الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
وأمّا
الإثم والعدوان
، فهما قرينان. قال تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].
وكلٌّ منهما إذا أُفْرِدَ تضمَّن الآخرَ، فكلُّ إثمٍ عدوانٌ، إذ هو فعلُ ما نهى الله عنه، أو تركُ ما أمر الله به، فهو عدوانٌ على أمره ونهيه. وكلُّ عدوانٍ إثمٌ، فإنّه يأثم به
(1)
صاحبُه.
ولكن عند اقترانهما، فهما شيئان بحسب متعلَّقهما ووصفهما. فالإثم: ما كان محرَّمَ الجنس كالكذب والزِّنى وشرب الخمر ونحو ذلك. والعدوان ما كان محرَّم القدر والزِّيادة. فالعدوان: تعدِّي ما أبيح منه إلى القدر المحرَّم، كالاعتداء في أخذ الحقِّ ممّن هو عليه، إمَّا أن يعتديَ على ماله أو بدنه أو عرضه، فإذا غصَبه خشبةً لم يرضَ عوضَها إلَّا دارَه، وإذا أتلف عليه شيئًا أتلف عليه أضعافَه، وإذا قال فيه كلمةً قال فيه أضعافَها= فهذا كلُّه عدوانٌ وتعدٍّ للعدل.
وهذا نوعان: عدوانٌ في حقِّ الله، وعدوانٌ في حقِّ العبد. فالعدوانُ في حقِّ الله كما إذا تعدَّى ما أبيح له من الوطء الحلال في الأزواج والمملوكات إلى ما حُرِّم عليه من سواهما، كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 5].
(1)
في هامش الصفحة: "بلغ مقابلة وقراءة على مصنفه رضي الله عنه ".
وكذلك تعدِّي ما أبيح له من زوجته وأمته إلى ما حُرِّم عليه منها كوطئها في حيضها أو نفاسها أو في إحرام أحدهما أو صيامه الواجب.
وكذلك كلُّ ما أبيح له منه قدرٌ معيّنٌ، فتعدَّاه إلى أكثر منه، فهو من العدوان، كمن أبيح له إساغةُ الغصَّة بجُرعةٍ من خمرٍ، فتناول الكأسَ كلَّها؛ أو أبيح له نظرةُ الخِطْبة والسَّوم والشَّهادة والمعاملة والمداواة، فأطلقَ عنانَ طرفه في ميادين محاسن المنظور، وأسامَ طرفَ ناظره في تلك الرِّياض والزُّهور، فتعدَّى المباحَ إلى القدر المحظور، وحام حولَ الحِمى المحوَّط المحجور، فصار ذا بصرٍ حائرٍ
(1)
، وقلبٍ عن مكانه طائرٍ. أرسل طرفَه رائدًا يأتيه بالخبر، فخامَر عليه
(2)
وأقام، فبعث القلبَ في آثاره، فلم يشعر إلّا وهو أسيرٌ يحجُل في قيوده بين تلك الخيام؛ فما أقلعت لحظاتُ ناظره حتَّى تشحَّط بينهنَّ قتيلًا، وما برحت
(3)
تَنُوشه سيوفُ تلك الجفون حتّى جدَّلَتْه تجديلًا.
هذا خطرُ العدوان، وما أمامَه أعظَمُ وأخطَرُ
(4)
. وهذا فوتُ الحرمان، وما حُرِمَه من ثواب مَن غضَّ طرفَه لله أجلُّ وأكبر. سافَرَ الطَّرفُ في مفاوز
(1)
كذا في م بعلامة إهمال الحاء تحتها وفي ش. وفي غيرهما: "جائر". وفي خطبة ابن نباتة المشهورة: "فأصبح ذا بصر حائر وقلب طائر". انظر "ديوان خطبه"(ص 95)، و"التذكرة الحمدونية"(6/ 295).
(2)
يعني: خدعه وخانه.
(3)
ما عدا ع: "بردت"، فإن صحَّ فمعناه هنا: سكنت وفترت. وغيِّر في م إلى ما أثبت وهو أشبه.
(4)
ع: "أخطر" مع علامة إهمال الحاء، ولعله تصحيف.
محاسن المنظور إليه فلم يربَحْ إلَّا أذى السَّفَر، وغرَّر بنفسه في ركوب تلك البِيد
(1)
وما عرَفَ أنَّ راكبها على أعظم الخطَر! يا لها سفرةً لم يبلغ المسافر منها نواه
(2)
، ولم يضَعْ فيها عن عاتقه عصاه، حتّى قُطِعَ عليه فيها الطَّريق، وقعد له الرَّصَدُ
(3)
على كلِّ نَقْبٍ ومضيقٍ. لا يستطيع الرُّجوعَ إلى وطنه والإيابَ، ولا له سبيلٌ إلى المرور والذَّهاب. يرى هَجِيرَ الهاجرة
(4)
من بعيدٍ فيظنُّه بردَ الشّراب، {مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ} [النور: 39]، وتيقَّن أنّه كان مغرورًا بلامع السَّراب!
تالله ما استوت هذه الذِّلّةُ وتلك اللَّذّةُ في القيمة فيشتريَها بها العارفُ الخبير، ولا تقاربا في المنفعة، فيتخيَّرَ بينهما البصير؛ ولكن على العيون غشاوةٌ فلا تفرِّقُ بين مواطن السَّلامة ومواطن العثور، والقلوبُ تحت أغطية الغفلات راقدةٌ فوق فُرُش الغُرور، {لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} [الحج: 46].
ومن أمثلة العدوان: تجاوزُ ما أُبيحَ من الميتة للضَّرورة إلى ما لم يُبَحْ منها، إمَّا بأن يشبَعَ وإنَّما أُبيح له سدُّ الرَّمَق، على أحد القولين في مذهب أحمد والشّافعيِّ وأبي حنيفة
(5)
.
وأباح مالكٌ له الشِّبَعَ والتّزوُّدَ إذا احتاج إليه، فإذا استغنى عنها وأكَلَها
(1)
ع: "البيدا" مضبوطًا.
(2)
أي ما قصده. وقد غيِّر في ش إلى "مناه".
(3)
في ع بعده زيادة: "فيها".
(4)
ش: "الهواجر".
(5)
انظر: "المغني"(13/ 330)، و"تفسير البغوي"(1/ 184).
واقيًا لماله وبخلًا عن شِرَى المذكّى ونحوه، كان تناولُها عدوانًا
(1)
.
قال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173]. قال قتادة والحسن: لا يأكلها من غير اضطرارٍ، ولا يعدو شِبَعَه. وقيل:{غَيْرَ بَاغٍ} غيرَ طالبها وهو يجد غيرَها {وَلَا عَادٍ} أي لا يتعدّى ما حُدَّ له منها فيأكلَ حتّى يشبَعَ، ولكن سدُّ الرَّمَق. وقال
(2)
مقاتلٌ: غيرَ مستحلٍّ لها ولا متزوِّدٍ
(3)
منها. وقيل: لا يبغي بتجاوز الحدِّ الذي حُدَّ له منها، ولا يتعدّى بتقصيره عن تناوله
(4)
حتّى يهلك، فيكون قد تعدّى حدَّ الله بمجاوزته أو التَّقصير عنه، فهذا آثمٌ، وهذا آثمٌ. وقال مسروقٌ: من اضطُرَّ إلى الميتة والدَّم ولحم الخنزير فلم يأكل ولم يشرب حتّى مات دخل النّار
(5)
. وهذا أصحُّ القولين في الآية.
وقال ابنُ عبَّاسٍ وأصحابُه والشَّافعيُّ: غيرَ باغٍ على السُّلطان ولا عادٍ في سفره، فلا يكون سفرَ معصيةٍ. وبنوا على ذلك أنَّ العاصيَ بسفره لا يترخَّص
(6)
.
(1)
انظر: "الموطأ"(1439، 1440). و"الإشراف" للقاضي عبد الوهاب (2/ 922) وقد ذكر أنه إحدى الروايتين.
(2)
ما عدا ع: "قال" دون الواو قبله.
(3)
ما عدا ع: "ولا يتزوَّد"، والمثبت موافق لما في مصدر النقل.
(4)
ش: "تناولها"، ونحوه في م ولكن أخشى أنه مغيَّر.
(5)
الأقوال المذكورة كلها منقولة من "تفسير البغوي"(1/ 184).
(6)
"تفسير البغوي"(1/ 183). وانظر: "الأمّ" للشافعي (2/ 277)، و"الحاوي الكبير"(15/ 168).
والقولُ الأَوّلُ أصحُّ لعشرة أوجهٍ ليس هذا موضعَ ذكرها، إذ الآيةُ لا تعرُّضَ فيها للسَّفَر بنفيٍ ولا إثباتٍ، ولا للخروج على الإمام، ولا هي مختصّةٌ بذلك، ولا سيقت له. وهي عامَّةٌ في حقِّ المقيم والمسافر، والبغيُ والعدوانُ فيها يرجعان إلى الأكل المقصود بيانُه، لا إلى أمرٍ خارجٍ عنه لا تعلُّقَ له بالأكل؛ ولأنّ
(1)
نظير هذا قوله في الآية الأخرى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ} [المائدة: 3]، فهذا هو الباغي العادي. والمتجانفُ للإثم: المائلُ إلى القدر الحرام من أكلها. وهذا هو الشَّرط الذي لا تباح
(2)
له بدونه؛ ولأنَّها إنّما أبيحت للضَّرورة، فتقدَّرت الإباحةُ بقدرها، وأعلَمَهم أنَّ الزِّيادةَ عليها بغيٌ وعدوانٌ وإثمٌ، فلا تكون الإباحةُ للضَّرورة سببًا لحلِّه. والله أعلم.
والإثمُ والعدوانُ هما الإثمُ والبغيُ المذكوران في سورة الأعراف
(3)
، مع أنّ البغيَ غالبُ استعماله في حقوق العباد والاستطالة عليهم. وعلى هذا فإذا قُرن
(4)
بالعدوان كان البغيُ ظلمَهم بمحرَّم الجنس كالسَّرقة والكذب والبهت والابتداء بالأذى، والعدوانُ تعدِّيَ الحقِّ في استيفائه إلى أكثر
(5)
منه،
(1)
"لأن" ساقط من ج، ش، وضرب عليه في م.
(2)
ج، ش:"يباح" يعني الأكل. ولم ينقط حرف المضارع في غيرهما.
(3)
في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} الآية [33].
(4)
ش: "اقترن".
(5)
ش، ع:"أكبر"، ولم يعجم في الأصل.