الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منهج المؤلف فيه
للمؤلف منهج عام يسير عليه في مؤلفاته، وقد ذكر العلامة الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله في كتابه «ابن قيم الجوزية» (ص 85 - 128) معالم منهجه في البحث والتأليف فيمكن الرجوع إليه للتفصيل.
وتحدثنا في فصول هذه المقدمة عن الغرض من تأليفه، وترتيب مباحثه، ومقارنته بأهم شروح «منازل السائرين» ، وتعقيب المؤلف على صاحب «المنازل» ، ونقتصر هنا على بيان منهجه في الكتاب وطريقة تناوله للموضوعات وشرحه لها.
عندما أراد المؤلف بيان منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، وشرحَ بعضها على طريقته في التفصيل والاستيعاب، عدلَ عن الخطة الأولى وتوجّه إلى كتاب «منازل السائرين» ليبني عليه كتابه ويشرحه فقرةً فقرةً، فقد كان الكتاب عمدة الصوفية بأنواعهم في زمانه يدرسونه ويشرحونه على طريقتهم، ويحملون كلام الهروي على معتقداتهم ومنها وحدة الوجود والفناء والاتصال وغير ذلك، فكان الاهتمام بكتاب «المنازل» في نظر المؤلف وشرحه على طريقة سديدة خالية من مزالق وشطحات التصوف أولى من تأليف كتاب مستقل في بيان منازل السلوك.
وطريقته في الشرح أنه غالبًا ما يستفتح كل منزلة بقوله: «فصل: ومن منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} منزلة
…
»، ثم يُورد الآيات الواردة فيها، منها الآية التي استفتح بها الهروي الكلام على هذه المنزلة، وقد يفسِّر منها ما كان بحاجة إلى ذلك. ثم يسرد أقوال أئمة الزُّهاد من السلف ومشايخ
الطريقة في تعريف هذه المنزلة، معتمدًا في نقلها على «الرسالة القشيرية» غالبًا، ويشرح من كلماتهم ما كان بحاجة إلى الشرح. ثم يبدأ بنقل كلام صاحب «المنازل» في الدرجات الثلاث لكل منزلة، ويشرحه فقرةً فقرةً، فيعتني أولًا ببيان مراد الهروي من كلامه معتمدًا في كثير من ذلك على شرح التلمساني، ثم يأخذ في الاستدلال له أو الاستدراك عليه أو نقده وتعقبه، مع التنبيه على ما في شرح التلمساني من انحرافات وتبرئة الهروي منها.
هذا هو الطابع العام للكتاب، إلّا أننا نجد شخصية المؤلف بارزة في جميع أبوابه وفصوله، فهو لم يقتصر على شرح الكتاب بل تعدَّاه إلى الاستدراك والاستطراد إلى أبحاث جليلة في موضوعات كثيرة من الزهد والتزكية والسلوك. وقد قدَّم لكثيرٍ من المنازل بكلام مستقل من عنده في فصول هي أهم من شرح كتاب الهروي، بحيث لو أُفرِدت ورُتِّبت لكانت من أنفس كتب السلوك في ضوء الكتاب والسنة على منهج السلف.
وفي تفسير سورة الفاتحة في أول الكتاب (1/ 10 - 171) اتخذ المؤلف منهجًا فريدًا للكلام على السورة من جوانب مختلفة، لا نجد له نظيرًا بين كتب التفسير، وقد ذكر فيه فصولًا مهمة تتعلق بالعبادة والاستعانة هي في الحقيقة بمنزلة القواعد والأسس التي يقوم عليها نظام التزكية والسلوك في الإسلام، وتسدُّ جميع المنافذ التي تسعى الطوائف المنحرفة للدخول منها كما سبق. وتظهر أهميته وقيمته عند مقارنته بتفسير الفاتحة للفخر الرازي المتكلم (ت 606) وتفسيرها المسمى «إعجاز البيان في كشف بعض أسرار أم القرآن» للصدر القونوي الصوفي (ت 673)، فالأول أفاض في أبحاث كلامية طويلة الذيول، والثاني أوَّلها تأويلات صوفية بعيدة عن
المقصود والسياق واللغة. وجاء المؤلف ففسَّرها تفسيرًا جديدًا يُبرِز مقاصد السورة ويبيِّن القواعد الأساسية للتوحيد والعبادة والسلوك، وبها يظهر للعيان أن الفاتحة أم القرآن.
ويعتبر هذا الكتاب أهم مصدرٍ لمعرفة جوانب من سيرة شيخ الإسلام ابن تيمية وزهده وآرائه في موضوعات السلوك لا توجد في غيره، فقد ضمَّنه المؤلف كثيرًا من كلام الشيخ وصفاته ومنهجه في الإفتاء، وأخبارًا من فراسته وعبادته وتقواه وتواضعه، وكأن المؤلف قصد ذلك قصدًا، فنثر ما يتعلق بشيخه في فصول الكتاب لأدنى مناسبة. ويراجع فهرس الفوائد المنثورة وفهرس الأعلام للاطلاع على هذه الفوائد والفرائد.
* * * *
فصل
والصِّراط المستقيم هو صراط الله. وهو يخبر أنّ الصِّراط عليه سبحانه كما ذكرنا، ويخبر أنّه سبحانه على الصِّراط المستقيم. وهذا في موضعين
(1)
من القرآن: في هودٍ، والنّحل. قال في هودٍ:{مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)} . وقال في النّحل: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ} .
فهذا مثلٌ ضربه الله تعالى للأصنام التي لا تسمع، ولا تنطق، ولا تعقل، وهي كَلٌّ على عابدها
(2)
. يحتاج الصَّنم إلى أن يحمله عابده، ويضعه
(3)
ويقيمه ويخدمه. فكيف يسوُّونه في العبادة بالله الذي يأمر بالعدل والتّوحيد؟ وهو قادرٌ، متكلِّمٌ، غنيٌّ، وهو على صراطٍ مستقيمٍ في قوله وفعله. فقوله صدقٌ ورشدٌ ونصحٌ وهدًى، وفعله حكمةٌ وعدلٌ ورحمةٌ ومصلحةٌ. هذا أصحُّ الأقوال في الآية، وهو الذي لم يذكر كثيرٌ من المفسِّرين غيره. ومن ذكر غيره قدَّمه على الأقوال، ثمّ حكاها بعده كما فعل البغويُّ رحمه الله، فإنّه جزم به، وجعله تفسير الآية، ثمّ قال: وقال الكلبيُّ: يدلُّكم على صراطٍ مستقيمٍ
(4)
.
(1)
ش: "الموضعين".
(2)
ش: "عابديها".
(3)
ش: "يطعمه".
(4)
"تفسير البغوي"(5/ 33).
قلت: ودلالته لنا على الصِّراط المستقيم هي من موجَبِ كونه سبحانه وتعالى على الصِّراط المستقيم، فإنّ دلالته بفعله وقوله، وهو على الصِّراط المستقيم في أفعاله وأقواله. فلا يناقض قول من قال: إنّه سبحانه على الصِّراط المستقيم.
قال
(1)
: وقيل: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم بما
(2)
يأمر بالعدل، وهو على صراطٍ مستقيمٍ.
قلت: وهذا قولٌّ لا يناقض القول الأوّل، فالله على الصِّراط المستقيم، ورسولُه عليه فإنّه لا يأمر ولا يفعل إلّا مقتضاه
(3)
وموجبه. وعلى هذا يكون المثل مضروبًا لإمام الكفّار وهاديهم
(4)
، وهو الصّنم الذي هو أبكم، لا يقدر على هدًى ولا خيرٍ؛ ولإمام الأبرار، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يأمر بالعدل وهو على صراطٍ مستقيمٍ. وعلى القول الأوّل، يكون مضروبًا لمعبود الكفّار ومعبود الأبرار. والقولان متلازمان، فبعضهم ذكر هذا، وبعضهم ذكر هذا، وكلاهما مرادٌ من الآية.
قال
(5)
: وقيل: كلاهما للمؤمن والكافر، يرويه عطيّة عن ابن عبّاسٍ. وقال عطاءٌ: الأبكم: أبيُّ بن خلفٍ، ومن يأمر بالعدل: حمزة وعثمان بن
(1)
البغوي في "التفسير"(5/ 34).
(2)
لم يرد "بما" في المطبوع من التفسير.
(3)
ش: "بمقتضاه".
(4)
ما عدا ش: "وهاديه"، وأصلحه بعضهم في م.
(5)
البغوي في "تفسيره"(5/ 34).
عفّان
(1)
وعثمان بن مظعونٍ.
قلت: والآية تحتمله، ولا يناقض القولين قبله، فإنّ الله على صراطٍ مستقيمٍ، ورسولُه، وأتباعُ رسوله. وضدُّ ذلك: معبود الكافر، وهاديه، والكافر: التّابع
(2)
والمتبوع والمعبود. ويكون بعضُ السّلف ذكر أعلى الأنواع، وبعضهم ذكر الهادي، وبعضهم ذكر المستجيب القابل، وتكون الآية متناولةً لذلك كلِّه. ولذلك نظائر كثيرة في القرآن.
وأمّا آية هودٍ عليه السلام، فصريحةٌ لا تحتمل إلّا معنًى واحدًا، وهو أنّ الله سبحانه وتعالى على صراطٍ مستقيمٍ. وهو سبحانه أحقُّ من كان على صراطٍ مستقيمٍ، فإنّ أقواله كلّها صدقٌ ورشدٌ وهدًى وعدلٌ وحكمةٌ {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا}
(3)
[الأنعام: 115]، وأفعاله كلُّها مصالح وحِكَمٌ، ورحمةٌ وعدلٌ وخيرٌ. فالشّرُّ لا يدخل في أفعاله ولا أقواله البتة، لخروج الشرِّ عن الصِّراط المستقيم، فكيف يدخل في أفعال مَن هو على الصِّراط المستقيم أو أقواله! وإنّما يدخل في أفعال من خرج عنه وأقواله.
وفي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: "لبّيك وسعديك، والخيرُ كلُّه بيديك، والشّرُّ ليس إليك"
(4)
. ولا يلتفت
(5)
إلى تفسير من فسَّره بقوله: والشّرُّ لا يتقرَّب به
(1)
"وعثمان بن عفان" ساقط من ش.
(2)
ش: "والتابع"، ويبدو أنه كان كذا في ق ثم طمس.
(3)
هكذا في جميع النسخ "كلمات" على قراءة أبي عمرو وغيره ما عدا الكوفيين من السبعة.
(4)
أخرجه مسلم (771) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
(5)
ش: "تلتفت".