الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عليها انكشف لهم من ذنوبهم ومعاصيهم ما لم ينكشف للعامَّة، إذ حرصُ العامَّة على الاستكثار من الطاعات ولذلك كثرت في أعينهم؛ وحرصُ هؤلاء على تنقية الآفات والتَّفتيش على عيوب الأعمال. فاستقلالُ السَّيِّئات آفة هؤلاء وقاطعُ طريقهم، واستكثارُ الحسنات وعِظمُها في قلوب أولئك آفتُهم وقاطعُ طريقهم. فذكَر ما هو الأخصُّ الأغلبُ على كلِّ واحدةٍ من الطّائفتين.
فصل
قال صاحب "المنازل"
(1)
: (و
توبةُ الخواصِّ من تضييع الوقت
، فإنّه يدعو إلى درَكِ النَّقيصة، ويُطفئ نورَ المراقبة، ويُكدِّر عينَ الصُّحبة).
ليس مرادُه بتضييع الوقت إضاعتَه في الاشتغال بمعصيةٍ أو لغوٍ، أو الإعراضِ عن واجبه وفرضه، فإنّهم لو أضاعوه بهذا المعنى لم يكونوا من الخواصِّ، بل هذه
(2)
توبةُ العامَّةِ بعينها. والوقتُ عند القوم أخصُّ منه في لغة العرب، حتّى إنَّ منهم من يقول: الوقت هو الحقُّ، ومنهم من يقول: استغراقُ رسم العبد في وجود الحقِّ، يشيرون إلى الفناء في حضرة الجمع
(3)
. والغالبُ على اصطلاحهم أنّه زمنُ الإقبال على الله تعالى بالمراقبة والحضور والفناء في الوحدانيّة. ويقولون: هو صاحبُ وقتٍ مع الله، فخصُّوا الوقتَ بهذا الاسم تخصيصًا للَّفظ العامِّ ببعض أفراده، وإلّا فكلُّ مَن هو مشغولٌ بأمرٍ يعنى به فانٍ في شهوده وطلبه، فله وقتٌ معه، بل أوقاته مستغرقةٌ فيه.
(1)
"منازل السائرين"(ص 11).
(2)
بعده في ش زيادة: "التوبة"، وكذا في هامش م.
(3)
انظر: باب الوقت في "منازل السائرين"(ص 82).
فتوبةُ هؤلاء من إضاعة هذا الوقت الخاصِّ الذي هو وقتُ وجدٍ صادقٍ وحالٍ صحيحةٍ مع الله تعالى لا يكدِّرها الأغيار.
وربّما يمرُّ بك إشباعُ القول في الوقت والفرق بين الصَّحيح منه والفاسد فيما بعد إن شاء الله
(1)
.
والقصدُ: أنَّ إضاعةَ الوقت الصَّحيح يدعو إلى درَك النّقيصة، إذ صاحبُ حفظه مترقٍّ في درجات الكمال، فإذا أضاعه لم يقف موضعه، بل ينزل إلى درجاتٍ من النَّقص؛ فإنَّ مَن لم يكن في تقدُّمٍ فهو متأخِّرٌ ولا بدَّ. فالعبدُ سائرٌ لا واقفٌ، فإمّا إلى فوق وإمّا إلى أسفل، إمّا إلى أمامٍ وإمّا إلى وراء. وليس في الطَّبيعة ولا في الشَّريعة وقوفٌ البتّة، ما هو إلّا مراحلُ تُطوى أسرعَ طيٍّ إلى الجنّة أو إلى النّار، فمسرعٌ ومبطئٌ، ومتقدِّمٌ ومتأخِّرٌ، وليس في الطّريق واقفٌ البتّة، وإنّما يتخالفون في جهة المسير، وفي السُّرعة والبطء {إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ} [المدثر: 35 - 37] ولم يذكر واقفًا، إذ لا منزل بين الجنّة والنّار، ولا طريق لسالكٍ إلى غير الدّارين البتّة
(2)
.
فإن قلت: كلُّ مجدٍّ في طلب شيءٍ لا بدّ أن يعرض له وقفةٌ وفتورٌ، ثمَّ ينهض إلى طلبه.
قلت: لا بدَّ من ذلك، ولكنَّ صاحب الوقفة له حالان: إمّا أن يقف ليُجِمَّ
(1)
في شرح باب الوقت (3/ 544).
(2)
بعده في ع زيادة وقد أشير في أولها إلى أنها زيادة على الأصل: "فمن لم يتقدَّم إلى هذه بالأعمال الصّالحة فهو متأخِّرٌ إلى تلك بالأعمال السّيِّئة".
نفسَه، ويُعِدَّها للسَّير
(1)
، فهذا وقفةُ سيرٍ، ولا تضرُّه الوقفة، فإنَّ لكلِّ عاملٍ شِرَّةً
(2)
، ولكلِّ شِرَّةٍ فترةٌ
(3)
.
وإمّا أن يقف لداعٍ دعاه من ورائه، وجاذبٍ جذَبه من خلفه، فإن أجابه أخَّره ولا بدَّ، فإن تدارَكَه الله برحمته، وأطلَعه على سبق الرَّكب له وعلى تأخُّره، نهضَ نهضةَ الغضبانِ الآسفِ على الانقطاع، ووثَب وجمَز واشتدَّ سعيًا ليلحقَ الرَّكبَ
(4)
. وإن استمرَّ مع داعي التّأخُّر وأصغى إليه لم يرضَ بردِّه إلى حالته الأولى من الغفلة وإجابة داعي الهوى، حتّى يردَّه إلى أسوأَ منها وأنزلَ درَكًا. وهو بمنزلة النَّكسة الشَّديدة عقيبَ الإبلال من المرض، فإنّها أخطر منه وأصعب.
وبالجملة، فإنْ تدارَكَ الله سبحانه هذا العبدَ بجذبةٍ منه من يد عدوِّه وتخليصه، وإلّا فهو في تأخُّرٍ إلى الممات، راجعٌ القهقرى، ناكصٌ على عقبيه، أو مولٍّ ظهرَه، ولا قوَّة إلّا بالله، والمعصومُ من عصَمه الله.
وقوله: (ويطفئ نورَ المراقبة). يعني: أنَّ المراقبةَ تعطي نورًا كاشفًا لحقائق المعرفة والعبوديّة، وإضاعةُ الوقت تطفئ ذلك النُّور، وتكدِّر عينَ الصُّحبة
(5)
مع الله تعالى، فإنَّ صاحب الوقت مع صحبة الله، وله مع الله معيّةٌ
(1)
بعده في ع زيادة: "وإما أن يقف لداعٍ دعاه"، وأشير إلى زيادتها أيضًا بكتابة "لا" في أولها و"إلى" في آخرها ثم الضرب عليها لمجيئها في السطر التالي.
(2)
الشِّرَّة: النشاط.
(3)
كما جاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، وسيأتي.
(4)
كلمة "الرَّكب" من ع وحدها.
(5)
ما عدا ع: "نور الصحبة"، والمثبت موافق لما سبق من متن "المنازل" ولما يأتي بعد سطر.
خاصّةٌ بحسب حفظه وقتَه مع الله. فإن
(1)
كان مع الله كان الله معه. فإذا أضاع وقتَه كدَّر عينَ هذه المعيَّة الخاصَّة، وتعرَّض لقطع هذه الصُّحبة. فلا شيءَ أضرُّ على العارف بالله من إضاعة وقته مع الله، ويُخشى عليه إن لم يتداركه بالرُّجوع أن تستمرَّ الإضاعةُ إلى يوم اللِّقاء، فتكون حسرتُه وندامتُه أعظمَ من حسرة غيره وندامته
(2)
، وحجابُه عن الله أشدَّ من حجاب سواه، ويكون حالُه شبيهًا بحال قومٍ يؤمر بهم إلى الجنّة، حتّى إذا عاينوها وشاهدوا ما فيها صُرفت وجوهُهم عنها إلى النّار. فإذن توبةُ الخواصِّ من تضييع أوقاتهم مع الله التي تدعو إلى هذه الأمور.
فصل
وفوق هذا مقامٌ آخر من التّوبة أرفَعُ منه وأخصُّ، لا يعرفه إلّا خواصُّ المحبِّين، الذين يستقلُّون في حقِّ محبوبهم جميعَ أعمالهم وأحوالهم وأقوالهم، فلا يرونها قطُّ إلّا بعين النَّقص والإزراء عليها، ويرون شأنَ محبوبهم أعظمَ وقدرَه أعلى من أن يرضَوا نفوسَهم وأعمالَهم له، فهم أشدُّ شيءٍ احتقارًا لها وإزراءً بها. وإذا غفلوا عن مراد محبوبهم منهم
(3)
ولم يوفُّوه حقَّه تابوا إليه من ذلك توبةَ أرباب الكبائر منها. فالتّوبةُ لا تفارقهم أبدًا، وتوبتُهم لونٌ، وتوبةُ غيرهم لونٌ
(4)
وكلَّما ازدادوا حبًّا له ازدادوا معرفةً بحقِّه وشهودًا لتقصيرهم، فعظمت لذلك توبتُهم. ولذلك كان خوفُهم أشدَّ،
(1)
ش: "فإنَّ مَن"، وكذا في هامش م.
(2)
"وندامته" من ع وحدها.
(3)
ما عدا ج: "منه"، وهو خطأ.
(4)
وردت بعده في ع الآية: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76].
وإزراؤهم على أنفسهم أعظمَ، وما يتوب منه هؤلاء قد يكون من كبار حسنات غيرهم.
وبالجملة، فتوبةُ المحبِّين
(1)
العارفين بربِّهم وبحقِّه هي التَّوبة، وسواهم محجوبٌ عنها.
وفوق هذه توبةٌ أخرى، الأولى بنا الإضرابُ عنها صفحًا.
فصل
قال صاحب "المنازل" رحمه الله
(2)
: (ولا يتمُّ مقامُ التَّوبة إلّا بالانتهاء إلى التَّوبة ممّا دون الحقِّ، ثمّ رؤيةِ علَّة التَّوبة، ثمّ التَّوبةِ من رؤية تلك العلَّة).
التّوبةُ ممّا دون الله: أن يخرج العبدُ بقلبه عن إرادة ما سوى الله، فيعبدَه وحده لا شريك له بأمره وباستعانته، فيكونَ كلُّه له وبه. وهذا أمرٌ لا يصحُّ إلّا لمن استولى عليه سلطانُ المحبَّة، فامتلأ قلبُه من الله محبّةً له وإجلالًا وتعظيمًا، وذلًّا وخضوعًا وانكسارًا بين يديه، وافتقارًا إليه.
فإذا صحّ له ذلك بقيت عليه عندهم بقيّةٌ أخرى، هي علَّةٌ في توبته، وهي شعورُه بها، ورؤيتُه لها، وعدمُ فنائه عنها. وذلك بالنِّسبة إلى مقامه وحاله ذنبٌ، فيتوب من هذه الرُّؤية.
فهاهنا ثلاثة أمورٍ: توبتُه ممّا سوى الله، ورؤيتُه هذه التّوبةَ وهي علَّتها، وتوبتُه من رؤية تلك الرُّؤية. وهذا عند القوم الغايةُ التي لا شيء بعدها،
(1)
في ع بعده زيادة: "الصادقين".
(2)
"منازل السائرين"(ص 11).
والنِّهايةُ التي لا تكون إلّا لخاصَّة الخاصَّة. ولَعَمْرُ الله إنَّ رؤيةَ العبد فعلَه، واحتجابَه به عن ربِّه ومشاهدته له= علّةٌ في طريقه مُوجِبٌ
(1)
للتَّوبة.
وأمّا رؤيتُه له واقعًا بمنّة الله وفضله وحوله وقوّته وإعانته، فهذا أكمَلُ من غَيبته عنه. وهو أكمَلُ من المقام الذي يشيرون إليه، وأتمُّ عبوديّةً، وأدعى للمحبَّة وشهود المنَّة، إذ يستحيلُ شهودُ المنَّةِ والفضلِ على شيءٍ لا شعورَ للشّاهد به البتّة.
والّذي ساقهم إلى ذلك سلوكُ وادي الفناء في الشُّهود، فلا يشهد مع الحقِّ سببًا
(2)
ولا وسيلةً ولا رسمًا البتّة.
ونحن لا ننكر ذوقَ هذا المقام، وأنَّ السّالك ينتهي إليه، ويجد له حلاوةً ووجدًا ولذّةً لا يجدها لغيره البتّة. وإنَّما يطالبُ أربابُه والمشمِّرون إليه بأمرٍ وراءه، وهو أنَّ هذا هو الكمال، وهو أكمَلُ مِن حالِ مَن شهد أفعالَه ورآها ورأى تفاصيلها مشاهدًا لها صادرةً عنه بمشيئة الله وإرادته ومعونته، فشهد عبوديَّتَه مع شهود معبوده، ولم يغِبْ في شهود العبوديَّة عن المعبود ولا بشهود المعبود عن العبودية، فكلاهما ناقص! والكمالُ: أن تشهد العبوديَّةَ حاصلةً بمنَّة المعبود وفضله ومشيئته، فيجتمعَ لك الشُّهودان. فإن غبتَ بأحدهما عن الآخر، فالمقامُ مقامُ توبةٍ، وهل في الغَيبة عن العبوديَّةِ إلّا هضمٌ لها؟
والواجب: أن يقع التَّحاكُم في ذلك إلى الله ورسوله وإلى حقائق الإيمان
(1)
في النسخ المطبوعة: "موجبة".
(2)
ش: "شيئًا"، تصحيف.
دون الذَّوق، فإنَّا لا ننكر ذوقَ هذه الحال، وإنَّما ننكرُ كونَها أكملَ من غيرها. فأين الإشارةُ في القرآن، أو في السُّنَّة، أو في كلام سادات العارفين من الصَّحابة ومن تبعهم= إلى هذا الفناء، وأنَّه هو الكمال، وأنَّ رؤيةَ العبد لفعله بالله وحوله وفضله، وشهودَه له كذلك= علّةٌ تجب التَّوبةُ منها؟
وهذا القدرُ ممَّا يصعبُ إنكاره على القوم جدًّا، ويرمُون منكِرَه بأنّه محجوبٌ من أهل الفَرْق، وأنّه لم يصل إلى هذا المقام، ولو وصَل إليه لَمَا أنكره. وليس في شيءٍ من ذلك حجّةٌ لتصحيح قولهم، ولا جوابُ المطالبة، فقد سألكم هذا المحجوبُ عن مسألةٍ شرعيَّةٍ، وما ذكرتموه ليس بجوابٍ لها. ولَعَمْرُ الله إنَّه يراكم محجوبين عن حالٍ أعظمَ من هذه الحال، ومقامٍ أرفع منه!
وليس في مجرَّدِ الفناءِ والاستغراقِ في شهود القيُّوميّة وإسقاطِ الأسباب والعلل والحِكَم والوسائط كبيرُ علمٍ ولا معرفةٌ ولا عبوديّةٌ. وهل المعرفةُ كلُّ المعرفة والعبوديَّةُ إلّا شهودُ الأشياء على ما هي عليه؟ والقرآنُ مملوءٌ من دعاء العباد إلى التّفكُّرِ في الآيات، والنَّظَرِ في أحوال المخلوقات، ونظرِ الإنسان في نفسه وتفاصيل أحواله. وأخصُّ من ذلك: نظرُه فيما قدَّمه لغده، ومطالعتُه لنِعَم الله عليه بالإيمان والتَّوفيق والهداية، وتذكُّرُ
(1)
ذلك والتّفكُّرُ فيه وحمدُ الله وشكرُه عليه. وهذا لا يحصل مع الفناء حتّى عن رؤيةِ الرُّؤية وشهودِ الشُّهود.
ثمّ إنَّ هذا غيرُ ممكنٍ البتّة، فإنَّكم إذا جعلتم رؤيتَه لتوبته علّةً يتوب
(1)
ق، ش، م:"وبذكر". وفي ل أهمل أوله.
منها، فإنَّ رؤيتَه لتلك الرُّؤية أيضًا علّةٌ توجب عليه توبةً
(1)
، وهلمَّ جرًّا؛ فلا ينتهي الأمرُ إلَّا بسقوط التَّمييز جملةً، والسُّكرِ والطَّمْس
(2)
المنافي للعبوديَّة، فضلًا عن أن يكون غايةً للعبوديّة.
فتأمَّلِ الآن تفاصيلَ عبوديَّة الصَّلاة، كيف لا تتمُّ إلّا بشهود فعلك الذي متى غبتَ عنه كان ذلك نقصًا في العبوديّة.
فإذا قال المصلِّي: "وجَّهتُ وجهيَ للَّذي فطر السَّماوات والأرض حنيفًا"
(3)
، فعبوديّةُ هذا القول أن يشهد وجهَه، وهو قصدُه وإرادتُه
(4)
، وأن يشهدَ حنيفيَّتَه
(5)
، وهي إقبالُه على الله.
ثمّ إذا قال: "إنَّ صلاتي ونسكي ومحيايَ ومماتي لله ربِّ العالمين"
(6)
، فعبوديّةُ هذا القول أيضًا: أن يشهد الصّلاةَ والنُّسكَ المضافَين إليه لله
(7)
سبحانه. ولو غاب عنهما كان قد أضاف إلى الله بلسانه ما هو غائبٌ عن استحضاره بقلبه، فكيف يكون هذا أكملَ وأعلى مِن حال من استحضر فعلَه
(1)
ل، ش:"توبته".
(2)
في "لطائف الإعلام"(2/ 481) أنَّ المحو: رفع أوصاف العادة. والطمس فوق المحو، وهو رفع جميع الأوصاف.
(3)
رواه مسلم (771) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
(4)
انظر: "زاد المعاد"(4/ 351).
(5)
ع: "حقيقته"، تصحيف ظاهر.
(6)
جزء من حديث علي رضي الله عنه السابق.
(7)
كان في الأصل: "إلى الله" كما في ش وهامش م، فأصلح كما أثبت من ع. وفي ل، ج، م:"المضافين لله" بحذف "إليه".
وعبوديَّتَه، وأضافها إلى الله، وشهد مع ذلك كونَها به؟ فأين هذا من حال المستغرِق الفاني المصطلَم الذي قد غاب بمعبوده عن حقِّه وعبادته، وقد أُخِذَ منه وغُيِّب عنه؟ نعم، غايةُ هذا أن يكون معذورًا، أمّا أن يكون مقامُه أعلى مقامٍ وأجلَّه فكلَّا.
وكذلك إذا قال في قراءته: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فعبوديّةُ هذا القول فهمُ معنى العبادة والاستعانة، واستحضارُهما، وتخصيصُهما بالله، ونفيُهما عن غيره. فهذا أكمَلُ من قول ذلك بمجرَّد اللِّسان.
وكذلك إذا قال في ركوعه: "اللهمَّ لك ركعتُ، وبك آمنتُ، ولك أسلمتُ، خشَع لك سمعي وبصري ومخِّي وعَظْمي، وما استقلَّ به قدَمي"
(1)
. فكيف يؤدِّي عبوديّةَ هذه الكلمات غائبٌ عن فعله مستغرقٌ في فنائه؟ وهل يبقى غيرُ أصواتٍ جاريةٍ على لسانٍ؟ ولولا العذرُ لم تكن هذه عبوديّةً.
نعم، رؤيةُ هذه الأفعال، والوقوفُ عندها، والاحتجابُ بها عن المنعِم بها الموفِّق لها المانِّ بها= من أعظم العلل والقواطع
(2)
. قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17]. فالعارف غائبٌ بمنّة الله عليه في طاعته مع شهودها ورؤيتها، والجاهلُ غائبٌ بها عن رؤية منَّة الله، والفاني غائبٌ
(1)
من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه السابق. وفي "صحيح مسلم" بعد "عظمي": "وعصبي". وزيادة "وما استقلت به قدمي لله ربَ العالمين" في "صحيح ابن خزيمة"(607) و"صحيح ابن حبان"(1901).
(2)
ع: "العلل القواطع".