وربّمَا غلبه الحالُ، فصرَّح بالوجد، كما قال بعض خُصَماء الله تعالى:

ألقاه في اليمِّ مكتوفًا وقال له

إيّاك إيّاك أن تبتلَّ بالماء

(2)

(1)

ج، م، ش:"لسان"، وكذا كان في ق، ل ثم زيدت الباء.

(2)

أنشده المؤلف في "طريق الهجرتين"(1/ 179)، و"شفاء العليل" (ص 4) أيضًا. وهو للحلاج في "ديوانه" (ص 26) وقبله:

ما يفعل العبد والأقدارُ جاريةٌ

عليه في كلِّ حالٍ أيُّها الرَّائي

ص: 293

وقال خصمٌ آخر

(1)

:

وضَعوا اللَّحْمَ للبُزا

ةِ على ذروتَي عَدَنْ

ثمَّ لاموا البزاةَ إذ

خلعوا عنهم الرَّسَنْ

لو أرادوا صيانتي

ستَروا وجهَك الحَسَنْ

(2)

وقال خصمٌ آخر:

أصبحتُ منفعلًا لما تختاره

منِّي ففعلي كلُّه طاعاتُ

(3)

وقال خصمٌ آخر شاكيًا متظلِّمًا:

إذا كان المحبُّ قليلَ حظٍّ

فما حسناتُه إلّا ذنوبُ

(4)

وقال آخَرُ معتذرًا عن إبليس:

إبليسُ لمّا عصى مَن كان إبليسَهْ؟

(5)

(1)

بإزائه تحت البيتِ السابق في ل بيت آخر بخط ناسخها:

من غَصَّ داوَى بشُرب الماء غُصَّته

فما التَّداوي لمن قد غَصَّ بالماءِ

وهو لأبي بكر بن داود كما في "شعب الإيمان"(1754) والبيت دون عزو في "العقد"(3/ 104)، و"الأمثال الصادرة عن بيوت الشعر"(ص 337)، و"التمثيل والمحاضرة"(ص 257).

(2)

الأبيات ذكرها المصنف في "طريق الهجرتين"(1/ 180) أيضًا. وهي للشِّبلي في "تاريخ مدينة السلام"(13/ 575 - 576) ومنه في "تلبيس إبليس"(ص 318).

(3)

تقدَّم البيت في ذكر المعاطب على درب الفناء (ص 250).

(4)

سيأتي مرة أخرى. والبيت من قصيدة أنشدها صاحب "الدُّرّ الفريد"(2/ 14، 25) للبحراني. وهو من أربعة أبيات في "فوات الوفيات"(4/ 172) لأبي نصر الخباز النِّيري الواسطي (ت 450). وهي في "تاريخ إربل"(1/ 382) دون عزو.

(5)

لم أقف عليه.

ص: 294

لخصماء الله

(1)

هاهنا تظلُّماتٌ وشكاياتٌ، ولو فتَّشوا زوايا قلوبهم لوجدوا هناك خصمًا متظلِّمًا شاكيًا عاتبًا يقول: لا أقدر أن أقول شيئًا، وإنِّي مظلومٌ في صورة ظالمٍ! ويقول بحُرقةٍ وتنفُّس

(2)

الصُّعَداء: مسكينٌ ابنُ آدم، لا قادرٌ ولا معذورٌ!

ويقول الآخر: ابنُ آدم كرةٌ تحت صَوْلَجَانات الأقدار

(3)

، يضربها واحدٌ، ويردُّها الآخر، وهل تستطيع الكرةُ الانتصافَ من الصَّوْلَجان

(4)

!

ويتمثّل خصمٌ آخر بقول الشّاعر:

بأبي أنت وإن أَسْـ

ـرَفتَ في هَجْري وظلمي

(5)

فجعله هاجرًا له بلا ذنبٍ ظالمًا، بل مسرفًا قد تجاوز الحدَّ في ظلمه.

ويقول الآخر:

أظلَّتْ علينا منك يومًا سحابةٌ

أضاءت لنا برقًا وأبطا رِشاشُها

فلا غيمُها يجلو فييئسَ طالبٌ

(6)

ولا غيثُها يأتي فيَرْوَى عطاشُها

(7)

(1)

ج: "فلخصماء الله"، وزاد بعضهم الفاء في ل. وفي ش، ع:"ولخصماء الله".

(2)

ق، ل:"وبنفس".

(3)

الصَّولجان: عصًا يُعطَف طرفُها، فارسي معرَّب.

(4)

ما عدا ع: "الصولجانات".

(5)

لم أجده.

(6)

ج: "طامع"، وهي الرواية.

(7)

البيتان لبشَّار بن برد يخاطب خالد بن برمك في "الأغاني"(3/ 178). وانظر: "المختار من شعر بشار"(ص 66)، و"ديوانه"(ص 145 - العلوي). وهما من سبعة أبيات لعبد الصمد بن الفضل الرَّقاشي يخاطب خالد بن ديسَم عامل الرَّي في "البصائر والذخائر"(8/ 195)، وانظر:"عيون الأخبار"(3/ 145)، و"العقد"(1/ 246). والسياق في "اللمع" للسرَّاج (ص 251)، و"الحلية"(10/ 374) يوهم أن البيتين للشِّبلي، ولكن الصواب أنه تمثَّل بهما. انظر:"ديوانه" المجموع (ص 142).

ص: 295

ويقول خصمٌ آخر:

يدنو إليك ونقصُ الحظِّ يُبْعِدُه

ويستقيمُ وداعي البين يَلويه

(1)

ويقول خصمٌ آخر:

واقفٌ في الماء ظمآ

نُ ولكنْ ليس يُسْقى

(2)

ومن له أدنى فهمٍ وبصيرةٍ يعلم أنَّ هذا كلَّه تظلُّمٌ وشكايةٌ وعتبٌ. ويكاد أحدهم أن يقول: "يا ظالمي" لولا

(3)

! ولو فتَّش نفسَه كما ينبغي لوجد ذلك فيها، وهذا ما لا غاية بعده من الجهل والظُّلم. والإنسانُ ــ كما قال ربُّه

(4)

ــ ظلوم جهول، {هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)} [فاطر: 15].

ولو علِم هذا الظّالم الجاهل أنَّ بلاءَه من نفسه ومُصابَه منها، وأنّها أولى بكلِّ ذمٍّ وظلمٍ، وأنّها مأوى كلِّ سوءٍ! و {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ} [العاديات: 6].

(1)

لم أعثر عليه.

(2)

ورد في "تاريخ دمشق"(40/ 31) في ترجمة أبي القاسم بن مَرْدان النهاوندي صاحب أبي سعيد الخرَّاز (ت 286 هـ). وانظر: "الإحياء"(2/ 290)، و"المدهش"(1/ 313).

(3)

يعني: لولا بقية حياء أو خوف أو نحو ذلك، كما ذكر الشيخ عامر بن علي ياسين في تعليقه في نشرته (1/ 263).

(4)

يعني قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72].

ص: 296

قال ابن عبّاسٍ ومجاهد وقتادة: كَفورٌ جَحودٌ لنعم الله. قال الحسن رضي الله عنه: هو الذي يعُدُّ المصائب وينسى النِّعم. وقال أبو عبيدة رضي الله عنه

(1)

: هو قليل الخير، والأرض الكنود التي لا تُنبت شيئًا. وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: الكنود: الذي أنسته الخصلةُ الواحدةُ من الإساءة الخصالَ الكثيرةَ من الإحسان

(2)

.

ولو علم هذا الظّالم الجاهل

(3)

أنّه هو القاعد على طريق مصالحه يقطعها عن الوصول إليه، فهو حجرٌ في طريق الماء الذي به حياته، وهو السِّكْرُ

(4)

الذي قد سدَّ مجرى الماء إلى بستان قلبه، ويستغيث مع ذلك: العطش، وقد وقَف في طريق الماء ومنعَ وصولَه إليه! فهو حجابُ قلبه عن سرِّ غيبه، وهو الغيمُ المانعُ لإشراق شمس الهدى على القلب، فما عليه أضرُّ منه، ولا له عدوٌّ أبلغُ عداوةً منه.

ما يبلغ الأعداءُ من جاهلٍ

ما يبلغ الجاهلُ من نفسِه

(5)

فتبًّا له ظالمًا في صورة مظلومٍ، وشاكيًا والجناية منه! قد جَدَّ في

(1)

ورد الترضِّي في جميع النسخ ما عدا ش.

(2)

راجع لهذه الأقوال كلها: "تفسير البغوي"(8/ 509) وعنه صدر المؤلف.

(3)

ج: "الجاهل الظالم".

(4)

"السِّكْرُ": كلُّ ما سُدَّ به النَّهر والبَثْق ومجرى الماء.

(5)

من أبيات لصالح بن عبد القدوس في "العقد"(2/ 436)، و"التمثيل والمحاضرة"(ص 77 - 78)، و"الحماسة البصرية"(2/ 874). وانظر تخريج البيت فيه. وقد أنشده المصنف في "الداء والدواء"(ص 159)، و"طريق الهجرتين"(1/ 135) وغيرهما.

ص: 297

الإعراض، وهو ينادي: طرَدوني وأبعَدوني! ولّى ظهره الباب، بل أغلقه على نفسه، وأضاع مفاتيحه، وكَسَرها، ويقول:

دعاني وسدَّ البابَ دوني فهل إلى

دخولي سبيلٌ بيِّنوا ليَ قصَّتي

(1)

يأخذ الشَّفيقُ بحُجْزتِه عن النّار، وهو يجاذبه ثوبَه ويغلبُه ويتقَحَّمُها

(2)

، ويستغيث: ما حيلتي؟ وقد قدَّموني إلى الحُفرة وقذفوني فيها!

(1)

ما عدا ق، ل، ع:"قضيَّتي" وكذا في "أعيان العصر"(3/ 292) وغيره. والبيت أنشده المؤلف في "طريق الهجرتين"(1/ 180) أيضًا. وهو من قصيدة ذكر ابن حجر في "الدُّرر"(1/ 156) أن محمد بن أبي بكر السكاكيني (ت 721) عملها على لسان ذمي في إنكار القدر، أولها:

أيا علماءَ الدين ذِمّيُّ دينكم

تحيَّر دُلُّوه بأوضحِ حُجَّةِ

فانبرى للرَّدِّ عليها نظمًا كبارُ علماء مصر والشام، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية ("مجموع الفتاوى" 8/ 245 - 255)، والعلاء الباجي والعلاء القونوي وغيرهم. انظر قصائدهم في "طبقات الشافعية" (10/ 352 - 366). وقد وردت هنا في ل حاشية نصُّها: "وقال بعض اليهود في نظم له:

دعاني وردَّ البابَ ما حيلة الفتى

إذا ما دُعي العبدُ المسيءُ مع الرَّدِّ

وكلُّ هذا مردودٌ على أصحابه المحتجِّين به على الحقِّ ــ تعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا ــ أن يكلِّف العبد ما لا يطيقه، فيكون جائرًا عليه، ظالمًا له، جاهلًا فيه. وهذا محالٌ على الحق تعالى. وقد قال تعالى:{فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [المزمل: 19]. وقد أرسل الرسل وأنزل الكتب لقطع الحجج: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] ".

(2)

ج، ش، ع:"يقتحمها" وكذا غُيِّر في م. وفي هامش ل: "قال عليه السلام: "إنكم لتَقَحَّمون في النار وإني لآخِذٌ بحجزكم". يعني أن المصنف يشير إلى الحديث المذكور الذي أخرجه البخاري (6483)، ومسلم (2284) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 298

كم

(1)

صاحَ به النّاصحُ: الحذر الحذر، إيّاك إيّاك! وكم أمسَك بثوبه! وكم أراه مصارعَ المقتحمين، وهو يأبى إلّا الاقتحام!

وكم سُقْتُ في آثاركم من نصيحةٍ

وقد يستفيدُ البِغْضَةَ المتنصِّحُ

(2)

يا ويله ظهيرًا للشّيطان على ربِّه، خصمًا لله مع نفسه! جبريُّ المعاصي، قدريُّ الطّاعات، "عاجزُ الرّأي مضياعٌ لفرصته"

(3)

، قاعدٌ عن مصالحه، معاتبٌ لأقدار ربِّه، يحتجُّ

(4)

على ربِّه بما لا يقبله من عبده وامرأته وأمته إذا احتجُّوا به عليه في التّهاون في بعض أمره. فلو أمَر أحدَهم بأمرٍ ففرَّط فيه، أو نهاه عن شيءٍ فارتكبه، وقال: القدرُ ساقني إلى ذلك= لَما قبِلَ منه هذه الحجّةَ، ولبادرَ إلى عقوبته.

فإن كان القدرُ حجّةً لك أيُّها الظّالم الجاهل

(5)

في ترك حقِّ ربِّك، فهلّا

(1)

قبله في ع: "ولله". وفي سائر النسخ "رفقة"، ولكن ضرب عليه في ل ووضعت فوقه علامة الحذف في ق.

(2)

كذا "البغضة" في الأصل وغيره، والرواية:"الظِّنَّة" أي التهمة. والبيت في "الكامل" للمبرِّد (3/ 1502) عن الرِّياشي، وفي "جمهرة الأمثال" للعسكري (2/ 161) من إنشاد عمارة بن عقيل. وعزي في "مجموعة المعاني"(1/ 80)، و"التذكرة الحمدونية"(7/ 101) إلى الأقرع بن معاذ.

(3)

من قول الشاعر:

وعاجزُ الرأي مضياعٌ لفرصته

حتى إذا فات أمرٌ عاتب القدرا

كما ذكر في هامش ش كاملًا، وفي هامش م العجز فقط. وقد تقدم في (ص 123).

(4)

يحتمل رسمه في ق: "محتج".

(5)

لفظ "الجاهل" ساقط من ش.

ص: 299

كان حجّةً لعبدك وأمتك في ترك بعض حقِّك! بل إذا أساء

(1)

إليك مسيءٌ، وجنى عليك جانٍ، واحتجَّ بالقدر= لاشتدَّ غضبُك عليه، وتضاعف جرمُه عندك، ورأيتَ حجّتَه داحضةً؛ ثمّ تحتجُّ على ربِّك به، وتراه عذرًا لنفسك! فمَن أولى بالظُّلم والجهل ممَّن هذه حاله؟

هذا مع تواتر إحسان الله إليك على مدى الأنفاس: أزاح عللَك، ومكَّنك من التَّزوُّد إلى جنَّته، وبعث إليك الدَّليل، وأعطاك مؤنة السّفر وما تتزوَّد به وما تحارب به قطَّاعَ الطَّريق عليك. فأعطاك السَّمع والبصر والفؤاد، وعرَّفك الخيرَ والشَّرَّ والنَّافعَ والضَّارَّ، وأرسل إليك رسولَه، وأنزل

(2)

كتابَه ويسَّره للذِّكر والفهم والعمل، وأعانك بمددٍ من جنده الكرام، يثبِّتونك ويحرُسونك، ويحاربون عدوَّك ويطردونه عنك، ويريدون منك أن لا تميل إليه ولا تصالحه، وهم يكفُونك مؤنتَه؛ وأنت تأبى إلّا مظاهرتَه عليهم، وموالاتَه دونهم، بل تُظاهِرُه وتُواليه دون وليِّك الحقِّ الذي هو أولى بك. قال تعالى:{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف: 50].

طرَد إبليسَ عن سمائه، وأخرجَه من جنّته، وأبعدَه من قربه، إذ لم يسجد لك، وأنت في صلب أبيك آدم، لكرامتك عليه، فعاداه وأبعَدَه؛ ثمَّ واليتَ عدوَّه، ومِلْتَ إليه، وصالحته! وتتظلَّم مع ذلك، وتشتكي الطَّردَ والبعادَ!

(3)

.

(1)

ج: "لو أساء" وهو مقتضى الجواب الآتي المقترن باللام: "لاشتدَّ".

(2)

بعده في ع زيادة: "إليك".

(3)

في ع بعده زيادة:

وتقول:

عوَّدوني الوصالَ والوصلُ عذبُ

ورمَوني بالصَّدِّ والصَّدُّ صعبُ

والبيت من ثلاثة أبيات للشِّبلي في "حلية الأولياء"(10/ 367)، و"تاريخ دمشق"(66/ 66)، و"وفيات الأعيان" (2/ 273). وانظر:"ديوانه" المجموع (ص 85).

ص: 300

نعم، كيف لا يطرُد مَن هذه معاملتُه! وكيف لا يُبْعِد عنه مَن هذا وصفُه! وكيف يجعل مِن خاصَّتِه وأهلِ قربه مَن حالُه معه هكذا

(1)

.

أمره بشكره، لا لحاجته إليه، ولكن لينال به المزيدَ من فضله، فجعل كُفْرَ نعَمِه والاستعانةَ بها على مساخطه من أكبر أسباب صَرْفِها عنه!

وأمرَه بذكره ليذكره بإحسانه، فجعَلَ نسيانَه سببًا لنسيان الله له

(2)

، {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67].

أمَره بسؤاله ليعطيه، فلم يسأله! بل أعطاه أجلَّ العطاء بلا سؤالٍ، فلم يقبل!

يشكو مَن يرحمه إلى مَن لا يرحمه، ويتظلَّم ممَّن

(3)

لا يظلمه، ويدَعُ من يعاديه ويظلمه!

إن أنعَم عليه بالصِّحّة والعافية والمال والجاه استعان بنعمه على معاصيه، وإن سلَبه ذلك ظلَّ متسخِّطًا على ربِّه وهو شاكيه!

لا يصلح له

(4)

على عافيةٍ، ولا على ابتلاءٍ: العافيةُ تلقيه إلى مساخطه،

(1)

بعده في ع زيادة: "قد أفسد ما بينه وبين الله وكدَّره".

(2)

وردت في ع هنا هذه الآية أيضًا: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر: 19].

(3)

ق، م، ش:"من"، وكذا كان في ل، ج ثم أصلح.

(4)

"له" مضروب عليه في ق، ل.

ص: 301

والبلاءُ يدفعه إلى كفرانه وجحود نعمته وشكايته إلى خلقه!

دعاه إلى بابه، فما وقَف عليه ولا طرَقه! ثمّ فتَحه له فما عرَّج عليه ولا وَلَجه!

أرسل إليه رسولَه يدعوه إلى دار كرامته، فعصى الرَّسولَ، وقال: لا أبيع ناجزًا بغائبٍ، ونقدًا بنسيئةٍ، ولا أترك ما أراه لشيءٍ سمعتُ به!

(1)

فإن وافق حظُّه طاعةَ الرّسول أطاعه لنيل حظِّه، لا لرضى مُرْسِله!

لم يزل يتمقَّت إليه بمعاصيه، حتّى أعرض عنه وأغلق البابَ في وجهه. ومع هذا فلم يُؤيِسْه من رحمته، بل قال: متى جئتَني قبلتُك، إن أتيتَني ليلًا قبلتُك، وإن أتيتَني نهارًا قبلتُك. و"إن تقرَّبتَ منِّي شبرًا تقرَّبتُ منك ذراعًا، وإن تقرَّبتَ منِّي ذراعًا تقرَّبتُ منك باعًا، وإن مشيتَ إليَّ هرولتُ إليك"

(2)

. "ولو لقيتَني بقُرابِ الأرض خطايا، ثمّ لقيتَني لا تشرك بي شيئًا

(3)

، أتيتُك بقُرابها مغفرةً. ولو بلغت ذنوبُك عَنانَ السَّماءِ، ثمَّ استغفرتَني غفرتُ لك"

(4)

.

(1)

في ع هنا زيادة: "ويقول:

خذ ما رأيتَ ودع شيئًا سمعتَ به

في طلعةِ الشَّمس ما يُغنيك عن زُحَلِ

وفي هامشها بإزاء هذا البيت: "زائد على الأصل". والبيت للمتنبي في "ديوانه"(ص 330).

(2)

من حديث أبي هريرة الذي أخرجه البخاري (7405) ومسلم (2675).

(3)

"شيئًا" من ج، ش، ع.

(4)

أخرجه الترمذي (3540) وغيره من حديث أنس بن مالك، وفيه سعيد بن عُبيد، فيه لين. وله شاهد من حديث أبي ذر، أخرجه أحمد (21472) من طريق شهر بن حوشب عن معدي كرب عن أبي ذر به، وشهر فيه لين. وقد أخرج مسلم (2687) بعضَه من طريق آخر عن أبي ذر مرفوعًا، ولفظه: "

ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئًا لقيته بمثلها مغفرة".

ص: 302

ومَن أعظم منِّي جودًا وكرمًا؟ عبادي يبارزوني

(1)

بالعظائم، وأنا أكلؤهم على فُرُشهم

(2)

!

"إنِّي والإنسَ والجِنَّ في نبأٍ عظيمٍ: أخلُقُ ويُعبَدُ غيري، وأرزُقُ ويُشْكَر سواي! "

(3)

.

خيري إلى العباد نازلٌ، وشرُّهم إليَّ صاعدٌ! أتحبَّب إليهم بنعمي وأنا الغنيُّ عنهم، ويتبغَّضون إليَّ بالمعاصي وهم أفقر شيءٍ إليَّ

(4)

!

من أقبل إليَّ تلقَّيتُه من بعيدٍ، ومن تركَ لأجلي أعطيتُه فوق المزيد، ومن أراد رضاي أردتُ ما يريد، ومن تصرَّف بحَولي ألنتُ له الحديد.

(1)

كذا في الأصل وغيره بحذف نون الرفع تخفيفًا.

(2)

في "طريق الهجرتين"(2/ 686): "وفي بعض الآثار: يقول تعالى:

" ثم نقل نحوه. وانظر نحوه في "الحلية" (8/ 92 - 93) عن الفضيل بن عياض.

(3)

أخرجه الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"(983 - دار النوادر) والطبراني في "مسند الشاميين"(974، 975) والبيهقي في "شعب الإيمان"(4243) وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(17/ 77) وعبد الغني المقدسي في "التوحيد"(89) من حديث أبي الدرداء مرفوعًا. وإسناده منقطع بين عبد الرحمن بن جبير وشُريح بن عبيد وبين أبي الدرداء رضي الله عنه، فلم يدركاه. وانظر:"الضعيفة"(2371).

(4)

أخرجه بنحوه الدينوري في "المجالسة وجواهر العلم"(181) وأبو نعيم في "الحلية"(4/ 27) عن وهب قال: قرأت في بعض الكتب

وأخرجه بنحوه ابن أبي الدنيا في "الشكر"(44) عن شيخه أبي علي المدائني قال: كنت أسمع جارًا لي يقول في الليل

، وهو من طريقه في "شعب الإيمان"(4270).

ص: 303

أهلُ ذكري أهلُ مجالستي، وأهلُ شكري أهلُ زيادتي، وأهلُ طاعتي أهل كرامتي. وأهلُ معصيتي لا أقنِّطهم من رحمتي، إن تابوا فأنا حبيبُهم، فإنِّي أحبُّ التّوّابين وأحبُّ المتطهِّرين. وإن لم يتوبوا فأنا طبيبُهم، أبتليهم بالمصائب لأطهِّرهم من المعايب.

مَن آثرني على سواي آثرتُه على سواه. الحسنةُ عندي بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعفٍ، إلى أضعافٍ كثيرةٍ. والسّيِّئة عندي بواحدةٍ، فإن ندم عليها واستغفرني غفرتُها له.

أشكر اليسيرَ من العمَل، وأغفر الكثيرَ من الزَّلَل. رحمتي سبقت غضبي، وحلمي سبَقَ مؤاخذتي، وعفوي سبَقَ عقوبتي. أنا أرحم بعبادي من الوالدة بولدها

(1)

.

و"الله أشدُّ فرحًا بتوبة عبده من رجلٍ أضَلَّ راحلتَه بأرضٍ مَهْلَكةٍ دَوِّيَّةٍ، عليها طعامُه وشرابُه، فطَلبَها حتّى يئِسَ من حصولها فنام في أصل شجرةٍ ينتظر الموت، فاستيقظ فإذا هي على رأسه، قد تعلَّق خطامُها بالشَّجرة، فاللهُ أفرَحُ بتوبة عبده من هذا براحلته"

(2)

. وهذه فرحةُ إحسانٍ وبرٍّ ولطفٍ، لا فرحةُ محتاجٍ إلى توبة عبده منتفعٍ بها.

وكذلك موالاتُه لعبده إحسانًا إليه ومحبّةً له وبرًّا منه

(3)

، لا يتكثَّر به من

(1)

كما جاء في حديث عمر رضي الله عنه. أخرجه البخاري (5999) ومسلم (2754).

(2)

أخرجه البخاري (6308، 6309)، ومسلم (2744، 2747) من حديث ابن مسعود وأنس رضي الله عنهما.

(3)

ع: "به".

ص: 304

قلّةٍ، ولا يتعزَّز به من ذلّةٍ، ولا ينتصر به من غلبةٍ، ولا يُعِدُّه لنائبةٍ، ولا يستعين به في أمرٍ. {الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111) الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الإسراء: 111]، فنفى أن يكون له وليٌّ من الذُّلِّ. واللهُ وليُّ الذين آمنوا، وهم أولياؤه.

فهذا شأنُ الرَّبِّ وشأنُ العبيد، وهم يقيمون أعذارَ أنفسهم، ويحملون ذنوبَهم على أقداره.

استأثر اللهُ بالمحامد والمَجْـ

ـدِ وولّى الملامةَ الرَّجُلا

(1)

وما أحسن قول القائل:

تطوي المراحلَ عن حبيبك دائبًا

وتظلُّ تبكيه بدمعٍ ساجِمِ

كذَبتك نفسُك لستَ من أحبابه

تشكو البِعادَ وأنتَ عينُ الظَّالمِ

(2)

فصل

فهذا أحد المعنيين في قوله: (إنّ من حقائق التّوبة طلبَ أعذار الخليقة). وقد ظهر لك بهذا أنّ طلب أعذارهم في الجناية عائدٌ على التّوبة بالنَّقض والإبطال.

(1)

البيت للأعشى من قصيدة في "ديوانه"(2/ 90 - الرضواني). وقد تمثَّل به المؤلف في غير موضع من كتبه بألفاظ وسياقات مختلفة. انظر تعليقي عليه في "طريق الهجرتين"(1/ 11).

(2)

البيتان مع ثالث ذكر القالي في "الأمالي"(1/ 167) أن أبا غانم الكاتب قرأها على نفطويه. وهي في "الأشباه والنظائر" للخالديين (2/ 28)، و"حماسة الظرفاء"(2/ 5)، و"المنازل والديار"(ص 24، 34). ولم أقف على قائلها.

ص: 305

والمعنى الثاني: أن يكون مرادُه إقامةَ أعذارهم في إساءتهم إليك وجنايتهم عليك، والنّظرَ في ذلك إلى الأقدار، وأنّ أفعالهم بمنزلة حركات الأشجار، فتعذِرَهم بالقَدَر في حقِّك، لا في حقِّ ربِّك. فهذا حقٌّ، وهو

(1)

من شأن سادات العارفين وخواصِّ أولياء الله الكمَّل، يفنى أحدهم عن حقِّه، ويستوفي حقَّ ربِّه. ينظر في التّفريط في حقِّه والجناية عليه إلى القدَر، وينظر في حقِّ الله إلى الأمر، فيطلب لهم العذرَ في حقِّه، ويمحو عنهم العذرَ ويُبطله في حقِّ الله.

وهذه كانت حال نبيِّنا صلى الله عليه وسلم، كما قالت عائشة رضي الله عنها: ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قطُّ، ولا نيل منه شيءٌ فانتقم لنفسه، إلّا أن تُنتهَك محارمُ الله. فإذا انتُهِكَتْ محارمُ الله لم يقُمْ لغضبه شيءٌ، حتّى ينتقم لله

(2)

.

وقالت عائشة رضي الله عنها أيضًا: ما ضرَبَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيده خادمًا ولا دابّةً ولا شيئًا قطُّ، إلّا أن يُجاهِدَ في سبيل الله

(3)

.

وقال أنسٌ رضي الله عنه: خدمتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرَ سنين، فما قال لي لشيءٍ صنعتُه: لم صنعتَه؟ ولا لشيءٍ لم أصنعه: لِمَ لَمْ تصنَعْه؟ وكان إذا عاتبني بعض أهله يقول: "دعوه، فلو قُضِي شيءٌ لكان"

(4)

.

(1)

ما عدا ع: "هو" دون الواو قبلها.

(2)

أخرجه البخاري (3560) ومسلم (2327).

(3)

رواه مسلم (2328).

(4)

أخرجه البخاري (2768) ومسلم (2309) إلا قوله: "وكان إذا عاتبني

" إلخ، فقد أخرجه عبد الرزاق (17947) وأحمد (13418، 13419) والعقيلي في "الضعفاء" (4/ 368) وابن أبي عاصم في "السنة" (362، 364) وابن حبان (7179) وأبو نعيم في "الحلية" (6/ 179، 7/ 124) والبيهقي في "شعب الإيمان" (7714) وفي "القضاء والقدر" (212) والضياء في "المختارة" (5/ 205 - 206) من طرق كلُّها ضعيفة أو معلولة. قال العقيلي: وهذا يُروَى عن أنس بأسانيد لينة.

ص: 306

فانظر إلى نظره إلى القدَر عند حقِّه، وقيامِه بالأمر وقطعِ يد المرأة عند حقِّ الله

(1)

، ولم يقل هناك: القدَرُ حكم عليها.

وكذلك عزمُه على تحريق المتخلِّفين عن الصّلاة معه في الجماعة

(2)

، ولم يقل: لو قُضِي لهم الصَّلاةُ لكانت

(3)

.

وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أعرفَ بالله وبحقِّه

(4)

من أن يحتجَّ بالقدر على ترك أمره، أو يقبل الاحتجاجَ به من أحدٍ، ومع هذا فعذَر أنسًا بالقدر في حقِّه، وقال:"لو قضي شيءٌ لكان"، فصلواتُ الله وسلامهُ عليه.

(1)

يشير إلى قصة المرأة المخزومية التي سرقت. أخرجها البخاري (3475) ومسلم (1688) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(2)

انظر حديث أبي هريرة رضي الله عنه في "صحيح البخاري"(644) و"صحيح مسلم"(651).

(3)

في ع بعده زيادة: "وكذلك رجمُه المرأةَ والرَّجلَ لمّا زنيا، ولم يحتجَّ في ذلك لهما بالقدر. وكذلك فعلُه في العُرَنيِّين الذين قتلوا راعيه، واستاقوا الذَّودَ، وكفروا بعد إسلامهم. ولم يقُل: قُدِّرَ عليهم، بل أمرَ بهم فقُطِّعت أيديهم وأرجلُهم من خلافٍ، وسُمِرت أعينُهم، وتُرِكوا في الحَرَّةِ يستسقُون فلا يُسْقَون، حتّى ماتوا عطشًا. إلى غير ذلك ممّا يطول بسطه".

ولكن كتب فيها فوق: "ولم يقل: لو قضي": "زائد على الأصل" يعني: بداية الزيادة من هنا. وكتب فوق "بسطه": "إلى".

(4)

ق، ش:"وحقه".

ص: 307

فهذا المعنى الثّاني وإن كان حقًّا لكن ليس من شرائط التّوبة ولا أركانها، ولا له تعلُّقٌ بها؛ فإنّه لو لم يُقِمْ أعذارَهم في إساءتهم إليه لما نقَصَ ذلك شيئًا من توبته. فما أراد إلّا المعنى الأوّل، وقد عرفتَ ما فيه.

ولا ريب أنّ صاحب "المنازل" إنّما أراد أن يعذِرَهم بالقدر، ويقيمَ عليهم حكمَ الأمر: فينظرَ بعين القدَر ويعذِرَهم بها، وينظرَ بعين الأمر ويحملَهم عليها ويأخذهم بموجَبها؛ فلا يحجبه مطالعةُ الأمر عن القدَر، ولا ملاحظةُ القدَر عن الأمر.

فهذا وإن كان حقًّا لا بدَّ منه، فلا وجهَ لعذرهم. وليس عذرُهم من التَّوبة في شيءٍ البتّةَ. ولو كان صحيحًا ــ فضلًا عن كونه باطلًا ــ فلا هم معذورون، ولا طلبُ عذرهم من حقائق التّوبة. بل التَّحقيقُ أنَّ الغيرةَ لله والغضبَ له من حقائق التّوبة. فتعطيلُ عذر الخليقة في مخالفة الأمر والنّهي وشدّة الغضب: هو من علامة تعظيم الحرمة، وذلك بأن يكون من حقائق التّوبة أولى من عذر مخالفة الأمر والنّهي. ولا سيّما يدخلُ في هذا عذرُ عُبَّادِ الصُّلبان

(1)

والأوثان وقَتَلةِ الأنبياء، وفرعونَ وهامانَ، ونمرودَ بن كنعان، وأبي جهلٍ

(2)

وأصحابه، وإبليسَ وجنودِه، وكلِّ كافرٍ وظالمٍ ومتعدٍّ حدودَ الله ومنتهكٍ محارمَ الله؛ فإنَّهم كلَّهم تحت القدر، وهم من الخليقة، أفيكون عذرُ هؤلاء من حقيقة التّوبة!

فهذا ممّا أوجبه السَّيرُ على طريق الفناء في توحيد الرُّبوبيّة، وجعلِه الغايةَ

(1)

ع: "الأصنام".

(2)

ج، م، ش، ع:"وأبو جهل"، وكذا كان في ق، ل ثم أصلح.

ص: 308

التي يُشمِّر إليها السّالكون!

ثمّ أيُّ موافقةٍ للمحبوب في عذر من لا يعذِرُه هو! بل قد اشتدَّ غضبُه عليه، وأبعَدَه عن قربه، وطرَدَه عن بابه، ومقَتَه أشدَّ المقت! فإذا عذرتَه، فهل يكون عذرُه إلّا تعرُّضًا لسخطِ المحبوب وسقوطٍ

(1)

من عينه!

ولا توجِب هذه الزَّلَّةُ

(2)

من شيخ الإسلام إهدارَ محاسنه وإساءةَ الظَّنِّ به، فمحلُّه من العلم والإمامة

(3)

والمعرفة والتفقُّه في طريق السُّلوكِ: المحلُّ الذي لا يُجهَل. وكلُّ أحدٍ فمأخوذٌ من قوله ومتروكٌ إلّا المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، صلواتُ الله وسلامه عليه. والكاملُ مَن عُدَّ خطؤه، ولا سيَّما في مثل هذا المجال الضَّنْك والمعترَك الصَّعب، الذي زلَّت فيه أقدامٌ، وضلَّت فيه أفهامٌ، وافترقت بالسّالكين فيه الطُّرقاتُ، وأشرفوا ــ إلّا أقلَّهم ــ على أودية الهَلَكات.

وكيف لا؟ وهو البحر الذي تجري سفينةُ راكبه به في موجٍ كالجبال، والمعتركُ الذي تضاءلت لشهوده شجاعةُ الأبطال، وتحيَّرت فيه عقولُ ألِبَّاءِ الرِّجال! وصلت الخليقةُ إلى ساحله يبغُون ركوبَه:

فمنهم مَن وقف مطرقًا دَهِشًا، لا يستطيع أن يملأ منه عينَه، ولا ينقل عن موقفه قدمَه. قد امتلأ قلبُه بعظمة ما شاهد منه، فقال: الوقوف على السّاحل أسلَمُ، وليس بلبيبٍ مَن خاطر بنفسه!

(1)

ق، ل، ج:"وسقوطه".

(2)

م، ش، ع:"الزلقة"، وكتبها بعضهم في هامش ق أيضًا.

(3)

ما عدا ع: "والإنابة".

ص: 309

ومنهم مَن رجع على عقبيه لمّا سمع أصواتَ

(1)

أمواجه، ولم يُطِقْ نظرًا إليه.

ومنهم مَن رمى بنفسه في لُجَجه، تخفضه موجةٌ، وترفعه أخرى.

فهؤلاء الثّلاثةُ على خطرٍ، إذ الواقفُ

(2)

على السّاحل عرضةٌ لوصول الماء تحت قدميه. والهاربُ ــ ولو جدَّ في الهرب ــ فما له مصيرٌ إلّا إليه. والمخاطرُ ناظرٌ إلى الغرَق كلَّ ساعةٍ بعينيه.

وما نجا من الخلق إلّا الصِّنفُ الرّابعُ، وهم الذين انتظروا موافاةَ سفينةِ الأمر، فلمّا قربت منهم ناداهم الرُّبَّانُ:{ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مُجْراهَا وَمُرْسَاهَا}

(3)

[هود: 41]. فهي سفينةُ نوح حقًّا وسفينةُ مَن بعده من الرُّسل، من ركبها نجا، ومن تخلَّف عنها غرق. فركبوا سفينةَ الأمرِ بالقدر، تجري

(4)

بهم في تصاريف أمواجه على حكم التَّسليم لمن بيده التّصرُّفُ في البحار، فلم تكن إلّا غفوة حتّى قيل لأرض الدُّنيا وسمائها:{يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ} واستوت على جُوديِّ

(5)

دارِ القرار.

والمتخلِّفون عن السّفينة كقوم نوحٍ، أُغْرِقُوا، ثمّ أُحْرِقُوا، ونودي عليهم على رؤوس العالمين:{وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود: 44]

(6)

، {وَمَا

(1)

ع: "سمع هديرَه وصوت".

(2)

ما عدا ع: "الوقوف".

(3)

قراءة حفص وحمزة والكسائي: {مَجْرَاهَا} ، والمثبت قراءة أبي عمرو.

(4)

ما عدا ع: "بالقدر يجري" بالياء في ش وبالتاء في ج.

(5)

ما عدا ع: "الجودي" كما في الآية، ولكن ضرب على لام التعريف في ق، م.

(6)

هذه الآية انفردت بها ع.

ص: 310

ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف: 76]. ثمّ نُودُوا بلسان الشَّرع والقدَر تحقيقًا لتوحيده وإثباتًا لحجَّته، وهو أعدل العادلين:{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149].

فصل

وراكبُ هذا البحر في سفينة الأمر، وظيفتُه مصادمةُ أمواج القدر ومعارضتُها بعضِها ببعضٍ، وإلّا هلَكَ، فيرُدُّ القدَرَ بالقدَرِ. وهذا سَيْرُ أربابِ العزائم من العارفين، وهو معنى قول الشّيخ العارف القدوة عبد القادر الكيلانيِّ: النّاس إذا وصلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا، إلّا أنا فانفتحَتْ لي فيه رَوْزَنَةٌ

(1)

، فنازعتُ أقدارَ الحقِّ بالحقِّ للحقِّ. والرّجلُ مَن يكون منازعًا للقدر، لا من يكون مستسلمًا مع القدر

(2)

.

ولا تتمُّ مصالحُ العباد في معاشهم إلّا بدفع الأقدار بعضِها ببعضٍ، فكيف في معادهم؟ والله تعالى أمرَ أن تُدفَع السّيِّئةُ ــ وهي من قدَره ــ بالحسنة، وهي من قدره. وكذلك الجوعُ هو من قدرِه، وأمرَ بدفعه بالأكل الذي هو من قدَرِه. ولو استسلم العبدُ لقدَرِ الجوع، مع قدرته على دفعه بقدَر الأكل، حتّى مات= مات عاصيًا. وكذلك البردُ والحرُّ والعطشُ كلُّها من قدَرِه، وأمرَ بدفعها بأقدارٍ تضادُّها، والدّافعُ والمدفوعُ والدَّفعُ من قدَرِه.

(1)

الرَّوزَنَة: الكوَّة النافذة، فارسي معرَّب.

(2)

عزاه إلى الشيخ عبد القادر شيخُ الإسلام في رسالة "العبودية"(ص 54) بقوله: "فيما ذُكِر عنه"، ونقله في غير موضع من كتبه. وفي "مجموع الفتاوى"(8/ 547 - 550) فصل في تفسير هذا القول. وقد أورده المؤلف في "طريق الهجرتين"(1/ 75) أيضًا.

ص: 311

وقد أفصح النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن هذا المعنى كلَّ الإفصاح، إذ قالوا له: يا رسول الله، أرأيتَ أدويةً نتداوى بها، ورُقًى نسترقي بها، وتُقًى نتّقي بها، هل ترُدُّ من قدَر الله شيئًا؟ قال:"هي من قدر الله"

(1)

.

وفي الحديث الآخر: "إنّ الدُّعاء والبلاء ليعتلجان بين السَّماء والأرض"

(2)

.

وإذا طرَق العدوُّ الكفّارُ بلدَ الإسلام طرَقُوه بقدَر الله، أفيَحِلُّ للمسلمين الاستسلامُ للقدَر، وتركُ دفعه بقدَرٍ مثله، وهو الجهاد الذي يدفعون به قدرَ الله بقدَره!

(1)

أخرجه أحمد (15472 - 15474) والترمذي (2065، 2148) وابن ماجه (3437) وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني"(2611) والبيهقي في "السنن"(9/ 349) وفي "القضاء والقدر"(224) وفي "شعب الإيمان"(1157) وغيرهم من طريق أبي خزامة عن أبيه مرفوعًا. وفي بعض الطرق: ابن أبي خزامة، وهو خطأ، والأول هو الصواب كما قرره الترمذي وأحمد في "العلل" برواية ابنه عبد الله (101) وأبو حاتم وأبو زرعة في "علل ابن أبي حاتم"(2537) والدارقطني في "علله"(250). وفي إسناده لين، فإن أبا خزيمة هذا مجهول، وليس له إلا هذا الحديث عن أبيه. ينظر: تعليق محققي "مسند أحمد"(15472).

(2)

أخرجه البزار في "مسنده"(14/ 400) من حديث أبي هريرة، وفي إسناده إبراهيم بن خُثَيم بن عِرَاك بن مالك، متروك منكر الحديث. وله شاهد لا يفرح به من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أخرجه البزار (2165 - كشف الأستار) والطبراني في "الأوسط"(2498) والحاكم (1/ 492) والبيهقي في "القضاء والقدر"(246)، وفي إسناده زكريا بن منظور، نظير إبراهيم بن خثيم في الضعف. والحديث ضعَّفه ابن الجوزي في "العلل المتناهية"(1411) وابن الملقن في "البدر المنير"(9/ 173) والحافظ في "التلخيص"(6/ 2952) والألباني في "الضعيفة"(6764).

ص: 312