الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال: (و
شرائطُ التَّوبة
ثلاثةٌ: النّدم، والإقلاع، والاعتذار).
فحقيقة التّوبة: هي النّدمُ على ما سلف منه في الماضي، والإقلاعُ عنه في الحال، والعزمُ على أن لا يعاوده في المستقبل. والثّلاثة تجتمع في الوقت الذي تقع فيه التّوبة، فإنّه في ذلك الوقت يندَم، ويُقلِع، ويَعزِم. فحينئذٍ يرجع إلى العبوديّة التي خُلِق لها، وهذا الرُّجوعُ هو حقيقة التّوبة. ولمّا كان متوقِّفًا على تلك الثّلاثة جُعلت شرائط له.
فأمّا النّدم، فإنّه لا تتحقَّق التَّوبةُ إلّا به، إذ من لم يندَم على القبيح فذلك دليلٌ على رضاه به وإصراره عليه. وفي "المسند"
(1)
: "الندم توبةٌ".
وأمّا الإقلاع، فتستحيل التَّوبة مع مباشرة الذَّنب.
وأمّا الاعتذار، ففيه إشكالٌ، فإنَّ من النّاس من يقول: من تمام التّوبة تركُ الاعتذار، فإنَّ الاعتذارَ محاجّةٌ عن الجناية، وتركَ الاعتذار اعترافٌ بها، ولا تصحُّ التّوبة إلّا بعد الاعتراف. وفي ذلك يقول بعضُ الشُّعراء لرئيسه، وقد عتب عليه في شيءٍ:
(1)
برقم (3568) من حديث عبد الله بن معقل عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وأخرجه أيضًا الطيالسي (380) وابن ماجه (4252) والبزار (5/ 310) والحاكم (4/ 243) والبيهقي في "شعب الإيمان"(6629 - 6632) وغيرهم. واختلف في الراوي عن عبد الله بن معقل، ومع ذلك الحديثُ لا ينزل عن درجة الحسن إن شاء الله. وانظر للتفصيل:"علل ابن أبي حاتم"(1797، 1816، 1841، 1918) و"علل الدارقطني"(813، 737، 775، 895، 2988) و"تهذيب الكمال"(9/ 511 - 514) و"تحفة الأشراف"(7/ 72 - 73) و"تهذيب التهذيب"(3/ 384 - 385) وتعليق محققي "مسند أحمد"(3568).
وما قابلتُ عَتْبَك باعتذارٍ
…
ولكنِّي أقولُ كما تقولُ
وأطرُقُ بابَ عفوك بانكسارٍ
…
ويحكمُ بيننا الخلُقُ الجميلُ
(1)
فلمّا سمع الرّئيس مقالته قام وركب إليه من فوره، وأزال عتبه عليه. فتمامُ الاعترافِ تركُ الاعتذار، بأن يكون في قلبه ولسانه
(2)
:اللهمَّ لا عذرَ لي، وإنّما هو محضُ حقِّك، ومحضُ جنايتي، فإن عفوتَ
(3)
وإلّا فالحقُّ لك.
والّذي يظهر لي من كلام صاحب "المنازل" أنّه أراد بالاعتذار إظهارَ الضَّعفِ والمسكنةِ، وغلبةِ العدوِّ، وقوّةِ سلطان النّفس، وأنّه لم يكن منِّي ما كان استهانةً بحقِّك، ولا جهلًا به، ولا إنكارًا لاطِّلاعك عليَّ، ولا استهانةً بوعيدك؛ وإنّما كان عن غلباتِ الهوى، وضعفِ القوّة عن مقاومة مرض الشّهوة، وطمعًا في مغفرتك، واتِّكالًا على عفوك، وحسنَ ظنٍّ بك، ورجاءً لكرمك، وطمعًا في سعة حلمك ورحمتك. وغرَّني بك الغَرورُ، والنّفسُ الأمّارةُ بالسُّوء
(4)
، وأعانني جهلي. ولا سبيلَ لي إلى الاعتصام إلّا بك، ولا معونةَ على طاعتك إلّا بتوفيقك، ونحو هذا من الكلام المتضمِّن للاستعطاف والتّذلُّل والافتقار، والاعتراف بالعجز، والإقرار بالعبوديّة.
فهذا من تمام التّوبة. وإنّما يسلكه الأكياس المتملِّقون لربِّهم، والله
(1)
البيتان في "غرر الخصائص الواضحة"(ص 491) و"ديوان الصبابة"(ص 59).
(2)
في ع بعده زيادة: "اللهمَّ لا براءة لي من ذنبٍ فأعتذرَ، ولا قوّة لي فأنتصرَ، ولكنِّي مذنبٌ مستغفرٌ". وهي مأخوذة من كلام عمرو بن العاص رضي الله عنه عند وفاته. انظر: "العاقبة في ذكر الموت"(ص 125).
(3)
ش: "وإن غفرت".
(4)
بعده في ع زيادة: "وسِترُك المُرخى عليَّ".
يحبُّ
(1)
أن يُتَملَّق له. وفي الحديث: "تملَّقُوا الله"
(2)
. وفي الصّحيح
(3)
: "لا أحدَ أحبُّ إليه العذرُ من الله". وإن كان معنى ذلك: الإعذار، كما قال في آخرهِ:"من أجل ذلك أرسل الرُّسل مبشِّرين ومنذرين"، وقال تعالى:{فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} [المرسلات: 5 - 6]، فإنّه من تمام عدله وإحسانه أن أعذَرَ إلى عبيده، ولم يأخذ ظالمَهم إلّا بعد كمال الإعذار وإقامة الحجّة؛ فهو أيضًا يحبُّ من عبده أن يعتذر إليه، ويتنصَّل إليه من ذنبه. وفي الحديث:"من اعتذر إلى الله قبِل الله عذرَه"
(4)
. فهذا هو الاعتذار المحمود النّافع.
وأمّا الاعتذار بالقدر، فهو مخاصمةٌ لله، واحتجاجٌ من العبد على الرّبِّ،
(1)
في ع بعده زيادة: "من عبده".
(2)
ج، م:"لله". ولم أقف على هذا الحديث. وإنما ورد في كلام لأبي سليمان الداراني. قال أحمد بن أبي الحواري: "دخلت على أبي سليمان يومًا وهو يبكي، فقلت له: ما يبكيك؟ فقال: يا أحمد، وكيف لا أبكي
…
أشرف الجليل سبحانه، فنادى: يا جبريل،
…
أم كيف يجمل بي أن آخذ قومًا إذا جنَّهم الليل تملقوا،
…
". أخرجه القشيري في "رسالته" (ص 134) ــ ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (34/ 137) ــ وأبو نعيم في "حلية الأولياء" في ترجمة أحمد بن أبي الحواري (10/ 16).
(3)
أخرجه البخاري (7416)، ومسلم (1499) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
(4)
جزء من حديث أخرجه ابن بشران في "أماليه ــ الجزء الأول"(559) ــ ومن طريقه وطريق غيره الضياء في "المختارة"(6/ 81، 82) ــ من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وإسناده صحيح. وله طرق أخرى لا تخلو من ضعف، ينظر:"علل ابن أبي حاتم"(1919) و"نوادر الأصول"(932) و"الضعيفة"(588، 1916) و"الصحيحة"(2360).
وحملٌ لذنبه على الأقدار. وهذا فعلُ خُصَماء الله تعالى، كما قال بعض شيوخهم في قوله تعالى:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} [آل عمران: 14]، قال: أتدرون ما المراد بهذه الآية؟ قالوا: وما المراد بها؟ قال: إقامةُ أعذار الخليقة! وكذَب هذا الجاهلُ بالله وكلامه. وإنّما المراد بها: التّزهيدُ في هذا الفاني الذّاهب، والتّرغيبُ في الباقي الدّائم، والإزراءُ على من
(1)
آثر هذا المزيَّنَ واتَّبعه، بمنزلة الصّبيِّ الذي يُزيَّن له ما يلعَب به، فيهَشُّ إليه، ويتحرَّك له؛ مع أنّه لم يذكر فاعل التّزيين، فلم يقل: زيَّنَّا للنَّاس.
والله تعالى يضيف تزيين الدُّنيا والمعاصي إلى الشّياطين، كما قال:{وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 43]، وقال:{وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام: 137]. وفي الحديث: "بُعِثتُ هاديًا وداعيًا، وليس إليَّ من الهداية شيءٌ. وبُعِثَ إبليسُ مُغْويًا ومزيِّنًا، وليس إليه من الضلالة شيءٌ"
(2)
. ولا يناقض هذا قوله تعالى:
(1)
ع: "بمن".
(2)
أورده المصنف في "شفاء العليل"(ص 80) أيضًا. وقد أخرجه الدولابي في "الكنى والأسماء"(3/ 1157) والعقيلي في "الضعفاء"(2/ 209) وابن عدي في "الكامل"(4/ 320) وابن بطة في "الإبانة الكبرى"(1393 - نشرة آل حمدان) والخليلي في "الإرشاد"(3/ 939 - 940) من طريق خالد بن عبد الرحمن العبدي أبي الهيثم، عن سماك بن حرب، عن طارق بن شهاب، عن عمر بن الخطاب مرفوعًا بنحوه. قال العقيلي:"خالد بن عبد الرحمن أبو الهيثم، عن سماك بن حرب، ليس بمعروف بالنقل، حديثه غير محفوظ، ولا يعرف له أصل". ووافقه الدارقطني وقال ــ كما في "الميزان"(1/ 634) ــ: "لا أعلمه روى غير هذا الحديث الباطل"، وانظر:"اللسان"(3/ 327 - 328، 9/ 293). وظنَّ ابنُ عدي بأن خالد بن عبد الرحمن هذا هو الخراساني ــ وهو صدوق فيه لين ــ وأعلَّه بالانقطاع بينه وبين سماك. والصواب أنهما اثنان، فالخراساني غير العبدي، كما بيَّنه الحافظ في "التهذيب"(3/ 104). والحديث حكم عليه الألباني بالوضع في "الضعيفة"(2249).
{كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} [الأنعام: 108] فإنّ إضافةَ التّزيين إليه قضاءً وقدرًا، وإلى الشّيطان تسبُّبًا، مع أنَّ تزيينَه تعالى عقوبةٌ لهم على ركونهم إلى ما زيَّنه الشّيطانُ لهم، فمن عقوبة السّيِّئةِ السّيِّئةُ بعدها، ومن ثوابِ الحسنةِ الحسنةُ بعدها.
والمقصود: أنَّ الاحتجاجَ بالقدر منافٍ للتّوبة، وليس من الاعتذار في شيءٍ. وفي بعض الآثار:"إنَّ العبد إذا أذنب، فقال: يا ربِّ، هذا قضاؤك، وأنت قدَّرتَ عليَّ، وأنت حكمتَ عليَّ، وأنت كتبتَ عليَّ. فيقول الله: وأنت عملتَ، وأنت جنيتَ، وأنت أردتَ واجتهدتَ، وأنا أعاقبك عليه. وإذا قال: يا ربِّ، أنا ظلمتُ، وأنا أخطأتُ، وأنا اعتديتُ، وأنا فعلتُ. يقول الله عز وجل: وأنا قدَّرتُ عليك وقضيتُ وكتبتُ، وأنا أغفر لك. وإذا عمل حسنةً، فقال: يا ربِّ أنا عملتُها، وأنا تصدَّقتُ، وأنا صلَّيتُ، وأنا أطعتُ. يقول الله عز وجل: وأنا أعنتك، وأنا وفّقتك. وإذا قال: يا ربِّ أنت أعنتني، وأنت وفّقتني، وأنت مننتَ عليّ. يقول الله: وأنت أردتَها، وأنت كسبتها"
(1)
.
فالاعتذار اعتذاران: اعتذارٌ ينافي الاعتراف، فذلك منافٍ للتَّوبة. واعتذارٌ يقرِّر الاعتراف، فذلك من تمام التَّوبة.
(1)
من كلام سهل التستري. انظر: "من التراث الصوفي"(ص 165).