الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فالتَّوبةُ من التَّوبة إنّما تُعقَل على أحد هذين الوجهين.
نعم، هاهنا وجهٌ ثالثٌ لطيفٌ جدًّا، وهو أنَّ من حصل له مقامُ أنسٍ بالله، وصفا وقتُه مع الله، بحيث يكون إقبالُه على الله واشتغالُه بذكر آلائه وأسمائه وصفاته أنفعَ شيءٍ له، حتّى نزل عن هذه الحالة، واشتغل
(1)
بالتّوبة من جنايةٍ سالفةٍ قد تاب منها، وطالَعَ الجنايةَ واشتغل بها عن الله تعالى= فهذا نقصٌ ينبغي له أن يتوب إلى الله منه، وهو توبةٌ من هذه التَّوبة، لأنَّه نزولٌ من الصَّفاء إلى الجفاء
(2)
. والله أعلم.
فصل
قال صاحب "المنازل"
(3)
: (و
لطائف أسرار التّوبة
ثلاثة أشياء: أوّلها: أن تنظر إلى الجناية والقضيّة
(4)
، فتعرف مرادَ الله تعالى فيها، إذ خلَّاك وإتيانَها، فإنّ اللهَ عز وجل إنَّما يخلِّي العبدَ والذّنبَ لأحد
(5)
معنيين: أحدهما: أن يعرف عزَّتَه في قضائه، وبرَّه في ستره، وحلمَه في إمهال راكبه، وكرمَه في قبول العذر منه، وفضلَه في مغفرته. الثّاني: أن يقيم على عبده حجّةَ عدله، فيعاقبَه على ذنبه بحجَّته).
(1)
ما عدا ج، ع:"اشتغل" دون الواو قبلها، وكتب بعضهم واوًا صغيرة في ل أيضًا.
(2)
وهذا تفسير التلمساني في "شرحه"(1/ 65). وعليه اقتصر القاساني في "شرحه" ولكن ذكر في "لطائف الإعلام"(1/ 288 - 291) وجوهًا أخرى.
(3)
"منازل السائرين"(ص 10)، واللفظ هنا موافق لما جاء في "شرح التلمساني"(1/ 66).
(4)
ما عدا ج، م:"والمعصية"، تحريف.
(5)
ع: "لأجل".
اعلم أنّ صاحب البصيرة إذا صدرت منه الخطيئة فله نظرٌ إلى خمسة أمورٍ:
أحدها: أن ينظر إلى أمر الله تعالى له ونهيه، فيُحْدِثُ له ذلك الاعترافَ بكونها خطيئةً، والإقرارَ على نفسه بالذّنب
(1)
.
الثّاني: أن ينظر إلى الوعد والوعيد، فيُحدِثُ له ذلك خوفًا وخشيةً تحملُه على التّوبة.
الثّالث: أن ينظر إلى تمكين الله تعالى له
(2)
منها، وتخليتِه بينه وبينها، وتقديرِها عليه، وأنّه لو شاء لعَصَمه منها وحال بينها وبينه؛ فيُحْدِثُ له ذلك أنواعًا من المعرفة بالله وأسمائه وصفاته، وحكمته، ورحمته، ومغفرته وعفوه، وحلمه وكرمه. وتوجب له هذه المعرفةُ عبوديّةً بهذه الأسماء لا تحصل بدون لوازمها البتّة، ويعلم ارتباط الخلق والأمر والجزاء بالوعد
(3)
والوعيد بأسمائه وصفاته، وأنّ ذلك موجَبُ الأسماء والصِّفات، وأثرُها في الوجود، وأنَّ كلَّ اسمٍ وصفةٍ مقتضٍ لأثره وموجَبه، متعلِّقٌ به، لا بدَّ منه.
(1)
في النسخ ــ ما عدا ع ــ هذا الأمر هو الثاني والثاني هو الأول إلا الأصل الذي أسقط منه الناسخ لانتقال النظر "إلى الوعد
…
الثالث أن ينظر إلى"، فاستدركه في الهامش. وهذه العبارة دليل على أن موضعها بعد "الثاني: أن ينظر"، ولكن الناسخ وضع علامة اللحق بعد "أحدها أن ينظر" سهوًا فيما يظهر، فغيَّر بعضهم "الثالث" إلى "الثاني" في المستدرك، و"الثاني" إلى "الثالث" في المتن كما في النسخ الأخرى.
(2)
"له" من ع.
(3)
كذا في جميع النسخ. "بالوعد والوعيد" متعلق بالجزاء، و"بأسمائه وصفاته" متعلق بلفظ "ارتباط".
وهذا المشهد
(1)
يُطْلِعُه على رياضٍ مُونقةٍ من المعارف والإيمان وأسرار القدر والحكمة، يضيقُ عن التَّعبير عنها نطاقُ الكَلِم.
فمن بعضها: ما ذكره الشَّيخ رحمه الله أن يعرف العبدُ عزَّتَه في قضائه. وهو أنّه سبحانه العزيزُ الذي يقضي ما يشاء، وأنّه بكمال
(2)
عزِّه حكَم على العبد وقضى عليه بأن قلَّب قلبَه وصرَّف إرادتَه على ما يشاء، وحال بين العبد وقلبه، وجعلَه مريدًا شائيًا لما شاءه منه العزيز الحكيم. وهذا من كمال العزّة، إذ لا يقدر على ذلك إلّا الله تعالى. وغايةُ المخلوق أن يتصرَّف في بدنك وظاهرك، وأمَّا جعلُك مريدًا شائيًا لما يشاؤه منك ويريده
(3)
، فلا يقدر عليه إلّا ذو العزّة الباهرة.
فإذا عرف العبدُ عزَّ سيِّده، ولاحظه بقلبه، وتمكَّن شهودُ ذلك
(4)
منه= كان الاشتغالُ به عن ذلِّ المعصية أولى به وأنفع له، لأنّه يصير مع الله لا مع نفسه.
ومن معرفة عزّته في قضائه: أن يعرفَ أنّه مدبَّرٌ مقهورٌ، ناصيتُه بيد غيره، لا عصمةَ له إلّا بعصمته، ولا توفيقَ له إلّا بمعونته، فهو ذليلٌ حقيرٌ، في قبضة
(1)
تكلم المؤلف على هذا المشهد في أكثر من كتاب له، فأشار في "مفتاح دار السعادة"(2/ 810) أنه ذكر نحو أربعين حكمة في "الفتوحات القدسية" له، وانظر:"بدائع الفوائد"(4/ 1552). ثم ذكر في "المفتاح" أكثر من ثلاثين حكمة وبسط القول فيها. وذكرها في "طريق الهجرتين"(1/ 362 - 372) باختصار.
(2)
ع: "لكمال".
(3)
ع: "شاءه
…
". ج: "شاءه منك وأراده".
(4)
ج، م، ش، ع:"شهوده".
عزيزٍ حميدٍ.
ومن شهود عزَّته أيضًا في قضائه: أن يشهدَ أنَّ الكمالَ والحمدَ والغناءَ التَّامَّ والعزَّةَ كلَّها لله، وأنَّه
(1)
هو نفسُه أولى بالنَّقص
(2)
والذّمِّ والعَيب والظُّلم والحاجة. وكلَّما ازداد شهودُه لذلِّه ونقصه وعيبه وفقره، ازداد شهودُه لعزّة الله تعالى وكماله وحمده وغناه. وكذلك بالعكس. فنقصُ الذّنبِ وذلّتُه تُطلعه على مشهد العزَّة.
ومنها: أنَّ العبدَ لا يريد معصيةَ مولاه من حيث هي معصيةٌ، فإذا شهد جريانَ الحكم عليه وجَعْلَه فاعلًا لما هو غيرُ مختارٍ له ولا مريدٍ بإرادته ومشيئته واختياره، فكأنّه
(3)
مختارٌ غيرُ مختارٍ، مريدٌ غيرُ مريدٍ، شاءٍ غيرُ شاءٍ= فهذا يُشْهِدُه عزّةَ الله وعظمتَه وكمالَ قدرته.
ومنها: أن يعرف برَّه سبحانه في سَتْره عليه حالَ ارتكاب المعصية، مع كمال رؤيته له، ولو شاء لَفَضَحه بين خلقه، فحَذِرُوه؛ وهذا
(4)
من كمال بِرِّه، ومن أسمائه: البَرُّ. وهذا البِرُّ من سيِّده به مع كمالِ غناه عنه، وكمالِ فقر العبد إليه. فيشتغل بمطالعة هذه المنّة ومشاهدة هذا البِرِّ والإحسان والكرم، فيذهل عن ذُلِّ الخطيئة، فيبقى مع الله؛ وذلك أنفع له من اشتغاله بجنايته وشهودِ ذلِّ معصيته، فإنَّ الاشتغالَ بالله والغفلةَ عمَّا سواه هو المطلبُ الأعلى والمقصدُ الأسنى. ولا يُوجِب هذا نسيانَ الخطيئة مطلقًا، بل في هذه
(1)
ع: "وأنَّ العبد".
(2)
ع: "بالتقصير".
(3)
ع: "وكأنه".
(4)
ج: "فهذا".
الحال، فإذا فَقَدها فليرجع إلى مطالعة الخطيئة وذكر الجناية. ولكلِّ وقتٍ ومقامٍ عبوديّةٌ تليق به.
ومنها: شهودُه حلمَ الله سبحانه وتعالى في إمهال راكب الخطيئة. ولو شاء لَعاجَلَه بالعقوبة، ولكنّه الحليم الذي لا يعجَل. فيُحدِث له ذلك معرفتَه سبحانه باسمه الحليم، ومشاهدةَ صفة الحلم، والتّعبدَ بهذا الاسم. والحكمةُ والمصلحةُ الحاصلةُ من ذلك بتوسُّط الذَّنب أحبُّ إلى الله، وأصلَحُ للعبد، وأنفَعُ له
(1)
من فوتها. ووجودُ الملزوم بدون لازمه ممتنعٌ.
ومنها: معرفةُ العبد كرمَ ربِّه في قبول العذر منه إذا اعتذر إليه بنحو ما تقدَّم من الاعتذار، لا بالقدَر فإنّه مخاصَمةٌ ومحاجَّةٌ كما تقدّم، فيقبل عذرَه بكرمه وجوده. فيوجب له ذلك اشتغالًا بذكره وشكره، ومحبّةً أخرى لم تكن حاصلةً له قبل ذلك، فإنَّ محبَّتَك لمن شكَرك على إحسانك وجازاك به، ثمَّ غفَر لك إساءَتك ولم يؤاخذك بها= أضعافُ محبَّتِك على شكر الإحسان وحده. والواقعُ شاهدٌ بذلك. فعبوديّة التّوبة بعد الذّنب لونٌ آخر.
ومنها: أن يشهد فضلَه في مغفرته، فإنَّ المغفرةَ فضلٌ من الله تعالى، وإلّا فلو وَاخَذَنا بالذَّنبِ لَوَاخَذَ
(2)
بمحض حقِّه وكان عادلًا محمودًا، وإنّما غفره
(3)
بفضله لا باستحقاقك. فيُوجِب لك ذلك أيضًا شكرًا له، ومحبّةً له، وإنابةً إليه، وفرحًا وابتهاجًا به، ومعرفةً له باسمه الغفّار، ومشاهدةً لهذه
(1)
لم يرد "له" في ع.
(2)
كذا في جميع النسخ بتخفيف الهمزة.
(3)
ع: "عفوه".
الصِّفة، وتعبُّدًا بمقتضاها. وذلك أكملُ في العبوديّة والمعرفة والمحبّة
(1)
.
ومنها: أن يكمِّل لعبده مراتبَ الذُّلِّ والخضوع والانكسار بين يديه، والافتقار إليه، فإنَّ النَّفسَ فيها مضاهاةُ الرُّبوبيَّة، ولو قدرَتْ لقالت كقول فرعون، ولكنَّه قدَر فأظهرَ، وغيرُه عجَز فأضمَر. وإنّما يُخلِّصها من هذه المضاهاة ذلُّ العبوديّة، وهو
(2)
أربع مراتب:
المرتبة الأولى مشتركةٌ بين الخلق، وهي: ذلُّ الحاجة والفقر إلى الله تعالى. فأهلُ السَّماوات والأرض محتاجون إليه فقراءُ إليه، وهو وحده الغنيُّ. وكلُّ أهل السّماوات والأرض يسألونه، وهو لا يسأل أحدًا.
المرتبة الثّانية: ذلُّ الطّاعة والعبوديّة، وهو ذلُّ الاختيار، وهذا خاصٌّ بأهل طاعته، وهو سرُّ العبوديّة.
المرتبة الثّالثة: ذلُّ المحبَّة، فإنَّ المحبَّ ذليلٌ بالذّات لمحبوبه، وعلى قدر محبّته له يكون ذلُّه له، فالمحبّةُ أسِّست على الذِّلّة للمحبوب، كما قيل:
اخضَعْ وذِلَّ لمن تحبُّ فليس في
…
حُكمِ الهوى أنفٌ يُشالُ ويُعقَدُ
(3)
وقال آخر:
(1)
ع: "المحبة والمعرفة".
(2)
ج: "وهي".
(3)
البيت لأبي تراب هبة الله ابن السريجي في "بدائع البدائه"(ص 17). وقد أنشده المؤلف في "طريق الهجرتين"(2/ 637)، و"روضة المحبين"(ص 272، 395)، و"مفتاح دار السعادة"(1/ 66).
مساكينُ أهلُ الحبِّ حتّى قبورُهم
…
عليها ترابُ الذُّلِّ بينَ المقابرِ
(1)
المرتبة الرّابعة: ذلُّ المعصية والجناية.
فإذا اجتمعت هذه المراتبُ الأربعُ كان الذُّلُّ لله والخضوعُ له أكملَ وأتمَّ، إذ يذلُّ له خوفًا وخشيةً، ومحبّةً وإنابةً وطاعةً، وفقرًا وفاقةً.
وحقيقة ذلك هو الفقر الذي يشير إليه القوم. وهذا المعنى أجلُّ من أن يسمّى بالفقر، بل هو لبُّ العبوديّة وسرُّها. وحصولُه أنفع شيءٍ للعبد، وأحبُّ شيءٍ إلى الله. فلا بدَّ من تقدير لوازمه من أسباب الضَّعف والحاجة، وأسباب العبوديَّة والطَّاعة، وأسباب المحبَّة والإنابة، وأسباب المعصية والمخالفة؛ إذ وجودُ الملزوم بدون لازمه ممتنعٌ. والفائتُ من تقدير عدمِ هذا الملزومِ ولازمِه، مصلحةُ وجوده
(2)
خيرٌ من مصلحة فوته، ومفسدةُ فوته أكثرُ من مفسدة وجوده. والحكمةُ مبناها على دفعِ أعظمِ المفسدتين باحتمال أدناهما، وتحصيلِ أعظمِ المصلحتين بتفويت أدناهما. وقد فُتِح لك الباب، فإن كنتَ من أهل المعرفة فادخل، وإلّا فرُدَّ البابَ وارجِعْ بسلامٍ!
ومنها: أنّ أسماءه الحسنى تقتضي آثارها اقتضاءَ الأسباب التَّامَّةِ
(1)
البيت دون عزو في "الكشف والبيان" للثعلبي (5/ 58)، و"حماسة الظرفاء"(2/ 10)، و"مصارع العشاق"(1/ 130). وهو في الديوان المنسوب إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه (ص 52 - الهند سنة 1293) بلفظ "أهل الفقر". وأنشده المؤلف في "روضة المحبين"(ص 272، 395)، و"المفتاح"(1/ 66) أيضًا، وأنشد مع البيتين أبياتًا أخرى في هذا المعنى.
(2)
يعني: وجود الفائت. و"الفائتُ" مبتدأ أول، و"مصلحة" مبتدأ ثان.
لمسبَّباتها، فاسم "السَّميع البصير" يقتضي مسموعًا ومبصرًا، واسم "الرَّزَّاق" يقتضي مرزوقًا، واسم "الرَّحيم" يقتضي مرحومًا، وكذلك اسم "الغفور"، و"العفوِّ"، و"التَّوَّاب"، و"الحليم" يقتضي مَن يغفر له، ويتوبُ عليه، ويعفو عنه، ويحلم عنه. ويستحيل تعطيلُ هذه الأسماء والصِّفات، إذ هي أسماءٌ حسنى وصفاتُ كمالٍ، ونعوتُ جلالٍ، وأفعالُ حكمةٍ وإحسانٍ وجودٍ، فلا بدَّ من ظهور آثارها في العالم. وقد أشار إلى هذا أعلَمُ الخلقِ بالله صلوات الله وسلامه عليه، حيث يقول:"لو لم تُذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقومٍ يُذنبون، ثمّ يستغفرون، فيغفر لهم"
(1)
.
وأنت إذا فرضت الحيوانَ بجملته معدومًا، فلِمَن يرزق الرَّزَّاقُ
(2)
سبحانه؟ وإذا فرضتَ المعصية والخطيئة منتفيةً من العالم، فلمن يغفر؟ وعمّن يعفو؟ وعلى من يتوبُ ويحلُم؟ وإذا
(3)
فرضتَ الفاقاتِ كلَّها قد سُدَّت، والعبيدُ أغنياءُ معافَون، فأين السُّؤال والتّضرُّع والابتهال، والإجابة وشهود الفضل والمنّة، والتّخصيص بالإنعام والإكرام؟
فسبحان من تعرَّف إلى خلقه بجميع التَّعرُّفات
(4)
، ودلَّهم عليه بأنواع الدِّلالات، وفتَح لهم إليه جميعَ الطُّرقات، ثمّ نصَب إليه الصِّراطَ المستقيمَ،
(1)
أخرجه مسلم (2749) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
ع: "الرازق"، وكذا كان في الأصل فأصلح.
(3)
ش: "فإذا".
(4)
ع: "بجميع أنواع التعرفات". وفي ج: "الصفات" بدلًا من "التعرفات". وفي غيرهما: "التصرفات". وكلاهما تحريف. وقد سبق مثله في منزلة "البصيرة"(ص 192) وسيأتي (2/ 16). وانظر: "مفتاح دار السعادة"(2/ 565).
وعرَّفهم به ودلَّهم عليه {مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ} [الأنفال: 42].
فصل
ومنها: السِّرُّ الأعظم، الذي لا تقتحمه العبارة، ولا تجسُر عليه الإشارة، ولا ينادي عليه منادي الإيمان على رؤوس الأشهاد، فشهدته
(1)
قلوبُ خواصِّ العباد، فازدادت به معرفةً لربِّها، ومحبّةً له
(2)
، وطمأنينةً وشوقًا إليه، ولهجًا بذكره، وشهودًا لبِرِّه
(3)
، ولطفه وكرمه وإحسانه، ومطالعةً لسرِّ العبوديّة، وإشرافًا على حقيقة الإلهيّة. وهو ما ثبت في "الصَّحيحين"
(4)
من حديث أنس بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَلّهُ أفرَحُ بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرضٍ فلاةٍ، فانفلتت منه، وعليها طعامُه وشرابُه، فأيِسَ منها، فأتى شجرةً فاضطجع في ظلِّها، قد أيس من راحلته. فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمةً عنده. فأخذ بخطامها، ثمّ قال من شدّة الفرح: اللهمَّ أنت عبدي وأنا ربُّك! أخطأ من شدّة الفرح". هذا لفظ مسلمٍ.
وفي الحديث من قواعد العلم: أنَّ اللَّفظَ
(5)
الذي يجري على لسان
(1)
في ج أهمل الحرف الذي يلي الدال. وفي ش: "فتشهد به". والمثبت من ق، م. وكذا كان في ل فغيِّر إلى "فشهد به" كما في ع.
(2)
"له" ساقط من ش.
(3)
ج: "وشهود نصره"، ولعله تحريف.
(4)
البخاري (6309) ومسلم (2747) وقد تقدَّم.
(5)
ج: "الكلام".
العبد خطأً من فرحٍ شديدٍ أو غيظٍ
(1)
شديدٍ أو نحوه لا يؤاخَذ به. ولهذا لم يكن هذا كافرًا بقوله: أنت عبدي وأنا ربُّك.
ومعلومٌ أنّ تأثيرَ الغضب في عدم القصد يصل إلى هذه الحال أو أعظمَ منها، فلا ينبغي مؤاخذةُ الغضبان بما صدَر منه في حالِ شدّة غضبه من نحو هذا الكلام، ولا يقع طلاقُه بذلك ولا رِدَّتُه. وقد نصَّ الإمام أحمدُ رضي الله عنه
(2)
على تفسير "الإغلاق" في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا طلاق في إغلاقٍ"
(3)
بأنّه الغضب وفسَّره به غير واحدٍ من الأئمّة. وفسَّروه بالإكراه، وفسَّروه بالجنون
(4)
. قال شيخنا رحمه الله: وهو يعُمُّ هذا كلَّه، وهو من الغلَق، لانغلاق قصد المتكلِّم عليه، فكأنّه لم ينفتح قلبُه لمعنى ما قاله
(5)
.
(1)
رسمه في الأصل وغيره بالضاد، ثم أصلح في م، ش.
(2)
في رواية حنبلٍ، نقله المؤلف في "أعلام الموقعين"(2/ 507) عن "زاد المسافر" لأبي بكر غلام الخلال (3/ 265)، وذكر في "زاد المعاد" (5/ 307) أن تفسير الإمام أحمد بالغضب حكاه عنه الخلال وأبو بكر في "الشافي" و"زاد المسافر". وانظر:"إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان"(ص 6 - 7).
(3)
أخرجه أحمد (26360) وأبو داود (2193) وابن ماجه (2046) والدارقطني (3988) والحاكم (2/ 236) والبيهقي (10/ 61) من طريق محمد بن عبيد بن أبي صالح (عند ابن ماجه: عبيد الله بن أبي صالح، وهو وهْم" عن صفية بنت شيبة عن أم المؤمنين عائشة، وفيه محمد بن عبيد وهو ضعيف. وله طرق أخرى لا تخلو من مقال. وهذا الطريق هو الأشبه كما قاله أبو حاتم الرازي، انظر: "العلل" لابن أبي حاتم (1292، 1300). والحديث حسنه الألباني بمجموع طرقه في "الإرواء"(2047)، وانظر:"صحيح أبي داود- الأم"(6/ 396).
(4)
انظر: "أعلام الموقعين"(3/ 512)، و"زاد المعاد"(5/ 307).
(5)
نقل المؤلف قول شيخه في "تهذيب السنن"(1/ 524) أيضًا. وانظر نحوه دون عزو إليه في "الصواعق"(2/ 564 - 565).
والقصد: أنَّ هذا الفرحَ له شأنٌ لا ينبغي للعبد إهمالُه والإعراضُ عنه، ولا يطَّلع عليه إلّا مَن له معرفةٌ خاصَّةٌ بالله وأسمائه وصفاته وما يليق بعزِّ جلاله.
وقد كان الأولى بنا طيَّ الكلام فيه إلى ما هو اللّائقُ بأفهام بني الزَّمان وعلومهم، ونهايةِ أقدامهم من المعرفة، وضعفِ عقولهم عن احتماله؛ غير أنّا نعلم أنَّ الله سيسوقُ هذه البضاعةَ إلى تُجَّارها ومَن هو عارفٌ بقدرها، وإن وقعت في الطّريق بيد من ليس عارفًا بها، فرُبَّ حاملِ فقهٍ ليس بفقيهٍ، ورُبَّ حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه
(1)
.
فاعلم أنَّ الله سبحانه
(2)
اختصَّ نوعَ الإنسان من بين خلقه بأن كرَّمه وفضَّلَه وشرَّفَه، وخلَقه لنفسه، وخلَق كلَّ شيءٍ له، وخصَّه من معرفته ومحبّته وقربه وإكرامه بما لم يعطه غيرَه، وسخَّر له ما في سماواته وأرضه وما بينهما، حتّى ملائكته الذين هم أهلُ قربه، واستخدمهم له، وجعلهم حَفَظةً له في منامه ويقظته وظعنه وإقامته، وأنزل إليه وعليه كتبَه، وأرسله
(3)
وأرسل إليه، وخاطَبه وكلَّمه منه إليه، واتّخذ منهم الخليل والكليم، والأولياءَ والخواصَّ والأحِبَّاءَ، وجعلهم معدنَ أسراره ومحلَّ حكمته وموضعَ حبِّه، وخلق لهم الجنّة والنّار. فالخلقُ والأمرُ والثّوابُ والعقابُ مدارهُ على النَّوع الإنسانيِّ، فإنّه خلاصةُ الخلق، وهو المقصودُ بالأمر والنّهي، وعليه الثَّوابُ والعقابُ.
(1)
"منه" ساقط من ش.
(2)
بعده في ج: "وله الحمد".
(3)
ج، م، ش:"ورسله". وكان في ل كما أثبت من الأصل فطمس بعضهم الهمزة.
فللإنسان شأنٌ ليس لسائر المخلوقات. وقد خلَق أباه بيده
(1)
، ونفَخ فيه من روحه، وأسجَدَ له ملائكتَه، وعلَّمه أسماءَ كلِّ شيءٍ، وأظهر فضلَه على الملائكة فمَن دونهم من جميع المخلوقات. وطرَد إبليسَ عن قربه، وأبعدَه عن بابه إذ لم يسجد له مع السَّاجدين، واتّخذَه عدوًّا له.
فالمؤمنون من نوع الإنسان خيرُ البريّة على الإطلاق، وخِيرةُ الله من العالمين؛ فإنّه خلَقه لِتَتمَّ
(2)
نعمتُه عليه، وليتواتر إحسانُه
(3)
إليه، وليخصَّه من كرامته وفضله بما لم تنله أمنيّتُه، ولم يخطر على باله ولم يشعُر به، ليسأله من المواهب والعطايا الباطنة والظّاهرة العاجلة والآجلة التي لا تُنال إلّا بمحبَّته، ولا تُنال محبَّتُه إلّا بطاعته وإيثاره على ما سواه. فاتّخذه محبوبًا له، وأعدَّ له أفضلَ ما يُعِدُّه محبٌّ غنيٌّ
(4)
قادرٌ جوادٌ لمحبوبه إذا قَدِم عليه. وعَهِد إليه عهدًا تقدَّم إليه فيه بأوامره ونواهيه، وأعلَمه في عهده ما يقرِّبه إليه ويزيده محبّةً له وكرامةً عليه، وما يُبعِده منه، ويُسْخطه عليه، ويُسْقِطه من عينه.
وللمحبوب عدوٌّ، هو أبغَضُ خلقه إليه، قد جاهَره بالعداوة، وأمرَ عباده أن يكون دينُهم وطاعتُهم
(5)
وعبادتُهم له دون وليِّهم ومعبودهم الحقِّ، واستقطَع عباده، واتّخذ منهم حزبًا ظاهَروه ووالَوه على ربِّهم، وكانوا
(1)
ع: "بيديه".
(2)
هكذا في الأصل. وفي ع: "ليُتمَّ". وفي ش: "فليتم".
(3)
ما عدا ع: "إحسان الله".
(4)
لفظ "غني" ساقط من ج.
(5)
"وطاعتهم" ساقط من ج.
أعداءً
(1)
له مع هذا العدوِّ، يدعُون إلى سخطه، ويطعنون في ربوبيّته وإلهيّته ووحدانيّته، ويسبُّونه ويكذِّبونه، ويفتنون أولياءه، ويؤذونهم بأنواع الأذى، ويجتهدون على إعدامِهم من الوجود، وإقامةِ الدّولة لهم، ومحوِ كلِّ ما يحبُّه الله ويرضاه وتبديله بكلِّ ما
(2)
يسخَطه ويكرهه= فعرَّفه بهذا العدوِّ وطرائقهم وأعمالهم ومآلهم، وحذَّره موالاتَهم والدُّخولَ في زمرتهم والكونَ معهم.
وأخبره في عهده أنّه أجودُ الأجودين، وأكرمُ الأكرمين، وأرحمُ الرَّاحمين؛ وأنّه سبقت رحمتُه غضبَه، وحلمُه عقوبتَه، وعفوُه مؤاخذتَه؛ وأنّه قد أفاض على خلقه النِّعمة، وكتب على نفسه الرّحمة؛ وأنّه يحبُّ الإحسان والجود والعطاء والبِرَّ؛ وأنَّ الفضلَ كلَّه بيده، والخيرَ كلَّه منه، والجودَ كلَّه له. وأحبُّ ما إليه أن يجودَ على عباده ويُوسِعَهم فضلًا، ويغمرَهم إحسانًا وجودًا، ويتمّ عليهم نعمَه، ويضاعف لديهم مننَه، ويتعرَّفَ إليهم بأوصافه وأسمائه، ويتحبَّب إليهم بنعمه وآلائه.
فهو الجواد لذاته، وجُودُ كلِّ جوادٍ خلَقه الله ويخلُقه أبدًا أقلُّ من ذرّةٍ بالقياس إلى جوده. فليس الجواد على الإطلاق إلّا هو، وجُودُ كلِّ جوادٍ فمن جوده. ومحبَّتُه للجود والإعطاء والإحسان والبرِّ والإنعام والإفضال فوقَ ما يخطُر ببال الخلق أو يدور في أوهامهم. وفرَحُه بعطائه وجوده وإفضاله أشدُّ من فرَحِ الآخذ بما يعطاه ويأخذه أحوجَ ما هو إليه، وأعظَمُ ما كان قدرًا. فإذا اجتمع شدّةُ الحاجة وعِظَمُ قدر العطيّة والنَّفع بها، فما الظَّنُّ بفرَح المعطَى! ففرحُ المعطي سبحانه بعطائه أشدُّ وأعظمُ من فرح هذا بما يأخذه. ولله المثل
(1)
ما عدا ع: "أهلا"، تحريف.
(2)
ما عدا ع: "بدل"، ولعله تحريف.
الأعلى، إذ هذا شأنُ الجواد من الخلق، فإنّه يحصل له من الفرحة والسُّرور والابتهاج واللَّذَّة بعطائه وجُوده فوقَ ما يحصل لمن يعطيه؛ ولكنَّ الآخذَ غائبٌ بلذّة أخذه
(1)
عن لذّة المعطي وابتهاجه وسروره. هذا مع حاجته
(2)
إلى ما يعطيه وفقره إليه، وعدمِ وثوقه باستخلاف مثله، وخوفِ الحاجة إليه عند ذهابه، والتّعرُّضِ لذلِّ الاستعانة بنظيره أو مَن هو دونه، ونفسُه قد طُبِعت على الحرص والشُّحِّ. فما الظّنُّ بمن تقدَّس وتنزَّه عن ذلك كلِّه؟ ولو أنَّ أهلَ سماواته وأرضه، وأوّلَ خلقه وآخرَهم، وإنسَهم وجنَّهم، ورطبَهم ويابسَهم، قاموا في صعيدٍ واحدٍ فسألوه، فأعطى كلًّا منهم ما سأله= ما نقَص ذلك ممَّا عنده مثقالَ ذرّةٍ.
وهو الجواد لذاته، كما أنّه الحيُّ لذاته، العليمُ لذاته، السَّميعُ البصيرُ لذاته
(3)
، فجوده العالي من لوازم ذاته. والعفوُ أحبُّ إليه من الانتقام، والرّحمةُ أحبُّ إليه من العقوبة، والفضلُ أحبُّ إليه من العدل، والعطاءُ أحبُّ إليه من المنع. فإذا تعرَّض عبدُه ومحبوبُه الذي خلَقه لنفسه، وأعدَّ له أنواعَ كرامته، وفضَّله على غيره، وجعلَه محلَّ معرفته، وأنزل إليه كتابه، وأرسل إليه رسوله، واعتنى بأمره ولم يهمله، ولم يتركه سدًى= فتعرَّض لغضبه، وارتكب مساخطَه وما يكرهه، وأبَق منه، ووالى عدوَّه، وظاهَره عليه، وتحيَّز إليه، وقطَع طريقَ نعمه وإحسانه إليه التي هي أحبُّ شيءٍ إليه، وفتَح طريقَ العقوبة والانتقام والغضب= فقد استدعى من الجواد الكريم خلافَ ما هو
(1)
ج: "ما يأخذه".
(2)
ع: "مع كمال حاجته".
(3)
"العليم
…
لذاته" ساقط من ج.
موصوفٌ به من الجود والإحسان والبرِّ، وتعرَّض لإغضابه وإسخاطه وانتقامه، وأن يصير
(1)
غضبُه وسخطُه في موضع رضاه، وانتقامُه وعقوبتُه في موضع كرمِه وبرِّه وإعطائه. فاستدعى بمعصيته من أفعاله ما سواه أحبُّ إليه منه، وخلافَ ما هو من لوازم ذاته من الجود والإحسان. فبينا هو حبيبُه المقرَّبُ المخصوصُ بالكرامة، إذ انقلب آبقًا
(2)
شاردًا، رادًّا لكرامته، مائلًا عنه إلى عدوِّه، مع شدّة حاجته إليه، وعدم استغنائه عنه طرفة عينٍ.
فبينا ذلك الحبيبُ مع العدوِّ في طاعته وخدمته ناسيًا لسيِّده، منهمكًا في موافقة عدوِّه، قد استدعى من سيِّده
(3)
خلافَ ما هو أهلُه، إذ عرضت له فكرةٌ فتذكَّر برَّ سيِّده وعطفَه وجودَه وكرمَه، وعلِمَ أنّه لا بدَّ له منه، وأنَّ مصيره إليه، وعرضَه عليه، وأنّه إن لم يقدَم عليه بنفسه قُدِم به
(4)
عليه على أسوأ الأحوال. ففرَّ إلى سيِّده من بلد عدوِّه، وجدَّ في الهرب إليه حتَّى وصل إلى بابه، فوضَع خدَّه على عتبة بابه، وتوسَّد ثرى أعتابه، متذلِّلًا متضرِّعًا خاشعًا باكيًا آسفًا، يتملَّق سيِّدَه، ويسترحمه، ويستعطفه ويعتذر إليه، قد ألقى إليه بيده
(5)
، واستسلم له، وأعطاه قيادَه، وألقى إليه زمامَه. فعلِم سيِّدُه ما في قلبه، فعاد مكانَ الغضب عليه رضًا عنه، ومكانَ الشِّدّة عليه رحمةً به، وأبدله بالعقوبة عفوًا، وبالمنع عطاءً، وبالمؤاخذة حلمًا. فاستدعى بالتَّوبة والرُّجوع
(1)
ضبط في ع: "يُصيّر".
(2)
"آبقا" ساقط من ش.
(3)
"منهمكًا
…
سيده" ساقط من ج لانتقال النظر.
(4)
"به" ساقط من ش.
(5)
ع: "بيده إليه".
من سيِّده ما هو أهله، وما هو موجَبُ أسمائه الحسنى وصفاته العُلا. فكيف يكون فرحُ سيِّده به، وقد عاد إليه حبيبُه ووليُّه طوعًا واختيارًا، وراجَع ما يحبُّه سيِّده منه ويرضاه، وفتحَ طريقَ البرِّ والإحسان والجود، التي هي أحبُّ إلى سيِّده من طريق الغضب والانتقام والعقوبة؟
وهذا موضع الحكاية المشهورة عن بعض العارفين أنّه حصل له إباقٌ
(1)
عن سيِّده، فرأى في بعض السِّكك بابًا قد فُتِح، وخرج منه صبيٌّ يستغيث ويبكي، وأمُّه خلفه تطرده حتّى خرج، فأغلقت البابَ في وجهه ودخلت. فذهب الصّبيُّ غيرَ بعيدٍ، ثمّ وقف مفكِّرًا، فلم يجد له مأوًى غير البيت الذي أُخرج
(2)
منه، ولا من يؤويه غير والدته
(3)
، فرجع مكسورَ القلب حزينًا، فوجد الباب مُرْتَجًا
(4)
، فتوسَّده ووضع خدَّه على عتبة الباب ونام. فخرجت أمُّه، فلمّا رأته على تلك الحال لم تملك أن رمَتْ نفسَها عليه، والتزمته تقبِّله وتبكي، وتقول: يا ولدي، أين تذهب عنِّي؟ ومن يؤويك سواي؟ ألم أقل لك: لا تخالفني، ولا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جُبِلتُ عليه من الرَّحمة لك، والشّفقة عليك، وإرادةِ الخيرِ لك؟ ثمّ أخذَتْه ودخَلَتْ
(5)
.
فتأمَّلْ قولَ الأمِّ: لا تحملني بمعصيتك على خلاف ما جُبِلتُ عليه من
(1)
ع: "شرود وأبق"، وأشير في هامشها إلى أن في نسخة:"وإباق".
(2)
ش: "خرج".
(3)
ج، م:"والديه".
(4)
أي مغلقًا.
(5)
انظر: "صفة الصفوة" لابن الجوزي (2/ 454).
الرَّحمة والشَّفقة. وتأمَّلْ قوله صلى الله عليه وسلم: "لَلّهُ أرحَمُ بعباده من الوالدة بولدها"
(1)
. وأين تقع رحمةُ الوالدة من رحمة الله؟ فإذا أغضبه العبدُ بمعصيته فقد استدعى منه صرفَ تلك الرَّحمة عنه، فإذا تاب إليه فقد استدعى منه ما هو أهله وأولى به.
فهذه نبذةٌ يسيرةٌ تُطلعك على سرِّ فرَحِ الله بتوبة عبده أعظمَ من فرحِ هذا الواجد لراحلته في الأرض المهلكة بعد اليأس منها. ووراء هذا ما تجفو عنه العبارة، وتدِقُّ عن إدراكه الأذهان.
وإيّاك وطريقةَ التَّعطيل والتَّمثيل، فإنَّ كلًّا منهما منزلٌ ذميمٌ، ومرتَعٌ على عِلَّاته وخيمٌ. ولا يحِلُّ لأحدهما أن يجد روائحَ هذا الأمر ونفَسَه، لأنَّ زكامَ التَّعطيل والتَّمثيل مفسِدٌ لحاسَّة الشَّمِّ، كما هو مفسِدٌ لحاسَّة الذَّوق، فلا يذوق طعمَ الإيمان، ولا يجد ريحَه. والمحرومُ كلُّ المحروم من عُرِضَ عليه الغنى والخيرُ فلم يقبله! ولا مانعَ لما أعطى الله، ولا معطيَ لما منَع، والفضلُ بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
فصل
هذا إذا نظرتَ إلى تعلُّق الفرح الإلهيِّ بالإحسان والجود والبرِّ.
وأمّا إن لاحظتَ تعلُّقه بإلهيّته وكونهِ معبودًا، فذاك مشهدٌ أجلُّ من هذا وأعظمُ منه، وإنّما يشهده خواصُّ المحبِّين.
فإنّ الله سبحانه إنّما خلق الخلقَ لعبادته الجامعة لمحبَّتِه والخضوعِ له وطاعتِه، وهذا هو الحقُّ الذي خُلِقت به السّماوات والأرض، وهو غاية
(1)
أخرجه البخاري (5999)، ومسلم (2754) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
الخلق والأمر. ونفيُه كما يقول أعداؤه هو الباطلُ والعبَثُ الذي نزَّه نفسَه عنه، وهو السُّدى الذي نزَّه نفسَه عن أن يترك الإنسانَ عليه. فهو سبحانه يحبُّ أن يُعبَد ويُطاعَ، ولا يعبأ بخلقه شيئًا لولا محبّتهم وطاعتهم له. وقد أنكر على من زعم أنّه خلقهم لغير ذلك. وإنّهم لو خُلِقوا لغير عبادته وتوحيده وطاعته
(1)
لكان خلقُهم عبثًا وباطلًا وسدًى، وذلك ما
(2)
يتعالى عنه أحكمُ الحاكمين والإله الحقُّ.
فإذا خرج العبدُ عمّا خُلِق له من طاعته وعبوديَّته
(3)
، فقد خرج عن أحبِّ الأشياء إليه، وعن الغاية التي لأجلها خُلِقت الخليقة، وصار كأنّه خُلِقَ عبثًا لغير شيءٍ، إذ لم تُخرج أرضُه البذرَ الذي وُضِع فيها، بل قلبَتْه شوكًا ودَغَلًا
(4)
. فإذا راجعَ ما خُلِق له ووُجِد لأجله فقد رجع إلى الغاية التي هي أحبُّ الأشياء إلى خالقه وفاطره، ورجع إلى مقتضى الحكمة التي خُلِق لأجلها، وخرَج عن معنى العبث والسُّدى والباطل. فاشتدَّت محبَّةُ الرَّبِّ له فإنَّ اللهَ يحبُّ التَّوَّابين، فأوجبت هذه المحبّةُ فرحًا كأعظم ما يقدَّر من الفرح.
ولو كان في الفرح المشهود في هذا العالم نوعٌ أعظمُ من هذا الذي ذكره النّبيُّ صلى الله عليه وسلم لَذكَره، ولكن لا فرحةَ أعظمُ من فرحة هذا الواجدِ الفاقدِ لمادّة حياته وبلاغه في سفره، بعد يأسه من أسباب الحياة بفقده. وهذا لشدَّة محبّته
(1)
العبارة "وقد أنكر
…
طاعته" ساقطة من م.
(2)
ع: "مما".
(3)
ع: "الطاعة والعبودية".
(4)
المقصود بالدَّغَل هنا النباتات الطفيلية التي تنبت حول الزرع وتزاحمه.
لتوبة التّائب. والمحبُّ إذا اشتدَّت محبَّتُه للشَّيء وغاب
(1)
عنه، ثمّ وَجَده وصار طوعَ يديه، فلا فرحةَ أعظمُ من فرحته به.
فما
(2)
الظّنُّ بمحبوبٍ لك تحبُّه حبًّا شديدًا، وأسره عدوُّك، وحال بينك وبينه، وأنت تعلم أنَّ العدوَّ سيسومُه سوءَ العذاب، ويعرِّضه لأنواع الهلاك، وأنت أولى به منه، وهو غرسُك وتربيتُك. ثمّ إنّه انفلتَ من عدوِّه، ووافاك على غير ميعادٍ، فلم يفجأك إلّا وهو على بابك، يتملَّقُك
(3)
ويترضَّاك ويستعتبُك، ويمرِّغ خدَّيه على ثرى
(4)
أعتابك= فكيف يكون فرحُك به، وقد اختصَّيْتَه
(5)
لنفسك، ورضيتَه لقربك
(6)
، وآثرتَه على سواه؟ هذا، ولستَ الذي أوجدتَه وخلقتَه، وأسبغتَ عليه نعمَك.
واللهُ عز وجل هو الذي أوجد عبدَه، وخلَقه وكوَّنه، وأسبغ عليه نعمَه، وهو يحبُّ أن يتمَّها عليه، فيصيرَ مُظْهِرًا لنعمه، قابلًا لها، شاكرًا لها، محبًّا لوليِّها مطيعًا له عابدًا له، معاديًا لعدوِّه مبغضًا له عاصيًا له. والله تعالى يحبُّ من عبده معاداةَ عدوِّه ومعصيتَه ومخالفتَه، كما يحبُّ أن يُواليَه سبحانه ويطيعَه ويعبدَه؛ فتنضافُ محبَّتُه لعبادته وطاعته والإنابة إليه، إلى محبّته لعداوة عدوِّه ومعصيته ومخالفته، فتشتدُّ المحبّةُ منه سبحانه مع حصول
(1)
ج: "فغاب".
(2)
ل: "بل فما"، ولم ترد زيادة "بل" في النسخ الأخرى.
(3)
ع: "يتملَّق لك".
(4)
ع: "ترب".
(5)
كذا في جميع النسخ. أصله: اختصَصْتَه، من كلام العامة مثل ظنَّيْتُ واستمرَّيْتُ.
(6)
ش: "لديك".
محبوبه. وهذا حقيقة الفرح.
وفي صفة النّبيِّ صلى الله عليه وسلم في بعض الكتب المتقدِّمة: "عبدي الذي سُرَّتْ به نفسي"
(1)
. وهذا لكمال محبّته له، جعَلَه ممّا تُسَرُّ به نفسُه سبحانه.
ومن هذا: ضَحِكهُ سبحانه من عبده حين يأتي من عبوديّته بأعظم ما يحبُّه، فيضحكُ سبحانه فرحًا به ورضًا، كما يضحكُ من عبده إذا ثار عن وطائه وفراشه ومضاجعة حبيبه إلى خدمته يتلو آياته ويتملَّقه
(2)
. ويضحكُ من رجلٍ هرب أصحابه عن العدوِّ، فأقبل إليهم
(3)
، وباع نفسَه لله ولقَّاهم نحرَه، حتّى قُتِل في محبّته ورضاه
(4)
.
(1)
سفر إشعياء (42/ 1) ونصُّه في الترجمة التي بين يديَّ: "هو ذا عبدي الذي أعضُده، مختاري الذي سُرَّت به نفسي". وقد ذكره المؤلف في "هداية الحيارى"(ص 183) أيضًا. وانظر: "إنجيل متَّى"(12/ 18) وقد حاول كاتبه أن يصرف النص إلى المسيح عليه السلام.
(2)
يشير إلى حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الذي أخرجه أحمد (3949) وابن خزيمة في "التوحيد"(799) وابن حبان (2557، 2558) والطبراني (10/ 179) وأبو نعيم (4/ 167) والبيهقي (9/ 164)، وفيه عطاء بن السائب، والراوي عنه حماد بن سلمة، وهو ممن سمع منه بعد الاختلاط. وتابع ابنَ سلمة حمادُ بن زيد عند الطبراني (9/ 101) وهو ممن سمع من عطاء قبل الاختلاط، فيتقوى به الطريق الأول، ولكن رجح الدارقطني في "العلل" (869) الوقف على ابن مسعود. وله حكم الرفع إذ مثله لا يقال من قِبَل الرأي. وينظر:"الصحيحة"(3478).
(3)
يعني: إلى العدوِّ.
(4)
يشير إلى حديث أبي الدرداء رضي الله عنه الذي أخرجه البيهقي في "الأسماء والصفات"(983) وإسناده حسن في الشواهد، والحديث حسَّنه الألباني في "الصحيحة"(3478).
ويضحك إلى من أخفى الصّدقةَ عن أصحابه لسائلٍ اعتراهم فلم يعطُوه، فتخلَّف بأعقابهم، وأعطاه سرًّا حيث لا يراه إلّا الله تعالى والذي أعطاه
(1)
؛ فهذا الضَّحِك منه
(2)
حبًّا له وفرحًا به. وكذلك الشّهيدُ حين يلقاه يوم القيامة، فيضحك إليه فرحًا به وبقدومه عليه
(3)
.
وليس في إثبات هذه الصِّفات محذورٌ البتّة، فإنّه فرَحٌ ليس كمثله شيءٌ، وضَحِكٌ ليس كمثله شيءٌ، وحكمُه حكمُ رضاه ومحبّته وإرادته وسائر صفاته. فالباب بابٌ واحدٌ، لا تمثيل ولا تعطيل.
وليس ما يُلزِمُ به المعطِّلُ للمثبِت
(4)
إلّا ظلمٌ محضٌ وتناقضٌ وتلاعبٌ،
(1)
يشير إلى حديث أبي ذر رضي الله عنه الذي أخرجه أحمد (21355) والترمذي (2568) والنسائي في "المجتبى"(1615، 2570) وابن خزيمة (2456) وابن حبان (3349) والحاكم (1/ 416، 2/ 113) من طريق ربعي بن حراش عن يزيد بن ظبيان عن أبي ذر رضي الله عنه مرفوعًا. ويزيد هذا مجهول. وقد روي من طريق آخر عن ربعي عن أبي ذر من غير واسطة، وعن ربعي عن ابن مسعود، والمحفوظ هو الأول كما قرره البخاري والترمذي والدارقطني، ينظر:"العلل الكبير"(627) و"الجامع"(2567، 2568) كلاهما للترمذي، و"علل الدارقطني"(1103).
(2)
"منه" ساقط من ش.
(3)
يشير إلى حديث نعيم بن همَّار الذي أخرجه سعيد بن منصور (2566 - نشرة الأعظمي) وأحمد (22476) وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني"(1277) وفي "الجهاد"(228) والنسائي في "الكبرى"(466) وغيرهم. صححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(6/ 124)، وينظر:"علل ابن أبي حاتم"(976) وتعليق محققي "مسند أحمد".
(4)
كذا في جميع النسخ إلا ع التي أصلح فيها. وانظر ما سبق في (ص 222) من قوله: "تنفع الآيات والإنذار لمن صدق بالوعيد".
فإنَّ هذا لو كان لازمًا للزم رحمتَه وإرادتَه ومشيئتَه وسمعَه وبصرَه وعلمَه وسائرَ صفاته، فكيف جاء هذا اللُّزومُ لهذه الصِّفة دون الأخرى؟ وهل يجد ذو عقلٍ إلى الفرق سبيلًا؟ فما ثمَّ إلّا التّعطيلُ المحضُ المطلَق، أو الإثباتُ المطلَقُ لكلِّ ما ورد به النَّصُّ؛ والتّناقضُ لا يرضاه المحصِّلون.
فصل
قوله: (الثّاني: أن يقيمَ على عبده حجّةَ عدله، فيعاقبَه على ذنبه بحجَّته)
(1)
.
اعترافُ العبد بقيام حجّة الله عليه من لوازم الإيمان، أطاع أم عصى؛ فإنَّ حجّةَ الله قامت على العبد بإرسال الرَّسول وإنزال الكتاب، وبلوغِ ذلك إليه، وتمكُّنِه من العلم به، سواءً علِمَ أو جهل. فكلُّ من تمكَّن من معرفة ما أُمِر به ونُهِي عنه، فقصَّر عنه ولم يعرفه، فقد قامت عليه الحجّة. والله سبحانه لا يعذِّب أحدًا إلّا بعد قيام الحجّة عليه، فإذا عاقَبه على ذنبه عاقَبه بحجَّتِه على ظلمه.
قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].
وقال: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الملك: 8 - 9].
وقال: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117]. وفي الآية قولان. أحدهما: ما كان لِيُهلكها بظلمٍ منهم. والثَّاني: ما كان
(1)
سبق الأول في (ص 319).
لِيُهلكها بظلمٍ منه
(1)
. والمعنى على القول الأوّل: ما كان ليُهلكهم بظلمهم المتقدِّم، وهم مصلحون الآن. أي إنَّهم بعد أن أصلحوا وتابوا، لم يكن لِيُهلكهم بما سلَف منهم من الظُّلم. وعلى القول الثّاني: إنّه لم يكن ظالمًا لهم في إهلاكهم، فإنَّه لم يُهلِكهم وهم مصلحون، وإنّما أهلكهم وهم ظالمون. فهم الظّالمون بمخالفة
(2)
رسُله، وهو العادل في إهلاكهم.
والقولان في آية الأنعام أيضًا: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا} [الأنعام: 131]
(3)
. قيل: لم يكن مهلكَهم بظلمهم وشركهم، وهم غافلون لم يُنذَروا ولم يأتهم رسولٌ. وقيل: لم يهلكهم قبل التَّذكير بإرسال الرُّسُل، فيكون قد ظلَمهم؛ فإنّه سبحانه لا يأخذ أحدًا ولا يعاقبه إلّا بذنبه، وإنّما يكون مذنبًا إذا خالف أمره ونهيه، وذلك إنّما يُعلَم بالرُّسل.
فإذا شاهد العبدُ القدرَ السَّابقَ بالذَّنب علِمَ أنَّ الله سبحانه قدَّره سببًا مقتضيًا لأثره من العقوبة، كما قدَّر الطَّاعاتِ سببًا مقتضيًا للثَّواب. وكذلك تقديرُ سائر أسباب الخير والشّرِّ، كجعلِ السَّمِّ سببًا للموت، والنّارِ سببًا للإحراق، والماءِ للإغراق. فإذا أقدم العبد على سبب الهلاك، وقد عرَف أنّه سببُ الهلاك، فهلَك= فالحجّةُ مركّبةٌ عليه. فالمؤاخذةُ
(4)
كالحريق مثلًا، والذَّنبُ كالنَّار، وإتيانُه كتقديمه نفسَه للنَّار. وملاحظةُ الحكم في هذا لا
(1)
انظر: "تفسير البغوي"(4/ 206).
(2)
ع: "لمخالفة".
(3)
انظر: "تفسير البغوي"(3/ 190).
(4)
في ع أصلح: "والمؤاخذة".
تُجدي عليه شيئًا، وإنّما الذي يُشْهِدُه قيامَ الحجّة عليه: ملاحظةُ الأمر، لا ملاحظةُ القدَر.
فجعلُ صاحبِ "المنازل" هذه اللَّطيفةَ من ملاحظة الجناية والقضيّة
(1)
ليس بالبيِّن، بل هو من ملاحظة الجناية والأمر. ولكن مراده أنَّ سرَّ التَّقدير أنَّه قد علِمَ أنَّ هذا العبدَ لا يصلح إلّا للوقود، كالشَّوك الذي لا يصلح إلّا للنّار، والشَّجرةُ تشتمل على الثَّمر والشَّوك، فاقتضى عدلُه سبحانه أن يسوق هذا العبدَ إلى ما لا يصلح إلّا له، وأن يقيمَ عليه حجّةَ عدله بأن قدَّر عليه الذَّنبَ فوَاقَعَه، فاستحقَّ ما خُلِقَ له.
قال الله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} [يس: 69 - 70]. فأخبر سبحانه أنَّ النَّاس قسمانِ: حيٌّ قابلٌ للانتفاع، فإنه يقبل الإنذار وينتفع به. وميِّتٌ لا يقبل الإنذار ولا ينتفع به، لأنَّ أرضَه غيرُ زاكيةٍ ولا قابلةٍ للخير البتّةَ، فيحقُّ القولُ عليه بالعذاب. وتكون عقوبتُه بعد قيام الحجّة عليه، لا بمجرَّد كونه غير قابلٍ للهدى والإيمان، بل لأنّه غيرُ قابلٍ ولا فاعلٍ. وإنَّما يتبيَّن كونُه غيرَ قابلٍ بعد قيام الحجَّة عليه بالرَّسول، إذ لو عُذِّب بكونه غيرَ قابلٍ لقال: لو جاءني رسولٌ منك لامتثلتُ أمرَك. فأرسَلَ إليه رسولَه، فأمرَه ونهاه، فعصى الرّسولَ بكونه غيرَ قابلٍ للهدى، وعوقب بكونه غيرَ فاعلٍ، فحقَّ عليه القولُ أنّه لا يؤمن ولو جاءه الرَّسول، كما قال تعالى:{كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 33]. وحقَّ عليه القول بالعذاب كما
(1)
ل: "والمعصية"، تحريف.
قال تعالى: {حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6)} [غافر: 6].
فالكلمةُ التي حقَّت كلمتان: كلمةُ الإضلال، وكلمةُ العذاب، كما قال تعالى:{وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر: 71]. وكلمتُه سبحانه إنَّما حقَّت عليهم بالعذاب بسبب كفرهم، فحقَّت عليهم كلمةُ حجَّتِه، وكلمةُ عدله بعقوبته.
وحاصلُ هذا كلِّه أنَّ الله سبحانه أمرَ العبادَ أن يكونوا مع مراده الدِّينيِّ منهم، لا مع مراد أنفسهم. فأهلُ طاعته آثروا اللهَ ومرادَه على مرادهم، فاستحقُّوا كرامتَه. وأهلُ معصيته آثروا مرادَهم على مراده، وعلِمَ سبحانه منهم أنّهم لا يؤثرون مراده البتّة، وإنّما يؤثرون أهواءهم
(1)
ومرادهم، فأمَرهم ونهاهم، فظهر بأمره ونهيه من القدَر الذي قُدِّر عليهم من إيثارهم هوى أنفسهم ومرادَهم على مرضاة ربِّهم ومرادِه، فقامت عليهم بالمعصية حجَّةُ عدله، فعاقَبهم بظلمهم.
فصل
قد ذكرنا أنَّ العبدَ في الذّنب له نظرٌ إلى أربعة أمورٍ: نظرٌ إلى الأمر والنّهي، ونظرٌ إلى الحكم والقضاء، وذكرنا ما يتعلَّق بهذين النّظرين
(2)
.
النّظر الثّالث: النّظرُ إلى محلِّ الجناية ومصدرها، وهو النَّفسُ الأمَّارةُ
(1)
ش: "هواهم".
(2)
كذا قال! ونسي أنه ذكر من قبل (ص 320) أنَّ صاحب البصيرة إذا صدرت منه الخطيئة نظر إلى خمسة أمور، ثم ذكر ثلاثة منها.
بالسُّوء. ويفيده نظرُه إليها أمورًا:
منها: أنَّها جاهلةٌ ظالمةٌ، وأنَّ الجهلَ والظُّلمَ يصدر عنهما كلُّ قولٍ وعملٍ قبيحٍ، ومَن وصفُه
(1)
الجهلُ والظُّلمُ لا مطمعَ في استقامته واعتداله البتّة. فيوجب له ذلك بذلَ الجهد في العلم النّافع الذي يُخرِجُها به عن وصف الجهل، والعملِ الصَّالحِ الذي يُخرِجُها به عن وصف الظُّلم. ومع هذا فجهلُها أكثرُ من علمها، وظلمُها أعظمُ من عدلها. فحقيقٌ بمن هذا شأنه: أن يرغب إلى خالقها وفاطرها أن يقيَه شرَّها، وأن يؤتيها تقواها ويزكِّيها، فهو خيرُ من زكّاها، فإنّه وليُّها ومولاها، وأن لا يكِلَه إليها طرفةَ عينٍ. فإن وَكلَه إليها هلَكَ، فما هلَكَ مَن هلَك إلّا حيث وُكِلَ إلى نفسه.
وقال النّبيُّ صلى الله عليه وسلم لحُصَين بن المنذر
(2)
: "قل: اللهمَّ أَلْهِمْني رُشدي، وقِني شرَّ نفسي"
(3)
. وفي خطبة الحاجة
(4)
: "الحمد لله، نستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيِّئات
(5)
أعمالنا". وقال تعالى: {وَمَنْ يُوقَ
(1)
ل: "صفته".
(2)
كذا سمَّاه المؤلف هنا ومن قبل (ص 69) وهو حصين بن عبيد، كما تقدَّم.
(3)
تقدم تخريجه (ص 69).
(4)
أخرجه أحمد (3720، 4115) وأبو داود (2118) والترمذي (1105) والنسائي في "الكبرى"(1721، 5502، 5503، 10249 - 10251) وابن ماجه (1892) وغيرهم من طرق يعضد بعضها بعضًا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. والحديث حسَّنه الترمذي، وصححه أبو عوانة في "المستخرج"(4580 - ط. الجامعة الإسلامية) والحاكم (2/ 182) والألباني في "صحيح أبي داود - الأم"(6/ 345) وفي رسالته النافعة "خطبة الحاجة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعلِّمها أصحابه".
(5)
ع: "ومن سيئات".
شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]، وقال:{إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53].
فمن عرَفَ حقيقةَ نفسه وما طُبِعت عليه علِمَ أنّها منبعُ كلِّ شرٍّ ومأوى كلِّ سوءٍ، وأنَّ كلَّ خيرٍ فيها ففضلٌ
(1)
من الله منَّ به عليها، لم يكن منها، كما قال تعالى:{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [النور: 21]. وقال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات: 7]. فهذا الحبُّ وهذه الكراهةُ لم يكونا في النّفس ولا بها، ولكنَّ الله هو الذي منَّ بهما، فجعَلَ العبدَ بسببهما من الرّاشدين {فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات: 8]: عليمٌ بمن يصلُح لهذا الفضل ويزكو عليه ويثمر عنده، حكيمٌ فلا يضَعُه عند غير أهله، فيضيِّعه بوضعه في غير موضعه.
ومنها: ما ذكره صاحب "المنازل"، فقال
(2)
: (اللَّطيفة الثَّانية: أن يعلم أنَّ نظرَ البصير الصَّادق في سيِّئته لم يُبْقِ له حسنةً بحالٍ، لأنّه يسير بين مشاهدة المنّة، وتطلُّبِ عيبِ النَّفس والعمل).
يريد: أنَّ من له بصيرةٌ بنفسه، وبصيرةٌ بحقوق الله تعالى، وهو صادقٌ في طلبه، لم يُبقِ له نظرُه في سيِّئاته حسنةً البتّة، فلا يلقى الله إلَّا بالإفلاس المحض والفقر الصِّرف. لأنّه إذا فتَّشَ عن عيوب نفسه وعيوب عمله علِمَ
(1)
ج: "فضلٌ".
(2)
"منازل السائرين"(ص 11).
أنّها لا تصلُح لله، وأنَّ تلك البضاعةَ لا يُشترى بها النَّجاةُ من عذابه
(1)
، فضلًا عن الفوز بعظيم ثوابه. فإن خلَص له عملٌ وحالٌ مع الله، وصفا له معه وقتٌ، شاهَدَ منّةَ الله عليه به ومجرَّدَ فضله، وأنّه ليس من نفسه، ولا هي أهلٌ لذلك. فهو دائمًا
(2)
مشاهدٌ لمنّة الله عليه ولعيوب نفسه وعمله، لأنّه متى تطلَّبها رآها. وهذا من أجلِّ أنواع المعارف وأنفعها للعبد.
ولذلك كان سيِّد الاستغفار: "اللهمَّ أنت ربِّي لا إله إلّا أنتَ، خلقتَني، وأنا عبدُك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعتُ، أعوذ بك من شرِّ ما صنعتُ، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، إنّه لا يغفر الذُّنوب إلّا أنت"
(3)
.
فتضمَّن هذا الاستغفارُ الاعترافَ
(4)
من العبد بربوبيَّته وإلهيَّته وتوحيده، والاعترافَ بأنّه خالقه العالمُ به، إذ أنشأه نشأةً تستلزم عجزَه عن أداء حقِّه وتقصيرَه فيه، والاعترافَ بأنّه عبدُه الذي ناصيته بيده وفي قبضته، لا مهربَ له منه، ولا وليَّ له سواه. ثمّ التزامَ الدُّخول تحت عهده ــ وهو أمره ونهيه ــ الذي عهِدَه إليه على لسان رسله
(5)
. وأنَّ ذلك بحسب استطاعتي، لا بحسب أداء حقِّك فإنّه غيرُ مقدورٍ للبشر، وإنّما هو جهدُ المقلِّ وقدرُ الطّاقة؛ ومع ذلك فأنا مصدِّقٌ بوعدك الذي وعدتَه لأهل طاعتك بالثّواب ولأهل معصيتك
(1)
ع: "عذاب الله"، وكذا "ثواب الله" فيما يأتي.
(2)
ما عدا ع: "دائم".
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
ع: "والاعتراف" وهو خطأ.
(5)
ع: "رسوله".
بالعقاب، فأنا مقيمٌ على عهدك، مصدِّقٌ بوعدك. ثمّ الاستعاذة والاعتصام بك
(1)
من شرِّ ما فرّطتُ فيه من أمرك ونهيك، فإنّك إن لم تُعِذْني من شرِّه، وإلّا
(2)
أحاطت بي الهلكة، فإنَّ إضاعةَ حقِّك سببُ الهلاك. وأنا أُقِرُّ لك وألتزمُ بنعمتك عليَّ، وأُقِرُّ وألتزمُ وأبخَعُ بذنبي، فمنك النِّعمةُ والإحسانُ والفضلُ، ومنِّي الذَّنبُ والإساءةُ. فأسألك أن تغفر لي بمحو ذنبي، وأن تَقِيَني من شرِّه، إنّه لا يغفر الذُّنوب إلّا أنت. فلهذا كان هذا الدُّعاء سيِّد الاستغفار، إذ هو
(3)
متضمِّنٌ لمحض العبوديّة
(4)
.
فأيُّ حسنةٍ تبقى للبصير الصّادق، مع مشاهدته عيوبَ نفسه وعمله، ومنّةَ الله عليه؟ فهذا الذي يعطيه نظرُه إلى نفسه ونقصه.
فصل
النّظر الرّابع: نظرُه إلى الآمرِ له بالمعصية، المزيِّنِ له فعلَها، الحاضِّ
(5)
له عليها، وهو شيطانُه الموكَّلُ به.
فيفيده النّظرُ إليه وملاحظتُه اتِّخاذَه عدوًّا، وكمالَ الاحتراز منه والتّحفُّظ واليقظة والانتباهَ لما يريده منه عدوُّه وهو لا يشعر، فإنّه يريد أن يظفر به في
(1)
ج، م، ش:"به"، وكذا كان في ق، ل ثم أصلح.
(2)
وقعت "وإلا" هنا في غير موقعها ولا يستقيم المعنى إلا بحذفها، وقد تكرر مثل هذا التركيب في كتب المؤلف وشيخه وغيرهما في ذلك العهد. انظر ما علَّقت في "طريق الهجرتين"(1/ 44)، و"الداء والدواء"(ص 209).
(3)
ع: "وهو".
(4)
وانظر في شرح سيد الاستغفار: "طريق الهجرتين"(1/ 357 - 359).
(5)
رسمه في ق، ج، م، ع بالظاء!
عقَبةٍ من سبع عقَباتٍ، بعضُها أصعب من بعضٍ، لا ينزل منه من العقبة الشَّاقَّة إلى ما دونها
(1)
إلّا إذا عجَز عن الظّفر به فيها.
العقبة الأولى: عقبةُ الكفر بالله وبدينه ولقائه وصفات كماله وما أخبرت به رسلُه عنه، فإنّه إن ظفِر به في هذه العقَبة بردت نارُ عداوته واستراح معه. فإن اقتحَمَ هذه العقَبةَ، ونجا منها ببصيرة الهداية، وسلِم معه نورُ الإيمان= طلَبه على:
العقبة الثّانية: وهي عقبة البدعة، إمَّا باعتقاد خلافِ الحقِّ الذي أرسل الله به رسولَه وأنزل به كتابَه، وإمّا بالتّعبدِ بما لم يأذن به
(2)
من الأوضاع والرُّسوم المحدثة في الدِّين التي لا يقبل الله منها شيئًا. والبدعتان في الغالب متلازمتان، قلَّ أن تنفكَّ إحداهما عن الأخرى، كما قال بعضهم: تزوّجت بدعةُ الأقوال ببدعة الأعمال، فاشتغل الزَّوجان بالعُرس، فلم يفجَأهم إلّا أولادُ الزِّنا يعيثون في بلاد الإسلام، تضجُّ منهم العباد والبلاد إلى الله تعالى
(3)
.
وقال شيخنا رحمه الله: تزوّجت الحقيقةُ الكافرةُ بالبدعة الفاجرة، فوُلد
(4)
بينهما خسرانُ الدُّنيا والآخرة.
فإن قطع العبدُ
(5)
هذه العقَبةَ، وخلَص منها بنور السُّنَّة، واعتصَم منها
(1)
ما عدا ع: "دون ما دونها".
(2)
ما عدا ق، ل:"به الله".
(3)
لم أقف عليه.
(4)
ع: "فتولَّد".
(5)
لم ترد كلمة "العبد" في ع.
بحقيقة المتابعة وما مضى عليه السّلفُ الأخيارُ من الصّحابة والتّابعين لهم بإحسانٍ، وهيهات أن تسمح الأعصارُ المتأخِّرةُ بواحدٍ من هذا الضّرب! فإن سمحَتْ به نصَب له أهلُ البدع الحبائلَ، وبغَوه الغوائلَ، وقالوا: مبتدعٌ مُحْدِثٌ= فإذا وفَّقه الله لقطع هذه العقبة طلبَه على:
العقبة الثَّالثة: وهي عقبةُ الكبائر. فإن ظفِر به فيها زيَّنها له، وحسَّنها في عينه، وسوَّفَ به وفتَح له بابَ الإرجاء وأنَّ الإيمانَ هو نفسُ التّصديق فلا تقدَح فيه الأعمالُ. وربَّما أجرى على لسانه وأذنه كلمةً طالما أهلَكَ
(1)
بها الخلقَ: لا يضرُّ مع التّوحيد ذنبٌ، كما لا ينفع مع الشِّرك حسنةٌ!
(2)
.
والظفرُ به في عقَبة البدعة أحبُّ إليه لمناقضِتها الدِّين ودفعِها لما بعث الله به رسولَه، وصاحبُها لا يتوب منها
(3)
، ويدعو الخلقَ إليها؛ ولتضمُّنها القولَ على الله بلا علمٍ، ومعاداةَ صريح السُّنّة، ومعاداةَ أهلها، والاجتهادَ على إطفاء نور السُّنّة، وتوليةَ مَن عزَلَه الله ورسوله وعَزْلَ من ولّاه، واعتبارَ ما ردَّه الله ورسوله وردَّ ما اعتبره، وموالاةَ من عاداه ومعاداةَ من والاه
(4)
، وإثباتَ ما نفاه ونفيَ ما أثبته، وتكذيبَ الصّادق وتصديقَ الكاذب، ومعارضةَ الحقِّ بالباطل، وقلبَ الحقائق بجعل الحقِّ باطلًا، والباطلِ حقًّا، والإلحادَ في دين الله، وتعميةَ الحقِّ على القلوب، وطلبَ العوج لصراط الله المستقيم، وفتحَ
(1)
ج: "أضلَّ".
(2)
نسبه ابن حزم في "الفصل"(5/ 74) إلى مقاتل بن سليمان. وانظر: "كتاب الإيمان" لابن تيمية (ص 145).
(3)
في ع بعده زيادة: "ولا يرجع عنها".
(4)
ع: "والاه الله".
باب تبديل الدِّين جملةً؛ فإنَّ البدعَ تَسْتدرجُ بصغيرها إلى كبيرها، حتّى ينسلخَ صاحبُها من الدِّين، كما تنسَلُّ الشَّعرةُ من العجين، فمفاسدُ البدع لا يقف عليها إلّا أربابُ البصائر، والعميانُ في ظلمة العَمى {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ} [النور: 40].
فإن قطَع هذه العقَبةَ بعصمةٍ من الله، أو بتوبةٍ نصوحٍ تُنجيه، طَلَبه على:
العقبة الرَّابعة: وهي عقبة الصّغائر. فكال له منها بالقُفْزان، وقال: ما عليك إذا اجتنبتَ الكبائرَ ما غشِيتَ من اللَّمَم. أَوَما علمتَ بأنَّها تُكفَّر باجتناب الكبائر وبالحسنات؟ ولا يزال يهوِّن عليه أمرَها حتّى يُصِرَّ عليها، فيكون مرتكبُ الكبيرة الخائفُ الوَجِلُ النَّادمُ أحسنَ حالًا منه؛ فإنَّ الإصرارَ على الذّنب أقبَحُ منه، ولا كبيرةَ مع التَّوبة والاستغفار، ولا صغيرةَ مع الإصرار. وقد قال صلى الله عليه وسلم:"إيَّاكم ومحقَّراتِ الذُّنوب"، ثمَّ ضرَب لذلك مثلًا بقومٍ نزلوا بفَلاةٍ من الأرض، فأعوَزَهم الحطبُ، فجعل يجيء هذا بعُودٍ، وهذا بعُودٍ، حتّى جمعوا حطبًا كثيرًا، فأوقدوه نارًا
(1)
. فكذلك شأنُ محقَّراتِ الذُّنوب تجتمع على العبد، ويستهين بشأنها حتَّى تُهلِكه
(2)
.
(1)
ع: "فأوقدوا نارًا وأنضجوا خبزتهم".
(2)
أخرجه أحمد (22808) والطبراني في "الكبير"(6/ 165) وفي "الأوسط"(7319) والبيهقي في "شعب الإيمان"(7267) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه، وإسناده صحيح. وقد روي من حديث ابن مسعود رضي الله عنه بنحوه، أخرجه أحمد (3818) والطبراني في "الكبير"(10/ 212) وفي "الأوسط"(2550) والبيهقي في "الشعب"(285)، وفي إسناده عبد ربه بن أبي يزيد وهو مجهول. وانظر:"الصحيحة"(389، 3102).
فإن نجا من هذه العَقبة بالتحرُّز والتحفُّظ، ودوام التَّوبة والاستغفار، وإتباعِ السَّيئةِ الحسنةَ= طلَبَه على:
العقبة الخامسة: وهي عقَبةُ المباحات التي لا حرج على فاعلها. فشغَلَه
(1)
بها عن الاستكثار من الطّاعات، وعن الاجتهاد في التّزوُّد لمعاده، ثمَّ طمِع فيه أن يستدرجه منها إلى تركِ السُّنن، ثمّ من تركِ السُّنن إلى ترك الواجبات. وأقلُّ ما ينال منه تفويتُه الأرباحَ
(2)
العظيمةَ والمنازلَ العاليةَ، ولو عرَفَ السِّعَر لما فوَّت على نفسه شيئًا من القربات، ولكنّه جاهلٌ بالسِّعر.
فإن نجا من هذه العقبة ببصيرةٍ تامّةٍ ونورٍ هادٍ، ومعرفةٍ بقدر الطَّاعات والاستكثار منها، وقلَّةِ المقام على الميناء، وخطَرِ التِّجارة، وكرمِ المشتري، وقدرِ ما يعوِّض به التُّجّارَ، فبخِلَ بأوقاته وضنَّ بأنفاسه أن تذهب في غير ربحٍ= طلَبه العدوُّ على:
العقبة السّادسة: وهي عقبة الأعمال المرجوحة المفضولة من الطّاعات. فأمرَه بها، وحسَّنها في عينه، وزيَّنها له، وأراه ما فيها من الفضل والرِّبح ليشغله
(3)
بها عمّا هو أفضل منها وأعظم ربحًا، لأنّه لمّا عجَز عن تخسيره أصلَ الثّواب طمِعَ في تخسيره كمالَه وفضلَه ودرجاتِه العاليةَ، فشغَلَه
(4)
(1)
ج، ش:"فيشغله"، ورسم الكلمة في ق، ل يؤيد هذه القراءة. وما أثبت من م أنسب للسياق.
(2)
ع: "الأرباح والمكاسب".
(3)
ما عدا ع: "أشغله". كتب ناسخ ج أولًا: "ليشغله"(كما في المطبوع) ثم عدَّله كما في النسخ الأخرى.
(4)
ل، ش:"فيشغله".
بالمفضول عن الفاضل، وبالمرجوح عن الرَّاجح، وبالمحبوب لله عن الأحبِّ إليه، وبالمرضيِّ عن الأرضى له.
ولكن أين أصحاب هذه العَقَبة! فهم الأفراد في العالم، والأكثرون قد ظفر بهم في العقَبات الأُوَل.
فإن نجا منها بفقهٍ في الأعمال ومراتبها عند الله تعالى، ومنازلِها في الفضل، ومعرفةِ مقاديرها، والتَّمييزِ بين عاليها وسافلِها، ومفضولِها وفاضلِها، ورئيسِها ومرؤوسها، وسيِّدِها ومسودها؛ فإنَّ في الأعمال والأقوال سيِّدًا ومسودًا، ورئيسًا ومرؤوسًا، وذروةً وما دونها، كما في الحديث الصّحيح: "سيِّد الاستغفار أن يقول العبد
(1)
: اللهمَّ أنتَ ربِّي" الحديث
(2)
، وفي الحديث الآخر:"الجهادُ ذِروةُ سَنامِ الأمر"
(3)
، وفي أثرٍ آخر
(4)
: أنّ الأعمال تفاخرت، فذكر كلُّ عملٍ منها مرتبته وفضله، وكان للصَّدَقة مزيّةٌ في الفخر عليهنّ
(5)
.
(1)
"العبد" ساقط من ش، وفيها:"أن تقول".
(2)
تقدَّم تخريجه.
(3)
جزء من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه المشهور "أخبرني بعمل يدخلني الجنة
…
"، أخرجه أحمد (22016، 22068) والترمذي (2616) والنسائي في "الكبرى" (11330) وابن ماجه (3973) وغيرهم بأسانيد فيها انقطاع بين معاذ بن جبل والرواة عنه. والحديث صححه الترمذي والحاكم (2/ 76، 413)، وكذلك الألباني بمجموع طرقه وشواهده في "إرواء الغليل" (413).
(4)
ع: "الأثر الآخر".
(5)
يشير إلى ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "ذُكر أنَّ الأعمال الصالحة تتباهى، فتقول الصدقة: أنا أفضلكم". نقله المؤلف في "عدة الصابرين"(ص 486). والأثر أخرجه إسحاق (952 - المطالب العالية) وابن خزيمة (2433) والحاكم (1/ 416) والبيهقي في "شعب الإيمان"(3058)، وفي إسناده أبو قرة الأسدي وهو مجهول.
ولا يقطع هذه العقبةَ إلّا أهلُ البصائر والصِّدق من أولي العلم
(1)
.
= فإذا نجا منها لم يبق هناك عقَبةٌ يطلبه العدوُّ عليها سوى واحدةٍ لا بدَّ له منها، ولو نجا منها أحدٌ لنجا منها رسلُ الله وأنبياؤه وأكرمُ الخلق عليه. وهي عقَبةُ تسليطِ جندِه عليه بأنواع الأذى باليد واللِّسان والقلب، على حسب مرتبته في الخير. فكلَّما علَتْ مرتبتُه أجلَبَ عليه بخيله ورَجْله، وظاهَرَ عليه بجنده، وسلَّطَ عليه حزبَه وأهلَه بأنواع التَّسليط. وهذه العقَبةُ لا حيلة له في التّخلُّص منها، فإنّه كلَّما جدَّ في الاستقامة والدَّعوة إلى الله تعالى والقيام بأمره، جدَّ العدوُّ في إغراء السُّفهاء به، فهو في هذه العقبة قد لبِس لَأْمةَ الحرب، وأخذ في محاربة العدوِّ لله وبالله. فعبوديّتُه فيها عبوديّةُ خواصِّ العارفين، وهي تسمّى "عبوديّة المراغمة"، ولا ينتبه لها إلّا أولو البصائر التّامَّة. ولا شيءَ أحبُّ إلى الله من مراغمةِ وليِّه لعدوِّه وإغاظتِه له.
وقد أشار سبحانه وتعالى إلى هذه العبوديّة في مواضع من كتابه. أحدها: قوله: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء: 100]. سمَّى المهاجَرَ الذي يهاجَر فيه إلى عبادة الله
(2)
"مراغَمًا" لأنه يُراغَم به عدوُّ الله وعدوُّه، واللهُ يحبُّ من وليِّه مراغمةَ عدوِّه وإغاظته، كما قال تعالى:
(1)
بعده في ع زيادة: "السّائرين على جادَّة التّوفيق، قد أنزلوا الأعمالَ منازلها، وأعطَوا كلَّ ذي حقٍّ حقَّه". وقد أشير في بدايتها ونهايتها إلى أنها لم ترد في الأصل.
(2)
ما عدا ع: "عبادة"، فلم يرد لفظ الجلالة في سائر النسخ.
وقال تعالى في مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه: {وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29]. فمغايظةُ الكفّار غايةٌ محبوبةٌ للرّبِّ مطلوبةٌ له، فموافقته فيها من كمال العبوديّة
(1)
.
وشرع النبيُّ صلى الله عليه وسلم للمصلِّي إذا سها في صلاته
(2)
سجدتين، وقال: "إن كانت صلاتُه تامّةً كانتا
(3)
ترغيمًا للشّيطان"
(4)
. وسمَّاهما "المُرْغِمَتين"
(5)
.
فمن تعبَّد لله بمراغمة عدوِّه، فقد أخذ من الصِّدِّيقيّة بسهمٍ وافرٍ. وعلى قدر محبّة العبد لربِّه وموالاته ومعاداةِ عدوِّه
(6)
يكون نصيبُه من هذه
(1)
وانظر: "روضة المحبين"(ص 632).
(2)
ش: "الصلاة".
(3)
في ع بعده زيادة: "تُرغمان أنفَ الشيطان. وفي رواية".
(4)
أخرجه مسلم (571) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(5)
في حديث أبي داود (1025) وابن خزيمة (1063) وابن حبان (2655، 2689) وابن عدي في "الكامل"(7/ 31 - نشرة السرساوي) والحاكم (1/ 261، 324) والضياء (12/ 120) عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وفيه عبد الله بن كيسان، وهو أبو مجاهد المروزي، فيه لين. انظر:"الكامل" و"الميزان"(2/ 475) و"تهذيب الكمال"(15/ 480 - 481). ويشهد له الحديث السابق.
(6)
ع: "ومعاداته لعدمه".
المراغمة. ولأجل هذه المراغمة حُمِد التَّبختُرُ بين الصَّفَّين، والخيلاءُ والتَّبخترُ عند صدقة السِّرِّ حيث لا يراه إلّا الله تعالى
(1)
؛ لما في ذلك من إرغام العدوِّ ببذل محبوبه من نفسه وماله لله. وهذا بابٌ من العبوديّة، ولا يعرفُه ويسلكُه
(2)
إلّا القليلُ من النّاس. ومن ذاق لذَّتَه وطعمَه
(3)
بكى على أيّامه الأُوَل. وبالله المستعان، وعليه التُّكلان، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله.
وصاحبُ هذا المقام إذا نظر إلى الشَّيطان، ولاحظَه في الذَّنب، راغَمَه بالتَّوبة النَّصوح، فأحدثت له هذه المراغمةُ عبوديّةً أخرى.
فهذه نبذةٌ من بعض لطائف أسرار التّوبة، لا تَسْتَهِنْ بها، فلعلّك لا تظفر بها في مصنّفٍ البتّة. ولله الحمد والمنَّة، وبه التَّوفيق.
فصل
قال صاحب "المنازل"
(4)
: (اللّطيفة الثّالثة: أنَّ مشاهدةَ العبدِ الحكمَ لم تدَعْ له استحسانَ حسنةٍ ولا استقباحَ سيِّئةٍ، لصعوده من جميع المعاني إلى معنى الحكم).
(1)
يشير إلى حديث جابر بن عتيك رضي الله عنه. أخرجه أحمد (23747، 23748، 23750، 23752) وأبو داود (2659) والنسائي في "الكبرى"(2350) وفي "المجتبى"(2558) وابن حبان (295، 4762) والبيهقي (7/ 308) وغيرهم من طرق يعضد بعضها بعضًا، والحديث حسَّنه الألباني في "إرواء الغليل"(1999) و"صحيح أبي داود- الأم"(7/ 411).
(2)
معطوف على "يعرفه"، يعني: ولا يسلكه.
(3)
ع: "طعمه ولذته".
(4)
"منازل السائرين"(ص 11).
هذا الكلام إن أُخِذَ على ظاهره فهو من أبطل الباطل، الذي لولا إحسانُ الظّنِّ بقائله
(1)
ومعرفةُ قدره من الإمامة والعلم والدِّين لَنُسِبَ إلى لازم هذا الكلام. ولكن مَن عدا المعصوم فمأخوذٌ من قوله
(2)
ومتروكٌ. ومن ذا الذي لم تزِلَّ به القدمُ ولم يَكْبُ به الجوادُ!
ومعنى هذا أنَّ العبدَ ما دام في مقام التَّفرقة، فإنّه يَستحسِنُ بعض الأفعال ويَستقبِح بعضَها نظرًا إلى ذواتها
(3)
وما افترقت فيه، فإذا تجاوزها نظرُه إلى مصدرها الأوّل، وصدورها عن عَينِ الحكم، واجتماعها كلِّها في تلك العين، وانسحابِ ذيل المشيئة عليها، ووحدةِ المصدر ــ وهو المشيئة الشَّاملة العامَّة الموجِبة ــ فهي بالنِّسبة إلى مصدرِ الحكم وعينِ المشيئة لا توصف بحسنٍ ولا قبحٍ، إذ الحسنُ والقبحُ إنّما عرَضَا لها عند قيامها بالكون وجرَيانها عليه. فهي بمنزلة نور الشّمس: واحدٌ في نفسه، غيرُ متلوِّنٍ ولا موصوفٍ بحمرةٍ ولا صفرةٍ ولا خضرةٍ، فإذا اتّصلَ بالمحالِّ المتلوِّنة وُصِفَ حينئذٍ بحسب تلك المحالِّ، لإضافته إليها واتِّصاله بها، فيُرى أحمر وأصفر وأخضر. وهو بريءٌ من ذلك كلِّه إذا صَعِد من تلك المحالِّ إلى مصدره الأوّل المجرَّد عن القوابل. فهذا أحسَنُ ما يُحمَل عليه كلامُه.
على أنّ له محملًا آخر مبني
(4)
على أصولٍ فاسدةٍ، وهي أنَّ إرادةَ الرَّبِّ تعالى هي عينُ محبّته ورضاه، فكلُّ ما شاءه فقد أحبَّه ورَضِيَه، وكلُّ ما لم
(1)
ع: "بصاحبه وقائله".
(2)
ج: "كلامه".
(3)
ش: "ذاتها".
(4)
كذا في جميع النسخ: "مبني" بالرفع.
يشأه فهو مسخوطٌ له مبغوضٌ. فالمبغوضُ المسخوطُ هو ما لم يشأه، والمحبوبُ المرضيُّ هو ما شاءه.
هذا أصلُ القدريَّةِ الجبريَّةِ المنكرين للحِكَم والتَّعليلِ والأسبابِ وتحسينِ العقل وتقبيحِه، وأنّ الأفعالَ كلَّها سواءٌ، لا يختصُّ بعضها بما صار حسنًا لأجله، وبعضها بما صار قبيحًا لأجله. وما ثَمَّ إلا محضُ الأمر والنهي، الذي حسُنَ البعضُ منها لأجله
(1)
، وقبُحَ البعضُ لأجله. ويجوز في العقل أن يأمرَ
(2)
بما نَهى عنه، وينهى عمّا أمَر به، ولا يكون ذلك مناقضًا للحكمة؛ إذ الحكمةُ ترجع عندهم إلى مطابقة العلمِ الأزليِّ لمعلومه، والإرادةِ الأزليَّة لِمرادها، والقدرةِ لمقدورها. فإذن الأفعالُ بالنِّسبة إلى المشيئة والإرادة مستويةٌ لا تُوصَف بحسنٍ ولا قبحٍ، فإذا تعلَّق بها الأمرُ والنَّهيُ صارت حينئذٍ حسنةً وقبيحةً، وليس حسنُها وقبحُها زائدًا على كونها مأمورًا بها ومنهيًّا عنها. فعلى هذا إذا صعِد العبدُ من تفرقة الأمر والنَّهي إلى جَمْعِ المشيئة والحُكم لم يستحسن حسنةً ولم يستقبح قبيحةً. فإذا نزل إلى
(3)
فَرْقِ الأمر صحَّ له الاستحسانُ والاستقباحُ.
فهذا
(4)
محملٌ ثانٍ لكلامه.
وله محملٌ ثالثٌ ــ وهو أبعدُ النّاس منه ولكن قد حُمِل عليه ــ وهو أنَّ السّالكَ ما دام محجوبًا عن شهود الحقيقة بشهود الطّاعة والمعصية، رأى
(1)
"وما ثَمَّ
…
لأجله" ساقط من ع.
(2)
يعني: الله سبحانه.
(3)
"إلى" من ل، ج.
(4)
ج: "وهذا".
الأفعالَ بعين الحسن والقبح، فرأى منها الطَّاعةَ والمعصيةَ، فإذا ترقَّى إلى شهود الحقيقة الأولى ــ وهي الحقيقة الكونيَّة ــ ورأى شمولَ الحُكمِ الكونيِّ للكائنات وإحاطتَه بها، وعدمَ خروج ذرّةٍ منه
(1)
عنه= زال عنه استقباحُ شيءٍ من الأفعال، وشهدها كلَّها طاعاتٍ للأقدار والمشيئة. وفي مثل هذا الحال يقول: إن كنت عصيتُ الأمرَ، فقد أطعتُ الإرادةَ
(2)
، ويقول:
أصبحتُ منفعلًا لما تختاره
…
منِّي ففعلي كلُّه طاعاتُ
(3)
فإذا ترقّى مرتبةً أخرى، وزال عنه الفرقُ بين الرَّبِّ والعبدِ ــ كما زال عنه في المرتبة الثّانية الفرقُ بين المحبوب والمسخوط، والمأمور والمحظور ــ قال: ما ثَمَّ طاعةٌ ولا معصيةٌ، إذ الطّاعةُ والمعصيةُ إنَّما يكونان بين اثنين ضرورةً؛ والمطيعُ عينُ المطاع
(4)
، فما هاهنا غيرٌ! فالوحدةُ المطلقةُ تنفي الطَّاعةَ والمعصيةَ. فالصُّعودُ من وحدة الفعل إلى وحدة الوجود يزيل
(5)
عنه ــ بزعمه ــ توهُّمَ الانقسام إلى طاعةٍ ومعصيةٍ، كما كان الصُّعودُ من تفرقة
(1)
كذا في الأصل وغيره ما عدا ج التي لم ترد فيه. والظاهر أن الصواب: "منها"، يعني من الكائنات.
(2)
نسبه شيخ الإسلام إلى بعض أصحاب علي بن حسين الحريري (ت 645). انظر: "مجموع الفتاوى"(8/ 257). وقد ذكره المصنف في عدة مواضع من كتابه "طريق الهجرتين"(ص 55، 183، 351، 658) وغيره.
(3)
ج، ش:"يختاره"، والمثبت من ل، م. والبيت لابن إسرائيل الدمشقي (ت 677 هـ) كما تقدم في تخريجه (ص 254).
(4)
ش: "غير المطاع"، تصحيف.
(5)
أهمل حرف المضارع في م. وفي غيرها ما عدا ع: "تزيل" هنا وفيما يأتي نظرًا إلى "وحدة الوجود" و"وحدة الحكم" فيما يبدو.
الأمر إلى وحدة الحُكم يزيل عنه ثبوتَ المعصية.
وهذا عند القوم من الأسرار التي لا يستجيزون كشفَها إلّا لخواصِّهم، وأهلِ الوصول منهم. لكنّ صاحب "المنازل" بريءٌ من هؤلاء وطريقتهم، وهو مكفِّرٌ لهم، بل مخرجٌ لهم عن جملة الأديان. ولكن ذكرنا ذلك لأنّهم يحملون كلامَه عليه، ويظنُّونه منهم.
فاعلم أنَّ هذا مقامٌ عظيمٌ زلَّت فيه أقدامُ طائفتين من النّاس: طائفةٍ من أهل الكلام والنَّظر، وطائفةٍ من أهل السُّلوك والإرادة. فنفى لأجله كثيرٌ من النُّظَّار التَّحسينَ والتَّقبيحَ العقليَّين، وجعلوا الأفعالَ كلَّها سواءً في نفس الأمر، وأنّها غيرُ منقسمةٍ في ذواتها إلى حسَنٍ وقبيحٍ، ولا يميَّز القبيحُ بصفةٍ اقتضت قبحَه بحيث يكون هو منشأ
(1)
القبح، وكذلك الحسَن. فليس الفعلُ عندهم منشأَ حسنٍ ولا قبحٍ، ولا مصلحةٍ ولا مفسدةٍ. ولا فرقَ بين السُّجود للشّيطان والسُّجود للرَّحمن في نفس الأمر، ولا بين الصِّدق والكذب، ولا بين السِّفاح والنِّكاح، إلّا أنَّ الشَّارعَ حرَّم هذا وأوجب هذا. فمعنى حسنه كونُه مأمورًا به، لا أنّه منشأ مصلحةٍ. ومعنى قبحه كونُه منهيًّا عنه، لا أنّه منشأ مفسدةٍ، ولا فيه صفةٌ اقتضت قبحَه
(2)
.
(1)
ج: "بها". وفي ق، ل، م:"هنا"، والصواب ما أثبت من ش، ع، وكذا في هامش م بعلامة صح. وفي هامش ل:"لعله منشأ".
(2)
بعده في الأصل: "ومعنى حسنه" كذا! فكتبت تكملته في هامشه على غرار العبارة السابقة: "أن الشارع أمر به لا أنه منشأ مصلحة ولا فيه صفة اقتضت حسنه". وكان في ل: "فمعنى حسنه كونه مأمورًا به لا أنه منشأ مصلحة وكونه منهيًّا عنه"، فضرب عليها من "حسنه" إلى "مصلحة و"، وكتب في الهامش:"قبحه صح" ليكون السياق: فمعنى قبحه كونه منهيًّا إلخ مع التكملة المذكورة في هامش الأصل وهي واردة في متن ل، ع. وما أثبت موافق لسياق ج، ومن الغريب أنَّ النص لم يحرَّر عند القراءة على المصنِّف.
وقد بيّنّا بطلانَ هذا المذهب من ستِّين وجهًا في كتابنا المسمّى بـ"تحفة النّازلين بجوار ربِّ العالمين"
(1)
، وأشبعنا الكلام في هذه المسألة هناك، وذكرنا جميعَ ما احتجَّ به أربابُ هذا المذهب
(2)
، وبيَّنَّا بطلانه.
فإنَّ هذا المذهب ــ بعد تصوُّره وتصوُّر لوازمه ــ يجزم العقلُ ببطلانه، وقد دلَّ القرآن على فساده في غير موضعٍ، والفطرةُ أيضًا وصريحُ العقل. فإنَّ الله فطَر عباده على استحسانِ الصِّدق والعدل والعفّة والإحسان، ومقابلةِ النِّعم بالشُّكر، وفطَرهم على استقباح أضدادها. ونسبةُ هذا إلى فِطَرهم كنسبة الحلو والحامض إلى أذواقهم، وكنسبة رائحةِ المسك ورائحةِ النَّتْن إلى مَشامِّهم، وكنسبة الصَّوت اللّذيذ وضدِّه إلى أسماعهم. وكذلك كلُّ ما يدركونه بمشاعرهم الظّاهرة والباطنة، فيفرِّقون بين طيِّبه وخبيثه، ونافعه وضارِّه.
وقد زعم بعضُ نفاة التَّحسين والتَّقبيح أنَّ هذا متَّفَقٌ عليه، وهو راجعٌ إلى الملاءمة والمنافرة بحسب اقتضاء الطِّباع وقبولها للشّيء، وانتفاعها به،
(1)
قد أحال المصنف من قبل (ص 140) لإبطال هذا المذهب من ستين وجهًا على "مفتاح دار السعادة" وسيحيل عليه مرة أخرى في منزلة التوحيد (4/ 510)، وأحال عليه كذلك في "إغاثة اللهفان"(2/ 861)، و"الصواعق"(3/ 1450)، و"شفاء العليل"(ص 128). ولكن هنا أحال على "تحفة النازلين" فلا أدري أنسي أم تكلَّم على المسألة في الكتاب المذكور أيضًا.
(2)
ما عدا ع: "هذه المذاهب".
ونفرتها من ضدِّه. قالوا: وهذا ليس الكلامُ فيه، إنَّما الكلامُ في كونِ الفعل متعلِّقًا للمدح والذّمِّ عاجلًا، والثّوابِ والعقابِ آجلًا؛ فهذا الذي نفيناه، وقلنا: إنّه لا يُعلَم إلّا بالشّرع. وقال خصومنا: إنّه معلومٌ بالعقل، والعقلُ مقتضٍ له
(1)
.
فيقال: هذا فرارٌ من الزَّحف، إذ هاهنا أمران متغايران لا تلازم بينهما.
أحدهما: هل الفعلُ نفسُه مشتملٌ على صفةٍ اقتضت حسنه وقبحه، بحيث ينشأ الحسن والقبح منه، فيكون منشأً لهما أم لا؟
والثّاني: أنَّ الثَّوابَ المترتِّبَ
(2)
على حسن الفعل والعقابَ المترتِّبَ على قبحه ثابتٌ، بل واقعٌ بالعقل
(3)
، أم لا يقع إلّا بالشَّرع؟
ولمّا
(4)
ذهبت المعتزلة ومن وافقهم إلى تلازم الأصلين استطلتم عليهم وتمكَّنتم من إبداء تناقضهم وفضائحهم، ولمَّا نفيتم أنتم الأصلَين جميعًا استطالوا عليكم وأبدَوا من فضائحكم وخلافكم لصريح العقل والفطرة ما أبدَوه. وهم غلطوا في تلازم الأصلين، وأنتم غلطتم في نفي الأصلين.
والحقُّ الذي لا يجد التَّناقضُ إليه السَّبيلَ
(5)
أنّه لا تلازم بينهما، وأنَّ
(1)
انظر: "المحصول" للرازي (1/ 123)، و"المواقف" للإيجي مع شرح الشريف الجرجاني (3/ 262).
(2)
ج: "المرتب".
(3)
"والعقاب
…
بالعقل" ساقط من ج.
(4)
ج: "فلما".
(5)
ج: "سبيلًا".
الأفعالَ في نفسها حسنةٌ وقبيحةٌ، كما أنّها نافعةٌ وضارّةٌ، والفرقُ بينهما كالفرق بين المطعومات والمشمومات والمرئيّات، ولكن لا يُرتَّب
(1)
عليها ثوابٌ ولا عقابٌ إلّا في الأمر والنّهي. وقبل ورود الأمر والنّهي لا يكون قبيحُها مُوجِبًا للعقاب مع قبحه في نفسه بل هو في غاية القبح، واللهُ لا يعاقِب عليه إلّا بعد إرسال الرُّسل. فالسُّجودُ للأوثان والشَّيطان والكذبُ والزِّنى والظُّلمُ والفواحشُ كلُّها قبيحةٌ في ذاتها، والعقابُ عليها مشروطٌ بالشَّرع.
فالنُّفاة يقولون: ليست في ذاتها قبيحةً، وقبحُها والعقابُ عليها إنّما ينشأ بالشَّرع. والمعتزلةُ يقولون: قبحُها والعقابُ عليها ثابتان بالعقل. وكثيرٌ من الفقهاء من الطّوائف الأربعة يقولون: قبحُها ثابتٌ بالعقل، والعقابُ متوقِّفٌ على ورود الشَّرع. وهو الذي ذكره سعد بن عليٍّ الزَّنجانيُّ
(2)
من الشَّافعيّة، وأبو الخطَّاب
(3)
من الحنابلة. وذكره الحنفيَّةُ وحكوه عن أبي حنيفة نصًّا
(4)
،
(1)
ع، ج:"يترتب".
(2)
"الزنجاني" ساقط من ج. وفيها وفي ل: "سعيد"، تصحيف. وهو الحافظ العابد شيخ الحرم أبو القاسم سعد بن علي الزنجاني له قصيدة رائية مشهورة في قواعد أهل السنة. توفي سنة 471. انظر:"سير أعلام النبلاء"(18/ 385)، و"طبقات الشافعية" (4/ 383). والمسألة المذكورة في "شرحه لقصيدته". انظر:"منهاج السنة"(1/ 450).
(3)
الكَلْوَذاني. انظر كتابه "التمهيد"(4/ 287)، و"درء التعارض"(7/ 457)، و"منهاج السنة"(1/ 144).
(4)
انظر: "تخريج الفروع على الأصول" للزَّنجاني (ص 245) ، و"درء التعارض"(7/ 457. 9/ 49)، و"الرَّدّ على المنطقيين"(ص 420).
لكنَّ المعتزلة منهم يصرِّحون بأنّ العقاب ثابتٌ بالعقل
(1)
.
وقد دلَّ القرآنُ على أنّه لا تلازُمَ بين الأمرين، وأنّه لا يعاقِبُ إلّا بعد إرسال الرَّسول، وأنَّ الفعلَ
(2)
في نفسه حسنٌ وقبيحٌ. ونحن نبيِّن دلالته على الأمرين.
أمّا الأوّل: ففي قوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]. وفي قوله: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، وفي قوله:{كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الملك: 8 - 9]، فلم يسألوهم عن مخالفتهم للعقل بل للنُّذُر
(3)
، وبذلك دخلوا النّار.
وقال تعالى: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [الأنعام: 130]، ــ وفي الزمر:{أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [71]ــ ثمَّ قال في الأنعام بعدها: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا} [131]
(4)
.
(1)
وانظر: "مفتاح دار السعادة"(2/ 963، 1121 - 1122).
(2)
ع: "العقل" مع علامة إهمال العين تحتها، تصحيف.
(3)
ج، م:"للنذير".
(4)
هذا السياق للآيات من ع وقد أخَّر المؤلف آية الأنعام (131) للاستدلال به. ولم ترد آية الزمر في ج، ش. وفي غيرها آية الأنعام (130) ثم آية الزمر بعد قوله:"وفي الأنعام" ثم آية الأنعام (131) فاختَل السياق.
وعلى أحد القولين
(1)
ــ وهو أن يكون المعنى: لم يُهلِكهم بظلمهم قبل إرسال الرَّسول ــ فتكون الآية دالّةً على الأصلين: أنّ أفعالَهم وشركَهم ظلمٌ قبيحٌ قبل البعثة، وأنّه لا يُعاقبهم عليه إلّا بعد الإرسال.
وتكون هذه الآية في دلالتها على الأمرين نظيرَ الآية التي في القصص [47]: {وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} . فهذا يدلُّ على أنَّ ما قدَّمت أيديهم سببٌ لنزول المصيبة بهم، ولولا قبحُه لم يكن سببًا، لكن امتنع إصابةُ المصيبة لانتفاء شرطها، وهو عدمُ مجيء الرَّسول إليهم. فمذ جاء الرَّسولُ انعقد السَّببُ، ووُجِد الشَّرطُ، فأصابهم سيِّئاتُ ما عملوا، وعوقبوا بالأوّل والآخر.
فصل
(2)
وأمّا الأصل الثّاني، وهو دلالتُه على أنَّ الفعل في نفسه حسنٌ وقبيحٌ، فكثيرٌ جدًّا، كقوله تعالى:{وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} إلى قوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28 - 33]. فأخبر سبحانه أنَّ فعلَهم فاحشةٌ قبل نهيه عنه، وأمَره باجتنابه بأخذ
(1)
القول الثاني: ما كان ليهلكهم قبل التذكير بإرسال الرسول فيكون قد ظلمهم. وقد تقدم القولان في معنى الآية (ص 341).
(2)
بإزائه في هامش الأصل: "بلغ مقابلة وقراءة على مصنفه رضي الله عنه ".
الزِّينة. والفاحشةُ هاهنا طوافُهم بالبيت عُراةً - الرِّجال والنِّساء - غيرَ قريشٍ.
ثمّ قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} أي لا يأمر بما هو فاحشةٌ في العقل والفطرة
(1)
. ولو كان إنّما عُلِم كونُه فاحشةً بالنّهي، وأنّه لا معنى لكونه فاحشةً إلّا تعلُّقُ النَّهي به، لصار معنى الكلام أنَّ الله لا يأمر بما ينهى عنه. وهذا يُصان عن التَّكلُّم به آحادُ
(2)
العقلاء فضلًا عن كلام العزيز الحكيم. وأيُّ فائدةٍ في قوله: إنَّ الله لا يأمر بما ينهى عنه؟ فإنّه ليس معنى
(3)
كونه فاحشةً عندهم إلّا أنَّه منهيٌّ عنه، لا أنّ العقول تستفحشه.
ثمّ قال تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} . والقسطُ عندهم هو المأمور به، لا أنّه قِسطٌ في نفسه، فحقيقةُ الكلام: قُلْ أمَر ربِّي بما أمَر به!
ثمّ قال: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} دلَّ على أنّه طيِّبٌ قبل التَّحريم
(4)
، وأنَّ وصفَ الطِّيب فيه مانعٌ من تحريمه، فتحريمُه منافٍ للحكمة.
ثمّ قال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ} . ولو كان كونُها فواحشَ إنّما هو لتعلُّق التَّحريم بها، وليست فواحشَ قبل ذلك، لكان حاصلُ الكلام: قل إنّما حرَّم ربِّي ما حَرَّم! وكذلك تحريمُ الإثم والبغي، فكونُ
(5)
ذلك فاحشةً وإثمًا
(1)
ع: "العقول والفطر".
(2)
ع: "لآحاد".
(3)
ما عدا ش، ع:"لمعنى".
(4)
ضرب عليه بعضهم في ل، وكتب في الهامش مع علامة صح:"التحليل".
(5)
ما عدا الأصل، ع:"فيكون".
وبغيًا بمنزلة كونِ الشِّرك شركًا، فهو شركٌ في نفسه قبل النَّهي وبعدَه. فمن قال: إنّ الفاحشة والقبائح والآثام إنّما صارت كذلك بعد النّهي، فهو بمنزلة قائلٍ يقول: الشِّركُ إنّما صار شركًا بعد النَّهي، وليس شركًا قبل ذلك. ومعلومٌ أنّ هذا وهذا مكابرةٌ صريحةٌ للعقل والفطرة. فالظُّلم ظلمٌ في نفسه قبل النَّهي وبعده، والقبيحُ قبيحٌ في نفسه قبل النَّهي وبعده، والفاحشةُ كذلك، وكذلك الشِّرك، لا أنَّ هذه الحقائق صارت بالشَّرع كذلك.
نعم، الشّارعُ كساها بنهيه عنها قبحًا إلى قبحها. فكان قبحُها من ذاتها، وازدادت قبحًا عند العقل بنهي الرَّبِّ تعالى عنها، وذمِّه لها، وإخباره ببغضها وبغض فاعلها كما أنَّ العدلَ والصِّدقَ والتّوحيدَ ومقابلةَ نِعَمِ المُنعِم بالثّناء والشُّكرِ حسنٌ في نفسه، وازداد حسنًا إلى حسنه بأمر الرَّبِّ به، وثنائه على فاعله، وإخباره بمحبة
(1)
ذلك ومحبّة فاعليه
(2)
.
بل من أعلام نبوّة محمّدٍ صلى الله عليه وسلم: أنّه يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويُحِلُّ لهم الطّيِّبات، ويُحرِّم عليهم الخبائث. فلو كان كونُه معروفًا ومنكرًا وخبيثًا وطيِّبًا إنّما هو لتعلُّقِ الأمر والنَّهي والحِلِّ والتَّحريم به، لكان بمنزلة أن يقال: يأمرهم بما يأمرهم به، وينهاهم عمَّا ينهاهم عنه، ويُحِلُّ لهم ما يُحِلُّه، ويُحرِّم عليهم ما يُحرِّمه
(3)
! وأيُّ فائدةٍ في هذا؟ وأيُّ عَلَمٍ يبقى فيه لنبوّته؟ وكلامُ الله يُصان عن ذلك، وأن يُظَنَّ به ذلك. وإنّما المدحُ والثّناءُ والعَلَمُ الدّالُّ على نبوّته أنَّ ما يأمرُ به تشهدُ العقولُ الصَّحيحةُ حسنَه وكونَه
(1)
ع: "بمحبَّته".
(2)
كذا بالجمع هنا في جميع النسخ.
(3)
ع: "يحلُّه لهم
…
يحرِّمه عليهم".
معروفًا، وما ينهى عنه تشهدُ قبحَه وكونَه منكرًا، وما يُحِلُّه تشهد كونَه طيِّبًا، وما يُحرِّمه تشهد كونَه خبيثًا. وهذه دعوة الرُّسل. وهي بخلاف دعوة المبطلين والكاذبين والسَّحَرة، فإنّهم يدعون إلى ما يوافق أهواءهم وأغراضهم من كلِّ قبيحٍ ومنكرٍ وبغيٍ وظلمٍ.
ولهذا قيل لبعض الأعراب ــ وقد أسلم لمّا عرف دعوته صلى الله عليه وسلم ــ: عن أيِّ شيءٍ أسلمت؟ وما رأيتَ منه ممّا دلَّكَ على أنّه رسول الله؟ قال: ما أمرَ بشيءٍ، فقال العقل: ليته نهى عنه! ولا نهى عن شيءٍ، فقال العقل: ليته أمر به! ولا أحلَّ شيئًا، فقال العقل: ليته حرَّمه! ولا حرَّم شيئًا، فقال العقل: ليته أباحه!
(1)
. فانظر إلى هذا الأعرابيِّ، وصحّةِ عقله وفطرته، وقوّةِ إيمانه، واستدلاله على صحّة دعوته بمطابقة أمره لكلِّ ما هو حسنٌ في العقل، ومطابقة نهيه لما هو قبيحٌ في العقل. وكذلك مطابقة تحليله وتحريمه. ولو كان جهةُ الحسن والقبح والطِّيب والخبث مجرَّدَ تعلُّقِ الأمر والنَّهي والإباحة والتّحريم به لم يحسُن منه هذا الجواب، ولكان بمنزلة أن يقول: وجدته يأمر وينهى، ويُبيح ويحرِّم! وأيُّ دليلٍ في هذا؟
وكذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل: 90].
(1)
يشير إلى ما خاطب به العلاءُ بن الحضرمي المنذرَ بن ساوى صاحبَ هجَر لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنذر يدعوه إلى الإسلام. ومما قاله: "
…
فهو هذا النبي الأمي الذي والله لا يستطيع ذو عقل أن يقول: ليتَ ما أمَر به نهى عنه أو ما نهى عنه أمَر به، أو ليته زاد في عفوه أو نقص من عقابه". انظر:"الروض الأنف"(7/ 520)، و"الجواب الصحيح"(1/ 330). وذكره المؤلف في "المفتاح"(2/ 874) أيضًا.
وهؤلاء يزعمون أنَّ الظُّلمَ في حقِّ عباده هو المحرَّمُ المنهيُّ عنه، لا أنّ في نفس الأمر ظلمًا نهى عنه. وكذلك الظُّلمُ الذي نزَّه نفسَه عنه هو الممتنعُ المستحيلُ، لا أنَّ هناك أمرٌ ممكنٌ مقدورٌ
(1)
لو فعله لكان ظلمًا. فليس في نفس الأمر عندهم ظلمٌ منهيٌّ عنه ولا منزَّهٌ عنه، إنّما هو المحرَّم في حقِّهم، والمستحيلُ في حقِّه. فالظُّلمُ المنزَّهُ عنه عندهم هو كالجمعِ بين النَّقيضين، وجعلِ الجسم الواحد في مكانين في آنٍ واحدٍ، ونحو ذلك.
والقرآنُ صريحٌ في إبطال هذا المذهب أيضًا. قال تعالى: {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق: 27 - 29]. أي لا أؤاخذ عبدًا بغير ذنبٍ، ولا أمنعه من أجر ما عمله من صالحٍ. ولهذا قال قبله:{وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} المتضمِّن لإقامة الحجّة وبلوغ الأمر والنَّهي، فإذا واخذتُكم
(2)
بعد التّقدُّم فلستُ بظالمٍ، بخلاف من يواخذ العبدَ قبل التّقدُّم إليه بأمره ونهيه، فذلك الظُّلمُ الذي تنزّه عنه سبحانه وتعالى.
وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} [طه: 112]. يعني لا يُحمَل عليه من سيِّئات ما لم يعمله، ولا يُنقَص من حسنات ما عمِل. ولو كان الظُّلمُ هو المستحيلَ الذي لا يمكن وجودُه لم يكن لعدم الخوف منه معنًى، ولا للأمن من وقوعه فائدةٌ.
وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ
(1)
الكلمات الثلاث كذا بالرفع في جميع النسخ.
(2)
كذا في النسخ بتسهيل الهمز، وقد مرَّ مثله.
لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]. أي لا يُحمِّل المسيءَ عقابَ ما لم يعمله، ولا يمنع المحسنَ من ثواب عمله.
وقال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}
(1)
[هود: 117] فدلَّ على أنّه لو أهلكهم مع إصلاحهم لكان ظلمًا. وعندهم يجوز ذلك وليس بظلمٍ لو فعَلَه. ويؤوِّلون الآية على أنّه سبحانه أخبر أنّه لا يهلكهم مع إصلاحهم، وعلِمَ أنّه لا يفعل ذلك، وخلافُ خبره ومعلومه مستحيلٌ، وذلك حقيقة الظُّلم
(2)
. ومعلومٌ أنَّ الآيةَ لم يُقصَد بها هذا قطعًا ولا أريد بها، ولا تحتمله بوجهٍ، إذ يؤولُ معناها إلى أنّه ما كان ليهلك القرى بسبب اجتماعِ النّقيضين وهم مصلحون! وكلامُه تعالى يتنزَّه
(3)
عن هذا ويتعالى عنه.
وكذلك عند هؤلاء أيضًا، العبَثُ والسُّدى والباطلُ كلُّها هي المستحيلات الممتنعة التي لا تدخل تحت المقدور. واللهُ سبحانه قد نزَّه نفسَه عنها، إذ نسَبه إليها أعداؤه المكذِّبون لوعده
(4)
ووعيده، المنكرون لأمره ونهيه، فأخبر أنَّ ذلك مستلزمٌ
(5)
كونَ الخلق عبثًا وباطلًا، وحكمتُه وعزَّتُه تأبى ذلك. قال تعالى:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} [المؤمنون: 115].
(1)
في جميع النسخ: "مهلك القرى" غير ش التي أُصلحت فيها، التبست بآية القصص (59).
(2)
ش: "وذلك الظلم" بإسقاط "حقيقة".
(3)
ع: "ينزَّه".
(4)
ج: "بوعده".
(5)
ع: "يستلزم".
أي لغير شيءٍ، لا تُؤمرون
(1)
ولا تُنهَون، ولا تُثابون ولا تُعاقَبون. والعبثُ قبيحٌ، فدلَّ على أنَّ قبحَ هذا مستقِرٌّ في الفطر والعقول. ولذلك أنكره عليهم إنكارَ منبِّهٍ
(2)
لهم على الرُّجوع إلى عقولهم وفِطَرهم، وأنّهم لو فكَّروا وأبصروا لَعلِموا أنّه لا يليق به، ولا يحسن منه أن يخلق خَلْقَه
(3)
عبثًا، لا لأمرٍ ولا لنهيٍ، ولا لثوابٍ ولا لعقابٍ. وهذا يدلُّ على أنَّ حسنَ الأمر والنّهي والجزاء مستقرٌّ في العقول والفطر، وأنَّ من جوَّز على الله الإخلالَ به فقد نسبه إلى ما لا يليق به، وتأباه أسماؤه الحسنى وصفاته العليا.
وكذلك قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36]. قال الشّافعيُّ رحمه الله
(4)
: مهملًا لا يؤمر ولا ينهى. وقال غيره: لا يثاب ولا يعاقب. وهما متلازمان. فأنكر على من يحسَب ذلك، فدلَّ على أنَّه قبيحٌ تأباه حكمته وعزّته، وأنّه لا يليق به. ولهذا استدلَّ على أنّه لا يتركه سدًى بقوله: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ تُمْنى
(5)
(37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى} [القيامة: 37 - 38] إلى آخر السُّورة. ولو كان قبحُه إنَّما عُلِمَ بالسَّمع لكان يستدلُّ عليه بأنّه خلافُ السَّمع، وخلافُ ما أعلمناه وأخبرناه به. ولم يكن إنكاره
(1)
في ع زيادة: "به" وهي خطأ.
(2)
الكلمة في ج غير محررة. وفي م، ش:"تنبيه". وكذا كان في ق، ل ثم أصلح كما أثبت من ع.
(3)
"خلقه" ساقط من ش.
(4)
في "الرسالة"(ص 21). وقد تقدَّم الكلام على الآية (ص 150).
(5)
هكذا في الأصل (ق)، م، ش، ع على قراءة أبي عمرو وغيره. وفي ل:"يُمنى" على قراءة حفص.
لكونه
(1)
قبيحًا في نفسه، بل لكونه خلاف ما أخبر به، ومعلومٌ أنّ هذا ليس وجه الكلام.
وكذلك قوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا}
(2)
[ص: 27]. والباطل الذي ظنُّوه ليس هو الجمعَ بين النَّقيضين، بل الذي ظنُّوه أنّه لا شرع ولا جزاء، ولا أمر ولا نهي، ولا ثواب ولا عقاب؛ فأخبر أنّ خَلْقَها لغير ذلك هو الباطلُ الذي تنزَّه عنه، وذلك هو الحقُّ الذي خُلِقت به، وهو التّوحيد، وحقُّه وجزاؤه وجزاءُ مَن جحده وأشرك بربِّه.
وقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21]. فأنكر سبحانه هذا الحسبانَ إنكار منبِّهٍ للعقل على قبحه، وأنّه حكمٌ سيِّئٌ، فالحاكمُ به مسيءٌ ظالمٌ. ولو كان إنما قبُح لكونه خلافَ ما أخبر به لم يكن الإنكار لما اشتمل عليه من القبح اللّازم من التَّسوية بين المحسن والمسيء، المستقرِّ قبحُه في فِطَرِ العالمين كلِّهم، ولا كان هناك حكمًا سيِّئًا
(3)
في نفسه
(4)
يُنكَر على من حكم به.
وكذلك قوله تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ
(1)
يشبه رسمها في ق "تنزيه" ونحوه في ج وفوقها: "كذا". وفي ش: "بربه". والصواب ما أثبت من ل، ع.
(2)
في جميع النسخ: "السماوات"، ولعلها التبست بآية الدخان (38).
(3)
كذا في جميع النسخ بالنصب والوجه الرفع. انظر مثله في "زاد المعاد"(1/ 31)، (6/ 34، 307).
(4)
"في نفسه" ساقط من ش.
أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28]. وهذا استفهام إنكارٍ، فدلَّ على أنّ هذا قبيحٌ في نفسه، منكَرٌ تنكره العقول والفِطَر، أفيظنُّون أنَّ ذلك يليق بنا أو يحسن منّا فعلُه؟ فأنكره سبحانه إنكار منبِّهٍ للعقل والفطرة على قبحه، وأنّه لا يليق بالله نسبته إليه.
وكذلك إنكارُه سبحانه قبحَ الشِّرك به في الإلهية
(1)
، وعبادة غيره معه بما ضربه لهم من الأمثال، وأقام على بطلانه من الأدلّة العقليّة. ولو كان إنّما قبُح بالشّرع لم يكن لتلك الأدلّة والأمثال معنًى.
وعند نفاة التّحسين والتّقبيح يجوز في العقل أن يأمر بالإشراك به وبعبادة غيره، وإنّما عُلِمَ قبحُه بمجرَّد النّهي عنه!
فيا عجبًا! أيُّ فائدةٍ تبقى في تلك الأمثال والحجج والبراهين الدَّالَّة على قبحه في صريح العقول والفِطَر وأنّه أقبَحُ القبيح وأظلَمُ الظُّلم؟ وأيُّ شيءٍ يصحُّ في العقل إذا لم يكن فيه علمٌ بقبح الشِّرك الذّاتيِّ، وأنّ العلمَ بقبحه بديهيٌّ معلومٌ بضرورة العقل، وأنَّ الرُّسلَ نبَّهوا الأمم على ما في عقولهم وفِطَرهم من قبحه، وأنّ أصحابه ليست لهم عقولٌ ولا ألبابٌ ولا أفئدةٌ، بل نفى عنهم السَّمعَ والبصرَ ــ والمرادُ: سمعُ القلب وبصرُه ــ فأخبر أنّهم صمٌّ بكمٌ عميٌ ــ وذلك وصفُ قلوبهم: لا تسمع ولا تبصر ولا تنطق ــ وشبَّههم بالأنعام التي لا عقول لَها تميِّز بها بين الحسن والقبيح والحقِّ والباطل. ولذلك اعترفوا في النّار بأنّهم لم يكونوا من أهل السَّمع والعقل، وأنّهم لو رجعوا إلى أسماعهم وعقولهم لَعلِموا حسنَ ما جاءت به الرُّسل وقبحَ
(1)
ع: "إلهيته".
مخالفتهم. قال تعالى
(1)
: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10].
وكم يقول لهم في كتابه: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} ، {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ! فينبِّههم على ما في عقولهم وفِطَرهم من الحسَن والقبيح، ويحتجُّ عليهم بها، ويخبر أنّه أعطاهموها لينتفعوا بها ويميِّزوا بها بين الحسن والقبيح والحقِّ والباطل.
وكم في القرآن من مثلٍ عقليٍّ وحسِّيٍّ ينبِّه به العقولَ على حسن ما أمر به، وقبح ما نهى عنه؛ فلو لم يكن في نفسه كذلك لم يكن لضرب الأمثال للعقول معنًى، ولكان إثباتُ ذلك بمجرَّد الأمر والنّهي دون ضربِ الأمثال وتبيينِ جهة القبح المشهودة بالحسِّ والعقل.
والقرآن مملوءٌ بهذا لمن تدبَّره، كقوله تعالى:{ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم: 28]. يحتجُّ سبحانه عليهم بما في عقولهم من قبحِ كونِ مملوكِ أحدهم شريكًا له. فإذا كان أحدكم يستقبح أن يكون مملوكُه شريكَه، ولا يرضى بذلك، فكيف تجعلون لي من عبيدي شركاء تعبدونهم كعبادتي؟ وهذا يبيِّن
(2)
أنَّ قبحَ عبادة غيره تعالى مستقِرٌّ
(3)
في العقول والفِطَر، والسَّمعُ
(1)
بعده في ع زيادة: "حاكيًا عنهم".
(2)
ش: "بيِّن". وفي ج: "وبهذا يتبين".
(3)
في جميع النسخ: "مستقرَّة"، غير أن بعضهم حاول طمس الهاء في ق، وفي هامش ش:"ظ مستقر"، وهو الصواب فإن المستقرَّ في العقول هو قبح عبادة غير الله، لا عبادة غير الله، فلا يصح الإخبار هنا عن المضاف إليه.
نبَّهَ العقولَ وأرشدها إلى معرفة ما أُودع فيها من قُبح ذلك.
وكذلك قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَالِمًا
(1)
لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29]. احتجَّ سبحانه على قبح الشِّرك بما تعرفه العقولُ من الفرق بين حالِ مملوكٍ يملكه أربابٌ متعاسرون سيِّئوا المَلَكة، وحالِ عبد يملكه سيِّدٌ واحدٌ قد سلِمَ كلُّه له، فهل يصحُّ في العقول استواءُ حال العبدين؟ فكذلك حالُ المشرك والموحِّد الذي قد سلِمتْ عبوديّتُه للواحد
(2)
الحقِّ، لا يستويان.
وكذلك قوله تعالى
(3)
ممثِّلًا لقبح الرِّياء المُبطلِ للعمل، والمنِّ والأذى المُبطلِ للصّدقات بـ {كَمَثَلِ} وهو الحجر الأملس {صَفْوَانٍ عَلَيْهِ} غبارٌ قد لصِقَ به {تُرَابٌ} مطرٌ شديدٌ، فأزال ما عليه من التُّراب، وتركه {فَتَرَكَهُ صَلْدًا} أملسَ لا شيء عليه. وهذا المثلُ في غاية المطابقة لمن فهمه. فالصّفوان ــ وهو الحجر ــ كقلب المرائي والمانِّ والمؤذي، والتُّراب الذي لصق به: ما تعلَّق به من أثر عمله وصدقته، والوابل: المطر الذي به حياة الأرض، فإذا صادفها ليِّنةً قابلة يُنبِتُ
(4)
فيها الكلأَ، وإذا صادفَ الصُّخورَ والحجارةَ الصُّمَّ لم يُنبت فيها شيئًا. فجاء هذا الوابل إلى التُّراب الذي على الحَجر، فصادفه رقيقًا فأزاله، فأفضى إلى حجرٍ غير قابلٍ للنّبات. وهذا يدلُّ على أنَّ قبحَ المنِّ
(1)
هكذا في النسخ على قراءة أبي عمرو وابن كثير.
(2)
ع: "لإلهه".
(3)
في سورة البقرة [264].
(4)
ما عدا الأصل: "نبت".
والأذى والرِّياء مستقرٌّ في العقول، فلذلك نبَّهها على شبهه ومثاله
(1)
.
وعكسُ ذلك قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 265]. فإن كانت هذه الجنّة التي بموضعٍ عالٍ حيث لا تحجب عنها الشّمسُ والرِّياحُ، وقد أصابها مطرٌ شديدٌ، فأخرجت ثمرَها
(2)
ضعفَيْ ما يُخرج غيرُها= إن كانت مستحسنةً في العقل والحسِّ، فكذلك نفقةُ من أنفق ماله لوجه الله، لا للجزاء من الخلق ولا شكورهم
(3)
، بثباتٍ من نفسه وقوّةٍ على الإنفاق، لا يُخرج النّفقةَ وقلبهُ يرجُف على خروجها، ويداه ترتعدانِ
(4)
، ويضعفُ قلبه ويخورُ عند الإنفاق، بخلاف نفقة صاحب التَّثبيت والقوَّة
(5)
.
ولمَّا كان النَّاسُ في الإنفاق على هذين القسمين كان مثلُ نفقة صاحب الإخلاص والقوَّة والتَّثبيت كمثل الوابل، ومثلُ نفقة الآخر كمثل الطَّلِّ، وهو المطر الضّعيف. فهذا بحسب كثرة الإنفاق وقلَّته، وكمال الإخلاص والقوَّة واليقين فيه وضَعفِه. أفلا تراه سبحانه نبَّه العقولَ على ما فيها من استحسان
(1)
ش: "شبهها ومثالها". وفي ج بياض في موضع "ومثالها". وانظر تفسير المثل في "طريق الهجرتين"(2/ 800 - 802) و"أعلام الموقعين"(1/ 370 - 371) أيضًا.
(2)
ع: "ثمرتها".
(3)
ع: "يرتعدان". وفي غيرها: "ترتعد" بالإفراد.
(4)
ع: "لجزاء من الخلق ولا شكور"، وأشير في الهامش إلى أن في نسخة:"لشكور".
(5)
راجع أيضًا في تفسير المثل: "أعلام الموقعين"(1/ 367 - 368) و"طريق الهجرتين"(2/ 803 - 806).
هذا، واستقباح فعل الأوّل؟
وكذلك قوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: 266]. فنبَّه سبحانه العقولَ على قبح
(1)
ما فيها من الأعمال السّيِّئة التي تُحبِط ثوابَ الحسنات. وشبَّهها سبحانه بحال شيخٍ كبيرٍ له ذرِّيّةٌ ضعفاءُ، بحيث يخشى عليهم الضَّيعةَ وعلى نفسه، وله بستانٌ هو مادّةُ عيشِه وعيشِ ذرِّيّته، فيه النَّخيلُ والأعنابُ ومن كلِّ الثَّمرات، فأرجى ما هو له وأسَرُّ ما كان به إذ أصابته نارٌ شديدةٌ فأحرقته. فنبَّه العقولَ على أنَّ قبحَ المعاصي التي تُغرِقُ الطّاعاتِ بعدها كقبح هذه الحال. وبهذا فسَّرها عمر وابن عبّاس: برجلٍ عمل بطاعة الله زمانًا، فبعث الله إليه
(2)
الشَّيطانَ، فعمِل بمعاصي الله حتّى أغرق أعمالَه، ذكره البخاريُّ في "صحيحه"
(3)
. أفلا تراه نبَّه العقولَ على قُبح المعصية بعد الطّاعة، وضرَبَ لقبُحها هذا المثل؟
(4)
.
ونفاةُ التَّعليل والأسباب والحِكَم وحسنِ الأفعال وقبحِها يقولون: ما ثَمَّ إلّا محضُ المشيئة، لا أنَّ بعضَ الأعمال يُبطِل بعضًا، وليس فيها ما هو قبيحٌ لعينه، حتّى يشبَّه بقبيحٍ آخر، وليس فيها ما هو منشأٌ لمفسدةٍ أو مصلحةٍ تكون
(1)
لفظ "قبح" ساقط من ج، ش.
(2)
"إليه" ساقط من ش.
(3)
برقم (4538).
(4)
راجع أيضًا: "أعلام الموقعين"(1/ 368 - 370) و"طريق الهجرتين"(2/ 806 - 812).
سببًا لهما
(1)
، ولا لها عللٌ غائيّةٌ هي مفضيةٌ إليها، وإنّما هي متعلَّق المشيئة والإرادة والأمر والنّهي فقط!
والفقهاءُ لا يمكنهم البناءُ على هذه الطَّريقة البتّةَ، فكلُّهم مُجمعون ــ إذا تكلَّموا بلسان الفقه ــ على بطلانها، إذ يتكلَّمون في العلل والمناسبات الدَّاعية لشَرْع الحُكم، ويفرِّقون بين المصالح الخالصة والرّاجحة والمرجوحة والمفاسد التي هي كذلك، ويقدِّمون أرجحَ المصلحتين على مرجوحهما، ويدفعون أقوى المفسدتين باحتمال أدناهما. ولا يتمُّ لهم ذلك إلّا باستخراج الحِكَم والعلل، ومعرفة المصالح والمفاسد النّاشئة من الأفعال، ومعرفة رُتَبها.
وكذلك الأطبّاءُ، لا يصحُّ لهم علمُ الطِّبِّ وعملُه إلّا بمعرفة قوى الأدوية والأغذية والأمزجة
(2)
وطبائعها، ونسبةِ بعضها إلى بعضٍ، ومقدارِ تأثير بعضها في بعضٍ، وانفعالِ بعضها عن البعض
(3)
، والموازنةِ بين قوَّة الدَّواء وقوَّة المرض وقوَّة المريض
(4)
، ودفعِ الضِّدِّ بضدِّه، وحفظِ ما يريدون حفظَه بمثله ومناسبه. فصناعةُ الطِّبِّ
(5)
وعملُه مبنيٌّ على معرفة الأسباب والعلل والقوى والطّبائع والخواصِّ، فلو نفَوا ذلك وأبطلوه، وأحالوا على محض المشيئة وصِرْفِ الإرادة المجرَّدة عن الأسباب والعلل، وجعلوا
(1)
ج: "لها".
(2)
ع: "والأمزجة والأغذية".
(3)
ش: "بعض".
(4)
"وقوة المريض" ساقط من ق، ش، ومستدرك في هامش ق، ل.
(5)
ج، م:"وصناعة الطب"، والواو ساقطة من ش.