الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وصارت عبوديّةُ أهل الثَّواب تسبيحًا مقرونًا بأنفاسهم، لا يجدون له تعبًا ولا نصبًا.
ومن ظنَّ أنّه يصل إلى مقامٍ يُسقِط عنه التّعبُّدَ، فهو زنديقٌ كافرٌ بالله ورسوله، وإنّما وصل إلى مقام الكفر بالله تعالى والانسلاخ من دينه. وكلَّما تمكَّن العبدُ في منازل العبوديّة كانت عبوديّتُه أعظم، والواجبُ عليه منها أكثر من الواجب على من دونه. ولهذا كان الواجبُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بل على الرُّسل أعظمَ من الواجب على أممهم، والواجبُ على أولي العلم أعظمَ من الواجب على من دونهم، وكلُّ أحدٍ بحسب مرتبته.
فصل
في
انقسام العبوديّة إلى عامّةٍ وخاصّةٍ
العبوديّة نوعان: عامٌّ، وخاصٌّ.
فالعبوديّة العامّة: عبوديّة أهل السّماوات والأرض كلِّهم لله: برِّهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم. فهذه عبوديّة القهر والملك، قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَنْفَطِرْنَ
(1)
مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 88 - 93]. فهذا يدخل فيه
(2)
مؤمنهم وكافرهم.
(1)
هذه قراءة أبي عمرو وابن عامر وحمزة. وقرأ الباقون: "يتفطَّرن". انظر: "الإقناع" لابن الباذش (ص 697).
(2)
"فيه" ساقط من ش.
وقال تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ
(1)
وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ} [الفرقان: 17]. فسمَّاهم عبادَه مع ضلالهم، لكن تسميةً مقيّدةً بالإشارة. وأمّا المطلقة فلم تجئ إلّا لأهل الثّاني
(2)
، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وقال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر: 46]. وقال: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر: 31]، {إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} [غافر: 48] فهذا يتناول العبوديّةَ العامَّةَ والخاصّة.
وأمّا النّوع الثّاني، فعبوديّةُ الطَّاعةِ والمحبَّةِ واتِّباع الأوامر. قال تعالى: {يَا عِبَادِي
(3)
لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الزخرف: 68]. وقال: {فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}
(4)
[الزمر: 17 - 18]. وقال: {الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)} [الفرقان: 63]. وقال تعالى عن إبليس: {وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 39 - 40] فقال
(5)
: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42].
(1)
قراءة ابن كثير وحفص: "يحشرهم". "الإقناع"(ص 714).
(2)
ع: "النوع الثاني". وفي هامش ش أيضًا كتب بعضهم كلمة "النوع" مع علامة صح.
(3)
"عبادي" على قراءة أبي عمرو، وقد مرَّت آنفًا (ص 158).
(4)
هنا أيضًا في النسخ: "عبادي" كما سبق.
(5)
ما عدا الأصل، ع:"وقال".
فالخلقُ كلُّهم عبيدُ ربوبيّته، وأهلُ طاعته وولايته عبيدُ إلهيّته. ولا يجيء في القرآن إضافةُ العباد إليه مطلقًا إلّا لهؤلاء.
وأمَّا وصفُ عبيد ربوبيّته بالعبوديّة فلا يأتي إلّا على أحد خمسة أوجهٍ:
إمّا منكَّرًا، كقوله:{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93].
والثّاني: معرّفًا باللّام، كقوله:{وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر: 31]، {إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} [غافر: 48].
الثّالث: مقيّدًا بإشارةٍ
(1)
أو نحوها، كقوله تعالى:{أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ} [الفرقان: 17].
الرّابع: أن يُذكَروا في عموم عباده، فيندرجوا مع أهل طاعته في الذِّكر، كقوله:{أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر: 46].
الخامس: أن يُذكَروا موصوفين بفعلهم، كقوله:{قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر: 53]. وقد يقال: إنّما سمَّاهم عباده إذا لم يقنطوا من رحمته، وأنابوا إليه، واتَّبعوا أحسن ما أنزل إليهم من ربِّهم؛ فيكونون من عبيد الإلهيَّة والطَّاعة
(2)
.
وإنّما انقسمت العبوديّة إلى خاصّةٍ وعامّةٍ، لأنّ أصل معنى اللّفظة: الذُّلُّ والخضوع. يقال: طريقٌ معبَّدٌ إذا كان مذلَّلًا بوطء الأقدام. وفلانٌ عبَّده
(1)
ع: "بالإشارة".
(2)
وانظر: "بدائع الفوائد"(3/ 939).
الحبُّ إذا ذلَّلَه، لكن أولياؤه خضعوا له وذلُّوا له طوعًا واختيارًا وانقيادًا لأمره ونهيه، وأعداؤه خضعوا له قهرًا ورغمًا.
ونظيرُ انقسام العبوديّة إلى خاصّةٍ وعامّةٍ: انقسامُ القنوت إلى خاصٍّ وعامٍّ، والسجود كذلك.
قال تعالى في القنوت الخاصِّ: {(8) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر: 9]، وقال:{وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ}
(1)
[التحريم: 12]. وهو كثيرٌ في القرآن. وقال في القنوت العامِّ: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [الروم: 26]، أي خاضعون أذلّاء.
وقال في السُّجود الخاصِّ: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 206]. وقال: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)} [مريم: 58]. وهو كثيرٌ
(2)
.
وقال في السُّجود العامِّ: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)} [الرعد: 15]. ولهذا كان هذا السُّجود الكُرْهُ غيرَ السُّجود المذكور في قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ
(1)
ع: "وقال في حق مريم: {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} ".
(2)
في ع زيادة: "في القرآن".
النَّاسِ} [الحج: 18]. فخصَّ هنا بالسُّجود كثيرًا من النّاس، وعمَّهم بالسُّجود في سورة النّحل
(1)
. وهو سجود الذُّلِّ والقهر والخضوع، فكلُّ أحدٍ خاضعٌ لربوبيّته، ذليلٌ لعزّته، مقهورٌ تحت سلطانه.
فصل
في مراتب {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} علمًا وعملًا
للعبوديّة مراتب بحسب العلم والعمل.
فأمّا مراتبها العلميّة، فمرتبتان:
أحدُهما: العلم بالله، والثاني
(2)
: العلم بدينه.
فأمّا العلم به سبحانه، فخمس مراتب: العلم بذاته، وصفاته، وأفعاله، وأسمائه، وتنزيهُه عمّا لا يليق به.
والعلم بدينه مرتبتان. أحدهما: دينه الأمريُّ الشّرعيُّ، وهو صراطه المستقيم الموصل إليه. والثاني
(3)
: دينه الجزائيُّ المتضمِّن ثوابه وعقابه. وقد دخل في هذا العلمُ بملائكته وكتبه ورسله.
وأمّا مراتبها العملية، فمرتبتان: مرتبةٌ لأصحاب اليمين، ومرتبةٌ
(1)
وهو قوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ} . وفي ش: "سورة الرعد"، يعني الآية المذكورة من قبل.
(2)
"أحدهما
…
الثاني" كذا في الأصل وغيره ما عدا ش التي فيها: "إحداهما
…
الثاني"، ثم غُيِّر "الثاني" إلى "الثانية".
(3)
هنا أيضًا في ش: "إحداهما
…
الثاني"، ولم يغيَّر "الثاني".