الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حقيقةَ النّار مساويةً لحقيقة الماء، وحقيقةَ الدَّواء مساويةً لحقيقة الغذاء، ليس في أحدهما خاصِّيّةٌ ولا قوّةٌ يتميَّز بها عن الآخر= لفسد علمُ الطِّبِّ، وبطلت حِكمُ الله
(1)
تعالى.
بل العالمُ مربوطٌ بالأسباب والقوى والعلل الفاعليّة والغائيّة، وعلى هذا قام الوجودُ بتقدير العزيز العليم. والكلُّ مربوطٌ بقضائه وقدره ومشيئته، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. فإذا شاء سلَب قوّةَ الجسمِ الفاعلِ منه ومنَع تأثيرها، وإذا شاء جعَل في الجسم المنفعل قوّةً تدفعها وتمنع موجَبَها مع بقائها. وهذا لكمال قدرته ونفوذ مشيئته.
و
النّاس في الأسباب والقوى والطّبائع ثلاثة أقسامٍ:
منهم: من بالغ في نفيها وإنكارها، فأضحك العقلاءَ على عقله. وزعم أنّه بذلك ينصر الشّرعَ، فجنى على العقل والشّرع، وسلَّط خصمَه عليه.
ومنهم: من ربط العالمَ العلويَّ والسُّفليَّ بها بدون ارتباطها بمشيئة فاعلٍ مختارٍ مدبِّرٍ لها يصرِّفها كيف أراد، فيسلبُ قوّةَ هذا، ويقيم لقوّة هذا قوّةً تعارضه وتكُفُّ
(2)
قوّةَ هذا عن التّأثير مع بقائها، ويتصرَّف فيها كما يشاء ويختار.
وهذان طرفان جائران عن الصّواب.
ومنهم: من أثبتها خلقًا وأمرًا، قدرًا وشرعًا، وأنزلها بالمحلِّ الذي أنزلها الله به، من كونها تحت تدبيره ومشيئته، وهي طوعُ المشيئة والإرادة، ومحلُّ
(1)
ع: "حكمة الله".
(2)
ج: "يكف".
جَرَيانِ حكمِها
(1)
عليها. فيقوِّي سبحانه بعضَها ببعضٍ، ويُبطل ــ إن شاء ــ بعضَها ببعضٍ، ويسلُب بعضَها قوّته وسببيّته ويعرِّيه
(2)
منها، ويمنعُه من موجَبها مع إبقائها عليه؛ ليعلمَ خلقُه أنّه الفعَّالُ لما يريد، وأنّه لا مستقلَّ بالفعل والتّأثير غير مشيئته، وأنَّ التّعلُّقَ بالسَّببِ دونه كالتّعلُّقِ ببيت العنكبوت، مع كونه سببًا.
وهذا بابٌ عظيمٌ نافعٌ في التّوحيد وإثبات الحِكَم، يُوجِب للعبد ــ إذا تبصَّر فيه ــ الصُّعودَ من الأسباب إلى مسبِّبها، والتّعلُّقَ به دونها، وأنّها لا تضرُّ ولا تنفع إلّا بإذنه، وأنّه إذا شاء جَعلَ نافعَها ضارًّا وضارَّها نافعًا، ودواءَها داءً وداءَها دواءً. فالالتفاتُ إليها بالكلِّيّة شركٌ منافٍ للتّوحيد، وإنكارُها أن تكون أسبابًا بالكلِّيّة قدحٌ في الشَّرع والحكمة. والإعراضُ عنها ــ مع العلم بكونها أسبابًا ــ نقصانٌ في العقل
(3)
. وتنزيلُها منازلَها، ومدافعةُ بعضها ببعضٍ، وتسليطُ بعضها على بعضٍ، وشهودُ الجمع في تفرُّقها، والقيامُ بها= هو محضُ العبوديّة والمعرفة، وإثباتُ التَّوحيد والشَّرع والقدَر والحكمة
(4)
. والله أعلم.
(1)
في هامش ع أن في نسخة: "حكمه".
(2)
في نسخة: "ويعرِّيها" كما في هامش ع.
(3)
قوله: "فالالتفات إليها
…
في العقل" نسبه شيخ الإسلام في "بغية المرتاد" (ص 262) و"منهاج السنة" (5/ 366) إلى الغزالي وابن الجوزي. وهو بنحوه في "إحياء علوم الدين" (4/ 374). وسينقله المصنف في منزلة التوحيد (4/ 522) عن "بعض أهل العلم".
(4)
قد أحال المصنف من قبل (ص 140) لإفاضة القول في مسألة التحسين والتقبيح على كتابه "مفتاح دار السعادة"، وسيأتي الكلام على المسألة مرة أخرى في منزلة التوحيد (4/ 510) مع الإحالة على الكتاب المذكور.
فصل
وأمّا غلطُ مَن غلِط من أرباب السُّلوك والإرادة في هذا الباب، فحيث ظنُّوا أنَّ شهودَ الحقيقة الكونيَّة والفناءَ في توحيد الرُّبوبيّة من مقامات العارفين، بل أجلُّ مقاماتهم. فساروا شائمين لبرق هذا الشُّهود، سالكين لأودية الفناء فيه. وحثَّهم على هذا السَّير ورغَّبهم فيه ما شهدوه من حال أرباب الفَرْق الطَّبعيِّ
(1)
، فأنِفُوا من صحبتهم في الطَّريق، ورأوا مفارقتَهم فرضًا معيَّنًا لا بدَّ لهم منه. فلمَّا عرَضَ لهم الفرقُ الشَّرعيُّ في طريقهم ورد عليهم منه أعظمُ واردٍ فرَّقَ جمعيَّتَهم، وقسَّمَ وحدةَ عزيمتهم، وحال بينهم وبين عين الجمع الذي هو نهايةُ منازل سيرهم، فافترقت طرقهُم في هذا الوارد
(2)
العظيم:
فمنهم من اقتحمه ولم يلتفت إليه، وقال: الاشتغالُ بالأوراد عن عين المورد
(3)
انقطاعٌ عن الغاية. والقصدُ من الأوراد: الجمعيّةُ على الآمر، فما الاشتغالُ
(4)
عن المقصود بالوسيلة بعد الوصول إليه، والرُّجوعُ من حضرته إلى منازل السّفر إليه؟ وربّما أنشد بعضهم:
يطالَبُ بالأوراد مَن كان غافلًا
…
فكيف بقلبٍ كلُّ أوقاته وِرْدُ
(5)
(1)
ع: "الطبيعي".
(2)
ش: "الوادي"، تحريف.
(3)
م، ش:"الورد".
(4)
ل، م، ش:"للاشتغال".
(5)
تقدَّم في (ص 133).
فإذا اضطُرَّ أحدُهم إلى التَّفرقة بوارد الأمر قال: ينبغي أن يكون الفرقُ
(1)
على اللِّسان موجودًا، والجمعُ في القلب مشهودًا.
ثمّ من هؤلاء من يُسقط الأوامر والنّواهي جملةً، ويرى القيامَ بها من باب ضبط ناموس الشَّرع، ومصلحة العموم، ومبادئ السَّير؛ فهي التي تحُثُّ أهلَ الغفلة على التَّشمير للسَّير، فإذا جدَّ في السَّير استغنى بقربه
(2)
وجمعيَّتِه عنها.
ومنهم من لا يرى سقوطها إلّا عمَّن شهد الحقيقةَ الكونيَّةَ، ووصل إلى مقام الفناء فيها، فمن كان هذا مشهدُه سقط عنه الأمرُ والنَّهيُ عندهم.
وقد يقولون: شهودُ الإرادة يُسْقِط الأمرَ. وفي هذا المشهد يقولون: العارف لا يستقبح قبيحةً، ولا يستحسن حسنةً. ويقول قائلهم: العارف لا يُنكِر منكرًا لاستبصاره بسرِّ الله تعالى في القدر. ويقولون: القيامُ بالعبادة مقامُ التَّلبيس، ويحتجُّون بقول الله تعالى:{وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9]
(3)
.
وهذا من أقبح الجهل، فإنَّ هذا داخلٌ في جواب لو التي ينتفي بها الملزومُ ــ وهو المقدَّم ــ لانتفاء اللَّازم، وهو الجواب، وهو التّالي. فانتفاءُ جعلِ الرّسول ملَكًا ــ كما اقترحوه ــ لانتفاء التَّلبيس من الله تعالى عليهم، والكفّار كانوا قد قالوا:{(7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ} أي نعاينه ونراه، وإلّا فالملَكُ
(1)
"الفرق" ساقط من ش.
(2)
ما عدا ع: "بفرقيته".
(3)
انظر للأقوال السابقة: "جامع الرسائل"(2/ 125) وما تقدم في (ص 253 - 254) وما سيأتي من الكلام على مقام التلبيس.
لم يزل يأتيه من عند الله بأمره ونهيه، فهم اقترحوا نزولَ ملكٍ
(1)
يعاينونه
(2)
. فأخبر سبحانه عن الحكمة التي لأجلها لم يجعل رسولَه إليهم من الملائكة، ولا أنزل ملكًا يرونه، فقال:{مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ} [الأنعام: 8] أي لوجب العذابُ وفُرِغَ من الأمر، ثمّ لا يُمهَلُون إن أقاموا على التّكذيب.
وهذا نظير قوله في الحِجْر: {وَقَالُوا يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} . قال الله عز وجل: {مَا تَنَزَّل الْمَلَائِكَةَ
(3)
إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ} [الحجر: 6 - 8] والحقُّ هاهنا: العذاب.
ثمّ قال: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9]. أي لو أنزلنا عليهم ملكًا لجعلناه في صورة آدميٍّ، إذ لا يستطيعون التّلقِّيَ عن الملَكِ في صورته التي هو عليها، وحينئذٍ فيقع اللَّبسُ منَّا عليهم، لأنّهم لا يدرون أرجلٌ هو أم
(4)
ملَكٌ؟ فلو جعلناه رجلًا لخلَطنا عليهم وشبَّهنا عليهم الذي طلبوه بغيره.
وقوله: {مَا يَلْبِسُونَ} ، فيه قولان
(5)
:
(1)
العبارة: "أي نعاينه
…
نزول ملك" ساقطة من النسخ لانتقال النظر ما عدا ع.
(2)
ما عدا ع: "يعاينوه" بحذف نون الرفع.
(3)
هكذا في ق، ل على قراءة أبي عمرو وغيره.
(4)
ق، ل، م:"أو".
(5)
انظر القولين في "تفسير البغوي"(3/ 129).
أحدهما: أنّه جزاءٌ على لَبْسِهم على ضعفائهم
(1)
، والمعنى أنّهم كما شبَّهوا على ضعفائهم، ولبَّسوا عليهم الحقَّ بالباطل، يشبَّه عليهم، ويُلبَس
(2)
عليهم الملَكُ بالرَّجل.
والثّاني: أنّا نلبِسُ عليهم ما لبَسوا على أنفسهم، فإنهم خلَطوا على أنفسهم، ولم يؤمنوا بالرَّسول صلى الله عليه وسلم
(3)
منهم بعد معرفتهم صدقَه، وطلبوا رسولًا مَلكيًّا يعاينونه، وهذا تلبيسٌ منهم على أنفسهم؛ فلو أجبناهم
(4)
إلى ما اقترحوه لم يؤمنوا عنده، وللَبَسْنا عليهم لَبْسَهم على أنفسهم.
فأيُّ تعلُّقٍ لهذا بالتّلبيس الذي ذكرته هذه الطّائفةُ من تعليق الكائنات والمثوبات والعقوبات بالأسباب، وتعليق المعارف بالوسائط، والقضايا بالحجج، والأحكام بالعلل، والانتقام بالجنايات، والمثوبات بالطَّاعات، ممّا هو محضُ الحكمة وموجَبُها، وأثر اسمه "الحكيم" في الخلق والأمر. والخلقُ والأمرُ إنّما قام بالأسباب، وكذلك الدُّنيا والآخرة، وكذلك الثّوابُ والعقابُ. فجعلُ الأسبابِ منصوبةً للتَّلبيس من أعظم الباطل شرعًا وقدرًا.
والذي أوقع هؤلاء في هذا الغلوِّ: نفرتُهم من أرباب الفرق الأوّل، ومشاهدتُهم قبيحَ
(5)
ما هم عليه. وهم ــ لَعَمْرُ الله ــ خيرٌ منهم، مع ما هم عليه، فإنّهم مُقِرُّون بالجمع والفرق: أنَّ الله ربُّ كلِّ شيءٍ ومليكُه وخالقُه،
(1)
في الأصل وغيره: "صنعنا بهم"، وهو تصحيف ما أثبت من ع.
(2)
ج: "فاشتبه عليهم وتلبس".
(3)
في ج بعده زيادة: "عنادًا" وكذا في هامش ل.
(4)
ما عدا ع: "أجابهم".
(5)
ع: "قبح".
وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وبأنّه فرَّقَ
(1)
بين المأمور والمحظور والمحبوب والمكروه، وإن كانوا كثيرًا ما يفرِّقون بأهوائهم ونفوسهم. فهم في فرقهم النَّفْسيِّ خيرٌ من أهل هذا الجَمْع، إذ هم مقرُّون بأنّ الله يأمرُ بالحسنات ويحبُّها، وينهى عن السّيِّئات ويبغضُها. وإذا فرَّقوا بحسب أهوائهم وفرَّقوا بنفوسهم لم يجعلوا هذا الفرقَ دينًا يُسْقِطُ عنهم أمرَ الله تعالى ونهيَه، بل يعترفون أنّه ذنبٌ قبيحٌ، وأنّهم مقصِّرون بل مفرِّطون في الفرق الشّرعيِّ. ونهايةُ ما معهم صحّةُ إيمانٍ مع غفلةٍ وفرقٍ نفسانيٍّ، وأولئك معهم جمعٌ وشهودٌ يصحبه فسادُ إيمانٍ وخروجٌ عن الدِّين.
ومن العجب أنّهم فرُّوا من فرق أولئك النّفسيِّ إلى جمعٍ أسقط التّفرقةَ الشَّرعيَّةَ، ثمّ آل أمرُهم إلى أن صار فرقُهم كلُّه نفسيًّا! فهم في الحقيقة راجعون إلى فرقهم ولا بدَّ، فإنَّ الفرق أمرٌ ضروريٌّ للإنسان ولا بدَّ؛ فمن لم يفرِّق بالشَّرع فرَّقَ بالنَّفس والهوى. فهم أعظمُ النّاس اتِّباعًا لأهوائهم، يميلون مع الهوى حيث مال بهم، ويزعمون أنّه الحقيقة!
وبالجملة، فلهذا السُّلوك لوازمُ عظيمةُ البطلان، مناقِضةٌ للإيمان
(2)
،وآخِرُ أمرِ صاحبِه: الفناءُ في شهود الحقيقة العامَّة المشترَكة بين الأبرار والفجّار وبين الملائكة والشّياطين، وبين الرُّسل وأعدائهم؛ وهي الحقيقةُ الكونيَّةُ القدريَّةُ. ومن وقف معها ولم يصعد إلى الفرق الثّاني ــ وهو
(1)
لفظ "فرَّق" ساقط من ع.
(2)
ق، ل:"الإيمان". وفي ع: "منافية للإيمان". وفيها زيادة: "جالبةٌ للخسران {أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 60] " وقد نبَّه على الزيادة مَن قابلها على نسخة أخرى.
الحقيقةُ
(1)
النَّبويَّةُ ــ فهو زنديقٌ كافرٌ.
فصل
ومنهم من لم ير إسقاطَ
(2)
الفرق الثّاني جملةً، بل إنّما يُسقِط عن الواصلِ إلى عين الجمع، الشَّاهدِ للحقيقة. وما دام سالكًا أو محجوبًا عن شهود الحقيقة
(3)
فالفرقُ لازمٌ له.
وهؤلاء أيضًا من جنس الفريق الأوّل، بل هم خواصُّهم. فإذا وصل واصلُهم إلى شهود حقيقة الجمع لم يجب عليه القيامُ بتفرقة الأوامر. وإن قام بها فلحفظِ المرتبة، وضبطِ النّاموس، وحفظِ السَّالكين عن الذَّهاب مع الفرق الطَّبيعيِّ قبل شهود
(4)
الحقيقة؛ ويسمُّون هذه الحال تلبيسًا! وقد تقدَّم ذكره
(5)
. وسيأتي إن شاء الله كشفُ هذا التَّلبيس الذي يشيرون إليه كشفًا بيِّنًا
(6)
.
وقد تقدّم
(7)
أنّهم يحتجُّون على سقوط الفرق عمّن شهد الحقيقة بقوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99]، ويقولون: إنَّ الرَّسول صلواتُ الله وسلامُه عليه كان في هذا المقام، وإنّما كان قيامُه
(1)
بعده في ع زيادة: "الدينيّة".
(2)
ج: "سقوط".
(3)
"وما دام
…
الحقيقة" ساقط من ج لانتقال النظر.
(4)
ع: "شهودهم".
(5)
في الفصل السابق.
(6)
في الكلام على منزلة التلبيس.
(7)
في (ص 250، 253).
بالأعمال تشريعًا. وذكرنا أنَّ اليقين الموت، وأنّه من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أنّ الأوامر والنّواهي لا تسقط عن العبد ما دام في دار التّكليف، إلّا إذا زال عقله وصار مجنونًا.
فصل
ومنهم من يرى القيامَ بالأوامر واجبًا إذا لم تُفرِّق جمعيَّتَه، فإذا فرَّقَتْ جمعيَّتَه رأى الجمعيَّةَ أوجَبَ منها، فيزعم أنّه يترك واجبًا لما هو أوجَبُ منه وأهمُّ منه. وهذا أيضًا جهلٌ وضلالٌ.
وإن رأى أنَّ الأمرَ لم يتوجَّهْ إليه في حال الجمعيَّةِ فهو كافرٌ. وإن علِمَ توجُّهَه إليه، وأقدَمَ على تركه، فله حكمُ أمثاله من العصاة والفسّاق.
فصل
ومنهم من يرى أنَّ الأمر لا يسقُط عنه، ولكن إذا ورد عليه واردُ الفناءِ والجمعِ غيَّبَ عقلَه واصطلَمَه، فلم يشعُرْ بوقت الواجب ولا حضوره حتّى يفوتَه فيقضيَه. فهذا متى استدعى ذلك الفناءَ وطلَبَه فليس بمعذورٍ في اصطلامه، بل هو عاصٍ لله في استدعائه ما يُعرِّضه لإضاعة حقِّه، وهو مفرِّطٌ أمرُه إلى الله.
ومتى هجَم عليه بغير استدعاءٍ، وغُلِبَ عنه مع مدافعته له خشيةَ إضاعة الحقِّ
(1)
، فهذا معذورٌ، وليس بكاملٍ
(2)
في حاله. بل الكمالُ وراء ذلك، وهو
(1)
ج: "إضاعته الحق".
(2)
هكذا أصلح في الأصل كما في ع. وفي ج: "كاملًا"، وقد سقط منها:"فهذا معذور و". وفي غيرهما: "من الكمال" كما كان في الأصل أيضًا قبل الإصلاح.
الانتقال عن وادي الجمع والفناء والخروجُ عنه إلى أودية الفرق الثّاني والبقاء، فالشّأن كلُّ الشّأن فيه. وهو الذي كان ينادي عليه شيخُ الطّائفة على الإطلاق الجنيدُ بن محمَّدٍ رحمه الله. ووقع بينه وبين أصحاب هذا الجمع والفناء ما وقع لأجله، فهجَرهم وحذَّر منهم، وقال: عليكم بالفرق الثّاني
(1)
. فإنَّ الفرقَ فرقانِ: الفرق الأوّل: هو النَّفسيُّ الطّبيعيُّ
(2)
المذموم، وليس الشّأنُ في الخروج منه إلى الجمع والفناء في توحيد الرُّبوبيّة والحقيقة الكونيَّة، بل الشّأنُ في شهود هذا الجمع واستصحابه في الفرق الثّاني، وهو الحقيقة الدِّينيَّة. فمن لم يتَّسِعْ لذلك فليترُكْ جمعَه وفناءَه تحت قدمه، ولينبذه وراءَ ظهره، مشتغلًا بالفرق الثّاني.
والكمالُ أيضًا وراء ذلك! وهو شهودُ الجمع في الفرق، والكثرةِ في الوحدة، وتحكيمُ الحقيقة الدِّينيّة على الحقيقة الكونيّة. فهذا حالُ العارفين الكُمَّل:
يَسقِي ويشرَبُ لا تُلهيه سكرتُه
…
عن النّديم ولا يلهو عن الكأسِ
(3)
"إنِّي لأسمع بكاءَ الصّبيِّ وأنا في الصّلاة، فأتجوَّز فيها كراهيةَ أن أشُقَّ
(1)
انظر: "الرد على الشاذلي"(ص 120)، و"الرد على البكري"(ص 415 - 416، 426)، و"منهاج السنة"(5/ 339، 369)، و"جامع الرسائل"(2/ 124) وغيرها من كتب شيخ الإسلام، و"طريق الهجرتين" للمؤلف (2/ 735).
(2)
ع: "الطبعي".
(3)
البيت مع آخر ليحيى بن نصر بن عبد الرزاق بن عبد القادر الجيلاني. انظر: "مرآة الزمان" لسبط ابن الجوزي (21/ 112).
على أمِّه"
(1)
. وكان في صلاته واشتغاله بالله وإقباله عليه، وهو يشعر بعائشة رضي الله عنها إذا استفتحت الباب، فيمشي خطواتٍ يفتَحُ لها، ثمَّ يرجع إلى مصلَّاه
(2)
. وذكر في صلاته تِبْرًا كان عنده، فصلّى، ثمّ قام مسرعًا فقَسَمه، وعاد إلى مجلسه
(3)
. فلم تشغَلْه جمعيَّتُه العظمى ــ التي لا يُدرِكُ لها مَن بعدَه رائحةً ــ عن هذه الجزئيّات، صلواتُ الله وسلامُه عليه.
فصل
ومنهم من يتمكَّن الإيمانُ والعلمُ من قلبه
(4)
، فإذا جاء الأمر قام إليه، وبادر بجمعيَّته. فإن صَحِبَتْه وإلَّا طرَحَها، وبادر إلى الأمر، وعلِمَ أنّه لا يسعُه غيرُ ذلك، وأنَّ الجمعيّةَ فضلٌ والأمرَ فرضٌ، ومَن ضيَّع الفروضَ للفضول حِيلَ بينه وبين الوصول. لكن إذا جاءت المندوباتُ ــ التي هي
(5)
محلُّ
(1)
أخرجه البخاري (707) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه أحمد (24027، 25972) وأبو داود (922) والترمذي (607) والنسائي في "الكبرى"(528، 1130) وفي "المجتبى"(1206) وابن حبان (2355) والبيهقي (2/ 265) وغيرهم من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وفيه بُرْد بن سِنان، مختلف فيه وقد ضعَّفه علي ابن المديني وأبو حاتم في قول. وقد تفرد بهذا الحديث، ولم يتابَع إلا من طرق واهية. قال أبو حاتم لما سأله ابنه عن هذا الحديث كما في "العلل" (467):"لم يروِ هذا الحديث أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم غير برد، وهو حديث منكر". وقال ابن رجب في "فتح الباري"(6/ 382 - دار ابن الجوزي): "واستنكره أبو حاتم والجوزجاني لتفرُّدِ بُردٍ به".
(3)
أخرجه البخاري (851) من حديث عقبة بن الحارث رضي الله عنه.
(4)
ش: "في قلبه".
(5)
"التي هي" تحرَّف في الأصل وغيره إلى "أكثر من". وقد أُصلح في ل كما أثبت من ع، واقترحه بعضهم في هامش ش أيضًا.
الأرباحِ والمكاسبِ العظيمةِ والمصالحِ الرّاجحةِ، من عيادةِ المريض، واتِّباعِ الجنازة
(1)
، والجهادِ المستحبِّ، وطلبِ العلم النّافع، والخِلْطة التي ينتفع بها وينفع غيرَه ــ لم يُؤْثِرْها على جمعيَّته إذا رأى
(2)
جمعيَّتَه خيرًا له وأنفع منها، فهذا غيرُ آثمٍ ولا مفرِّطٍ، إلّا إذا تركها رغبةً عنها بالكلِّيّة، واستبدالًا بالجمعيَّة، فهذا ناقصٌ. أمّا إذا قام بها أحيانًا وتركها أحيانًا لاشتغاله بجمعيّته
(3)
، فهذا غير مذمومٍ. بل هذا حقيقة الاعتكاف المشروع، وهو جمعيّةُ العبد على ربِّه وخلوتُه به.
وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يحتجر بحصيرٍ
(4)
في المسجد في اعتكافه
(5)
، يخلو به مع ربِّه عز وجل، ولم يشتغِلْ بتعليم الصَّحابة وتذكيرهم في تلك الحال. ولهذا كان المشهور من مذهب أحمد وغيره أنّه لا يُستحَبُّ للمعتكِف إقراءُ القرآن والعلم، وخلوتُه للذِّكر والعبادة أفضَلُ له. واحتجُّوا بفعل النّبيِّ صلى الله عليه وسلم
(6)
.
(1)
ش: "الجنائز".
(2)
ما عدا ع: "ورأى".
(3)
"ناقص أما
…
بجمعيته" ساقط من ش لانتقال النظر.
(4)
أي يتخذه مثل الحجرة.
(5)
انظر حديث عائشة وأنس رضي الله عنهما في "صحيح البخاري"(730، 731)، وليس فيهما ذكر الاعتكاف. وانظر حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في "صحيح مسلم"(1167) ذكر فيه اعتكافه صلى الله عليه وسلم في قبَّة تركية على سدَّتها حصيرٌ.
(6)
انظر: "المغني"(4/ 480 - 481).
فصل
وأكمَلُ من هؤلاء مَن إذا جاءه تفرقةُ الأمر، ورآها أرجحَ من مصلحة الجمعيَّة، ولم يمكنه الجمعُ في التَّفرقة= اشترى الفاضلَ بالمفضول، والرّاجحَ بالمرجوح. فإذا كان المندوبُ مفضولًا مرجوحًا والجمعُ خيرًا منه اشتغلَ بالجمع عنه. فهذا أعلى الأقسام.
والرَّجلُ كلُّ الرَّجل
(1)
: مَن يردُّ من تفرقته على جمعه، ومن جمعه على تفرقته، فيقوِّي كلَّ واحدٍ منهما بالآخر، ولا يلقي الحربَ بينهما. فإذا جاءت تفرقةُ الأمر جدَّ فيها وقام بها مُمِدًّا بها لجمعيَّته مقوِّيًا لها بالأمر، وإذا
(2)
جاءت حالةُ الجمعيّة تقوَّى بها على تفرقة الأمر. فإذا تفرَّق تفرَّق لله ليجمعَه
(3)
عليه. وإذا جاءت الجمعيّةُ قال: أجتمع لأتقوَّى على أمر الله ورضاه، لا لمجرَّدِ حظِّي ولذّتي من هذه الجمعيَّة؛ فما أكثرَ من يغيبُ بحظِّه منها ولذّتها ونعيمها وطيبها، عن مراد الله منه!
فتدبَّر هذا الفصلَ، وأحِطْ به علمًا، فإنّه من قواعد السُّلوك والمعرفة. وكم قد زلَّت فيه من أقدامٍ، وضلَّت فيه من أفهامٍ! ومَن عرَفَ ما عند النَّاس، أو نهضَ من مدينة طبعه إلى السَّير إلى الله، عرَفَ مقداره. فمَن عرَفه عرَفَ مجامعَ الطُّرق ومَفْرَقَ الطُّرق التي تفرَّقت بالسَّالكين وأهل العلم والنَّظر. والله الموفِّق للصَّواب.
(1)
"كلُّ الرجل" ساقط من ج.
(2)
ما عدا ع: "فإذا".
(3)
في ع: "على تفرقة الأمر والبقاءِ به، فيرُدُّ من هذا على هذا، ومن هذا على هذا. فإذا جاءت تفرقة الأمر قال: أتفرَّق لله ليجمعني".
فصل
وأصلُ ذلك كلِّه هو: الفرقُ بين محبَّة الله ورضاه، ومشيئته وإرادته الكونيَّة. وإنَّ منشأَ الضَّلالِ في هذا الباب من التَّسوية بينهما أو اعتقادِ تلازمهما، فسوَّى بينهما الجبريّةُ والقدريّةُ، وقالوا: المشيئةُ والمحبَّةُ سواءٌ أو متلازمان. ثم اختلفوا:
فقالت الجبريّة: والكون كلُّه: قضاؤه وقدرُه، طاعاتُه ومعاصيه، خيرُه وشرُّه= فهو محبوبه. ثمّ من تعبَّد منهم وسلك على هذا الاعتقاد رأى أنَّ الأفعالَ جميعَها محبوبةٌ للرّبِّ، إذ هي صادرةٌ عن مشيئته، وهي عينُ محبّته ورضاه؛ وفني في هذا الشُّهود الذي كان اعتقادًا، ثمَّ صار مشهدًا. فلزم من ذلك ما تقدَّم من أنّه لا يستقبح سيِّئةً ولا يُنكِر منكرًا، وتلك اللّوازمُ الباطلةُ المنافيةُ للشّرائع جملةً.
ولمّا ورد على هؤلاء قوله: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205]، {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7]، وقولُه:{كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئَةٌ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا}
(1)
[الإسراء: 38] واعتاصَ عليهم كيف يكون مكروهًا له، وقد أراد كونَه؟ وكيف لا يحبُّه، وقد أراد وجودَه؟ أوَّلوا هذه الآياتِ ونحوَها بأنّه لا يحبُّها دينًا ولا يرضاها شرعًا، ويكرهها كذلك، بمعنى أنّه لا يشرعها، مع كونه يحبُّ وجودَها ويريدُه.
فشهدوا في مقام الفناء كونَها محبوبةَ الوجود، ورأوا أنَّ المحبَّةَ تقتضي موافقةَ المحبوب فيما يحبُّه، والكونُ كلُّه محبوبُه، فأحبُّوا ــ بزعمهم ــ جميعَ
(1)
"سيِّئةً" قراءة أبي عمرو ونافع وابن كثير. وقرأ الباقون: "سيِّئُه".
ما في الكون، وكذبوا وتناقضوا! فإنّما أحبُّوا ما تهواه نفوسُهم وإرادتُهم، فإذا جاء في الكون ما لا يلائم أحدَهم ويكرهه طبعُه أبغَضَه ونفَر منه وكرِهَه، مع كونه مرادًا للمحبوب، فأين الموافقة؟ وإنّما وافقوا أهواءهم وإراداتهم!
ثمّ بنَوا على ذلك أنّهم مأمورون بالرِّضا بالقضاء، وهذه قضاؤه، فنحن نرضى بها، فما لنا ولإنكارها ومعاداة فاعلها، ونحن مأمورون بالرِّضا بالقضاء؟ فتركَّب لاعتقادهم كونَها محبوبةً للرَّبِّ، وكونَهم مأمورين
(1)
بالرِّضا بها: التّسويةُ بين الأفعال، وعدمُ استقباح شيءٍ منها أو إنكارِه.
وانضاف إلى ذلك اعتقادُهم جبرَ العبد عليها، وأنّها ليست فعله، فلزم عن ذلك
(2)
رفعُ الأمر والنّهي، وطيُّ بساط الشَّرع، والاستسلامُ للقدَر، والذَّهابُ معه حيث كان. وصارت لهم هذه العقائد مشاهدَ، وكلُّ أحدٍ إذا ارتاض وصفا باطنُه تجلّى له فيه صورةُ معتقده، فهو يشاهدها
(3)
بقلبه، فيظنُّها حقًّا! فهذا حال هذه الطّائفة.
وقالت القدريَّةُ النُّفاةُ: ليست المعاصي محبوبةً لله ولا مرضيّةً، فليست مقدّرةً له ولا مقضِيّةً، فهي خارجةٌ عن مشيئته وخلقه.
قالوا: ونحن مأمورون بالرِّضا بالقضاء، ومأمورون بسخط هذه الأفعال وبغضها وكراهتها، فليست إذن بقضاء الله، إذ الرِّضا والقضاء متلازمان، كما
(1)
في جميع النسخ: "مأمورون" كأنَّ ناسخ أصلها انتقل بصره إلى لفظ "مأمورون" السابق!
(2)
ع: "من ذلك".
(3)
ما عدا ع: "يشاهده" يعني: معتقده.
أنَّ محبّته ومشيئته متلازمان أو متَّحدان.
فهؤلاء
(1)
لا يجيء من سالكيهم وعُبَّادهم ما جاء من سالكي الجبريَّة وعُبَّادهم البتّة، لمنافاة عقائدهم لمشاهد أولئك وعقائدهم. بل غايتُهم التَّعبُّدُ والورَعُ، وهم في تعظيم الذُّنوب والمعاصي خيرٌ من أولئك، وأولئك قد يكونون أقوى حالًا وتأثيرًا منهم.
فمنشأُ الغلط: التّسويةُ بين المشيئة والمحبّة، واعتقادُهم وجوبَ الرِّضا بالقضاء. ونحن نبيِّن ما في الفصلين
(2)
.
فصل
فأمّا المشيئة والمحبّة، فقد دلَّ على الفرق بينهما القرآنُ والسُّنَّةُ والعقلُ والفطرةُ وإجماعُ المسلمين.
قال الله تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} [النساء: 108]. فقد أخبر أنّه لا يرضى بما يبيِّتونه من القول المتضمِّن للبَهْتِ ورميِ البريء، وشهادةِ الزُّور، وبراءةِ الجاني؛ فإنَّ الآيةَ نزلت في قصّةٍ هذا شأنها
(3)
، مع أنَّ ذلك كلَّه بمشيئته، إذ أجمع المسلمون على أنّه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. ولم يخالف في ذلك إلّا القدريّةُ المجوسيّةُ الذين يقولون: يشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء.
(1)
ع: "وهؤلاء".
(2)
بعده في ع زيادة: " إن شاء الله تعالى، فإنَّ القوَّةَ لله جميعًا".
(3)
انظر: "تفسير الطبري"(7/ 466).
وتأويلُ من تأوَّلَ الآيةَ على أنّه لا يرضاه دينًا مع محبّته لوقوعه ممَّا ينبغي أن يصان كلامُ الله تعالى عنه، إذ المعنى عندهم أنّه محبوبٌ له ولكن لا يثاب فاعلُه عليه، فهو محبوبٌ بالمشيئة، غيرُ مثابٍ عليه شرعًا.
ومذهبُ سلف الأمّة وأئمّتها أنّه مسخوطٌ للرَّبِّ، مكروهٌ له قدرًا وشرعًا، مع أنّه وُجِد بمشيئته وقضائه فإنّه يخلُق ما يحبُّ وما يكره. وهذا كما أنَّ الأعيانَ كلَّها خلقُه، وفيها ما يبغضه ويكرهه كإبليس وجنوده وسائر الأعيان الخبيثة، وفيها ما يحبُّه ويرضاه كأنبيائه ورسله وملائكته وأوليائه= فهكذا
(1)
الأفعالُ كلُّها خلقُه، ومنها ما هو محبوبٌ له، وما هو مكروهٌ له خلَقَه لحكمةٍ له في خلقِ ما يكره ويبغض كالأعيان.
قال
(2)
تعالى: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205] مع أنّه بمشيئته وقضائه وقدره.
قال تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7]. فالكفرُ والشُّكرُ واقعان بمشيئته وقدره، وأحدهما محبوبٌ له مرضيٌّ، والآخَرُ مبغوضٌ له مسخوطٌ.
وكذلك قولُه عقيبَ ما نهى عنه من الشِّرك والظُّلم والفواحش والكبر: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئَةٌ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا}
(3)
[الإسراء: 38]. فهو مكروهٌ له، مع وقوعه بمشيئته وقضائه وقدره.
(1)
ع: "وهكذا".
(2)
في ع: "وقال" هنا وفيما يأتي.
(3)
"سيِّئةً" قراءة أبي عمرو كما سبق قريبًا.
وفي "الصّحيح"
(1)
عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله كره لكم ثلاثًا: قيل وقال، وكثرة السُّؤال، وإضاعة المال". فهذه كراهةٌ لموجودٍ تعلَّقت به المشيئة.
وفي "المسند"
(2)
: "إنّ الله يحبُّ أن يُؤخَذ برُخَصِه، كما يكره أن تُؤتى معصيتُه"، فهذه محبّةٌ وكراهةٌ لأمرين موجودين، اجتمعا في المشيئة، وافترقا في المحبَّة والكراهة. وهذا أكثرُ من أن يُذكَر جميعُه.
وقد فطَر الله عبادَه على قولهم: هذا الفعلُ يحبُّه الله، وهذا يكرهه
(3)
ويُبغضه؛ وفلانٌ يفعلُ ما لا يحبُّه
(4)
الله.
والقرآنُ مملوءٌ بذكر سخطه وغضبه على أعدائه. وذلك صفةٌ قائمةٌ به يترتَّب عليها العذابُ واللَّعنةُ، لا أنَّ السَّخَطَ هو نفسُ العذاب واللَّعنة، بل هما أثرُ السَّخط والغضب وموجَبُهما. ولهذا يفرِّق بينهما كما قال تعالى:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93]، ففرَّقَ بين عذابه وغضبه ولعنته، وجعل كلَّ واحدٍ غير الآخر.
(1)
أخرجه البخاري (1477) ومسلم (593) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
(2)
برقم (5866، 5873)، وأخرجه أيضًا ابن خزيمة (950، 2027) وابن الأعرابي في "معجمه"(2237) وابن حبان (2742) والبيهقي (3/ 140) من طرق عن حرب بن قيسٍ عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما. إسناده لا بأس به، وله شواهد صححه بها الألباني في "الإرواء"(564).
(3)
ع: "يكرهه الله".
(4)
ع: "ما يحبّه".
وكان من دعاء النّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "اللهمّ إنِّي أعوذُ برضاك من سَخَطِك، وأعوذُ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذُ بك منك"
(1)
.
فتأمَّلْ ذكرَ استعاذته صلى الله عليه وسلم بصفة الرِّضا من صفة السَّخَط، وبفعل المعافاة من فعل العقوبة فالأوّلُ
(2)
للصِّفة، والثّاني لأثرها المرتَّبِ
(3)
عليها. ثمّ ربَطَ ذلك كلَّه بذاته سبحانه، وأنَّ ذلك كلَّه راجعٌ إليه وحده، لا إلى غيره. فما أعوذُ منه واقعٌ بمشيئتك وإرادتك، وما أعوذ به من رضاك ومعافاتك هو بمشيئتك وإرادتك، إن شئتَ أن ترضى عن عبدك وتُعافيه، وإن شئتَ أن تغضبَ عليه وتعاقبَه. فإعاذتي ممّا أكره وأحذر، ومنعُه أن يحِلَّ بي هو بمشيئتك أيضًا، فالمحبوبُ والمكروهُ كلُّه بقضائك ومشيئتك. فعياذي بك منك: عياذي بحولك وقوّتك وقدرتك ورحمتك وإحسانك، ممَّا يكون بحولك وقوَّتك وقدرتك وعدلك وحكمتك. فلا أستعيذ بغيرك من غيرك، ولا أستعيذ بك من شيءٍ
(4)
صادرٍ عن غير مشيئتك
(5)
، بل هو منك، ولا أستعيذ بغيرك من شيءٍ هو صادرٌ عن مشيئتك وقضائك، بل أنت الذي تُعيذني بمشيئتك ممّا هو كائنٌ بمشيئتك= فأعوذ بك منك. فلا يعلم ما في هذه الكلمات من التّوحيد والمعارف والعبوديّة إلّا الرّاسخون في العلم بالله ومعرفته ومعرفة عبوديّته
(6)
.
(1)
أخرجه مسلم (486) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2)
ما عدا ع: "فالأولى"، يعني الاستعاذة، والمصدر يذكَّر ويؤنث.
(3)
ش، ع:"المترتب".
(4)
في هامش ع بعده: "هو" مع علامة صح، يعني: هو صادرٌ.
(5)
بعده في ع زيادة: "وخلقك".
(6)
وانظر في شرح الحديث: الباب السادس والعشرين من "شفاء العليل"(ص 272 - 273) و"طريق الهجرتين"(1/ 57 - 58)، (2/ 626 - 627).
وأشرنا إلى شيءٍ يسيرٍ من معناها، ولو استُقْصيَ شرحُها لقام منه سِفْرٌ ضخمٌ. ولكن قد فُتِحَ لك البابُ، فإن دخلتَه رأيتَ ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطَر على قلب بشرٍ.
والمقصود: أنَّ انقسامَ الكون في أعيانه وصفاته وأفعاله
(1)
إلى محبوبٍ للرَّبِّ مرضيٍّ له، ومسخوطٍ مبغوضٍ له مكروهٍ له= أمرٌ معلومٌ بجميع أنواع الأدلَّة من العقل والنَّقل
(2)
والفطرة والاعتبار. فمن سوَّى بين ذلك كلِّه فقد خالف فطرةَ الله التي فطَر عليها عبادَه، وخالفَ المعقول والمنقول، وخرج عمّا جاءت به الرُّسل.
ولأيِّ شيءٍ نوَّعَ سبحانه العقوباتِ البليغةَ في الدُّنيا والآخرة، وأشهَدَ عبادَه منها ما أشهَدَهم، لولا شدَّةُ غضَبه وسخَطه على الفاعلين لِما اشتدَّتْ كراهتُه وبغضُه له، فأوجبت تلك الكراهةُ والبغضُ منه وقوعَ أنواع المكاره بهم! كما أنَّ محبَّتَه لما يحبُّه من الأفعال ويرضاه أوجبت
(3)
وقوعَ أنواع المحابِّ لمن فعَلَه.
وشهودُ ما في العالم من إكرامِ أوليائه وإتمامِ نعمه عليهم ونصرِهم وإعزازِهم، وإهانةِ أعدائه وعقوبتِهم وإيقاعِ المكاره بهم= من أدلِّ الدَّليل على حبِّه وبغضه وكراهيته. بل نفسُ موالاته لمن والاه ومعاداتُه لمن عاداه هي عينُ محبّته وبغضه، فإنَّ الموالاةَ أصلُها الحبُّ، والمعاداةَ أصلُها البغضُ؛ فإنكارُ صفة المحبّة والكراهة إنكارٌ لحقيقة الموالاة والمعاداة.
(1)
"وأفعاله" ساقط من ج، ش.
(2)
ش: "النقل والعقل".
(3)
ما عدا ع: "أوجب"، والمصدر يذكر ويؤنث كما مرَّ آنفًا.
وبالجملة، فشهودُ القلوب لمحبّته وكراهيته كشهود العِيان لكرامته وإهانته.
فصل
وأمّا حديث الرِّضا بالقضاء:
فيقال أولًا: بأيِّ كتابٍ أم بأيِّ سنّةٍ أم بأيِّ معقولٍ علمتم وجوبَ الرِّضا بكلِّ ما يقضيه ويقدِّره، بل جواز ذلك، فضلًا عن وجوبه؟ هذا كتابُ الله، وسنَّةُ رسوله صلى الله عليه وسلم، وأدلّةُ المعقول
(1)
= ليس في شيءٍ منها الأمرُ بذلك ولا إباحته.
بل من المقضيِّ ما يُرضى به، ومنه ما يُسْخَطُ ويُمْقَتُ. ولا يُرضَى
(2)
بكلِّ قضاءٍ، كما لا يرضى به القاضي لأقضيته سبحانه، بل من القضاء ما يُسْخَطُ
(3)
، كما أنّ من الأعيان المقضيَّةِ ما يُغضَب عليه، ويُمقَت، ويُلْعَن ويُذَمُّ.
ويقال ثانيًا: هاهنا أمران: قضاءٌ وهو فعلٌ قائمٌ بذات الرَّبِّ تعالى، ومقضيٌّ وهو المفعول المنفصل عنه. فالقضاءُ خيرٌ كلُّه وعدلٌ وحكمةٌ، فيُرضى به كلِّه. والمقضيُّ قسمان: منه ما يُرضى به، ومنه ما لا يُرضى به. وهذا جوابُ من يقول: الفعلُ غيرُ المفعول، والقضاءُ غيرُ المقضيِّ. وأمّا من يقول: الفعلُ هو المفعول، والقضاءُ عينُ المقضيِّ، فلا يمكنه أن يجيب بهذا الجواب.
ويقال ثالثًا: القضاء له وجهان، أحدهما: تعلُّقه بالرّبِّ تعالى ونسبتُه إليه،
(1)
ما عدا ل، ج:"العقول".
(2)
ع: "يسخطه ويمقته فلا يرضى".
(3)
ج، ع:"يسخطه".
فمن هذا الوجه يُرضى به كلِّه. والوجه الثّاني: تعلُّقُه بالعبد ونسبتُه إليه، فمن هذا الوجه ينقسم إلى ما يُرضى به، وإلى ما لا يُرضى به.
مثال ذلك: قتلُ النّفس مثلًا له اعتباران: فمن حيث قدَّره الله وقضاه وكتبَه وشاءه وجعله أجلًا للمقتول ونهايةً لعمره، نرضى به. ومن حيث صدَر من القاتل، وباشَره وكسَبه وأقدَم عليه باختياره، وعصى الله بفعله، نسخطه ولا نرضى به.
فهذه نهايةُ أقدام العالَم المُقرِّين بالنُّبوَّات في هذه المسألة، ومَفْرَقُ طرقهم، قد حصرتُ لك أقوالَهم ومآخذَهم وأصولَ تلك الأقوال، بحيث لا يشذُّ عنها شيءٌ
(1)
. وبالله التَّوفيق.
ولا تنكر الإطالة في هذا الموضع، فإنّه مزلَّةُ أقدام الخلق، وما نجا من معاطبه إلّا أهلُ البصائر والمعرفة بالله وصفاته وأمره.
فصل
ثمّ قال صاحب "المنازل"
(2)
: (فتوبةُ العامّة للاستكثار من الطّاعة
(3)
. وهو يدعو إلى جحود نعمة السَّتْر والإمهال، ورؤيةِ الحقِّ على الله، والاستغناءِ الذي هو عينُ الجبروت والتَّوثُّبُ على الله تعالى).
(1)
أشار شيخ الإسلام في "منهاج السنة"(3/ 205) إلى "مصنَّف مفرد في الرضا بالقضاء" له، ولعله قصد القاعدة الواردة في "جامع المسائل" (3/ 213 - 217) وهي ناقصة. وانظر:"الاستقامة"(2/ 124 - 128) و"شفاء العليل" للمؤلف (ص 278 - 280).
(2)
"منازل السائرين"(ص 11).
(3)
ع: "لاستكثار الطاعة".
"العامّة" عندهم: مَن عدا أربابَ الجمع والفناء، وإن كانوا أهلَ سلوكٍ وإرادةٍ وعلمٍ. هذا مرادُهم بالعامَّة، ويسمُّونهم "أهل الفَرْق" ويسمِّيهم غلاتُهم "المحجوبين"
(1)
.
ومراده: أنَّ توبتَهم مدخولةٌ عند الخواصِّ منقوصةٌ، فإنَّ توبتَهم تكون من استكثارهم ما
(2)
يأتون به من الحسنات والطّاعات، أي رؤيتِهم كثرتَها، وذلك يتضمَّن ثلاثة
(3)
مفاسد عند الخاصّة:
أحدها
(4)
: أنّ حسناتهم التي يأتون بها سيِّئاتٌ بالنِّسبة إلى مقام الخاصَّة، فإنَّ حَسَناتِ الأبرار سيِّئاتُ المقرّبين
(5)
، فهم محتاجون إلى التَّوبة من هذه الحسنات. ولغفلتهم باستكثارها عن عيوبها ورؤيتها وملاحظتها هم جاحدون نعمةَ الله في سَتْرها عليهم وإمهالهم، كسَتْره على أهل الذُّنوب الظّاهرة وإمهالهم، فهم وأهلُ الذُّنوب الظاهرة تحت سَتْره وإمهاله، لكنَّ أهلَ الذُّنوب مقرُّون بستره وإمهاله، وهؤلاء جاحدون لذلك، لأنّهم قد توفّرت هممُهم على الاستكثار من الحسنات، دون مطالعةِ عيب النّفس والعمل والتّفتيشِ على دسائسها، وأنّ الحاملَ لهم على استكثارها رؤيتُها والإعجابُ بها؛ ولو تفرَّغوا لتفتيشها، ومحاسبةِ النّفس عليها، والتّمييزِ بين ما فيها من الحظِّ والحقِّ، لشغَلَهم ذلك عن استكثارها.
(1)
ج، م، ش:"المحجوبون"، وكذا كان في ق، ل ثم أصلح.
(2)
ع: "لما".
(3)
كذا في النسخ بتأنيث العدد.
(4)
كذا في النسخ بدلًا من "إحداها".
(5)
انظر كلام شيخ الإسلام على هذه المقولة في "جامع الرسائل"(1/ 251 - 255).
ولأجل هذا، كان مَن عَدِمَ الحضورَ والمراقبةَ والجمعيَّةَ في العمل، خفَّ عليه واستكثَر منه، فكثُر في عينه، وصار بمنزلة العادة. فإذا أخذ نفسَه بتخليصه من الشّوائب وتنقيته من الكدَر
(1)
، وجمعيّةِ القلب والهمِّ على الله تعالى بكلِّيّته، وجَد له ثقلًا كالجبال، وقلَّ في عينه. ولكن إذا وجد حلاوتَه تسهَّلَ
(2)
عليه حملُ أثقاله، والقيامُ بأعبائه، والتّلذُّذُ والتّنعُّمُ به مع ثقله.
وإذا أردت فهمَ هذا القدر كما ينبغي، فانظر وقتَ أخذك في القراءة إذا أعرضتَ عن واجبها وتدبُّرها وتعقُّلها، وفهمِ ما أُريدَ بكلِّ آيةٍ، وحظِّك من الخطاب بها، وتنزيلِها على أدواء قلبك والتعبُّدِ بها= كيف تُدْرِجُ الختمةَ، أو أكثرَها أو ما قرأتَ منها بسهولةٍ وخفّةٍ مستكثرًا
(3)
من القراءة. فإذا ألزمتَ نفسَك بالتَّدبُّرِ ومعرفةِ المراد، والنّظرِ إلى ما يخصُّك منه
(4)
والتّعبُّدِ به، وتنزيلِ دوائه على أدواء قلبك والاستشفاءِ به= لم تكد تجوز السُّورةَ أو الآيةَ إلى غيرها. وكذلك إذا جمعتَ قلبك كلَّه على ركعتين وأعطيتَها
(5)
ما تقدر عليه من الحضور والخشوع والمراقبة، لم تكد تصلِّي غيرَها
(6)
إلّا بجهدٍ. فإذا خلا القلبُ من ذلك عدَدتَ الرّكعاتِ بلا حسابٍ!
فالاستكثارُ من الطّاعات دون مراعاة آفاتها وعيوبها ليتوبَ منها هي توبةُ
(1)
في ع بعده زيادة: "وما في ذلك من شوك الرِّياء وشِبْرِق الإعجاب".
(2)
ع: "سهل".
(3)
ع: "متكثرًا".
(4)
ش: "يحصل منك"، تحريف.
(5)
ع: "أعطيتهما".
(6)
ع: "غيرهما".
العامَّة.
المفسدة الثّانية: رؤيةُ فاعلها أنَّ له حقًّا على الله تعالى في مجازاته على تلك الحسنات بالجِنان والنَّعيم والرِّضوان. ولهذا كثرت في عينه، مع غفلته عن أنَّ أعماله ولو كانت أعمالَ الثَّقَلين لا تستقلُّ بدخول الجنَّة ولا بالنَّجاة من النّار، وأنّه لن ينجو أحدٌ البتّة من النَّار بعمله إلّا بعفو الله ورحمته.
الثّالثة: استشعارُهم الاستغناءَ عن مغفرة الله وعفوه، بما يشهدون من استحقاق المغفرة والثَّواب بحسناتهم وطاعاتهم؛ فإنَّ ظنَّهم أنَّ حصولَ النَّجاة والثَّواب بطاعتهم
(1)
، واستكثارَهم منها لذلك، وكثرتَها في عيونهم= إظهارٌ للاستغناء
(2)
عن مغفرة الله وعفوه، وذلك عينُ الجبروت والتّوثُّب على الله تعالى.
ولا ريبَ أنَّ مجرَّدَ القيام بأعمال الجوارح، من غير حضورٍ ولا مراقبةٍ ولا إقبالٍ على الله، قد يتضمَّن تلك المفاسدَ الثّلَاثَ
(3)
وغيرَها، مع أنّه قليلُ المنفعة كثيرُ المُؤْنة
(4)
؛ فهو كالعمل على غير متابعة للآمِر
(5)
ولا إخلاصٍ للمعبود، فإنَّه وإن كثُر متعِبٌ غيرُ مفيدٍ. فهكذا العملُ الخارجيُّ القُشُوريُّ بمنزلة النُّخَالة الكثيرةِ المنظَر القليلةِ الفائدة، وإنَّ الله لا يكتبُ للعبد من
(1)
ع: "طاعاتهم".
(2)
ما عدا ع: "وإظهار الاستغناء".
(3)
ج، م، ش، ع:"الثلاثة" كما مرَّ من قبل. وكذا كان في ق، ل ثم أصلح.
(4)
بعده في ع زيادة: "دنيا وآخرة".
(5)
كذا بالمدَّة في ل، ع.
صلاته إلّا ما عقَل منها
(1)
. وهكذا ينبغي أن يكون سائرُ الأعمال التي يؤمر بالحضور فيها والخشوع، كالطَّواف وأعمال المناسك ونحوها.
فإن انضاف إلى ذلك إحسانُ ظنِّه بها، واستكثارُها، وعدمُ التفاته إلى عيوبها ونقائصها والتّوبةِ إلى الله والاستغفارِ منها= جاءت تلك المفاسدُ التي ذكرها وما هو أكثر منها.
وقد ظنَّ بعضُ الشَّارحين لكلامه أنَّ مراده به
(2)
: الإزراءُ بالاستكثار من الطَّاعات، وأنَّ مجرَّدَ الفناءِ والشُّهودِ والاستغراقِ في حضرة المراقبة خيرٌ منها وأنفعُ. وهذا باطلٌ وكذبٌ عليه وعلى الطّريقة والحقيقة.
ولا ريب أنَّ هذا طريقُ المنحرفين من السّالكين، وهو تعبُّدٌ بمراد العبد وحظِّه من الله تعالى، وتقديمٌ له على مراد الله ومحابِّه من العبد. فإنَّ للعبد حظًّا، وعليه حقًّا: فحقُّ الله عليه تنفيذُ أوامره والقيامُ بها، والاستكثارُ من طاعاته بحسب الإمكان، والاشتغالُ بمحاربة أعدائه ومجادلتهم، ولو فرَّق ذلك جمعيّتَه وشتَّتَ حضورَه. فهذا هو العبوديّة التي هي مراد الله وحقُّه.
وأمَّا الجمعيَّةُ والمراقبةُ، والاستغراقُ في الفناء، وتعطيلُ الحواسِّ والجوارح عن إرسالها في الطّاعات والاستكثار منها= فهذا مجرَّدُ حظِّ العبد ومراده. وهو - بلا شكٍّ - أنعَمُ وألذُّ وأطيَبُ من تفرقة الاستكثار من الطّاعات، لا سيَّما إذا شهدوا تفرقةَ المستكثرين منها، وقلَّةَ نَصيبهم من
(1)
كما تقدَّم من قول ابن عباس رضي الله عنهما.
(2)
ش: "بها".
الجمعيَّة، فإنّهم تشتدُّ نفرتُهم منهم، ويعيبون عليهم، ويُزْرُون بهم.
وقد يسمُّون مَن رأوه كثيرَ الصّلاة "ثقاقيلَ الحُصُر"
(1)
، ومن رأوه كثيرَ الطَّواف "حُمُرَ المَدار"
(2)
، ونحو هذا.
وقد أخبرني من رأى ابن سبعين قاعدًا في طرف
(3)
المسجد الحرام، وهو يسخَر من الطائفين ويذمُّهم، ويقول: كأنّهم الحُمُر حول المَدار، أو نحو هذا، وكان يقول: إقبالُهم على الجمعيّة أفضَلُ لهم.
ولا ريبَ أنَّ هؤلاء مُؤْثِرون لحظوظهم على حقوق ربِّهم، واقفون مع أذواقهم ومواجيدهم، فانين بها عن حقِّ الله ومراده.
وسمعتُ شيخَ الإسلام ابنَ تيميّة قدَّس الله روحَه يحكي عن بعض العارفين أنّه قال: العامَّةُ تعبُد الله، وهؤلاء يعبدون نفوسَهم
(4)
.
وصدق رحمه الله، فإنَّ هؤلاء المستكثرينَ من الطَّاعة الذّائقينَ لرَوْح العبادة الرَّاجينَ ثوابَها قد رُفِعَ لهم علَمُ الثّواب، وأنّه مسبَّبٌ عن الأعمال، فشمَّروا إليه راجين أن تُقبَل منهم أعمالُهم ــ على عيبها ونقصها ــ بفضل الله، خائفين أن تُردَّ عليهم، إذ لا تصلُح لله ولا تليقُ به، فيردَّها بعدله وحقِّه. فهم
(1)
الحُصُر جمع الحصير. والثقاقيل جمع ثقَّالة، وهي حجرٌ أو رخام أو غيره يثقَّل به البساطُ ونحوه لكيلا يطير إذا هبَّت الريح. وقد ذكر جلال الدين الشَّيزَري في "نهاية الرتبة الظريفة"(ص 30) ثقاقيل الرَّصاص.
(2)
ش: "حمار المدار"، وكذا غيِّر في م، وهو حمار الطاحونة.
(3)
ع: "طرق".
(4)
سينقله المصنف عن شيخ الإسلام مرة أخرى في منزلة الشكر.
مستكثرون بجُهدهم من طاعاته بين خوفه ورجائه، والإزراءِ على أنفسهم، والحرصِ على استعمال جوارحهم في كلِّ وجهٍ من وجوه الطَّاعات، رجاءَ مغفرته ورحمته، وطمعًا في النّجاة؛ فهم يقاتلون بكلِّ سلاحٍ لعلّهم ينجُون.
قالوا: وأمّا ما أنتم فيه من الفَناءِ ومشاهدةِ الحقيقة والقيُّوميّة والاستغراقِ في ذلك، فنحن في شُغلٍ عنه بتنفيذِ أوامرِ صاحبِ الحقيقة والقيُّوميّة، والاستكثارِ من طاعاته، وتصريفِ الجوارح في مرضاته؛ كما أنّكم بفنائكم واستغراقِكم في شهود الحقيقة وحضرة الرُّبوبيّة في شغلٍ عمَّا نحن فيه. فكيف كنتم أولى بالله منَّا، ونحنُ في حقوقه ومراده منَّا، وأنتم في حظوظكم ومرادكم منه؟
قالوا: وقد ضُرب لنا ولكم مثلٌ مطابقٌ لمن تأمَّله بملِكٍ ادّعى محبّتَه مملوكان من مماليكه، فاستحضرهما وسألهما عن ذلك؟ فقالا: أنت أحبُّ شيءٍ إلينا، ولا نؤثر عليك غيرَك، فقال: إن كنتما صادقَين فاذهبا إلى سائر مماليكي وعرِّفاهم بحقوقي عليهم، وأخبِراهم بما يُرضيني عليهم، ويُسْخِطني. وابذلوا
(1)
قواكم في تخليصهم من مساخطي، ونفِّذوا فيهم أوامري، واصبروا على أذاهم، وعودوا مريضهم، وجَهِّزوا
(2)
ميِّتهم، وأعينُوا ضعيفهم بقواكم وأموالكم وجاهكم، ثمَّ اذهبوا إلى بلاد أعدائي
(3)
(1)
كذا في جميع النسخ ما عدا ع بصيغة الجمع بدلًا من التثنية من هنا إلى آخر الفقرة. وفي ع بصيغة التثنية إلَّا "وخالطوهم وادعوهم
…
ولا تخافوهم" فهذه الأفعال الثلاثة بصيغة الجمع!
(2)
ع: "وشيِّعا".
(3)
ما عدا ع: "بلادي"، وقد صحح في هامش م أيضًا.
بهذه الملطِّفات
(1)
وخالطوهم، وادعوهم إلى موالاتي، واشتغلوا بهم، ولا تخافوهم، فعندهم من جندي وأوليائي من يكفيكم شرَّهم.
فأمّا أحدُ المملوكين، فقام وبادر
(2)
إلى امتثال أمره، وبعُدَ عن حضرته في طلب مرضاته.
وأمّا الآخر، فقال له: لقد غلب على قلبي من محبَّتك والاستغراق في مشاهدة حضرتك وجمالك ما لا أقدر معه على مفارقة حضرتك ومشاهدتك. فقال: إنَّ رضائي في أن تذهبَ مع صاحبك، فتفعلَ كما فعل، وإن بعدتَ عن مشاهدتي. فقال: لا أُوثِرُ على مشاهدتك والاستغراق فيك شيئًا!
فأيُّ المملوكَين أحبُّ إلى هذا المَلِك، وأحظى عنده، وأخَصُّ به، وأقرب إليه؟ أهذا الذي آثر حظَّه ومرادَه وما فيه لذَّتُه على مراد الملك وأمره ورضاه؟ أم ذلك الذي ذهب في تنفيذ أوامره، وفرَّغ لها قواه وجوارحَه، وتفرَّق فيها في كلِّ وجهٍ؟ فما أولاه أن يجمعَه أستاذُه عليه بعد قضاء أوامره وفراغه منها، ويجعلَه من خاصَّته وأهلِ قربه! وما أولى صاحبَه بأن يُبعِدَه عن قربه، ويحجُبَه عن مشاهدته، ويفرِّقه عن جمعيَّته، ويبدِّله بالتَّفرقة التي هرب منها ــ في تفرقة أمره ــ تفرقةً في هواه ومراده بطبعه ونفسه.
فليتأمَّلِ اللَّبيبُ هذا حقَّ التّأمُّل، وليفتَحْ عينَ بصيرته، ويسيرَ بقلبه، فينظر في مقامات العبيد وأحوالهم وهممهم، ومن هو الأولى بالعبوديّة، ومن هو البعيد منها.
(1)
ج، م، ش:"المطالعات".
(2)
ع: "مبادرًا".
ولا ريب أنَّ مَن أظهرَ الاستغناءَ عن الله
(1)
، وتوثَّبَ عليه، وأورثته الطَّاعاتُ جبَروتًا وحَجْبًا عن رؤيته عيوبَ نفسه وعمله، وكثرت في عينه= فهو من أبغَضِ الخلقِ إلى الله تعالى، وأبعدِهم عن العبوديّة، وأقرَبِهم إلى الهلاك، لا مَن استكثَر من الباقيات الصَّالحات.
ومن قول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لمن سأله مرافقتَه في الجنّة، فقال:"أعِنِّي على نفسك بكثرة السُّجود"
(2)
.
ومن قوله تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 17 - 18]. قال الحسن رحمةُ الله عليه: مَدُّوا الصّلاةَ إلى السَّحَر، ثمَّ جلسوا يستغفرون
(3)
.
وقال النّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "تابِعوا بين الحجِّ والعمرة، فإنَّهما ينفيان الفقرَ والذُّنوبَ كما ينفي الكِيرُ خبَثَ الحديد"
(4)
.
(1)
في ع بعده زيادة: "وطاعاته".
(2)
أخرجه مسلم (489) من حديث ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه.
(3)
تقدَّم تخريجه.
(4)
أخرجه أحمد (3669) والترمذي (810) والنسائي في "المجتبى"(2631) وابن خزيمة (2512) وابن حبان (3693) وغيرهم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وتكملته: "
…
والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب دون الجنة"، وإسناده حسن لأجل أبي خالد الأحمر وعاصم بن أبي النجود، والحديث صححه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان، وقد روي هذا اللفظ من حديث عدة من الصحابة، فبمجموعها صححه الألباني في "الصحيحة" (1200)، ويشهد له أيضًا حديث أبي هريرة المتفق عليه: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة".
وقال لمن سأله أن يوصيه بشيءٍ يتشبَّث به: "لا يزال لسانُك رطبًا من ذكر الله"
(1)
.
والدِّينُ كلُّه استكثارٌ من الطّاعات، وأحبُّ خلق الله إليه أعظَمُهم استكثارًا منها. وفي الحديث الصّحيح الإلهيِّ:"ما تقرَّب إليَّ عبدي بمثل أداء ما افترضتُ عليه. ولا يزال عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنَّوافل حتّى أُحِبَّه، فإذا أحببتُه كنت سمعَه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يبصر به، ويدَه التي يبطش بها، ورجلَه التي يمشي بها. فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي. ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه"
(2)
. فهذا جزاؤه وكرامته للمستكثرين من طاعته، لا لأهل الفناء المستغرقين في شهود الرُّبوبيّة.
وقال لآخر: "عليك بكثرة السُّجود، فإنّك لا تسجدُ لله سجدةً إلّا رفعك اللهُ بها درجةً، وحطَّ عنك بها خطيئةً"
(3)
.
(1)
أخرجه أحمد (17698) والترمذي (3375) وابن ماجه (3793) وابن حبان (814) وغيرهم من حديث عبد الله بن بُسْر المازِني رضي الله عنه. والحديث حسَّنه الترمذي والحافظ في "نتائج الأفكار"(1/ 93)، وصححه ابن حبان والحاكم (1/ 495) والألباني في تخريج "الكلم الطيب"(3).
(2)
أخرجه البخاري (6502) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ما عدا قوله: "فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي" فلم أجد مَن أسنده، وإنما ذكره الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"(2/ 112، 5/ 180 - دار النوادر)، وقال الألباني في "الصحيحة" (4/ 191):"ولم أر هذه الزيادة عند البخاري ولا عند غيره ممن ذكرنا من المخرِّجين، وقد ذكرها الحافظ ["الفتح" (11/ 344)] في أثناء شرحه للحديث نقلًا عن الطوفي ولم يَعْزُها لأحد".
(3)
أخرجه مسلم (488) من حديث ثوبان رضي الله عنه.
فصل
(1)
وهذه الطَّريقةُ في الإرادة والطَّلب نظيرُ طريقة التَّجهُّم في العلم والمعرفة: تلك تعطيلٌ للصِّفات
(2)
والتّوحيد، وهذه تعطيلُ الأمر
(3)
والعبوديّة. وانظر إلى هذا النَّسب والإخاء الذي بينهما، كيف شرَّكَ بينهما في اللَّفظ، كما شرَّكَ في المعنى؟ فتلك طريقةُ النّفي، وهذه طريقةُ الفناء. تلك نفيٌ لصفات المعبود، وهذه فناءٌ عن عبوديّته.
وأمّا نفيُ خواصِّ العبيد وفناؤهم، فأمرٌ وراء نفي أولئك وفنائهم، لأنّ نفيَهم لصفات النّقائص وما يضادُّ أوصافَ الكمال، وفناءَهم عن إرادة غيره ومحبّته وخوفه ورجائه. ففناؤهم عن كلِّ ما يخالف أمره ومحابَّه، ونفيُهم لكلِّ ما يضادُّ كمالَه وجلالَه. ومن له فرقانٌ فهو يعرف هذا وهذا، وغيرُه لا اعتبار به.
وصاحبُ "المنازل" رحمه الله كان شديدَ الإثبات للأسماء والصِّفات مضادًّا للجهميّة من كلِّ وجهٍ. وله كتابُ "الفاروق"
(4)
استوعَبَ فيه أحاديثَ الصِّفات وآثارَها ولم يُسبَق إلى مثله، وكتابُ "ذمِّ الكلام وأهله" طريقتُه فيه أحسَنُ طريقةٍ. وله كتابٌ لطيفٌ في أصول الدِّين
(5)
، يسلك فيه طريقةَ أهلِ الإثبات ويقرِّرها. وله مع الجهميّة المقاماتُ المشهورةُ، وسعَوا بقتله إلى
(1)
بإزاء هذا السطر في هامش الأصل: "بلغ مقابلة وقراءة على مصنفه رضي الله عنه ".
(2)
ش: "الصفات".
(3)
ج، ع:"للأمر".
(4)
لا يزال مفقودًا.
(5)
لعله يقصد "كتاب الأربعين في دلائل التوحيد"، وهو مطبوع.
السُّلطان مرارًا عديدةً والله يعصمه منهم. ورمَوه بالتَّشبيه والتَّجسيم على عادة بَهْتِ الجهميّة والمعتزلة لأهل السُّنّة والحديث الذين لم يتحيَّزوا إلى مقالةٍ غيرِ ما دلَّ عليه الكتابُ والسُّنّة.
ولكن رحمه الله طريقتُه في السُّلوك مضادّةٌ لطريقته في الأسماء والصِّفات، فإنّه لا يقدِّم على الفناء شيئًا، ويراه الغايةَ التي يشمِّر إليها السّالكون، والعَلَم الذي يؤمُّه السَّائرون. واستولى عليه ذوقُ الفناء وشهود
(1)
الجمع، وعظُمَ موقعُه عنده، واتَّسعت إشارتُه إليه، وتنوّعت به الطُّرقُ المُوصِلة إليه علمًا وحالًا وذوقًا، فتضمَّن ذلك تعطيلًا من العبوديَّة باديًا على صفحات كلامه وزانَ تعطيل الجهميّة لما اقتضته أصولهم من نفي الصِّفات.
ولمَّا اجتمع التَّعطيلان لمن اجتمعا له من السّالكين تولَّد منهما القولُ بوحدة الوجود المتضمنَّةِ لإنكار الصّانع وصفاته وعبوديّته. وعصَم الله أبا إسماعيل باعتصامه بطريقة السَّلف في إثبات الصِّفات، فأشرَفَ من عقَبة الفناء على وادي الاتِّحاد، فلم يسلكه
(2)
. ولوقوفه على عقبته ودعوة الخلق إليها
(3)
، أقسمَ الاتِّحاديَّةُ بالله جَهْدَ أيمانهم إنّه لمعهم ومنهم، وحاشاه!
وتولَّى شرحَ كتابه أشدُّهم في الاتِّحاد طريقةً وأعظَمُهم فيه مبالغةً وعنادًا لأهل الفَرْقِ: العفيفُ التِّلِمْسَانيُّ، ونزَّل الجَمْعَ الذي يشير إليه صاحبُ "المنازل" على جمع الوجود، وهو لم يُرِد به حيث ذكَره إلَّا جمعَ الشُّهود.
(1)
ش: "وشهوة"، تحريف.
(2)
ع: "وادي الاتحاد وأرض الحلول فلم يسلك فيهما".
(3)
ع: "عقبته وإشرافه على تلك الربوع الخراب ودعوة الخلق إلى الوقوف على تلك العقبة".