الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولذلك قال ابنُ عبّاسٍ رضي الله عنهما: الفاحشة: الزِّنى. والمنكَر: ما لم يُعرَف في شريعةٍ ولا سنّةٍ
(1)
. فتأمَّلْ تفريقَه بين ما لم يُعرَف حسنُه ولم يؤلَف، وبين ما استقرَّ قبحُه في الفِطَر والعقول.
فصل
وأمّا
القول على الله بلا علمٍ
، فهو أشدُّ هذه المحرّمات تحريمًا، وأعظمها إثمًا. ولهذا ذُكر في المرتبة الرَّابعة من مراتب المحرَّمات التي اتّفقت عليها الشَّرائعُ والأديانُ، ولا تباح بحالٍ، بل لا تكون إلّا محرَّمةً، وليست كالميتة والدَّم ولحم الخنزير، الذي يباح في حالٍ دون حالٍ.
فإنَّ المحرَّمات نوعان: محرَّمٌ لذاته لا يباح بحالٍ، ومحرَّمٌ تحريمُه عارضٌ في وقتٍ دون وقتٍ. قال تعالى في المحرَّم لذاته:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 33]. ثمّ انتقل منه إلى ما هو أعظم منه، فقال:{وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} ، ثمَّ انتقل منه إلى ما هو أعظم منه، فقال:{وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}
(2)
. فهذا أعظمُ المحرَّمات عند الله وأشدُّها إثمًا، فإنَّه يتضمَّن الكذبَ على الله، ونسبتَه إلى ما لا يليق به، وتغييرَ دينه وتبديلَه، ونفيَ ما أثبته وإثباتَ ما نفاه، وتحقيقَ ما أبطله وإبطالَ ما أحقَّه، وعداوةَ من والاه وموالاةَ من عاداه، وحبَّ ما أبغضه وبغضَ ما أحبّه، ووصفَه بما لا يليق به في ذاته وصفاته وأقواله وأفعاله. فليس في أجناس المحرَّمات أعظَمُ عند الله منه ولا أشدُّ إثمًا، وهو
(1)
"تفسير البغوي"(5/ 38).
(2)
وانظر: "أعلام الموقعين"(1/ 80) و"الجواب الصحيح"(2/ 216) و (4/ 213).
أصلُ الشِّرك والكفر، وعليه أُسِّست البدعُ والضَّلالاتُ، فكلُّ بدعةٍ مُضلَّةٍ في الدِّين أساسُها القولُ على الله تعالى بلا علمٍ.
ولهذا اشتدَّ نكيرُ السَّلف والأئمّة لها، وصاحوا بأهلها من أقطار الأرض، وحذَّروا فتنتَهم أشدَّ التَّحذير، وبالغوا في ذلك ما لم يبالغوا مثلَه في إنكار الفواحش والظُّلم والعدوان؛ إذ مضرَّةُ البدع وهدمُها للدِّين ومنافاتُها له أشدُّ.
وقد أنكر تعالى على من نسب إلى دينه تحليلَ شيءٍ أو تحريمَه من عنده، بلا برهانٍ من الله، فقال:{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 116 - 117]. فكيف بمن نسب إلى أوصافه ما لم يصِفْ به نفسَه، أو نفى عنه منها ما وصَف به نفسَه؟
قال بعض السَّلَف
(1)
: ليحذر أحدكم أن يقول: أحلَّ الله كذا أو حرَّم الله كذا، فيقول الله له: كذبتَ، لم أُحِلَّ هذا، ولم أُحرِّم هذا. يعني التَّحليل والتَّحريم بالرَّأي المجرَّد، بلا برهانٍ من الله ورسوله.
وأصلُ الشِّرك والكفر هو القول على الله بلا علمٍ، فإنَّ المشركَ يزعم أنَّ من اتَّخذه معبودًا من دون الله يُقرِّبه إلى الله، ويشفَع له عنده، ويقضي حاجته بواسطة
(2)
، كما تكون الوسائطُ عند الملوك. فكلُّ مشركٍ قائلٌ على الله بلا علمٍ، دون العكس، إذ القولُ على الله بلا علمٍ قد يتضمَّن التَّعطيلَ والابتداعَ
(1)
هو الرَّبيع بن خُثَيم كما نقل المؤلف في "أعلام الموقعين"(1/ 91). وقد أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم"(2090)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه"(1/ 529).
(2)
ج، ع:"بواسطته".
في دين الله، فهو أعمُّ من الشِّرك، والشِّركُ فردٌ من أفراده.
ولهذا كان الكذبُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم موجبًا لدخول النَّار واتِّخاذ منزلةٍ منها مبوَّأَه ــ وهو المنزلُ اللَّازم الذي لا يفارقه صاحبُه ــ لأنّه متضمِّنٌ للقول على الله بلا علمٍ، بل صريحُ الكذب عليه؛ لأنَّ ما يضاف إلى الرَّسول فهو مضافٌ إلى المرسِل، والقولُ على الله بلا علمٍ صريحُ افتراءِ الكذبِ عليه. {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الأنعام: 21].
فذنوبُ أهل البدع كلُّها داخلةٌ تحت هذا الجنس، فلا تتحقَّق التَّوبةُ منه إلّا بالتَّوبة من البدع. وأنّى بالتَّوبة منها لمن لم يعلم أنّها بدعةٌ، أو يظنُّها سنّةً فهو يدعو إليها ويحضُّ عليها؟ فلا ينكشف لهذا ذنوبُه التي تجبُ عليه التَّوبةُ منها إلّا بتضلُّعه من السُّنَّة، وكثرةِ الاطِّلاعِ عليها، ودوامِ البحث عنها والتَّفتيشِ عليها، ولا ترى صاحبَ بدعةٍ كذلك أبدًا.
فإنَّ السُّنّةَ بالذَّات تمحقُ البدعة، ولا تقوم لها
(1)
. فإذا طلعت شمسُها في قلب العبد قطَعت من قلبه ضَبابَ كلِّ بدعةٍ، وأزالت ظلمةَ كلِّ ضلالةٍ، إذ لا سلطانَ للظُّلمة مع سلطان الشَّمس. ولا يُري العبدَ الفرقَ بين السُّنَّة والبدعة ويعينُه على الخروج من ظُلَمِها إلى نور السُّنّة إلّا تجريدُ المتابعة، والهجرةُ بقلبه كلَّ وقتٍ إلى الله بالاستعانةِ والإخلاصِ وصدقِ اللَّجإ، وإلى رسوله بالحرص على الوصول إلى أقواله وأعماله وهديه وسنَّته. "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرتُه إلى الله ورسوله"
(2)
، ومن هاجر إلى
(1)
يعني: لا تقوم البدعةُ للسُّنَّة.
(2)
من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقد تقدم.
غير ذلك فهو حظُّه ونصيبه في الدُّنيا والآخرة. وبالله المستعان.
فصل
ومن أحكام التَّوبة: أنَّ من تعذَّر عليه أداءُ الحقِّ الذي فرَّط فيه ولم يمكنه تداركُه، ثمَّ تاب، فكيف حكمُ توبته؟
وهذا يتصوَّر في حقِّ الله وحقوق عباده.
فأمَّا في حقِّ الله، فكمن ترك الصَّلاة عمدًا من غير عذرٍ مع علمه بوجوبها وفرضها، ثمَّ تاب وندم. فاختلف السَّلفُ في هذه المسألة
(1)
.
فقالت طائفةٌ: توبتُه بالنَّدَم والاشتغال بأداء الفرائض المستأنفة وقضاء الفرائض المتروكة. وهذا قول الأئمّة الأربعة وغيرهم.
وقالت طائفةٌ: توبةُ هذا
(2)
باستئناف العمل في المستقبل ولا ينفعه تداركُ ما مضى بالقضاء ولا يُقبَل منه، فلا يجب عليه. وهذا قول أهل الظَّاهر، وهو مرويٌّ عن جماعةٍ من السَّلَف.
وحجّةُ المُوجِبين: قولُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاةٍ أو نسيها فليصلِّها إذا ذكرها"
(3)
.
(1)
انظر: "المحلَّى"(2/ 10 - 18)، و"المفهم" لأبي العباس القرطبي (2/ 309 - 310)، و"المجموع" للنووي (3/ 71)، و"مجموع الفتاوى"(22/ 40 - 46). وللمؤلف بحث طويل في هذه المسألة في "كتاب الصلاة" له (ص 123 - 206).
(2)
ع: "توبته".
(3)
أخرجه البخاري (597)، ومسلم (684) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
قالوا: فإذا وجب القضاء على النَّائم والنَّاسي مع عدم تفريطهما فوجوبُه على العامد المفرِّط أولى.
قالوا: ولأنّه كان يجب عليه أمران: الصَّلاةُ وإيقاعُها في وقتها، فإذا ترك أحدَ الأمرين بقيَ الآخر.
قالوا: ولأنَّ القضاءَ إن قلنا يجب بالأمر الأوّل فظاهرٌ، وإن قلنا يجب بأمرٍ جديدٍ فأمرُ النَّائم والنَّاسي به تنبيهٌ على العامد، كما تقدَّم.
قالوا: ولأنَّ مصلحةَ الفعل إن لم يمكن تداركُها تدارَكَ العبدُ منها ما أمكن. وقد فاتت مصلحةُ الفعل في الوقت فيتداركُ ما أمكن منها، وهو الفعلُ خارجَ الوقت.
قالوا: وقد قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتُكم بأمرٍ فَأْتُوا منه ما استطعتم"
(1)
. وهذا قد استطاع الإتيانَ بالمأمور خارجَ الوقت، وقد تعذَّر عليه الإتيانُ به في وقته، فيجبُ عليه الإتيانُ بالمستطاع.
قالوا: وكيف يُظَنُّ بالشَّرع أنَّه يخفِّف عن هذا المتعمِّد المفرِّط العاصي لله ورسوله بترك الوجوب، ويُوجبه على المعذور بالنَّوم والنِّسيان؟
قالوا: ولأنَّ الصَّلاةَ خارجَ الوقت بدلٌ عن الصَّلاة في الوقت، والعبادةُ إذا كان لها بدلٌ وتعذَّر المبدَلُ انتقل المكلَّفُ إلى بدله، كالتَّيمُّمِ مع الوضوء، وصلاةِ القاعد عند تعذُّر القيام والمضطجعِ عند تعذُّر القعود، وإطعامِ العاجز عن الصِّيام لكبرٍ أو مرضٍ غير مرجوِّ [الزَّوالِ]
(2)
عن كلِّ يومٍ مسكينًا.
(1)
أخرجه البخاري (7288)، ومسلم (1337) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
زدته من "الكافي" لابن قدامة (3/ 174).
ونظائرُ ذلك كثيرةٌ في الشَّرع.
قالوا: ولأنَّ الصَّلاةَ حقٌّ موقَّتٌ، فتأخيرُه عن وقته لا يسقط إلّا بمبادرته خارجَ الوقت كديونِ الآدميِّين المؤجَّلة.
قالوا: ولأنَّ غايَته أنّه أثِمَ بالتّأخير، وهذا لا يُسقط القضاءَ عنه، كمن أخَّر الزَّكاة عن وقت وجوبها تأخيرًا أثِمَ به، أو أخَّر الحجَّ تأخيرًا أثِمَ به.
قالوا: ولو ترك الجمعةَ حتّى صلّاها الإمامُ عمدًا عصى بتأخيرها ولزِمَه أن يصلِّي الظُّهر، ونسبةُ الظُّهر إلى الجمعة كنسبة صلاة الصُّبح بعد طلوع الشَّمس إلى صلاتها قبل الطُّلوع.
قالوا: وقد أخَّر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم صلاةَ العصر يوم الأحزاب إلى أن صلَّاها بعد غروب الشَّمس
(1)
، فدلَّ على أنَّ فِعْلَها ممكنٌ خارجَ الوقت في العمد، سواءٌ كان معذورًا به كهذا التَّأخير وكتأخير من أخَّرها من الصَّحابة يومَ بني قريظة إلى بعد غروب الشّمس، أو لم يكن معذورًا به كتأخير المفرِّط؛ فتأخيرُهما إنّما يختلف في الإثم وعدمه، لا
(2)
وجوبِ التَّدارُك بعد التَّرك.
قالوا: ولو كانت الصَّلاةُ خارجَ الوقت لا تصحُّ ولا تجب لَمَا أمرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يوم بني قريظة بتأخير صلاة العصر إلى أن يصلُّوها فيهم، فأخَّرها بعضُهم حتّى صلَّاها فيهم باللَّيل، فلم يعنِّفهم ولم يعنِّف من صلَّاها في الطَّريق، لأجل اجتهاد الفريقين
(3)
.
(1)
كما في حديث علي رضي الله عنه، أخرجه البخاري (2931)، ومسلم (627).
(2)
بعده في ع زيادة: "في".
(3)
ش: "لاجتهاد الفريقين". والحديث أخرجه البخاري (4119)، ومسلم (1770) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
قالوا: ولأنَّ كلَّ تائبٍ له طريقٌ إلى التَّوبة، فكيف يُسَدُّ على هذا طريقُ التَّوبة ويُجعَل إثمُ التَّضييع لازمًا له وطائرًا في عنقه؟ فهذا لا يليق بقواعد الشَّرع وحكمته ورحمته ومراعاته لمصالح العباد في المعاش والمعاد.
فهذا أقصى ما يحتجُّ به لصحة هذه المقالة.
قال أصحابُ القول الآخر: العبادةُ إذا أُمر بها على صفةٍ معيَّنةٍ أو في وقتٍ بعينه لم يكن المأمورُ ممتثلًا للأمر إلَّا إذا أوقَعَها على الوجه المأمور به من وصفها وشرطها ووقتها. فإيقاعُها في وقتها المحدود لها شرعًا شرطٌ في صحة التعبُّد بها والامتثال، فانتفاءُ وقتها كانتفاء وصفها وشرطها، فلا يتناولها الأمرُ بدونه.
قالوا: وإخراجُها عن وقتها كإخراجها عن استقبال القبلة مثلًا، وكالسُّجود على الخدِّ بدل الجبهة، والبروكِ على الرُّكبة بدل الرُّكوع ونحوه.
قالوا: والعباداتُ التي جُعِل لها ظروفٌ من الزَّمان لا تصحُّ إلّا فيه
(1)
كالعبادات التي جعل لها ظروفٌ من المكان، فلو أراد نقلَها إلى أمكنةٍ أخرى غيرها لم تصحَّ إلّا في أمكنتها، ولا يقوم مكانٌ مقامَ مكانٍ، كأمكنة المناسك من عرفة ومزدلفة والجِمار والسَّعي بين الصَّفا والمروة والطَّواف بالبيت. فنقلُ العبادة إلى أزمنةٍ غير أزمنتها التي جُعِلَتْ أوقاتًا لها شرعًا إلى غيرها كنقلها عن أمكنتها التي جُعِلت لها شرعًا إلى غيرها، لا فرقَ بينهما في الاعتداد وعدمه كما لا فرق بينهما
(2)
في الإثم.
(1)
كذا في النسخ بدلًا من "فيها".
(2)
"في الاعتداد
…
بينهما" من ع.
قالوا: فنقلُ الصَّلاة المحدودة الوقت أوّلًا وآخرًا عن زمنها إلى زمنٍ آخر كنقل الوقوف بعرفة عن زمنه إلى زمنٍ آخرَ، ونقل أشهر الحجِّ عن زمنها إلى زمنٍ آخَر.
قالوا: فأيُّ فرقٍ بين مَن نقَلَ صوم رمضان إلى شوَّالٍ أو صلَّى العصر نصفَ اللَّيل وبين من حَجَّ في المحرَّم ووقف فيه؟ فكيف تصحُّ صلاةُ هذا وصيامُه دون حجِّ هذا، وكلاهما مخالفٌ لأمر الله عاصٍ آثمٌ؟
قالوا: فحقوق الله تعالى الموقَّتة لا يقبلها في غير أوقاتها، فكما لا يَقْبل
(1)
قبل دخول أوقاتها
(2)
لا يَقْبل بعد خروج أوقاتها. فلو قال: أنا أصوم شوَّالَ عن رمضان كان
(3)
كما لو قال: أنا أصومُ شعبانَ الذي قبله عنه.
قالوا: فالحقُّ اللَّيليُّ لا يُقبل بالنَّهار، والنَّهاريُّ لا يُقبَل باللَّيل، ولهذا جاء في وصيّة الصِّدِّيق رضي الله عنه لعمر رضي الله عنه التي تلقَّاها بالقبول هو وسائر الصَّحابة رضي الله عنهم: واعلم أنَّ لله حقًّا باللَّيل لا يقبله بالنَّهار، وله حقٌّ بالنَّهار لا يقبله باللَّيل
(4)
.
(1)
كذا بالياء في الأصل هنا وفيما يأتي، وفي ش:"تقبل"، وأهمل حرف المضارع في غيرهما.
(2)
ش: "الوقت".
(3)
"كان" من ش.
(4)
أخرجه سعيد بن منصور (942 - التفسير) وأبو نعيم في "الحلية"(1/ 36) عن عبد الرحمن بن سابط، وابن المبارك في "الزهد"(914) وابن أبي شيبة (35574، 38211) وأبو داود في "الزهد"(29) عن زُبيد اليامي، والربعي في "الوصايا"(ص 34 - 35) عن قتادة، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(30/ 414) عن ابن أبي نجيح. وهذه الروايات ــ وإن كانت مراسيل، لأن أصحابها لم يدركوا أبا بكر رضي الله عنه ــ تعضد بعضها بعضًا، وتجعل للوصية أصلًا.
قالوا: ولأنّها إذا فات وقتها المحدود لها شرعًا لم تبق تلك العبادةُ بعينها، ولكن شيءٌ آخر غيرها، فإذا فُعِلَت العصرُ بعد غروب الشَّمس لم تكن عصرًا، فإنَّ العصرَ صلاةُ هذا الوقت المحدود، وهذه ليست عصرًا فلم يفعل مصلِّيها العصرَ البتّة، وإنّما أتى بأربع ركعاتٍ صورتُها صورةُ صلاة العصر، لا أنّها هي.
قالوا: وقد ثبت عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "من ترك صلاةَ العصر حبِطَ عملُه"
(1)
. وفي لفظٍ: "الَّذي تفوته صلاةُ العصر فكأنّما وُتِرَ أهلَه ومالَه"
(2)
. فلو كان له سبيلٌ إلى التَّدارك وفعلها صحيحةً لم يحبَط عملُه ولم يوتَر أهلَه ومالَه مع صحَّتها منه وقبولها، لأنَّ معصيةَ التّأخير عندكم لا تُحقِّق التَّركَ والفواتَ، لاستدراكه بالفعل في الوقت الثَّاني.
قالوا: وهذه الصَّلاةُ مردودةٌ بنصِّ الشَّارع، فلا يسوغ أن يقال بقبولها وصحَّتها، مع تصريحه بردِّها وإلغائها كما ثبت في "الصَّحيح"
(3)
عنه صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملًا ليس عليه أمرُنا فهو ردٌّ". وفي لفظٍ: "كلُّ عملٍ ليس عليه أمرُنا فهو ردٌّ"
(4)
. وهذا عملٌ
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
أخرجه البخاري (552)، ومسلم (626) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(3)
أخرجه مسلم (1718).
(4)
لم أجد هذا اللفظ مسندًا، وقد ذكره ابن عبد البر في "التمهيد"(2/ 82، 91 و 14/ 16، 73) وفي "الاستذكار"(2/ 346، 5/ 466) والنووي في "المجموع"(12/ 119) والحافظ في "الفتح"(13/ 248).
على خلاف أمره، فيكون ردًّا. والرَّدُّ بمعنى المردود، كالخلق بمعنى المخلوق، والضَّرب بمعنى المضروب. وإذا ثبت أنَّ هذه الصَّلاةَ مردودةٌ فليست بصحيحةٍ ولا مقبولةٍ.
قالوا: ولأنَّ الوقتَ شرطٌ في سقوط الإثم وامتثال الأمر، فكان شرطًا في براءة الذِّمّة والصِّحَّة، كسائر شروطها من الطَّهارة والاستقبال وستر العورة. فالأمرُ تناوَلَ الشُّروطَ تناولًا واحدًا، فكيف ساغ التَّفريقُ بينها مع استوائها في الوجوب والأمر والشَّرطيّة؟
قالوا: وليس مع المصحِّحين لها بعد الوقت لا نصٌّ ولا إجماعٌ ولا قياسٌ صحيحٌ، وسنُبطل جميعَ أقيستهم التي قاسوا عليها ونُبيِّن فسادها.
قالوا: وفي "مسند الإمام أحمد"
(1)
وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "من أفطر يومًا من رمضان بغير عذرٍ
(2)
لم يقضه عنه صيامُ الدَّهر"، فكيف يقال: يقضيه عنه يومٌ مثلُه؟
قالوا: ولأنَّ صحَّةَ العبادة إن فُسِّرت بموافقة الأمر، فلا ريب أنَّ هذه العبادةَ غيرُ موافقةٍ له، فلا تكون صحيحةً. وإن فُسِّرت بسقوط القضاء فإنَّما يُسْقِطُ القضاءَ ما وقع على الوجه المأمور به، وهذا لم يقع كذلك، ولا سبيل
(1)
برقم (9706، 10080، 10081)، وأخرجه أيضًا أبو داود (2397) والترمذي (723) وغيرهما، من طريق ابن المطوس (أو: أبي المطوس) عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث ضعيف لجهالة ابن المطوس وأبيه. وقد علَّقه البخاري بصيغة التمريض قبل الحديث (1935). وانظر: "فتح الباري"(4/ 161).
(2)
ش: "من غير عذر".
إلى وقوعه على الوجه المأمور به، فلا سبيل إلى صحَّته. وإن فُسِّرت
(1)
بما أبرأ الذِّمّةَ، فهذه لم تُبرئ الذِّمَّةَ من الإثم قطعًا، ولم يثبُت بدليلٍ يجب المصيرُ إليه إبراؤها للذِّمَّة من توجُّهِ المطالبة بالمأمور.
قالوا: ولأنَّ الصَّحيحَ من العبادات ما اعتبره الشَّارعُ ورضِيه وقبِله، وهذا لا يُعلَم إلّا بإخباره عن صحَّتها أو بموافقتها أمرَه، وكلاهما منتفٍ عن هذه العبادة، فكيف يُحكَم لها بالصِّحَّة؟
قالوا: فالصِّحَّةُ والفسادُ حكمان شرعيَّان مرجعُهما إلى الشَّارع.
فالصَّحيحُ: ما شهد له بالصِّحّةَ أو عُلِمَ أنَّه وافق أمرَه، أو كان مماثلًا لما شهد له بالصِّحَّة فيكون حكمُ المثل حكمَ مثلِه. وهذه العبادة قد انتفى عنها كلُّ واحدٍ من هذه الأمور. ومِن أفسَدِ الاعتبار اعتبارُها بالتَّأخير المعذور به أو المأذون فيه، وهو اعتبارُ الشَّيء بضدِّه، وقياسُه على مخالفه في الحقيقة والشَّرع، وهو من أفسَد القياس كما سيأتي
(2)
.
قالوا: وأمَّا استدلالُكم بقول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاةٍ أو نسيها فَلْيصلِّها إذا ذكرها"
(3)
، فأوجب القضاءَ على المعذور، فالمفرِّطُ أولى= فهذه الحجّةُ إلى أن تكون عليكم أقرَبُ منها أن تكون لكم! فإنَّ صاحبَ الشَّرع شرَطَ في فعلها بعد الوقت أن يكون التَّركُ عن نومٍ أو نسيانٍ، والمعلَّقُ
(1)
ل، ش:"فسِّر"، وكذا كان في ع، فزاد بعضهم التاء من نسخة. وضرب بعضهم على التاء في ق.
(2)
"كما سيأتي" ساقط من ش.
(3)
تقدم قريبًا (ص 575).
على الشَّرط عَدَمٌ عند عدمه. فلم يبق معكم إلَّا مجرَّدُ قياس المفرِّط العاصي المستحقِّ للعقوبة على من عذَره الله تعالى ولم يُنْسَب إلى تفريطٍ ولا معصيةٍ، كما ثبت عنه في "الصّحيح"
(1)
: "ليس في النَّوم تفريطٌ، إنّما التَّفريطُ في اليقظة أن يؤخِّر صلاةً حتّى يدخل وقتُ التي بعدها". وأيُّ قياسٍ في الدُّنيا أفسَدُ من هذا القياس وأبطل؟
قالوا: وأيضًا فهذا لم يؤخِّر الصَّلاةَ عن وقتها، بل وقتُها المأمورُ به لمثله: حين استيقَظَ وذكَر، كما قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"من نام عن صلاةٍ أو نسيها فليصلِّها إذا ذكرها فإنَّ ذلك وقتُها، فإنَّ الله تعالى يقول: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] "
(2)
. وهذه اللَّامُ عند كثيرٍ من النُّحاة اللَّامُ الوقتيَّة، أي عند ذكري، أو في وقت ذكري.
قالوا: والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ما صلّى الصُّبحَ يوم الوادي بعد طلوع الشَّمس إلَّا في وقتها حقيقةً.
قالوا: والأوقاتُ ثلاثة أنواعٍ: وقتٌ للقادر المستيقظ الذَّاكر غيرِ المعذور وهي
(3)
خمسةٌ، ووقتٌ للذَّاكر المستيقظ المعذور وهي ثلاثةٌ، فإنَّه في حقِّه وقتُ الظُّهر والعصر واحدٌ، ووقتُ المغرب والعشاء واحدٌ، ووقتُ الفجر واحدٌ. فالأوقات في حقِّ هذا ثلاثةٌ. وإذا أخّر الظُّهر إلى أن فعلها في وقت العصر فإنّما صلّاها في وقتها. ووقتٌ في حقِّ غير المكلَّف بنومٍ أو نسيانٍ فهو
(1)
أخرجه مسلم (681) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه.
(2)
تقدم آنفًا.
(3)
ما عدا ق، ل:"فهي".
غيرُ محدودٍ البتَّة، بل الوقتُ في حقِّه عند يقظته وذكره، لا وقتَ له إلّا ذلك.
هذا الذي دلَّ عليه نصوصُ الشَّرع وقواعدُه، وهذا المفرِّطُ المضيِّعُ خارجٌ عن هذه الأقسام، وهو قسمٌ رابعٌ، فبأيِّها تلحقونه؟
قالوا: وقد شرع الله تعالى قضاءَ رمضان لمن أفطَرَه لعذرٍ من حيضٍ أو سفرٍ أو مرضٍ، ولم يشرعه قطُّ لمن أفطره
(1)
متعمِّدًا من غير عذرٍ لا بنصٍّ ولا إيماءٍ
(2)
ولا تنبيهٍ، ولا تقتضيه قواعده. وإنّما غايةُ ما معكم قياسُه على المعذور، مع اطِّراد قواعد الشَّرع على التَّفريق بينهما، بل قد أخبر الشَّارعُ أنَّ صيامَ الدَّهر لا يقضيه عن يومٍ يُفطره بلا عذرٍ، فضلًا عن يومٍ مثله.
قالوا: وأمّا قولكم: إنّه كان يجب عليه أمران: العبادةُ وإيقاعُها في وقتها فإذا ترك أحدَهما بقي عليه الآخَرُ؛ فهذا إنَّما ينفع فيما إذا لم يكن أحدُ الأمرين مرتبطًا بالآخر ارتباطَ الشَّرطيّة، كمن أُمِر بالحجِّ والزَّكاة، فترَكَ أحدهما لم يَسقُط عنه الآخرَ. أمَّا إذا كان أحدُهما شرطًا في الآخر وقد تعذَّر الإتيانُ بالشَّرط الذي لم يؤمر بالمشروط إلّا به، فكيف يقال: إنَّه يؤمَرُ بالآخَر بدونه، ويصحُّ منه بدون وصفه وشرطه؟ فأين أمَرَه الله بذلك؟ وهل الكلامُ إلّا فيه؟
قالوا: وإن قلنا: إنَّما يجب القضاءُ بأمرٍ جديدٍ، فلا أمرَ معكم بالقضاء في محلِّ النِّزاع، وقياسُه على مواقع الإجماع ممتنعٌ كما بيّنّاه. وإن قلنا: يجب بالأمر الأوّل، فهذا فيما إذا كان القضاءُ نافعًا ومصلحتُه كمصلحة الأداء
(1)
"لعذرٍ
…
أفطره" ساقط من ع لانتقال النظر.
(2)
ع: "بإيماء".
كقضاء المريض والمسافر والحائض للصَّوم، وقضاء المغمى عليه والنَّائم والنّاسي. أمَّا إذا كان القضاءُ غيرَ مبرِّئٍ
(1)
للذِّمّة ولا هو معذورٌ بتأخير الواجب عن وقته، فهذا لم يتناوله الأمرُ الأوّل ولا أمرٌ ثانٍ، وإنَّما هو القياسُ الذي عُلِمَ افتراقُ الأصل والفرع فيه في وصفٍ ظاهرِ التَّأثير مانعِ الإلحاق
(2)
.
قالوا: وأمَّا قولُكم: إنَّه إذا لم يمكن تداركُ مصلحة الفعل تدارَكَ منها ما أمكن، فهذا إنَّما يفيد إذا لم يكن حصولُ المصلحة موقوفًا على شرطٍ تزول المصلحةُ بزواله. والتَّداركُ بعد فواتِ شرطِه وخروجِه عن الوجه
(3)
المأمور به ممتنعٌ إلّا بأمرٍ آخر من التَّوبة وتكثير النَّوافل والحسنات. وأمَّا تداركُ عين هذا الفعل، فكلَّا ولمَّا
(4)
!
قالوا: وأمّا قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتُكم بأمرٍ فَأْتُوا منه ما استطعتم"
(5)
، فقد أبعَدَ النُّجعةَ مَن احتجَّ به، فإنَّ هذا إنّما يدلُّ على أنَّ المكلَّفَ إذا عجَز عن جملة المأمور به أتى بما يقدر عليه منه، كمن عجَز عن القيام في الصَّلاة أو عن إكمال غسل أعضاء الوضوء أو عن إكمال الفاتحة، أو عن تمام الكفاية في الإنفاق الواجب ونحو ذلك= أتى بما يقدر عليه، وسقَط عنه ما يعجِز
(6)
عنه. أمَّا مَن ترَكَ المأمورَ به حتَّى خرج وقته عمدًا وتفريطًا بلا عذرٍ، فلا
(1)
ضبط في ع: "مُبْرٍ" من الإبراء مع تسهيل الهمز.
(2)
م، ش، ع:"للإلحاق"، وكذا غيِّر في ق.
(3)
ش: "الوقت".
(4)
انظر ما علَّقت على استعمال "كلا ولما" للإنكار في "زاد المعاد"(1/ 12).
(5)
تقدَّم تخريجه.
(6)
ع: "ويسقط عنه ما عجز".
يتناوله الحديثُ. ولو كان الحديثُ متناولًا له لمَا توعَّدَه بإحباط عمله، وشبَّهه بمن سُلِبَ أهلَه ومالَه وبقيَ بلا أهلٍ ولا مالٍ.
قالوا: وأمّا قولكم: إنَّه لا يُظَنُّ بالشَّرع تخفيفُه عن هذا العامد المفرِّط بعدم إيجاب القضاء، وتكليفُ المعذور به؛ فكلامٌ بعيدٌ عن التَّحقيق بيِّنُ البطلان، فإنَّ هذا المعذورَ إنّما فعَلَ ما أُمِر به في وقته كما تقدَّم، فهو
(1)
في فعلِ ما أُمِرَ به كغير المعذور الذي صلّى في وقته. ونحن لم نُسْقِط القضاءَ عن العامد المفرِّط تخفيفًا عنه، بل لأنَّه غيرُ نافعٍ له ولا مقبولٍ منه ولا مأمورٍ به، فلا سبيلَ له إلى تحصيلِ مصلحةِ ما تركه، فأين التَّخفيفُ عنه؟
قالوا: وأمَّا قولُكم: إنَّ الصَّلاةَ خارجَ الوقت بدلٌ عن الصَّلاة في الوقت، وإذا تعذَّر المبدَلُ انتقل إلى بدله، فهل هذا إلّا مجرَّد دعوى! وهل وقع النِّزاع إلّا في هذا! فما الدَّليل على أنَّ صلاةَ هذا المفرِّط العامد بدلٌ؟ ونحن نطالبكم بالأمر بها أوّلًا، وبكونها مقبولةً نافعةً ثانيًا، وبكونها بدلًا ثالثًا؛ ولا سبيل لكم إلى إثبات شيءٍ من ذلك البتَّة. وإنّما يُعلَم كونُ الشَّيء بدلًا بجعل الشَّارع له كذلك، كشرعه التّيمُّمَ عند العجز عن استعمال الماء، والإطعامَ عند العجز عن الصِّيام، وبالعكس كما في كفّارة اليمين. فأين جعل الشَّرعُ
(2)
قضاءَ هذا المفرِّط المضيِّع بدلًا عن فعله العبادةَ في الوقت؟ وهو ذلك القياسُ الذي قد تبيَّن فساده؟
قالوا: وأمّا قياسُكم فعلَها خارجَ الوقت على صحَّة أداء ديون الآدميِّين بعد وقتها، فمن هذا النَّمَط لأنَّ وقتَ الوجوب في حقِّه ليس محدودَ الطَّرفين
(1)
"فهو" ساقط من ش.
(2)
م، ش:"الشارع".
كوقت الصَّلاة، فالوجوب في حقِّه ليس موقَّتًا محدودًا، بل هو على الفور كالزَّكاة والحجِّ عند من يراه على الفور، فلا يُتصوَّر فيه إخراجٌ عن وقتٍ محدودٍ هو شرطٌ لفعله. نعم، أولى الأوقات به الوقتُ الأوّلُ على الفور، وتأخيرُه عنه لا يوجِب كونه قضاءً.
فإن قيل: فما تصنعون بقضاء رمضان، فإنَّه محدودٌ على جهة التَّوسعة بما بين رمضانين، ولا يجوز تأخيرُه مع القدرة إلى رمضان آخر، ومع هذا لو أخَّره لزمه فعلُه وإطعامُ كلِّ يومٍ مسكينًا كما أفتى به الصَّحابة رضي الله عنهم؟ وهذا دليلٌ على أنَّ العبادة الموقَّتة لا يتعذَّر فعلُها بعد خروج وقتها المحدود لها شرعًا.
قيل: قد فرَّق الشَّارعُ بين أيّام رمضان نفسها وبين أيّام القضاء، فجعَل أيَّامَ رمضان محدودةَ الطَّرَفين لا يجوز تقديمها ولا تأخيرها
(1)
، وأطلق أيّام قضائه فقال سبحانه:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 183 - 184]، فأطلق العدَّةَ ولم يوقِّتها. وهذا يدلُّ على أنّها تجزئ في أيِّ أيّامٍ كانت، ولم يجئ نصٌّ عن الله تعالى ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم ولا إجماعٌ على تقييدها بأيّامٍ لا تجزئ في غيرها. وليس في الباب إلّا حديثُ عائشة رضي الله عنها: كان يكون عليَّ الصَّومُ من رمضان، فلا أقضيه إلَّا في شعبان. الشُّغلُ
(2)
برسول الله صلى الله عليه وسلم
(3)
. ومعلومٌ أنَّ هذا ليس
(1)
"تقدُّمها ولا تأخُّرها".
(2)
ج: "من الشغل" وكذا في هامش ع من نسخة. وفي م، ش، ع:"للشغل". وما أثبت من ق، ل صوابٌ موافق لما في "صحيح مسلم".
(3)
أخرجه البخاري (1950)، ومسلم (1146).
صريحًا
(1)
في التَّوقيت بما بين الرَّمضانين كتوقيت أيَّام رمضان بما بين الهلالين، فاعتبارُ أحدهما بالآخر ممتنعٌ وجمعٌ بين ما فرَّق الله بينهما، فإنَّه جعَلَ أيّامَ رمضان محدودةً بحدٍّ لا تتقدَّم عنه ولا تتأخَّر، وأطلَق أيّامَ القضاء وأكَّد إطلاقها بقوله:{أُخَرَ} ، وأفتى من أفتى من الصَّحابة بالإطعام لمن أخَّرها إلى رمضان آخر جبرًا لزيادة التّأخير عن المدَّة التي بين الرَّمضانين، ولا تخرج بذلك عن كونها قضاءً بل هي قضاءٌ، وإن فُعِلت بعد رمضان آخر فحكمُها في القضاء قبلَ رمضان وبعدَه واحدٌ بخلاف أيّام رمضان.
يوضِّح هذا: أنَّه لو أفطر يومًا من أيّام رمضان عمدًا بغير عذرٍ لم يتمكَّن أن يقيم مقامَه يومًا آخر مثلَه
(2)
البتّة. ولو أفطر يومًا من أيّام القضاء
(3)
قام اليومُ الذي بعده مقامه. وسرُّ الفرق: أنَّ المعذور لم يتعيَّن في حقِّه أيّامُ القضاء بل هو مخيَّرٌ فيها، وأيُّ يومٍ صامه قام مقام الآخر. وأمَّا غيرُ المعذور، فأيّامُ الوجوب متعيِّنةٌ في حقِّه لا يقوم غيرُها مقامَها.
قالوا: وأمَّا من ترك الجمعة عمدًا فإنّما أوجبنا عليه الظُّهر، لأنَّ الواجبَ في هذا الوقت أحدُ الصَّلاتين ولا بدَّ: إمَّا الجمعة وإمَّا الظُّهر. فإذا ترك الجمعة فوقتُ الظُّهر قائمٌ وهو مخاطَبٌ بوظيفة الوقت. قالوا: ولاسيَّما عند من يجعل الجمعة بدلًا من الظُّهر، فإنّه إذا فاته البدل رجع إلى الأصل.
هذا إن
(4)
كان القضاءُ ثابتًا بالإجماع أو بالنَّصِّ. وإن كان فيه خلافٌ
(1)
ع: "تصريحًا".
(2)
"مثله" ساقط من ش، وكذا كلمة "اليوم" الآتية.
(3)
ج: "رمضان القضاء". وكذا كان في الأصل ثم يبدو أنه ضرب على كلمة "رمضان".
(4)
ع: "وهذا وإن"!
أجبنا بالجواب المركَّب، فنقول: إن كان تركُ الجمعة مساويًا لترك الصَّلاة حتّى يخرج وقتها فالحكم في الصُّورتين
(1)
واحدٌ، ولا فرق حينئذٍ، عملًا بما ذكرنا من الدَّليل. وإن كان بينهما فرقٌ مؤثِّرٌ بطل الإلحاقُ، فامتنع القياس. فعلى التَّقديرين بطَل القياس.
قالوا: وأمَّا تأخيرُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم صلاةَ العصر يوم الأحزاب إلى غروب الشَّمس، فللنّاس في هذا التّأخير، هل هو منسوخٌ أم لا؟ قولان
(2)
: فقال الجمهور كأحمد والشّافعيِّ ومالكٍ: هذا كان قبل نزول صلاة الخوف، ثمَّ نُسِخَ بصلاة الخوف، فكان
(3)
ذلك التّأخيرُ كتأخير الجمع بين الصَّلاتين. فلا يجوز اعتبارُ التَّرك المحرَّم به، ويكون الفرقُ بينهما كالفرق بين تأخير النَّائم والنَّاسي وتأخير المفرِّط، بل أولى لأنَّ هذا التّأخير حينئذٍ مأمورٌ به، فهو كتأخير المغرب ليلةَ جمعٍ إلى مزدلفة. والقولُ الثَّاني: أنّه ليس بمنسوخٍ، بل هو باقٍ، وللمقاتل تأخيرُ الصَّلاة حال اشتغاله
(4)
بالحرب والمسايفة، وفعلُها عند تمكُّنه منها
(5)
. وهذا قول أبي حنيفة، ويذكر روايةً عن أحمد. وعلى التَّقديرين، فلا يصحُّ إلحاقُ تأخير العامد المفرِّط به.
(1)
ش: "الصلاتين".
(2)
انظر: "المغني"(3/ 316 - 318)، و"جامع المسائل"(5/ 353، 6/ 317)، و"الإنصاف" (2/ 359). وانظر:"زاد المعاد"(3/ 156)، و"كتاب الصلاة"(ص 186 - 188).
(3)
ع: "وكان".
(4)
ع: "حال القتال واشتغاله".
(5)
"منها" ساقط من ش.
وكذلك تأخيرُ الصَّحابة رضي الله عنهم العصرَ يومَ بني قريظة، فإنَّه كان تأخيرًا مأمورًا به عند طائفةٍ من أهل العلم كأهل الظَّاهر، أو تأخيرًا سائغًا للتّأويل عند بعضهم. ولهذا لم يعنِّف النّبيُّ صلى الله عليه وسلم من صلَّاها في الطَّريق في وقتها، ولا من أخَّرها إلى اللَّيل حتّى صلَّاها في بني قريظة، لأنَّ هؤلاء تمسَّكوا بظاهر الأمر، وأولئك نظروا إلى المعنى والمراد منهم وهو سرعةُ السَّير.
واختلف علماء الإسلام في تصويب أيِّ الطَّائفتين
(1)
.
فقالت فرقةٌ: لو كنَّا مع القوم لصلَّينا في الطَّريق مع الذين فهموا المراد وعقلوا مقصود الأمر، فجمعوا بين إيقاع الصَّلاة في وقتها وبين المبادرة إلى العدوِّ، ولم يفُتهم مشهدُهم، إذ المقدارُ الذي سبقهم به أولئك لحقوهم به لمَّا اشتغلوا بالصَّلاة وقتَ النُّزول
(2)
. قالوا: فهؤلاء أفقه الطَّائفتين، جمعوا بين الامتثال والاجتهاد والمبادرة
(3)
إلى الجهاد مع فقه النَّفس.
وقالت طائفةٌ: لو كنَّا معهم لأخَّرنا الصَّلاةَ مع الذين أخَّروها إلى بني قريظة، وهم الذين أصابوا حكمَ الله قطعًا. وكان هذا التَّأخيرُ واجبًا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم به، فهو الطَّاعةُ لله ذلك اليومَ خاصَّةً. واللهُ يأمر بما يشاء، فأمرُه بالتَّأخير في وجوب الطَّاعة كأمره بالتَّقديم؛ فهؤلاء كانوا أسعدَ بالنَّصِّ، وهم الذين فازوا بالأجرين. وإنّما لم يُعنِّف الآخَرين لأجل التّأويل والاجتهاد،
(1)
وانظر: "زاد المعاد"(3/ 154 - 155)، و"أعلام الموقعين"(1/ 405)، و"كتاب الصلاة"(ص 189 - 190).
(2)
في ع بعده زيادة: "في بني قريظة".
(3)
ش: "المبارزة"، تصحيف.
فإنّهم إنّما قصدوا طاعةَ الله ورسوله، وهم أهلُ الأجر الواحد، وهم كالحاكم الذي يجتهد فيخطئ الحقَّ.
والمقصود: أنَّ إلحاقَ المفرِّط العاصي بالتَّأخير بهؤلاء في غاية الفساد.
قالوا: وأمّا قولكم: إنَّ
(1)
هذا تائبٌ نادمٌ، فكيف يُسَدُّ عليه طريقُ التَّوبة، ويُجعل إثمُ التَّضييع لازمًا له وطائرًا في عنقه؟ فمعاذ الله أن نسُدَّ عليه بابًا فتحه الله لعباده المذنبين كلِّهم، ولم يغلقه عن أحدٍ إلى حين موته أو إلى وقت طلوع الشَّمس من مغربها! وإنَّما الشَّأنُ في طريق توبته وتحقيقها، هل يتعيَّن لها القضاءُ أم يستأنف العملَ ويصير ما مضى لا له ولا عليه، ويكون حكمُه حكمَ الكافر إذا أسلم في استئناف العمل وقبول التَّوبة؟ فإنَّ تركَ فريضةٍ من فرائض الإسلام لا يزيد على ترك الإسلام بجملته وفرائضه، فإذا كانت توبةُ تارك الإسلام مقبولةً صحيحةً لا يشترط في صحَّتها إعادةُ ما فاته في حال كفره
(2)
، أصليًّا كان أو مرتدًّا، كما أجمع عليه الصَّحابةُ رضي الله عنهم في ترك أمر المرتدِّين لمَّا رجعوا إلى الإسلام بالقضاء= فقبولُ توبة تارك الصَّلاة وعدم توقُّفها على القضاء أولى. والله أعلم.
فصل
وأمَّا حقوق العباد، فتتصوَّر في مسائل:
إحداها: من غصب أموالًا، ثمَّ تاب، وتعذَّر عليه ردُّها
(3)
إلى أصحابها
(1)
لم ترد "إنّ" في ع.
(2)
هكذا في ش، وهامش م مع التصحيح. وفي غيرهما:"إسلامه".
(3)
ش: "أداؤها"، وكذا كان في الأصل ثم أصلح.
أو إلى ورَثتهم لجهله بهم أو لانقراضهم وغير ذلك؛ فاختلف في توبة مثل هذا
(1)
.
فقالت طائفةٌ: لا توبةَ له إلّا بأداء هذه المظالم إلى أربابها. فإذا كان ذلك قد تعذَّر عليه تعذَّرت عليه التَّوبةُ، والقِصاصُ أمامه يوم القيامة بالحسنات والسّيِّئات ليس إلَّا.
قالوا: فإنّ هذا حقُ آدميٍّ لم يصل إليه، والله تعالى لا يترك من حقوق عباده شيئًا، بل يستوفيها لبعضهم من بعضٍ، ولا يجاوزه ظلمُ ظالمٍ، فلا بدَّ أن يأخذ للمظلوم حقَّه من ظالمه، ولو لَطْمةً، ولو كَلْمةً، ولو رَمْيةً بحجرٍ.
قالوا: وأقربُ ما لهذا في تدارك الفارط منه أن يستكثر من الحسنات ليتمكَّن من الوفاء منها يومَ لا يكون الوفاءُ بدينارٍ ولا درهمٍ، فيتَّجر تجارةً يمكنه الوفاءُ منها. ومن أنفع ما له: الصَّبرُ على ظلم غيره له وأذاه وغيبته وقذفه، فلا يستوفي حقَّه في الدُّنيا ولا يقابله، ليُحيلَ خصمَه عليه إذا أفلس من حسناته؛ فإنَّه كما يؤخذ منه ما عليه، يستوفي أيضًا ما له، وقد يتساويان، وقد يزيد أحدهما على الآخر.
ثمّ اختلف هؤلاء في حكم ما بيده من الأموال، فقالت طائفةٌ: يُوقِفُ أمرَها ولا يتصرَّف فيها البتّة. وقالت طائفةٌ: يدفعها إلى الإمام أو نائبه، لأنّه وكيل أربابها، فيحفظها لهم، ويكون حكمُها حكمَ الأموال الضَّائعة.
(1)
انظر: "الأوسط" لابن المنذر (11/ 60 - 62)، و"مجموع الفتاوى"(29/ 321 - 322).
وقالت طائفةٌ أخرى: بل بابُ التَّوبة مفتوحٌ لهذا، ولم يُغلق
(1)
الله عنه ولا عن مذنبٍ بابَ التوبة، وتوبتُه أن يتصدَّق بتلك الأموال عن أربابها. فإذا كان يومُ استيفاء الحقوق كان لهم الخيارُ بين أن يُجيزوا ما فعَل وتكون أجورُها لهم، وبين أن لا يجيزوا ويأخذوا من حسناته بقدر أموالهم فيكون
(2)
ثوابُ تلك الصَّدقة له، إذ لا يبطل الله سبحانه ثوابَها، ولا يجمع لأربابها بين العوض والمعوَّض
(3)
، فيغرِّمَه إيَّاها ويجعلَ أجرَها لهم، وقد غُرِّم من حسناته بقدرها.
وهذا مذهب جماعةٍ من الصَّحابة رضي الله عنهم، كما هو مرويٌّ عن ابن مسعودٍ، ومعاوية، وحجّاج بن الشّاعر
(4)
.
فاشترى ابن مسعودٍ من رجلٍ جاريةً، ودخل يزن له الثَّمنَ، فذهب ربُّ الجارية، فانتظره حتّى يئس من عَوده، فتصدَّقَ بالثَّمن وقال: اللهمَّ هذا عن ربِّ الجارية، فإن رضي فالأجرُ له، وإن أبى فالأجرُ لي وله من حسناتي بقدره
(5)
.
(1)
ع: "ولم يغلقه"، فلم يرد فيها "بابَ التوبة" في آخر الجملة.
(2)
ع: "ويكون".
(3)
في ش بعدها زيادة: "عنه".
(4)
كذا في النسخ، والصواب:"عبد الله بن الشاعر". قال البخاري في "التاريخ الكبير"(5/ 117) في ترجمته: "روى عنه حوشب بن سيف قوله في الغلول إذا تفرَّق الجيش". وهو من التابعين. وحجَّاج بن الشاعر توفي سنة 259. انظر ترجمته في "سير أعلام النبلاء" (12/ 301).
(5)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنَّف"(18631) وابن أبي شيبة في "المصنف"(21169، 22050).
وغلَّ رجلٌ من الغنيمة، ثمَّ تاب فجاء بما غَلَّه إلى أمير الجيش، فأبى أن يقبله منه وقال: كيف لي بإيصاله إلى الجيش وقد تفرَّقوا؟ فأتى حجَّاجَ بن الشَّاعر
(1)
فقال: يا هذا إنَّ الله يعلم الجيش وأسماءهم وأنسابهم، فادفع خُمُسَه إلى صاحب الخُمس، وتصدَّقْ بالباقي عنهم، فإنَّ الله يوصل ذلك إليهم ــ أو كما قال ــ ففعَلَ. فلمّا أخبر معاوية قال: لأن أكون أفتيتُك بذلك أحبُّ إليَّ من نصف مُلكي
(2)
.
قالوا: وكذلك اللُّقَطة إذا لم يجد ربَّها بعد تعريفها ولم يُرِد أن يتملَّكها، تصدَّق بها عنه. فإن ظهر مالكُها خيَّره بين الأجر والضَّمان.
قالوا: وهذا لأنَّ المجهولَ في الشَّرع كالمعدوم، فإذا جُهِلَ المالكُ صار بمنزلة المعدوم. وهذا مالٌ لم يُعلَمْ له مالكٌ معيَّنٌ، ولا سبيل إلى تعطيل الانتفاع به، لما فيه من المفسدة والضَّرر بمالكه والفقراء ومَن هو في يده. أمَّا المالكُ فلعدم وصول نفعه إليه، وكذلك الفقراء. وأمَّا مَن هو في يده فلعدم تمكُّنه من الخلاص من إثمه، فيغرَّمُه يوم القيامة من غير انتفاعٍ به. ومثلُ هذا لا تبيحه شريعةٌ، فضلًا عن أن تأمر به وتوجبَه، فإنَّ الشَّرائع مبناها على تحصيل المصالح بحسب الإمكان وتكميلها، وتعطيلِ المفاسد بحسب الإمكان وتقليلها؛ وتعطيلُ هذا المال ووقفُه ومنعُه عن الانتفاع به مفسدةٌ محضةٌ لا مصلحةَ فيها، فلا يصار إليه.
قالوا: وقد استقرَّت قواعدُ الشَّرع على أنَّ الإذنَ العرفيَّ كاللَّفظيِّ. فمن
(1)
الصواب: "عبد الله بن الشاعر"، كما علقت آنفًا.
(2)
أخرجه سعيد بن منصور في "السنن"(2732) وأبو إسحاق الفزاري في "السير"(ص 249) وابن المنذر في "الأوسط"(11/ 60) كلاهما عن حوشب بن سيف.
رأى بمال غيره موتًا وهو ممَّا يمكن استدراكُه بذبحه، فذبَحَه إحسانًا إلى مالكه ونصحًا له، فهو مأذونٌ له فيه عرفًا وإلَّا كان المالك سفيهًا؛ فإذا ذبحه لمصلحة مالكه لم يضمَنْه، لأنّه محسنٌ، و {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91]؛ وكذلك إذا غصبه ظالمٌ، أو خاف عليه منه، فصالَحَه عليه ببعضه، فسلِمَ الباقي لمالكه، وهو غائبٌ عنه؛ أو رآه آئلًا إلى تَلافٍ
(1)
محضٍ فباعه، وحفظ ثمنه له، ونحو ذلك= فإنَّ هذا كلَّه مأذونٌ فيه عُرفًا من المالك.
وقد باع عُروة بن الجَعْد البارقيُّ رضي الله عنه وكيلُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مِلْكَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بغير استئذانه لفظًا، واشترى له ببعض ثمنه مثلَ ما وكَّله في شرائه بذلك الثَّمن كلِّه، ثمَّ جاءه بالثَّمن وبالمشترى، فقَبِله النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، ودعا له
(2)
.
وأشكل هذا على بعض الفقهاء، وبناه على تصرُّف الفضوليِّ، فأُورِدَ عليه أنَّ الفضوليَّ لا يَقبِضُ ولا يُقْبِضُ، وهذا قَبَض وأَقْبَضَ. وبناه آخَرُ على أنَّه كان وكيلًا مطلقًا في كلِّ شيءٍ
(3)
. وهذا أفسد من الأوّل، فإنّه لا يُعرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه وكَّل أحدًا وكالةً مطلقةً البتَّة، ولا نقَلَ ذلك عنه مسلمٌ. والصَّواب أنّه مبنيٌّ على هذه القاعدة: أنَّ الإذنَ العرفيَّ كالإذن اللَّفظيِّ
(4)
، ومن رضي بالمشترَى وخروجِ ثمنه عن مِلْكه، فهو بأن يرضى به ويحصُلَ له
(1)
ج، ش:"إتلاف". والتَّلافُ كالتَّلَف مصدر تلِفَ، غير أنَّ كتب اللغة لم تذكره. انظر ما علَّقت في "الداء والدواء" للمؤلف (ص 507).
(2)
أخرجه البخاري (3642).
(3)
انظر: "الوسيط" للغزالي (3/ 295)، و"المغني"(7/ 242)، و"المفاتيح شرح المصابيح" للمظهري (3/ 474 - 475).
(4)
وانظر: "أعلام الموقعين"(3/ 409).
الثَّمنُ أشدُّ رضًا
(1)
.
ونظيرُ هذا: مريضٌ عجز أصحابه في السّفر أو الحضر عن استئذانه في إخراج شيءٍ من ماله في علاجه، وخِيفَ عليه، فإنَّهم يُخرجون من ماله ما هو مضطرٌّ إليه بدون استئذانه بناءً على العرف في ذلك.
ونظائرُ ذلك ممَّا مصلحتُه وحسنُه مستقرٌّ في فِطَر الخلق، ولا تأتي شريعةٌ بتحريمه= كثيرٌ
(2)
.
وإذا ثبت ذلك، فمن المعلوم أنَّ صاحبَ هذا المال الذي قد حيل بينه وبينه أشدُّ شيءٍ رضًا بوصول نفعه الأخرويِّ إليه، وهو أكرَهُ شيءٍ لتعطيله أو إبقائه مقطوعًا عن الانتفاع به دنيا وأخرى؛ وإذا وصل إليه ثوابُ ماله سرَّه ذلك أعظمَ من سروره بوصوله إليه في الدُّنيا. فكيف يقال: مصلحةُ تعطيل هذا المال عن انتفاع الميِّت
(3)
والمساكين ومَن هو بيده أرجَحُ من مصلحة إنفاقه شرعًا؟ بل أيُّ مصلحةٍ دينيَّةٍ أو دنيويَّةٍ في هذا التَّعطيل؟ وهل هو إلّا محضُ المفسدة؟
ولقد سئل شيخُنا أبو العبَّاس ابن تيميَّة قدَّس الله روحَه، سأله شيخٌ فقال: هربتُ من أستاذي وأنا صغيرٌ، إلى الآن لم أطَّلع له على خبرٍ، وأنا مملوكٌ، وقد خفتُ من الله، وأريد براءة ذمّتي من حقِّ أستاذي من رقبتي. وقد سألتُ جماعةً من المفتين، فقالوا لي: اذهب، فاقعد في المستودَع! فضحك شيخنا،
(1)
كذا وقعت العبارة في النسخ "بأن يرضى به" يعني: بأن يحصل له المشترى.
(2)
لم ترد كلمة "كثير" في ع، وهي مضروب عليها في ق، ل.
(3)
ش: "هذا الميت".
وقال: تصدَّق بقيمتك ــ أعلى ما كانت ــ عن سيِّدك، ولا حاجة لك بالمستودع عبثًا في غير مصلحةٍ، وإضرارًا بك، وتعطيلًا عن مصالحك. ولا مصلحةَ لأستاذك في هذا، ولا لك، ولا للمسلمين. أو نحو هذا من الكلام.
فصل
المسألة الثَّانية: إذا عاوضَ غيرَه معاوضةً محرَّمةً، وقبَض العوضَ ــ كالزَّانية والمغنِّي وبائع الخمر وشاهد الزُّور ونحوهم ــ ثمَّ تاب والعوضُ بيده.
فقالت طائفةٌ: يردُّه إلى مالكه إذ هو عينُ ماله، ولم يقبضه بإذن الشَّارع ولا حصل لربِّه في مقابلته نفعٌ مباحٌ.
وقالت طائفةٌ: بل توبتُه بالتَّصدُّق به، ولا يدفعه إلى من أخذه منه. وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله
(1)
. وهو أصوَبُ القولين، فإنَّ قابضه إنَّما قبضه ببذل مالكه له ورضاه ببذله، وقد استوفى عوضَه المحرَّمَ، فكيف يجمع له بين العوض والمعوَّض؟ وكيف يردُّ عليه مالًا قد استعان به على معاصي الله، ورضي بإخراجه فيما يستعين به عليها ثانيًا وثالثًا؟ وهل هذا إلّا محضُ إعانته على الإثم والعدوان؟ وهل يناسب هذا محاسنَ الشَّرع أن يقضى للزَّاني بكلِّ ما دفعه إلى من زنى بها، ويؤخذ منها ذلك طوعًا أو كرهًا، فيعطاه وقد نال غرضه منها
(2)
؟
(1)
انظر: "جامع المسائل"(8/ 278، 295)، و"مجموع الفتاوى"(29/ 309).
(2)
ش: "فيعطاه وقد تابت"! وفي ع: "عوضه" مكان "غرضه"، وأشير في هامشها إلى أن في نسخة أخرى ما أثبت.
وهَبْ أنَّ هذا المالَ لم يملكه الآخذُ، فمِلْكُ صاحبِه قد زال عنه بإعطائه لمن أخذه، وقد سلَّم له ما في قُبالته من النَّفع، فكيف يقال: مِلكُه باقٍ عليه ويجب ردُّه إليه؟ وهذا بخلاف أمره بالصَّدقة به، فإنَّه قد أخَذَه من وجهٍ خبيثٍ برضا صاحبه وبذله له فلم يَطِبْ بذلك، وصاحبُه قد رضي بإخراجه عن مِلكه وأن لا يعودَ إليه، فكان أحقَّ الوجوه به صرفُه في المصلحة التي ينتفع بها من قبَضَه، ويخفَّفَ عنه الإثمُ، ولا يُقوَّى الفاجر به ويُعانُ
(1)
ويُجمَع له بين الأمرين.
وهكذا توبةُ
(2)
من اختلط مالُه الحلالُ بالحرام، وتعذَّر عليه تمييزُه: أن يتصدَّق بقدر الحرام، ويطيبُ له باقي ماله
(3)
.
فصل
إذا غصَب مالًا، ومات ربُّه، وتعذَّر ردُّه عليه= تعيَّن عليه ردُّه إلى وارثه. فإن مات الوارثُ ردَّه إلى وارثه، وهلمَّ جرًّا. فإن لم يردَّه إلى ربِّه ولا إلى أحد من ورثته، فهل تكون المطالبةُ به في الآخرة للموروث إذ هو ربُّه الأصليُّ وقد غصَبه عليه، أو للوارث الآخِر إذ الحقُّ قد انتقل إليه؟
فيه قولان للفقهاء، وهما وجهان في مذهب الشَّافعيِّ رضي الله عنه.
ويحتمل أن يقال: المطالبة للموروث ولكلِّ واحدٍ من الورثة، إذ كلٌّ
(1)
يعني: "ولا يعان" كما في ش. وكذا كان في الأصل ثم ضرب على "لا". وفي م: "فيعان".
(2)
لفظ "توبة" من ع وحدها.
(3)
انظر: "مجموع الفتاوى"(29/ 273، 308).
منهم قد كان يستحقُّه ويجب عليه الدَّفعُ إليه
(1)
، فقد ظلمه بترك إعطائه ما وجب عليه دفعُه إليه، فيتوجّه عليه المطالبة له في الآخرة
(2)
.
فإن قيل: فكيف يتخلَّص بالتَّوبة من حقوق هؤلاء؟
قيل: طريقُ التَّوبة: أن يتصدَّق عنهم بمالٍ تجري منافعُ ثوابه عليهم بقدر ما فات كلَّ واحدٍ منهم من منفعة ذلك المال لو صار إليه، متحرِّيًا للممكن من ذلك. وهكذا لو تطاولت على المال سنون، وقد كان يمكن ربَّه أن ينمِّيه بالرِّبح، فتوبتُه بأن يخرج المالَ ومقدار ما فوَّتَه
(3)
من ربح ماله.
فإن كان قد ربح فيه بنفسه، فقيل: الرِّبحُ كلُّه للمالك، وهو قولُ الشَّافعيِّ وظاهرُ مذهب أحمد
(4)
.
وقيل: كلُّه للغاصب، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة. وكذلك لو أودعه مالًا فاتَّجَر به وربح، فربحُه له دون مالكه عندهما وضمانُه عليه
(5)
.
وفيها قولٌ ثالثٌ: أنّهما شريكان في الرِّبح. وهو روايةٌ عن أحمد، واختيار شيخنا
(6)
، وهو أصحُّ الأقوال، فيضمُّ حصَّة المالك من الرِّبح إلى أصل
(1)
"إليه" ساقط من ش.
(2)
وانظر: "الدَّاء والدَّواء"(ص 335).
(3)
ش: "فانه".
(4)
انظر: "المهذب" للشيرازي (2/ 201)، و"المغني"(7/ 399).
(5)
انظر: "بداية المجتهد"(4/ 96)، وفيه وفي "الهداية" للمرغيناني (4/ 298) وغيره أنه مذهب أبي يوسف.
(6)
انظر: "الروايتين والوجهين"(1/ 415)، و"جامع المسائل"(2/ 217)، و"مجموع الفتاوى"(30/ 323، 329)، و"الاختيارات الفقهية" للبعلي (ص 147).
المال ويتصدَّق بذلك.
وهكذا لو غصَب ناقةً أو شاةً فنُتِجَتْ أولادًا، فقيل: أولادُها كلُّها للمالك. فإن ماتت أو شيءٌ من النِّتاج ردّ أولادَها وقيمةَ الأمِّ وما مات من النِّتاج. هذا مذهب الشَّافعيِّ وأحمد في المشهور عند أصحابه. وقال مالكٌ: إذا ماتت فربُّها بالخيار بين أخذ قيمتها يوم ماتت وتركِ نتاجِها للغاصب، وبين أخذِ نتاجها وتركِ قيمتها. وعلى القول الثَّالث الرَّاجح يكون عليه قيمتُها وله نصفُ النِّتاج
(1)
.
فصل
اختلف النَّاسُ هل في الذُّنوب ذنبٌ لا تُقبل توبتُه أم لا؟
فقال الجمهور: التَّوبةُ تأتي على كلِّ ذنبٍ، فكلُّ ذنبٍ يمكن التَّوبةُ منه وتُقْبَل.
وقالت طائفةٌ: لا تقبل توبة القاتل
(2)
. وهذا مذهب ابن عبَّاسٍ رضي الله عنه المعروف عنه وإحدى الرِّوايتين عن أحمد
(3)
.
وقد ناظر ابنَ عبَّاسٍ في ذلك أصحابُه، فقالوا له
(4)
: أليس قد قال الله تعالى في الفرقان: {وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} إلى أن قال:
(1)
بعده في ع زيادة: "والله أعلم". وراجع في المسألة: "بداية المجتهد"(4/ 105)، و"مجموع الفتاوى"(30/ 320).
(2)
ع: "لا توبة للقاتل".
(3)
"الروايتين والوجهين"(2/ 247).
(4)
لم يرد "له" في ج، ع، وقد استدرك في هامش الأصل.
{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 68 - 70]؟ فقال: كانت هذه الآية في الجاهليَّة، وذلك أنَّ ناسًا من أهل الشِّرك كانوا قد قتَلوا وزنَوا، فأتَوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إنَّ الذي تدعو إليه لَحَسَنٌ لو تخبرنا أنَّ لِما عملنا
(1)
كفَّارةً، فنزل:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} إلى قوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ} [الفرقان: 68 - 70]، فهذه في أولئك. وأمَّا التي في سورة النِّساء، وهي قوله تعالى:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] = فالرَّجلُ إذا عرف الإسلامَ وشرائعَه ثمَّ قتَلَ فجزاؤه جهنَّمُ. وقال زيد بن ثابتٍ: لمَّا نزلت التي في الفرقان: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} عَجِبنا من لينها، فلبثنا سبعة أشهرٍ، ثمَّ نزلت الغليظةُ بعد اللَّيِّنة، فنسخَت اللَّيِّنةَ. وأراد بالغليظة هذه الآية آيةَ النِّساء، وباللَّيِّنة آيةَ الفرقان. قال ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما: آيةُ الفرقان مكِّيّةٌ، وآيةُ النِّساء مدنيّةٌ، نزلت ولم ينسخها شيءٌ
(2)
.
قال هؤلاء: ولأنَّ التَّوبةَ من قتل المؤمن عمدًا متعذّرةٌ، إذ لا سبيل إليها إلّا باستحلاله أو إعادة نفسه التي فوَّتها عليه
(3)
، إذ التّوَبةُ من حقِّ الآدميِّ لا
(1)
ج، ع:"عملناه".
(2)
"تفسير البغوي"(2/ 266 - 267) وعنه صدر المؤلف .. وقول ابن عباس: "إن ناسًا من أهل الشرك" إلى الآية (68) من سورة الفرقان أخرجه البخاري (4810) ومسلم (122).
(3)
بعده في ع زيادة: "إلى جسده".
تصحُّ إلّا بأحدهما، وكلاهما متعذّرٌ على القاتل، فكيف تصحُّ توبتُه من حقِّ آدميٍّ لم يصل إليه ولم يستحلَّه منه؟
ولا يرِدُ عليهم هذا في المال إذا مات ربُّه ولم يوفِّه إيّاه، لأنّه يتمكَّن من إيصال نظيره إليه بالصَّدقة.
قالوا: ولا يرِدُ علينا أنَّ الشِّركَ أعظم من القتل وتصحُّ التَّوبةُ منه، فإنَّ ذلك محضُ حقِّ الله تعالى، فالتّوبة منه ممكنةٌ. وأمّا حقُّ الآدميِّ فالتَّوبةُ منه موقوفةٌ على أدائه واستحلاله، وقد تعذَّر.
واحتجَّ الجمهور بقوله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]، فهذه في حقِّ التَّائب. وبقوله:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، فهذه في حقِّ غير التّائب; لأنّه فرَّقَ بين الشِّرك وما دونه، وعلَّق المغفرة بالمشيئة، فخصَّص وعلَّق؛ وفي التي قبلها عمَّمَ وأطلَقَ.
واحتجُّوا بقوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82]. فإذا تاب هذا القاتلُ وآمن وعمل صالحًا، فالله عز وجل غفّارٌ له.
قالوا: وقد صحَّ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم حديثُ الذي قتل المائةَ، ثمَّ تاب فنفعته توبتُه، وأُلحقَ بالقرية الصَّالحة التي خرج إليها
(1)
. وصحَّ عنه من حديث عبادة بن الصَّامت رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، وحوله عصابةٌ من
(1)
تقدَّم تخريجه (ص 512).
أصحابه: "بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنُوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتُوا ببهتانٍ تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصُوني في معروفٍ. فمن وفّى منكم فأجرُه على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعُوقِبَ به في الدُّنيا فهو كفّارةٌ له. ومن أصاب من ذلك شيئًا ثم ستَره
(1)
الله عليه فهو إلى الله: إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه". فبايعناه على ذلك
(2)
.
قالوا: وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربِّه تعالى: "ابنَ آدم لو لقيتَني بقُراب الأرض خطايا ثمّ لقيتَني لا تشرك بي شيئًا أتيتُكَ بقُرابها مغفرةً"
(3)
.
وقال صلى الله عليه وسلم: "من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنّة"
(4)
.
وقال: "من كان آخرَ كلامه: لا إله إلّا الله، دخل الجنّة"
(5)
.
وقال: "إنّ الله حرَّم على النّار من قال: لا إله إلّا الله، يبتغي بذلك وجهَ
(1)
ع: "فستره".
(2)
أخرجه البخاري (18)، ومسلم (1709).
(3)
تقدَّم تخريجه (ص 302).
(4)
أخرجه البخاري (1237) ومسلم (94) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
(5)
أخرجه أحمد (22034، 22127) وأبو داود (3116) والحاكم (1/ 351، 500) والبيهقي في "شعب الإيمان"(93، 8798، 8800) وغيرهم من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه. وإسناده حسن في الشواهد، ويشهد له حديثا أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما عند مسلم (916، 917) بلفظ: "لقِّنُوا موتاكم لا إله إلا الله"، وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه عند البخاري (128) ومسلم (32) بلفظ:"ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، صدقًا من قلبه، إلَّا حرَّمه الله على النار".
الله"
(1)
.
وفي حديث الشَّفاعة: "أَخرِجُوا من النّار مَن في قلبه مثقالُ حبَّةٍ من خردلٍ من إيمانٍ"
(2)
. وفيه يقول الله تعالى: "وعزَّتي وجلالي، لأُخرِجنَّ من النّار من قال لا إله إلّا الله"
(3)
.
وأضعافُ هذه النُّصوص كثيرٌ تدلُّ على أنّه لا يخلُد في النّار أحدٌ من أهل التَّوحيد.
قالوا: وأمّا هذه الآية التي في النِّساء، فهي نظائر أمثالها من نصوص الوعيد كقوله تعالى:{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 14]، وقوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
(4)
فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23]، وقوله:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10]، وقوله صلى الله عليه وسلم: "من قتل نفسَه بحديدةٍ، فحديدتُه في يده، يتوجَّأ بها
(5)
خالدًا مخلَّدًا في نار جهنَّم"
(6)
. ونظائره كثيرةٌ.
(1)
تقدَّم تخريجه (ص 509).
(2)
أخرجه البخاري (22)، ومسلم (184) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(3)
أخرجه البخاري (7510) ومسلم (193) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(4)
"وقوله
…
" إلى هنا ساقط من الأصل، والآية كلها ساقطة من النسخ الأخرى ما عدا ع.
(5)
أي يطعن بها.
(6)
أخرجه البخاري (5778)، ومسلم (109) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وقد اختلف النَّاس في هذه النُّصوص على طرقٍ
(1)
:
أحدها: القولُ بظاهرها وتخليدُ أرباب هذه الجرائم في النَّار. وهو قول الخوارج والمعتزلة. ثمَّ اختلفوا، فقالت الخوارج: هم كفّارٌ لأنّه لا يخلَّد في النَّار إلّا كافرٌ. وقالت المعتزلة: ليسوا بكفَّارٍ بل فسَّاقٌ مخلَّدون في النَّار. هذا كلُّه إذا لم يتوبوا.
وقالت فرقةٌ: بل هذا الوعيد في حقِّ المستحلِّ لها لأنَّه كافرٌ، وأمَّا مَن فعَلَها يعتقدُ
(2)
تحريمَها لم يلحقه هذا الوعيدُ وعيدُ الخلود، وإن لحقه وعيدُ الدُّخول.
وقد أنكر الإمام أحمد رضي الله عنه هذا القول، وقال: لو استحلَّ ذلك ولم يفعله كان كافرًا، والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إنّما قال: من فعل كذا وكذا.
وقالت فرقةٌ ثالثةٌ: الاستدلالُ بهذه النُّصوص مبنيٌّ على ثبوت العموم، وليس في اللُّغة ألفاظٌ عامّةٌ.
ومن هاهنا أنكر العمومَ من أنكره، وقصدُهم تعطيلُ هذه الأدلّة عن استدلال المعتزلة والخوارج بها، لكنَّ ذلك يستلزم تعطيلَ الشَّرع جملةً، بل تعطيلَ عامَّة الأخبار. فهؤلاء ردُّوا باطلًا بأبطلَ منه، وبدعةً بأقبحَ منها، وكانوا كمن رام يبني
(3)
قصرًا، فهدَم مصرًا!
(1)
انظر: "مجموع الفتاوى"(12/ 481 - 484)، (34/ 137) وكتاب "الإيمان" لأبي عبيد (ص 74 - 86).
(2)
ع: "معتقدًا".
(3)
ش: "أن يبني" وقد استدركت "أن" مع علامة صح في هامش م. وحذفها صواب شائع. ومنه حديث أبي هريرة رضي الله عنه في "صحيح البخاري"(5152): "لا يحلّ لامرأة تسألُ طلاق أختها"، أي أن تسأل.
وقالت فرقةٌ رابعةٌ: في الكلام إضمارٌ. قالوا: والإضمارُ في كلامهم كثيرٌ معروفٌ. ثمَّ اختلفوا في هذا المضمر، فقالت طائفةٌ بإضمار الشَّرط، والتَّقدير: فجزاؤه كذا إن جازاه أو إن شاء.
وقالت فرقةٌ خامسةٌ بإضمار الاستثناء، والتَّقديرُ: فجزاؤه كذلك إلّا أن يعفو. وهذه دعوى لا دليل في الكلام عليها البتّة، ولكنَّ إثباتَها بأمر خارجٍ عن اللّفظ.
وقالت فرقةٌ سادسةٌ: هذا وعيدٌ، وإخلافُ الوعيد لا يُذَمُّ بل يُمدَح. والله تعالى يجوز عليه إخلافُ الوعيد، ولا يجوز عليه إخلافُ الوعد. والفرقُ بينهما: أنَّ الوعيدَ حقُّه، فإخلافُه عفوٌ وهبةٌ وإسقاطٌ، وذلك موجَبُ كرمه وجوده وإحسانه. والوعدُ حقٌّ عليه أوجبه على نفسه، والله لا يُخلف الميعاد.
قالوا: ولهذا مدح به كعبُ بن زهيرٍ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول:
نبِّئتُ أنَّ رسولَ الله أوعَدَني
…
والعفوُ عند رسول الله مأمولُ
(1)
وتناظَر في هذه المسألة أبو عمرو بن العلاء وعمرو بن عبيدٍ، فقال عمرو بن عبيدٍ: يا أبا عمرٍو، لا يخلفُ الله وعدَه، وقد قال:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ} [النساء: 93]، فقال له أبو عمرٍو: ويحك يا عمرو، من العجمة أُتِيتَ! إنَّ العربَ لا تعُدُّ
(1)
"شرح ديوان كعب للسُّكَّري"(ص 19).
إخلافَ الوعيد ذمًّا، بل جودًا وكرمًا. أمَا سمعتَ قولَ الشَّاعر
(1)
:
ولا يَرْهَبُ ابنُ العمِّ ما عشتُ صَولتي
…
ولا يختشي
(2)
من صولةِ المتهدِّدِ
وإنِّي وإن أوعدتُه أو وعدتُه
…
لَمُخْلِفُ إيعادي ومُنْجِزُ مَوعدي
(3)
وقالت فرقةٌ سابعةٌ: هذه النُّصوص وأمثالُها ممَّا ذُكِرَ فيه المقتضي للعقوبة، ولا يلزم من وجود مقتضي الحُكم وجودُه، فإنَّ الحكمَ إنّما يتمُّ بوجود مقتضيه وانتفاء مانعه. وغايةُ هذه النُّصوص: الإعلامُ بأنَّ كذا سببُ العقوبة ومقتضٍ لها؛ وقد قام الدَّليلُ على ذِكر الموانع، فبعضُها بالإجماع، وبعضُها بالنَّصِّ. فالتَّوبةُ مانعٌ بالإجماع، والتَّوحيدُ مانعٌ بالنُّصوص المتواترة التي لا مدفع لها، والحسناتُ العظيمةُ الماحيةُ مانعةٌ، والمصائبُ الكبارُ المكفِّرةُ مانعةٌ، وإقامةُ الحدود في الدُّنيا مانعٌ بالنَّصِّ. ولا سبيل إلى تعطيل هذه النُّصوص، فلا بدَّ من إعمال النُّصوص من الجانبين. ومن هاهنا قامت الموازنة بين الحسنات والسّيِّئات اعتبارًا لمقتضي العقاب ومانعِه، وإعمالًا لأرجحهما.
قالوا: وعلى هذا بناءُ مصالح الدَّارين ومفاسدهما، وعلى هذا بناءُ الأحكام الشَّرعيَّة والأحكام القدريَّة، وهو مقتضى الحكمة السَّارية في
(1)
هو عامر بن الطفيل. انظر: "العقد"(1/ 245)، و"اللسان"(ختأ، ختو)، وملحق "ديوانه"(ص 66).
(2)
كذا في النسخ وبعض المراجع، والرواية:"يختتي" أو "أختتي".
(3)
أخرج الخبر الخرائطي في "مكارم الأخلاق"(204) والزجَّاجي في "مجالس العلماء"(ص 62) وابن بطة في "الإبانة الكبرى"(4/ 301) والخطيب في "تاريخه"(14/ 63) وغيرهم.
الوجود، وبه ارتباطُ الأسباب ومسبَّباتها خلقًا وأمرًا. وقد جعل الله سبحانه لكلِّ ضدٍّ ضدًّا يدافعه ويقاومه، ويكون الحكمُ للأغلب منهما، فالقوّةُ مقتضيةٌ للصِّحّة والعافية، وفسادُ الأخلاط وبغيُها
(1)
مانعٌ من عملِ الطَّبيعة وفعلِ القوَّة، والحكمُ للغالب منهما. وكذلك قوى الأدوية والأمراض. والعبدُ يكون فيه مقتضٍ للصِّحّة ومقتضٍ للعطَب، وأحدُهما يمنع كمالَ تأثير الآخر ويقاومه، فإذا ترجَّح عليه وقَهرَه كان التّأثيرُ له.
ومن هاهنا يُعلَم انقسامُ الخلق إلى من يدخل الجنَّةَ ولا يدخل النَّارَ وعكسه، ومن يدخل النَّارَ ثمّ يخرُج منها ويكون مَكْثُه فيها بحسب ما فيه من مقتضي المَكْثِ في سرعة الخروج وبطئه.
ومن له بصيرةٌ منوَّرةٌ يرى بها كلَّ ما أخبر الله به في كتابه من أمر المعاد وتفاصيله حتَّى كأنَّه يشاهدُه رأيَ عينٍ، ويعلَمُ أنَّ هذا هو مقتضى إلهيَّته سبحانه وربوبيَّته وعزَّته وحكمته، وأنّه يستحيل عليه خلافُ ذلك، ونسبةُ خلاف ذلك إليه نسبةُ ما لا يليق به إليه. فيكون نسبةُ ذلك إلى بصيرته كنسبة الشَّمس والنُّجوم إلى بصره. وهذا يقينُ الإيمان، وهو الذي يُحرق السَّيِّئاتِ كما تُحرق النَّارُ الحطب.
وصاحبُ هذا المقام من الإيمان يستحيل إصرارُه على السَّيِّئات وإن وقعت منه وكثرت، فإنَّ ما معه من نور الإيمان يأمرُه بتجديد التَّوبة كلَّ وقتٍ والرُّجوعِ إلى الله بعدد أنفاسه. وهذا من أحبِّ الخلق إلى الله تعالى.
فهذه مجامعُ طرق النّاس في نصوص الوعيد.
(1)
يعني هيجانها وغليانها. وفي ل، ج، ش:"نفيها"، تصحيف.
فصل
واختلفوا فيما إذا تاب القاتل وسلَّم نفسه فقُتِل قصاصًا، هل يبقى عليه للمقتول يوم القيامة حقٌّ؟
فقالت طائفةٌ: لا يبقى عليه شيءٌ لأنَّ القصاص حدُّه، والحدود كفَّارةٌ لأهلها، وقد استوفى ورثة المقتول حقَّ موروثهم، وهم قائمون مقامه في ذلك، فكأنَّه قد استوفاه بنفسه، إذ لا فرق بين استيفاء الرجل حقَّه بنفسه أو بنائبه ووكيله.
يوضِّح هذا أنَّه أحد الجنايتين
(1)
، فإذا استُوفيت منه لم يبق عليه شيء، كما لو جنى على طرفه فاستقاد منه فإنَّه لا يبقى له عليه شيء.
وقالت طائفةٌ: المقتول قد ظُلِم وفاتت عليه نفسه ولم يستدرك ظُلامته، والوارث إنَّما أدرك ثأر نفسه وشفى غيظَ نفسه
(2)
، وأيُّ منفعةٍ حصلت للمقتول بذلك؟ وأيُّ ظُلامةٍ استوفاها من القاتل؟
قالوا: فالحقوق في القتل ثلاثة: حقٌّ لله، وحقٌّ للمقتول، وحقٌّ للوارث، فحقُّ الله لا يزول إلَّا بالتَّوبة، وحقُّ الوارث قد استوفاه بالقتل، وهو مخيَّر بين ثلاثة أشياء: بين القصاص، والعفو مجَّانًا، أو إلى مالٍ؛ فلو أحلَّه أو أخذ منه مالًا لم يسقط حقُّ المقتول بذلك، فكذلك إذا اقتَصَّ منه، لأنَّه أحد الطُّرق الثلاثة في استيفاء حقِّه، فكيف يسقط حقُّ المقتول بواحدٍ منها دون الآخَرَين؟
قالوا: ولو قال القتيل: لا تقتلوه لأطالبه بحقِّي يوم القيامة، فقتلوه، أكان
(1)
ج: "الجانبين"، تصحيف.
(2)
ع: "وشفى غيظه".
يَسقط حقُّه ولم
(1)
يُسقطه؟ فإن قلتم: يَسقط، فباطلٌ لأنَّه لم يرض بإسقاطه، وإن
(2)
قلتم: لا يَسقط، فكيف تُسقطونه إذا اقتُصَّ منه مع عدم العلم برضا المقتول بإسقاط حقِّه؟
وهذه حججٌ كما ترى في القوَّة لا تندفع إلَّا بأقوى منها أو أمثالها.
فالصّواب ــ والله أعلم ــ أن يقال: إذا تاب القاتل من حقِّ الله، وسلَّم نفسه طوعًا إلى الوارث يستوفي منه حقَّ موروثه
(3)
سقط عنه الحقَّان، وبقي حقُّ الموروث لا يضيِّعه الله، ويجعل من تمام مغفرته للقاتل تعويضَ المقتول، فإن مصيبته لم تنجبر بقتل قاتله، والتَّوبةُ النَّصوح تهدم ما قبلها، فيعوِّض هذا عن مظلمته، ولا يعاقِب هذا لكمال توبته. وصار هذا كالكافر المحارب لله ورسوله إذا قتل مسلمًا في الصفِّ ثمَّ أسلم وحسُن إسلامه، فإنَّ الله سبحانه يعوِّض الشَّهيد المقتول
(4)
، ويغفر للكافر بإسلامه ولا يؤاخذه بقتل المسلم ظلمًا، فإنَّ هدم التوبة لما قبلها كهدم الإسلام لما قبله.
وعلى هذا إذا أسلم
(5)
نفسه وانقاد، فعفا عنه الوليُّ، وتاب القاتل توبةً نصوحًا= فالله تعالى يقبل توبته ويعوِّض المقتول.
فهذا الذي يمكن أن يصل إليه نظر العالم واجتهادُه، والحكم بعد ذلك لله {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [النمل: 78]، والله أعلم.
(1)
ل، ج:"أو لم"، خطأ.
(2)
ج: "وإنما"، خطأ.
(3)
ل، ش، ج:"مورثه".
(4)
ع: "هذا الشهيد المقتول".
(5)
ش، ج، ع:"سلَّم".