الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصفحة الأولى من نسخة تشستربيتي (ش)
الصفحة الأخيرة من نسخة تشستربيتي (ش)
صفحة العنوان من نسخة قره جلبي زاده (ج)
الصفحة الأخيرة من نسخة قره جلبي زاده (ج)
صفحة العنوان من نسخة ولي الدين - المجلد الأول (ن)
الصفحة الأخيرة من نسخة ولي الدين - المجلد الأول (ن)
صفحة العنوان من نسخة ولي الدين - المجلد الثاني (د)
الصفحة الأخيرة من نسخة ولي الدين - المجلد الثاني (د)
صفحة العنوان من نسخة دار الكتب المصرية (ع)
الصفحة الأخيرة من نسخة دار الكتب المصرية (ع)
صفحة العنوان من النسخة التيمورية (ت)
الصفحة الأخيرة من النسخة التيمورية (ت)
صفحة العنوان من نسخة مكتبة سليمان بن عبد الله الخاصة (ر)
الصفحة الأخيرة من نسخة مكتبة سليمان بن عبد الله الخاصة (ر)
تقول: طريقٌ معبَّدٌ أي مذلَّلٌ، والتّعبُّد: التّذلُّل والخضوع. فمن أحببتَه ولم تكن خاضعًا له لم تكن عابدًا له. ومن خضعتَ له بلا محبّةٍ لم تكن عابدًا له حتّى تكون محبًّا خاضعًا. ومن هاهنا كان المنكرون محبّةَ العباد لربِّهم منكرين حقيقة العبوديّة، والمنكرون
(1)
لكونه محبوبًا لهم، بل هو غايةُ مطلوبهم، ووجهُه الأعلى نهايةُ بغيتهم= منكرين لكونه إلهًا. وإن أقرُّوا بكونه ربًّا للعالمين وخالقًا لهم، فهذا غاية توحيدهم
(2)
، وهو توحيد الرُّبوبيّة الذي اعترف به مشركو العرب، ولم يخرجوا به من الشِّرك، كما قال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25]
(3)
، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87]، {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون: 84 - 85]. ولهذا يحتجُّ عليهم به على توحيد إلهيّته، وأنّه لا ينبغي أن يُعبد غيرُه، كما أنّه لا خالقَ غيرُه ولا ربَّ سواه.
و
الاستعانة تجمع أصلين:
الثِّقة بالله، والاعتماد على الله؛ فإنّ العبد قد يثق بالواحد من النّاس ولا يعتمد عليه في أموره مع ثقته به، لاستغنائه عنه. وقد يعتمد عليه مع عدم ثقته به، لحاجته إليه ولعدم من يقوم مقامه، فيحتاج إلى اعتماده عليه مع أنّه غير واثقٍ به.
والتّوكُّل معنًى يلتئم من الأصلين: من الثِّقة، والاعتماد. وهو حقيقة {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} .
(1)
ع: "منكرون
…
والمنكرين"، وهو خطأ.
(2)
"وهو" من ع وحدها.
(3)
بعده في ع زيادة: "وقال تعالى".
وهذان الأصلان ــ وهما التّوكُّل والعبادة ــ قد ذُكِرا في القرآن في عدَّة مواضع، قُرِنَ بينهما فيها، هذا أحدها.
الثّاني: قول شعيبٍ عليه السلام: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].
الثّالث: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123].
الرّابع: قوله تعالى حكايةً عن المؤمنين: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ} [الممتحنة: 4].
الخامس: قوله تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل: 8 - 9].
السّادس: قوله تعالى: {قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد: 30].
فهذه ستّة مواضع
(1)
يجمع فيها بين الأصلين، وهما {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} .
وتقديم "العبادة" على "الاستعانة" في الفاتحة من باب تقديم الغايات على الوسائل، إذ العبادة غايةُ العباد التي خُلِقوا لها، والاستعانةُ وسيلةٌ إليها.
(1)
في "طريق الهجرتين"(2/ 558): "فهذه السبع مواضع"، والموضع السابع منها قوله تعالى:{الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)} [الحج: 78].
- ولأنّ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} متعلِّقٌ بألوهيّته واسمه "الله" و {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} متعلِّقٌ بربوبيّته واسمه "الرّبِّ"، فقدَّم {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} على {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} كما تقدَّم اسم "الله" على "الرّبِّ" في أوّل السورة.
- ولأنّ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} قِسْمُ الرّبِّ، فكان من الشّطر الأوّل الذي هو ثناءٌ على الرَّبِّ تعالى لكونه أولى به، و {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قِسْمُ العبد، فكان مع
(1)
الشّطر الذي له، وهو {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} إلى آخر السُّورة.
- ولأنّ العبادة المطلقة تتضمّن الاستعانة من غير عكسٍ. فكلُّ عابدٍ لله عبوديّةً تامّةً مستعينٌ به، ولا ينعكس لأنّ صاحب الأغراض والشّهوات قد يستعين به على شهواته. فكانت العبادة أكمل وأتمّ
(2)
، ولهذا كانت قِسْمَ الرَّبِّ تعالى.
- ولأنّ الاستعانة جزءٌ من العبادة من غيرٍ عكسٍ.
- ولأنّ الاستعانة طلبٌ منه، والعبادة طلبٌ لهُ.
- ولأنّ العبادة لا تكون إلّا من مخلصٍ، والاستعانة تكون من مخلصٍ وغير
(3)
مخلصٍ.
- ولأنّ العبادةَ حقُّه الذي أوجبه عليك، والاستعانة طلبُ العون، وهو صدقته التي تصدّقَ بها عليك. وأداءُ حقِّه أهمُّ من التّعرُّض لصدقته.
(1)
ج: "من".
(2)
ش: "أتم وأكمل".
(3)
العبارة "له ولأن العبادة
…
غير" من ع وحدها، فهي ساقطة من الأصل المقروء على المؤلف وغيره من النسخ.
- ولأنّ العبادة شكرُ نعمته عليك، والله يحبُّ أن يُشْكَر؛ والإعانةُ فعلُه بك "وتوفيقُه لك. فإذا التزمتَ عبوديّته، ودخلتَ تحت رقِّها أعانك عليها. فكان التزامُها والدُّخولُ تحت رقِّها سببًا لنيل الإعانة. وكلَّما كان العبد أتمَّ عبوديّةً كانت إعانة الله له أعظم. والعبوديّةُ محفوفةٌ بإعانتين: إعانةٍ قبلها على التزامها والقيام بها، وإعانةٍ بعدها على عبوديّةٍ أخرى. وهكذا أبدًا، حتّى يقضي العبد نحبه.
- ولأنّ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} له، و {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} به. وما له مقدَّمٌ على ما به، لأنّ ما له متعلِّقٌ بمحبّته ورضاه، وما به متعلِّقٌ بمشيئته. وما تعلَّق بمحبّته أكملُ ممّا تعلَّق بمجرَّد مشيئته. فإنَّ الكونَ كلَّه متعلِّقٌ بمشيئته: الملائكةُ
(1)
والشّياطينُ، والمؤمنون والكفّار، والطّاعاتُ والمعاصي. والمتعلِّقُ بمحبّته طاعاتُهم وإيمانُهم. والكفَّارُ
(2)
أهل مشيئته، والمؤمنون أهل محبّته. ولهذا لا يستقرُّ في النّار شيءٌ لله
(3)
أبدًا، وكلُّ ما فيها فإنَّه به وبمشيئته.
فهذه الأسرار يتبيّن بها حكمة تقديم {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} على {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} .
وأمّا تقديم المعبود والمستعان على الفعلين، ففيه أدبُهم مع الله بتقديم اسمه على فعلهم. وفيه الاهتمام وشدّة العناية به. وفيه الإيذان بالاختصاص المسمَّى بالحصر، فهو في قوّة "لا نعبد إلّا إيّاك، ولا نستعين إلّا بك".
(1)
ع: "والملائكة".
(2)
ع: "فالكفار".
(3)
ش: "لله شيء".
والحاكمُ في ذلك ذوقُ العربيّة، والفقهُ فيها، واستقراءُ موارد استعمال ذلك مقدَّمًا. وسيبويه نصَّ على الاهتمام، ولم ينفِ غيره
(1)
.
ولأنّه يقبح من القائل أن يُعتِق عشرةَ أعبد مثلًا، ثمّ يقول لأحدهم: إيّاك أعتقتُ
(2)
. ومن سمعه أنكر ذلك وقال: وغيرَه أيضًا أعتقتَ. ولولا فهمُ الاختصاصِ لما قبُح هذا الكلام، ولا حسُن إنكاره.
وتأمَّلْ قوله تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40]، {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة: 41] كيف تجده في قوّة "لا ترهبوا غيري"، و"لا تتّقوا سواي". وكذلك {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} هو في قوّة "لا نعبد غيرك، ولا نستعين بسواك". وكلُّ ذي ذوقٍ سليمٍ يفهم هذا الاختصاص من هذا السِّياق. ولا عبرة بجدل من قلَّ فقهُه، وفُتِحَ عليه بابُ الشّكِّ والتّشكيك، فهؤلاء هم آفة العلوم وبليّة الأذهان والفهوم.
مع أنّ في ضمير "إيّاك" من الإشارة إلى نفس الذّات والحقيقة ما ليس في الضّمير المتّصل. ففي: "إيّاك قصدتُ وأحببتُ" من الدِّلالة على معنى "حقيقتُك وذاتُك قصدي" ما ليس في قولك: قصدتُك، وأحببتُك. و"إيّاك أعني" فيه معنى "نفسَك وذاتَك
(3)
وحقيقتَك أعني".
(1)
انظر: "الكتاب"(1/ 56، 81).
(2)
ع: "عتقت" هنا وفيما يأتي. وكذا كان في سائر النسخ ــ ما عدا ج ــ ثم زيدت الألف فيها.
(3)
زاد بعضهم قبله في هامش الأصل: "وفيه معنى" وتحته "صح"، ومثله في المتن في ل، ج.
ومن هاهنا قال من قال من النُّحاة: إنّ "إيّا" اسمٌ ظاهرٌ مضافٌ إلى الضّمير المتّصل
(1)
، ولم يُردَّ عليه بردٍّ شافٍ. ولولا أنّا في شأنٍ وراء هذا لأشبعنا الكلام في هذه المسألة، وذكرنا مذاهب النُّحاة فيها، ونصرنا الرّاجح. ولعلَّ أن نعطِفَ على ذلك بعون الله.
وفي إعادة "إيّاك" مرّةً أخرى دلالةٌ على تعلُّق هذه الأمور بكلِّ واحدٍ من الفعلين، ففي إعادة الضّمير من قوّة الاقتضاء لذلك ما ليس في حذفه. فإذا قلت لملكٍ مثلًا: إيّاك أحبُّ، وإيّاك أخاف، كان فيه من اختصاص الحبِّ والخوف بذاته والاهتمام بذكره ما ليس في قولك: إيّاك أحبُّ وأخاف.
فصل
إذا عُرِف هذا، فالنّاس في هذين الأصلين ــ وهما العبادة والاستعانة ــ أربعة أقسامٍ:
أجلُّها وأفضلها: أهل العبادة والاستعانة بالله عليها، فعبادة الله غاية مرادهم، وطلبُهم منه أن يعينهم عليها ويوفِّقهم للقيام بها. ولهذا كان من أفضل ما يُسأل الرّبُّ تبارك وتعالى الإعانة على مرضاته. وهو الذي علَّمه النّبيُّ صلى الله عليه وسلم لحِبِّه معاذ بن جبلٍ، فقال: "يا معاذ، والله إنِّي أحبُّك
(2)
، فلا تنسَ أن تقول في دبر كلِّ صلاةٍ: اللهمّ أعنِّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك"
(3)
.
(1)
ذهب إليه الخليل، ونصره السيرافي في "شرح كتاب سيبويه" (2/ 177 - 178). وانظر:"المنصف" لابن جني (ص 121) و"نتائج الفكر" للسهيلي (ص 157).
(2)
ع: "لأحبك".
(3)
أخرجه أحمد (22119، 22126) والبخاري في "الأدب المفرد"(690) وأبو داود (1522) والنسائي في "الكبرى"(1227، 9857) وفي "المجتبى"(1303) وغيرهم من حديث معاذ بن جبل. والحديث صححه ابن خزيمة (751) وابن حبان (2020، 2021) والحاكم (1/ 273، 3/ 273) والحافظ في "نتائج الأفكار"(2/ 297) والألباني في "صحيح أبي داود ــ الأم"(5/ 253).
فأنفعُ الدُّعاء طلبُ العون على مرضاته، وأفضلُ المواهب إسعافُه بهذا المطلوب. وجميع الأدعية المأثورة مدارها على هذا، وعلى دفع ما يضادُّه، وعلى تكميله وتيسير أسبابه، فتأمّلها.
وقال شيخ الإسلام ابن تيميّة رضي الله عنه: تأمّلتُ أنفعَ الدُّعاء، فإذا هو سؤالُ الله العَون
(1)
على مرضاته. ثمّ رأيته في الفاتحة في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} .
ويقابل هؤلاء القسم الثّاني، وهم المعرضون عن عبادته والاستعانة به، فلا عبادة ولا استعانة. بل إن سأله أحدهم واستعان به فعلى حظوظه وشهواته، لا على مرضاة ربِّه وحقوقه. فإنّه سبحانه يسأله من في السّماوات والأرض، يسأله أولياؤه وأعداؤه ويُمِدُّ هؤلاء وهؤلاء. وأبغضُ خلقِه إليه
(2)
عدوُّه إبليس لعنه الله، ومع هذا فسأله حاجةً فأعطاه إيّاها ومتَّعه بها. ولكن لمّا لم يكن عونًا له على مرضاته كانت زيادةً في شقاوته وبعده من الله تعالى وطرده عنه. وهكذا كلُّ من استعان به على أمرٍ أو سأله
(3)
إيّاه، ولم يكن عونًا على طاعته، كان مُبعدًا له عن مرضاته قاطعًا له عنه ولا بدّ.
فليتأمَّل العاقل هذا في نفسه وفي غيره، وليعلم أنّ إجابة الله لسائليه ليست
(1)
ع: "سؤال العون".
(2)
"إليه" ساقط من ع.
(3)
ش، ع:"وسأله".
لكرامة كلِّ سائلٍ عليه. بل يسأله عبدُه الحاجةَ فيقضيها له، وفيها هلاكه وشقوته، ويكون قضاؤها له من هوانه عليه وسقوطه من عينه. ويكون منعُه منها لكرامته عليه ومحبّته له، فيمنعه حمايةً وصيانةً وحفظًا لا بخلًا. وهذا إنّما يفعله بعبده الذي يريد كرامته ومحبّته
(1)
، ويعامله بلطفه، فيظنُّ بجهله أنّ ربَّه لا يجيبه
(2)
ولا يكرمه. ويراه يقضي حوائج غيره، فيسيء ظنَّه بربِّه. وهذا حَشْوُ قلبه ولا يشعر به، والمعصوم من عصمه الله، والإنسان على نفسه بصيرةٌ. وعلامةُ هذا حملُه على الأقدار وعتابُه الباطن لها، كما قيل:
وعاجزُ الرّأي مِضياعٌ لفرصته
…
حتّى إذا فات أمرٌ عاتبَ القدَرا
(3)
فوالله لو كُشِف عن حاصله وسرِّه لرأى هناك معاتبة القدر واتِّهامه، وأنّه قد كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، ولكن ما حيلتي، والأمر ليس إليّ؟ والعاقلُ خصمُ نفسه، والجاهلُ خصمُ أقدار ربِّه.
فاحذر كلَّ الحذر أن تسأل شيئًا معيّنًا
(4)
خيرتُه وعاقبتُه مغيّبةٌ عنك. وإذا لم تجد من سؤاله بدًّا، فعلِّقه على شرط علمِه تعالى فيه الخيرةَ، وقدِّم بين
(1)
لم يرد "ومحبته" في ش.
(2)
كذا في جميع النسخ، وقد يكون تصحيف:"لا يحبُّه".
(3)
تمثَّل به المؤلف في "طريق الهجرتين"(1/ 135) و"الفوائد"(ص 264) و"الروح"(2/ 666) أيضًا. وهو في "البيان" للجاحظ (2/ 350) و"عيون الأخبار"(1/ 34) عن الرياشي دون عزو. وعزاه المرزباني في "معجم الشعراء"(ص 486) ليحيى بن زياد وروايته: "والمرء تلقاه مضياعًا
…
". وبهذه الرواية في "الدرّ الفريد" (2/ 343 - سز كين) ضمن قصيدة لابن أبي عيينة.
(4)
ش، ج:"مغيَّبًا".
يدي سؤالك
(1)
الاستخارة، ولا تكن
(2)
استخارةً باللِّسان بلا معرفةٍ، بل استخارةَ من لا علمَ له بمصالحه، ولا قدرةَ له عليها، ولا اهتداءَ له إلى تفاصيلها، ولا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا
(3)
؛ بل إن وُكِل إلى نفسه هلَك كلَّ الهلاك، وانفرط عليه أمرُه.
وإذا أعطاك ما أعطاك بلا سؤالٍ فسَلْه أن يجعله عونًا على طاعته، وبلاغًا إلى مرضاته، ولا يجعله قاطعًا لك عنه، ولا مبعدًا عن مرضاته. ولا تظنُّ أنّ عطاءه
(4)
كلَّ ما أعطى لكرامة عبده عليه، ولا منعَه كلَّ ما يمنعه لهوان عبده عليه. ولكن عطاؤه ومنعُه ابتلاءٌ وامتحانٌ يمتحن بهما عباده.
قال تعالى: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا} [الفجر: 15 - 17]. أي ليس كلُّ من أعطيتُه ونعَّمتُه وخوَّلتُه فقد أكرمتُه. وما ذاك لكرامته عليّ، ولكنّه ابتلاءٌ منِّي وامتحانٌ له: أيشكرني فأعطيه فوق ذلك، أم يكفرني فأسلبه إيّاه، وأخوِّله
(5)
غيرَه! وليس كلُّ من ابتليته فضيّقتُ عليه رزقَه، وجعلتُه بقدرٍ لا يفضُل عنه، فذلك من هوانه عليّ؛ ولكنّه ابتلاءٌ وامتحانٌ منِّي له: أيصبر فأعطيه أضعاف أضعاف ما فاته من سعة الرِّزق، أم يتسخَّط فيكون حظُّه السُّخط!
(1)
"يدي" من ج، ع وكذا في هامش م. وفي ش:"وقدم من سؤالك".
(2)
ما عدا ج، ع:"يمكن"، وفي هامش ش:"ظ ولا يكفي". وفي هامش م كما أثبت.
(3)
ع: "ضرًّا ولا نفعًا".
(4)
ما عدا ع: "عطاء".
(5)
ع: "وأخوِّل فيه".
فردَّ الله سبحانه على من ظنَّ أنّ سعةَ الرِّزق إكرامٌ، وأنّ الفقر إهانةٌ، فقال: لم أبتلِ عبدي بالغنى لكرامته عليّ، ولم أبتلِه بالفقر لهوانه عليّ. فأخبر أنّ الإكرام والإهانة لا يدوران
(1)
على المال وسعة الرِّزق وتقديره، فإنّه يوسِّع على الكافر لا لكرامته، ويقتِّر على المؤمن لا لإهانته له، إنّما يُكرم مَن يُكرمه بمعرفته ومحبّته وطاعته، ويهين مَن يهينه بالإعراض عنه ومعصيته. فله الحمد على هذا وعلى هذا، وهو الغنيُّ الحميد.
فعادت سعادة الدُّنيا والآخرة إلى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} .
فصل
القسم الثّالث: من له نوع عبادةٍ بلا استعانةٍ، وهؤلاء نوعان:
أحدهما: القدريّة القائلون بأنّه قد فعَل بالعبد جميعَ مقدوره من الألطاف، وأنّه لم يبق في مقدوره إعانةٌ له على الفعل. فإنّه قد أعانه بخلق الآلات وسلامتها، وتعريف الطّريق، وإرسال الرَّسول، وتمكينه من الفعل؛ فلم يبق بعد هذا إعانةٌ مقدورةٌ يسأله إيّاها. بل قد ساوى بين أوليائه وأعدائه في الإعانة، فأعان هؤلاء كما أعان هؤلاء؛ ولكن أولياؤه اختاروا لأنفسهم الإيمان، وأعداؤه اختاروا لنفوسهم
(2)
الكفر، من غير أن يكون الله سبحانه وفَّقَ هؤلاء بتوفيقٍ زائدٍ أوجبَ لهم الإيمان، وخذَلَ هؤلاء بأمرٍ آخر أوجبَ لهم الكفر. فعُبَّادُ هؤلاء لهم نصيبٌ منقوصٌ من العبادة، لا استعانة معه، فهم موكولون إلى أنفسهم، مسدودٌ عليهم طريقُ الاستعانة والتّوحيد.
(1)
ما عدا ع: "لا تدور" بالتاء في ش، ج وبإهمالها في الأخرى.
(2)
ش: "لأنفسهم". وكذا في ع هنا وفي الجملة السابقة: "لنفوسهم".
قال ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما: الإيمانُ بالقدر نظامُ التّوحيد، فمن آمن بالله وكذَّب بقدَره نقَضَ تكذيبُه توحيدَه
(1)
.
النّوع الثّاني: من لهم عباداتٌ وأورادٌ، ولكن حظُّهم ناقصٌ من التّوكُّل والاستعانة. لم تتّسع قلوبهم لارتباط الأسباب بالقدر، وتلاشيها في طيِّه، وقيامها به، وأنّها بدون القدر كالمَوَات الذي لا تأثير له، بل كالعدم الذي لا وجود له، وأنَّ القدَر كالرُّوح المحرِّك لها، والمعوَّلُ على المحرِّك الأوّل. فلم تنفذ قوى بصائرهم من المتحرِّك إلى المحرِّك، ومن السَّبب إلى المسبِّب، ومن الآلة إلى الفاعل. فضعفت عزائمُهم، وقصرت هممُهم، فقلَّ نصيبُهم من {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، ولم يجدوا ذوق التّعبد بالتّوكُّل والاستعانة، وإن وجدوا ذوقَه بالأوراد والوظائف.
فهؤلاء لهم نصيبٌ من التّوفيق والنُّفوذ والتّأثير بحسب استعانتهم وتوكُّلهم، ولهم من الخذلان والضّعف والمهانة والعجز بحسب قلَّة استعانتهم وتوكُّلهم. ولو توكَّل العبد على الله حقَّ توكُّله في إزالة جبلٍ عن مكانه وكان مأمورًا بإزالته لأزاله.
فإن قلت: فما معنى التّوكُّل والاستعانة؟
قلت: هو حالٌ للقلب ينشأ عن معرفته بالله تعالى، وتفرُّدِه بالخلق
(1)
أخرجه عبد الله بن أحمد في "السنة"(902، 905 - نشرة آل حمدان) والفريابي في القدر (205) والعقيلي في "الضعفاء"(5/ 411) والطبراني في "الأوسط"(3573) والآجري في "الشريعة"(456) وابن بطة في "الإبانة الكبرى"(1737، 1738، 1743 - نشرة آل حمدان) واللالكائي في "شرح أصول الاعتقاد"(1112، 1224) من طرق عنه.
والتّدبير، والضَّرِّ والنّفع، والعطاء والمنع، وأنّه ما شاء كان وإن لم يشأ النّاس، وما لم يشأ لم يكن وإن شاءه النّاس. فيوجِبُ له هذا اعتمادًا عليه، وتفويضًا إليه، وطمأنينةً به، وثقةً به، وتيقُّنًا بكفايته لما توكّلَ
(1)
عليه فيه، وأنّه مليٌّ به، ولا يكون إلّا بمشيئته، شاءه النّاس أو أبوه. فتشبه
(2)
حالتُه حالةَ الطِّفل مع أبويه فيما ينوبه من رغبةٍ ورهبةٍ هما مليّان بهما. فانظر في تجرُّد قلبه عن الالتفات إلى غير أبويه، وحبسِه
(3)
همَّه على إنزال ما ينوبه بهما؛ فهذه حال المتوكِّل.
ومن كان هكذا مع الله، فالله كافيه ولا بدّ. قال تعالى:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] أي كافيه. والحَسْب: الكافي. فإن كان مع هذا من أهل التّقوى كانت له العاقبة الحميدة. وإن لم يكن من أهل التّقوى فهو:
القسم الرّابع: وهو من شهد تفرُّدَ الله بالضَّرِّ والنَّفع، وأنّه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولم يدُرْ مع ما يحبُّه ويرضاه، فتوكّل عليه، واستعان به على حظوظه وشهواته وأغراضه، وطَلبَها منه، وأنزلها به، فقُضِيت له، وأُسْعِفَ بها؛ ولكن لا عاقبة له، سواءٌ كانت أموالًا أو رياسات وجاهًا عند الخلق، أو أحوالًا من كشفٍ وتأثيرٍ وقوّةٍ وتمكينٍ، فإنّها من جنس المُلك الظّاهر والأموال، لا تستلزم الإسلام، فضلًا عن الولاية والقرب من الله؛ فإنّ الملك
(4)
والمال
(1)
ج: "توكلت". وكذا كان في الأصل وغيره ــ ما عدا ع ــ فأُصلح.
(2)
ما عدا ج: "فيشبه" بالياء ولم تنقط في ع.
(3)
ع: "وحبس".
(4)
بعده في ع زيادة: "والجاه".
والحال
(1)
يُعطاه البَرُّ والفاجر والمؤمن والكافر. فمن استدلَّ بشيءٍ من ذلك على محبّة الله لمن آتاه إيّاه ورضاه عنه وأنّه من أوليائه المقرَّبين، فهو من أجهلِ الجاهلين، وأبعدِهم معرفةً بالله ودينه، والتّمييز بين ما يحبُّه ويرضاه ويكرهه ويسخطه. فالحال
(2)
من الدُّنيا ــ وهو كالملك والمال ــ إن أعانه على طاعة الله ومرضاته وتنفيذ أوامره ألحَقَه بالملوك العادلين البررة، وإلّا فهو وبالٌ على صاحبه، ومُبْعِدٌ له عن الله تعالى، ومُلْحِقٌ له بالملوك الظّلمة والأغنياء الفجرة.
فصل
إذا عُرِف هذا فلا يكون العبد متحقِّقًا بـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} إلّا بأصلين عظيمين: أحدهما: متابعة الرّسول. والثّاني: الإخلاص للمعبود. فهذا تحقيق {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} .
والنّاس منقسمون بحسب هذين الأصلين أيضًا إلى أربعة أقسامٍ:
أحدها: أهل الإخلاص للمعبود
(3)
والمتابعة. وهم أهل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} حقيقةً، فأعمالُهم كلُّها لله، وأقوالُهم لله، وعطاؤهم لله، ومنعُهم لله، وحبُّهم لله، وبغضُهم لله. فمعاملتُهم ظاهرًا وباطنًا لوجه الله وحده، لا يريدون بذلك جزاءً من النّاس ولا شكورًا، ولا ابتغاءَ الجاه عندهم، ولا طلبَ المحمدة
(1)
ش: "الجاه"، وأشير إلى هذه النسخة في هامش م.
(2)
في هامش م: "لعله الجاه".
(3)
لم يرد "للمعبود" في م، ش، ع. وهو مما زيد في الأصل فيما بعد.
والمنزلة في قلوبهم، ولا هربًا من ذمِّهم. بل قد عدُّوا
(1)
النّاسَ كأصحابَ القبور
(2)
، لا يملكون
(3)
لهم ضرًّا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا. فالعملُ لأجل هؤلاء وابتغاء الجاه والمنزلة عندهم، ورجاؤهم
(4)
للضَّرِّ والنّفع منهم، لا يكون من عارفٍ بهم البتّة، بل من جاهلٍ بشأنهم وجاهلٍ بربِّه.
فمَن عرف النّاس أنزلهم منازلهم، ومَن عرف الله أخلص له أعماله وأقواله وعطاءه ومنعه وحبّه وبغضه. ولا يعامل أحدٌ الخلقَ دون الله إلّا لجهله بالله وجهله بالخلق، وإلّا فإذا عرَف الله وعرَف النّاس آثرَ معاملةَ الله على معاملتهم. وكذلك أعمالُهم كلُّها وعباداتهم موافقةٌ لأمر الله ولما يحبُّه ويرضاه. وهذا هو العمل الذي لا يقبل الله من عاملٍ سواه. وهو الذي بَلَا عبادَه بالموت والحياة لأجله. قال تعالى:{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}
(5)
[الملك: 2]. وجعل ما على الأرض زينةً لها ليختبرهم
(6)
أيُّهم أحسن عملًا. قال الفضيل بن عياضٍ رضي الله عنه: هو أخلَصُه وأصوَبُه. قالوا: يا أبا عليٍّ ما أخلَصُه وأصوَبُه؟ قال: إنّ العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يُقبَل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يُقبَل، حتّى يكون خالصًا
(1)
ما عدا ش: "أعدوا".
(2)
ع: "بمنزلة أصحاب القبور".
(3)
ما عدا ش، ع:"ولا يملكون"، وقد ضرب على الواو في م.
(4)
في م، ش:"رضاهم"، وهكذا غيَّر بعضهم في ل.
(5)
ما عدا ع: "وهو الذي خلق
…
"، سهو.
(6)
م، ش:"ليبلوهم".
صوابًا. فالخالص: أن يكون لله. والصّواب: أن يكون
(1)
على السُّنّة
(2)
.
وهذا هو المذكور في قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]، وفي قوله:{وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [النساء: 125]. فلا يقبل الله من العمل إلّا ما كان خالصًا لوجهه، على متابعة أمره. وما عدا ذلك فمردودٌ
(3)
على عامله، يعود أحوجَ ما هو إليه هباءً منثورًا. وفي "الصّحيح"
(4)
عن النّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "كلُّ عملٍ ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ". وكلُّ عملٍ بلا اقتداءٍ فإنّه لا يزيد عاملَه من الله إلّا بعدًا، فإنّ الله تعالى إنّما يُعبَد بأمره، لا بالآراء والأهواء.
فصل
الضّرب الثّاني: من لا إخلاص له ولا متابعة. فليس عمله موافقًا للشرع، ولا هو خالصٌ للمعبود، كأعمال المتزيِّنين للنّاس المرائين لهم بما لم يشرعه الله عز وجل ورسوله. وهؤلاء
(5)
شرار الخلق، وأمقَتُهم إلى الله عز وجل. ولهم أوفر نصيبٍ من قوله:{لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
(1)
ع: "والخالص ما كان لله والصواب ما كان".
(2)
أخرجه ابن أبي الدنيا في "الإخلاص والنية"(22) وبسنده الثعلبي في "الكشف والبيان"(9/ 356). وأخرجه أبو نعيم في "الحلية"(8/ 95).
(3)
ع: "فهو مردود".
(4)
أخرجه البخاري (2697) ومسلم (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها بنحوه.
(5)
ع: "وهؤلاء هم".
[آل عمران: 188]. يفرَحون بما أتَوا من البدعة والضّلالة والشِّرك، ويحبُّون أن يُحْمَدوا باتِّباع السُّنّة والإخلاص.
وهذا الضَّرب يكثر فيمن انحرف من المنتسبين إلى العلم والفقر والعبادة عن الصِّراط المستقيم، فإنّهم يرتكبون البدعَ والضَّلالات والرِّياء والسُّمعة، ويحبُّون أن يُحْمَدوا بما لم يفعلوه من الاتِّباع والإخلاص والعلم، فهم أهل الغضب والضّلال.
الضّرب الثّالث: مَن هو مخلصٌ في أعماله، لكنَّها
(1)
على غير متابعة الأمر، كجُهَّال العُبَّاد والمنتسبين إلى طريق الزُّهد والفقر. وكلُّ من عبد الله بغير أمره واعتقده قربةً إلى الله فهذه حاله، كمن يظنُّ أنَّ سماعَ المُكَاء والتّصدية قربةٌ، وأنّ الخلوة التي يترك فيها الجمعة والجماعة قربةٌ، وأنّ مواصلة صوم النّهار باللّيل قربةٌ، وأنَّ صيامَ يوم فطر النّاس كلِّهم قربةٌ، وأمثال ذلك.
الضّرب الرّابع: مَن أعمالُه على متابعة الأمر، لكنّها لغير الله تعالى، كطاعات المرائين، وكالرّجل يقاتل رياءً وحميّةً وشجاعةً وللمغنَم، ويحُجُّ ليقال، ويقرأ القرآن ليقال. فهؤلاء أعمالهم أعمالٌ صالحةٌ مأمورٌ بها، لكنّها غير خالصة، فلا تُقبَل. {أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5] فكلُّ أحدٍ لم يؤمر إلّا بعبادة الله بما أَمَر، والإخلاص له في العبادة، وهم أهل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} .
(1)
يعني: الأعمال. وفي ش: "لكنه".
فصل
ثمّ أهل مقام {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} لهم في أفضل العبادة وأنفعها وأحقِّها بالإيثار والتّخصيص أربعة طرق، فهم في ذلك أربعة أصنافٍ:
الصِّنف الأوّل: عندهم أنفَعُ العبادات وأفضَلُها: أشقُّها على النُّفوس وأصعَبُها. قالوا: لأنّه أبعد الأشياء من هواها، وهو حقيقة التّعبُّد. قالوا: والأجر على قدر المشقّة. ورووا حديثًا لا أصل له: "أفضلُ الأعمال أحمَزُها"
(1)
أي أصعَبُها وأشقُّها.
وهؤلاء هم أهل المجاهدات والجَور على النُّفوس. قالوا: وإنّما تستقيم النُّفوس بذلك، إذ طبعُها الكسل والمهانة والإخلاد إلى الأرض، فلا تستقيم إلّا بركوب الأهوال وتحمُّل المشاقِّ.
الصِّنف الثّاني قالوا: أفضل العبادات وأنفعها: التّجرُّد، والزُّهد في الدُّنيا، والتّقلُّلُ منها غاية الإمكان، واطِّراحُ الاهتمام بها، وعدمُ الاكتراث بكلِّ ما هو منها. ثمّ هؤلاء قسمان:
فعوامُّهم ظنُّوا أنّ هذا غايةٌ، فشمَّروا إليه وعملوا عليه، ودعَوا النَّاس إليه، وقالوا: هو أفضل من درجة العلم والعبادة، فرأوا الزُّهد في الدُّنيا غاية كلِّ عبادةٍ ورأسَها.
(1)
ذكره أبو عبيد في "غريب الحديث"(5/ 248) من كلام ابن عباس رضي الله عنهما وقال: "يروى هذا عن ابن جريج عمن يحدثه عن ابن عباس". وعنه صدر الهروي في "الغريبين"(2/ 494) ولكنه غلِط فرفعه. وعليه اعتمد ابن الأثير في "النهاية"(1/ 440). وانظر: "المقاصد الحسنة"(ص 130) و"كشف الخفاء"(1/ 155).
وخواصُّهم رأوا هذا مقصودًا لغيره، وأنّ المقصودَ به عكوفُ القلب على الله تعالى، وجمعُ الهمّة عليه، وتفريغُ القلب لمحبّته، والإنابة إليه، والتّوكُّل عليه، والاشتغال بمرضاته. فرأوا أنَّ أفضلَ العبادات في الجمعيّة على الله تعالى ودوامِ ذكره بالقلب واللِّسان والاشتغالِ بمراقبته دونَ كلِّ ما فيه تفريقٌ للقلب وتشتيتٌ له.
ثمّ هؤلاء قسمان: فالعارفون المتَّبعون منهم إذا جاء الأمر والنّهي بادروا إليه، ولو فرَّقَهم وأذهبَ جمعيَّتَهم. والمنحرفون منهم يقولون: المقصودُ من العبادة جمعيَّةُ القلب على الله، فإذا جاء ما يفرِّقه عن الله لم يلتفت إليه، وربّما يقول:
يطالَبُ بالأوراد من كان غافلًا
…
فكيف بقلبٍ كلُّ أوقاته وِرْدُ
(1)
ثمّ هؤلاء أيضًا قسمان: منهم من يترك الواجبات والفرائض لجمعيّته. ومنهم من يقوم بها، ويترك السُّننَ والنّوافلَ وتعلُّمَ العلم النّافع لجمعيّته.
وسأل بعض هؤلاء شيخًا عارفًا، فقال: إذا أذَّن المؤذِّنُ وأنا في جمعيّتي على الله تعالى، فإن قمتُ وخرجتُ تفرَّقتُ، وإن بقيتُ على حالي بقيتُ على جمعيّتي؛ فما الأفضل في حقِّي؟ فقال: إذا أذّن المؤذِّن وأنت تحت العرش، فقُمْ، فأجِبْ داعي الله، ثمّ عُدْ إلى موضعك. وهذا لأنّ الجمعيّةَ على الله تعالى حظُّ الرُّوح والقلب، وإجابةَ الدّاعي حقُّ الرّبِّ. ومن آثر حظَّ روحه على حقِّ ربِّه، فليس من أهل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} .
(1)
لم أقف على البيت في المصادر التي بين يديَّ، وسيأتي غير مرَّة في هذا الكتاب.
الصِّنف
(1)
الثّالث: رأوا أنّ أفضل العبادات وأنفعها: ما كان فيه نفعٌ متعدٍّ، فرأوه أفضل من ذي النّفع القاصر. فرأوا خدمةَ الفقراء، والاشتغالَ بمصالح النّاس، وقضاءَ حوائجهم، ومساعدتَهم بالمال والجاه والنّفع= أفضَلَ. فتصدَّوا له، وعملوا عليه، واحتجُّوا بقول النّبيِّ صلى الله عليه وسلم:"الخلقُ كلُّهم عيالُ الله. وأحبُّهم إلى الله أنفَعُهم لعياله"
(2)
.
واحتجُّوا بأنَّ عملَ العابد قاصرٌ على نفسه، وعمل النَّفَّاع متعدٍّ إلى الغير، وأين أحدهما من الآخر؟ قالوا: ولهذا كان فضلُ العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب
(3)
. وقد قال
(4)
رسول الله صلى الله عليه وسلم لعليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه: "لأن يهديَ الله بك رجلًا واحدًا خيرٌ لك من حمر النَّعم"
(5)
. وهذا التّفضيل للنّفع المتعدِّي. واحتجُّوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "من دعا إلى
(1)
لفظ "الصنف" ساقط من ش.
(2)
أخرجه الحارث (977 - المطالب العالية) وابن أبي الدنيا في "قضاء الحوائج"(24) والبزار (13/ 332) وأبو يعلى (3315) والطبراني في "المعجم الكبير"(10/ 86) وغيرهم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. ومدار الحديث على يوسف بن عطية، قال الحافظ في "المطالب العالية":"تفرد به يوسف وهو ضعيف جدًّا". وله شاهدان عن أبي هريرة وابن مسعود، ولكنهما واهيان أيضًا لا يُفرح بهما. انظر:"الضعيفة"(1900، 3590، 5735).
(3)
يشير إلى حديث أبي الدرداء رضي الله عنه الذي أخرجه أحمد (21715) والدارمي (354) وأبو داود (3641، 3642) والترمذي (2682) وابن ماجه (223) وابن حبان (88) وغيرهم من طرق لا تخلو من مقال. ينظر تعليق محققي "المسند".
(4)
ج: "قالوا: وقد قال"، وكذا كان في الأصل ثم ضرب على "قالوا".
(5)
أخرجه البخاري (2942) ومسلم (2406) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنهما.
هدًى كان له من الأجر مثل أجور من اتَّبعه
(1)
، من غير أن ينقص من أجورهم شيءٌ"
(2)
.
واحتجُّوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "إنّ الله وملائكته يصلُّون على معلِّمي الناس الخير"
(3)
، وبقوله صلى الله عليه وسلم "إنّ العالم ليستغفر له مَن في السّماوات ومن في الأرض، حتّى الحيتانُ في البحر، والنّملةُ في جُحْرها"
(4)
.
واحتجُّوا بأنّ صاحب العبادة إذا مات انقطع عمله، وصاحب النّفع لا ينقطع عمله، ما دام نفعه الذي تسبَّبَ إليه.
واحتجُّوا بأنّ الأنبياء عليهم السلام إنّما بُعثوا بالإحسان إلى الخلق وهدايتهم ونفعهم في معاشهم ومعادهم، لم يُبعَثوا بالخلوات والانقطاع عن النّاس والتّرهُّب. ولهذا أنكر النّبيُّ صلى الله عليه وسلم على أولئك النّفر الذين همُّوا بالانقطاع للتّعبد وتركِ مخالطة النّاس. ورأى هؤلاء أنَّ التّفرُّقَ في أمر الله ونفعِ عباده والإحسانِ إليهم أفضَلُ من الجمعيَّةِ عليه بدون ذلك.
الصِّنف الرّابع قالوا: إنّ أفضلَ العبادة العملُ على مرضاة الرّبِّ تعالى في
(1)
ش: "تبعه"، وفيها أيضًا:"أجورهم شيئًا" فيما يأتي.
(2)
أخرجه مسلم (2674) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
أخرجه الترمذي (2685) والطبراني (8/ 233، 234) وابن شاهين في "الترغيب في فضائل الأعمال"(216) وابن عبد البر في "جامع بيان العلم"(183) وغيرهم من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، ولفظه:"إن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين حتى النملة في جُحْرها وحتى الحوت ليصلون على معلِّم الناس الخير". وفي إسناده لين.
(4)
هذا جزء من حديث أبي الدرداء الذي سبق تخريجه آنفًا، إلا أنه ليس فيه ذكر النملة، وإنما جاء ذلك في حديث أبي أمامة السابق.
كلِّ وقتٍ بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته. فأفضلُ العبادات في وقت الجهاد: الجهاد، وإن آل إلى ترك الأوراد من صلاة اللّيل وصيام النّهار، بل ومن
(1)
ترك إتمام صلاة الفرض كما في حالة الأمن
(2)
.
والأفضل
(3)
في وقت حضور الضّيف مثلًا: القيامُ بحقِّه والاشتغال به عن الورد المستحبِّ. وكذلك في أداء حقِّ الزّوجة والأهل.
والأفضلُ في وقت استرشاد الطّالب وتعليم الجاهل: الإقبالُ على تعليمه والاشتغال به.
والأفضل
(4)
في أوقات السّحر: الاشتغالُ بالصّلاة، والقرآن، والدُّعاء والذِّكر.
والأفضل في وقت الأذان: تركُ ما هو فيه من ورده، والاشتغالُ بإجابة المؤذِّن.
والأفضل في أوقات الصّلوات الخمس: الجِدُّ والنُّصح في إيقاعها على أكمل الوجوه، والمبادرةُ إليها في أوّل الوقت، والخروجُ إلى الجامع. وإن بعُدَ كان أفضل.
(1)
م، ش، ج:"بل من". وقد زيدت الواو في ق، ل.
(2)
ش: "الإيماء"، وكذا غيِّر في م.
(3)
في الأصل وغيره ــ ما عدا ع ــ: "الفضل". وكتب بعضهم في هامش م: "لعله الأفضل". وهو كما قال.
(4)
هنا أيضًا وقع في ق، م، ج:"الفضل"، وكذا كان في ل فغيِّر. وصوَّب بعضهم في هامش م ما أثبت.
والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه أو البدن أو المال: الاشتغالُ بمساعدته، وإغاثة لهفته
(1)
، وإيثار ذلك على أورادك وخلوتك.
والأفضل في وقت قراءة القرآن: جمعيّةُ القلب والهمّة على تدبُّره وتفهُّمه، حتّى كأنّ الله تعالى يخاطبك به، فتجمَعُ قلبَك على فهمه وتدبُّره والعزم على تنفيذ أوامره أعظمَ من جمعيّةِ قلبِ مَن جاءه كتابٌ من السُّلطان على ذلك.
والأفضل في وقت الوقوف بعرفة: الاجتهادُ في التّضرُّع والدعاء والذكر دون الصَّوم المُضْعِف عن ذلك.
والأفضل في أيّام عشر ذي الحجّة: الإكثار من التّعبُّد، لاسيّما التّكبير والتهليل والتحميد، فهو أفضل من الجهاد غير المتعيِّن.
والأفضل في العشر الأخير من رمضان: لزومُ المسجد فيه، والخلوةُ والاعتكافُ دون التّصدِّي لمخالطة النّاس والاشتغال بهم، حتّى إنّه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلمَ وإقرائهم القرآنَ عند كثيرٍ من العلماء.
والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته: عيادتُه، وحضورُ جنازته وتشييعه، وتقديمُ ذلك على خلوتك وجمعيّتك.
والأفضل في وقت نزول النّوازل وأذى النّاس لك: أداءُ واجب الصّبر مع خلطتك لهم
(2)
، دون الهرب منهم، فإنَّ المؤمنَ الذي يخالط النّاس ويصبر
(1)
في جميع النسخ ما عدا ع: "وإعانة رفقته"، وكذا في الأصل بإهمال الكلمتين، وهو تحريف.
(2)
ع: "بهم".
على أذاهم أفضَلُ من الذي لا يخالطهم ولا يؤذونه. والأفضل خلطتهم في الخير، فهي خيرٌ من عزلتهم فيه. وعزلتُهم في الشّرِّ، فهي
(1)
أفضل من خلطتهم فيه. فإن علم أنّه إذا خالطهم أزاله أو قلله فهي خيرٌ من عزلتهم.
فالأفضلُ في كلِّ وقتٍ وحالٍ: إيثارُ مرضاة الله تعالى في ذلك الوقت والحال، والاشتغالُ بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه.
وهؤلاء هم أهل التّعبد المطلَق. والأصنافُ قبلهم أهل التّعبد المقيَّد، فمتى خرج أحدهم عن النّوع الذي تعلَّق به من العبادة وفارقه يرى نفسه كأنّه قد نقص وترك عبادته، فهو يعبد الله على وجهٍ واحدٍ. وصاحبُ التّعبد المطلق ليس له غرضٌ في تعبد بعينه يؤثره على غيره، بل غرضُه تتبُّعُ مرضاة الله تعالى أين كانت، فمدارُ تعبُّدِه عليها. فهو لا يزال منتقلًا
(2)
في منازل العبوديّة، كلَّما رُفِعت له منزلةٌ عمِل على سيره إليها واشتغل بها حتّى تلوح له منزلةٌ أخرى. فهذا دأبه في السَّير حتّى ينتهي سيره
(3)
. فإن رأيتَ العلماءَ رأيته معهم، وإن رأيت العُبَّادَ رأيته معهم، وإن رأيتَ المجاهدين رأيتَه معهم، وإن رأيتَ الذّاكرين رأيته معهم، وإن رأيتَ المتصدِّقين المحسنين رأيتَه معهم، وإن رأيتَ أرباب الجمعيّة وعكوف القلب على الله رأيته معهم.
فهذا هو العبد المطلق الذي لم تملكه
(4)
الرُّسوم، ولم تقيِّده القيود،
(1)
لم ترد "فهي" في ع.
(2)
هكذا بالنون قبل التاء في جميع النسخ.
(3)
ع: "مسيره".
(4)
ع: "لا تملكه".