الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فيه وجوبَ تعلُّقِ المحبّة بالحبيب الأوّل من جميع طرق الأدلَّة النّقليَّة والعقليَّة والذّوقيَّة والفطريَّة، وأنّه لا كمال للإنسان بدون ذلك البتّة، كما أنّه لا كمال لجسمه إلّا بالرُّوح والحياة، ولا لعينه إلّا بالنُّور الباصر، ولا لأذنه إلّا بالسَّمع؛ وأنّ الأمرَ فوقَ ذلك وأعظَم.
فصل
الصِّنف الثاني:
القدريّة النفاة
الذين يُثبتون نوعًا من الحكمة والتّعليل لا يقوم بالرَّبِّ ولا يرجع إليه، بل يرجع إلى مجرَّد مصلحة المخلوق ومنفعته. فعندهم: أنَّ العبادات إنَّما شُرعت أثمانًا لما يناله العباد من الثَّواب والنَّعيم، وأنّها بمنزلة استيفاء أجرة الأجير.
قالوا: ولهذا يجعلها الله عوضًا كقوله: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43]، وقوله:{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32]، وقوله تعالى:{هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 90]، وقوله صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربِّه عز وجل:"يا عبادي، إنّما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثمّ أوفِّيكم إيّاها"
(1)
، وقوله تعالى:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ} [الزمر: 10].
قالوا: وقد سمّاه الله تعالى جزاءً وأجرًا وثوابًا، لأنّه يثوب إلى العامل من عمله، أي يرجع إليه. قالوا: ولولا ارتباطه بالعمل لم يكن لتسميته جزاءً ولا أجرًا ولا ثوابًا معنًى.
(1)
جزء من الحديث الطويل الذي أخرجه مسلم (2577) عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه.
قالوا: ويدلُّ عليه الموازنة، فلولا تعلُّقُ الثّواب والعقاب بالأعمال واقتضاؤها لها وكونُها كالأثمان لها لم يكن للموازنة معنًى. وقد قال تعالى:{وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 8 - 9].
وهاتان الطّائفتان متقابلتان أشدَّ التّقابل، وبينهما أعظمُ التّباين.
فالجبريّة لم تجعل للأعمال ارتباطًا بالجزاء البتّة، وجوَّزَتْ أن يعذِّب الله من أفنى عمره في طاعته، وينعِّم من أفنى عمره في معصيته، وكلاهما بالنسبة إليه سواءٌ. وجوَّزَتْ أن يرفع صاحب العمل القليل على أعظمَ عملًا منه
(1)
وأكثر وأفضل درجاتٍ ثَمَّ
(2)
. والكلُّ راجعٌ إلى محض المشيئة، من غير تعليلٍ ولا سببٍ ولا حكمةٍ تقتضي تخصيصَ هذا بالثواب وهذا بالعقاب.
والقدريّة أوجبت عليه رعاية الأصلح، وجعلت ذلك كلَّه بمحض الأعمال وثمنًا لها، وأنّ وصول الثّواب إلى العبد بدون عمله فيه تنغيصٌ باحتمال منّة الصّدقة عليه بلا ثمنٍ. فقاتلهم الله! ما أجهلهم بالله وأغرَّهم به! جعلوا تفضُّلَه وإحسانَه إلى عبده بمنزلة صدقة العبد على العبد، حتّى قالوا: إنّ إعطاءه ما يعطيه أجرةً على عمله أحبُّ إلى العبد وأطيَبُ له من أن يعطيه فضلًا منه بلا عملٍ. فقابلهم الجبريّةُ أشدَّ المقابلة، ولم يجعلوا للأعمال تأثيرًا في الجزاء البتّة.
والطائفتان جائرتان منحرفتان عن الصِّراط المستقيم، الذي فطر الله عليه
(1)
م، ش، ج:"عمل"، وكذا كان في الأصل ثم أصلح.
(2)
مضبوطة في ق، ج بفتح الثاء. ولم ترد في ع.
عباده، وجاءت به الرُّسل، ونزلت به الكتب. وهو أنّ الأعمال أسبابٌ مُوصِلةٌ إلى الثّواب والعقاب، مقتضياتٌ لهما كاقتضاء سائر الأسباب لمسبَّباتها؛ وأنّ الأعمال الصّالحة من توفيق الله وفضلِه ومنِّه وصدقتِه على عبده، إن أعانه عليها، ووفَّقه لها، وخلق فيه إرادتها والقدرة عليها، وحبَّبها إليه، وزيَّنها في قلبه وكرَّه إليه أضدادها. ومع هذا، فليست بثمنٍ لجزائه وثوابه، ولا هي على قدره، بل غايتُها ــ إذا بذل العبدُ فيها نصحَه وجهدَه، وأوقعها على أكمل الوجوه ــ أن تقع شكرًا له على بعض نعمه عليه، فلو طالبه بحقِّه لبقيت عليه من الشُّكر
(1)
بقيّةٌ لم يقُم بها. فلذلك لو عذَّب أهلَ سماواته وأهلَ أرضه لعذَّبهم وهو غيرُ ظالمٍ لهم، ولو رحِمَهم لكانت رحمتُه لهم خيرًا من أعمالهم، كما ثبت ذلك عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم
(2)
.
ولهذا نفى النّبيُّ صلى الله عليه وسلم دخول الجنّة بالعمل، كما قال:"لن يُدخِلَ أحدًا منكم الجنّةَ عملُه"
(3)
. وفي لفظٍ: "لن يَدخُل أحدٌ منكم الجنّةَ بعمله"
(4)
. وفي
(1)
في ع بعده زيادة: "على تلك النعمة".
(2)
أخرجه أحمد (21589) وأبو داود (4699) وابن ماجه (77) وابن حبان (727) وغيرهم من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه مرفوعًا. وفي إسناده سعيد بن سنان مختلف فيه، وهو إلى الضعف أقرب، فالإسناد محتمل للتحسين. وقد صححه ابن حبان والمؤلف في "شفاء العليل"(ص 113)، وأورده الحافظ في "فتح الباري" (11/ 296). ينظر لطرق الحديث وشواهده:"ظلال الجنة"(1/ 109 - 110) وتعليق محققي "المسند" و"صحيح ابن حبان"، وتعليق محقق "مفتاح دار السعادة"(1/ 21 - 22).
(3)
أخرجه البخاري (6464) ومسلم (1818) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(4)
أخرجه أحمد (7479) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
لفظٍ: "لن ينجي أحدًا منكم عملُه". قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا، إلّا أن يتغمّدني الله برحمةٍ منه وفضلٍ"
(1)
. وأثبت سبحانه دخول الجنّة بالعمل، كما في قوله:{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32]. ولا تنافي بينهما، إذ تواردُ النّفي والإثبات ليس على معنًى واحدٍ، فالمنفيُّ استحقاقُها بمجرَّد الأعمال، وكونُ الأعمال ثمنًا وعوضًا لها ردًّا على القدريّة المجوسيّة التي زعمت أنَّ التفضُّلَ بالثواب ابتداءً متضمِّنٌ لتكدير المنّة.
وهذه الطائفة من أجهلِ الخلق بالله تعالى، وأغلَظِهم عنه حجابًا؛ وحُقَّ لهم أن يكونوا مجوسَ هذه الأمّة. ويكفي من جهلهم بالله أنّهم لم يعلموا أنَّ أهلَ سماواته وأرضه في مِنَّته، وأنَّ من تمام الفرح والسرور والغبطة واللَّذَّة اغتباطَهم بمنّةِ سيِّدهم ومولاهم الحقِّ، وأنّه إنّما طاب لهم عيشُهم بهذه المنَّة. وأعظَمُهم منه منزلةً وأقربُهم إليه: أعرَفُهم بهذه المنّة، وأعظَمُهم إقرارًا بها، وذكرًا لها، وشكرًا عليها، ومحبّةً له لأجلها. فهل يتقلَّب أحدٌ قطُّ إلّا في منّته! {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17].
واحتمالُ منَّة المخلوق إنّما كانت نقصًا لأنّه نظيره، فإذا منَّ عليه استعلى عليه، ورأى الممنونُ عليه نفسَه دونه. هذا مع أنّه ليس في كلِّ مخلوقٍ، فلرسولِ الله صلى الله عليه وسلم المنّةُ على أمّته، وكان أصحابه رضي الله عنهم يقولون
(2)
: اللهُ
(1)
أخرجه البخاري (6463) ومسلم (2816) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
في ع بعده زيادة: "له".
ورسولُه أمنُّ
(1)
. ولا نقصَ في منّة الوالد على ولده، ولا عارَ عليه في احتمالها؛ وكذلك السّيِّد على عبده. فكيف ربُّ العالمين الذي إنّما تتقلّب الخلائق في مجرَّد منّته
(2)
عليهم، ومحضِ صدقته عليهم، بلا عوضٍ منهم البتّة! وإن
(3)
كانت أعمالهم أسبابًا لما ينالونه من كرمه وجوده، فهو المانُّ عليهم بأن وفَّقَهم لتلك الأسباب وهداهم لها، وأعانهم عليها، وكمَّلها لهم، وقَبِلها منهم على ما فيها!
وهذا هو المعنى الذي أثبت به دخولَ الجنّة في قوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43]. فهذه باء السّببيّة ردًّا على القدريّة الجبريّة الذين يقولون: لا ارتباط بين الأعمال والجزاء، ولا هي أسبابٌ له، وإنّما غايتُها أن تكون أماراتٍ! قالوا: وليست أيضًا مطّردةً، لتخلُّف الجزاء عنها في الخير والشّرِّ، فلم يبقَ إلّا محضُ الأمر والمشيئة.
فالنُّصوصُ مبطلةٌ لقول هؤلاء، كما هي مبطلةٌ لقول أولئك. وأدلَّةُ المعقول والفطرة أيضًا تُبطل قول الفريقين، وتُبيِّن لمن له قلبٌ ولبٌّ مقدارَ قول أهل السُّنّة. وهم الفرقة الوسط المثبتون لعموم مشيئة الله وقدرته وخلقِه العبادَ وأعمالَهم، ولحكمته التّامّة المتضمِّنة ربطَ الأسباب بمسبَّباتها، وانعقادَها بها شرعًا وقدرًا، وترتُّبَها عليها عاجلًا وآجلًا.
(1)
كما ورد في حديث عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه، أخرجه البخاري (4330) ومسلم (1061).
(2)
ع: "مننه"، وغيِّرت كلمة "مجرَّد" إلى "بحر".
(3)
ش: "منه البتة وإنما".
وكلُّ واحدةٍ من الطّائفتين المنحرفتين تركت نوعًا من الحقِّ، ارتكبت
(1)
لأجله نوعًا من الباطل، بل أنواعًا! وهدى الله أهلَ السُّنّة لما اختلفوا فيه من الحقِّ بإذنه. {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} [البقرة: 213] و {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21].
فصل
الصِّنف الثالث: الذين زعموا أنّ فائدةَ العبادة رياضةُ النُّفوس، واستعدادُها لفيض العلوم عليها، وخروجُ قواها عن قوى النُّفوس السَّبعيّة والبهيميّة؛ فلو عطِّلت عن العبادات لكانت من جنس نفوس السِّباع والبهائم. فالعباداتُ تُخْرِجُها عن مألوفها وعوائدها، وتنقلُها إلى مشابهة العقول المجرَّدة، فتصير عالمةً قابلةً لانتقاش صور العلوم والمعارف فيها.
وهذا تقوله طائفتان: إحداهما: من تقرَّبَ إلى النُّبوّات والشّرائع من الفلاسفة القائلين بقدم العالم، وعدم انشقاق الأفلاك، وعدم الفاعل المختار.
والطائفة الثانية: من تفلسف من صوفيّة الإسلام وتقرَّب إلى الفلاسفة، فإنّهم يزعمون أنَّ العباداتِ رياضاتٌ لاستعداد النُّفوس وتجرُّدها، ومفارقتها العالمَ الحسِّيَّ، ونزول الواردات والمعارف عليها.
ثمّ من هؤلاء من لا يوجب العبادات إلّا لهذا المعنى، فإذا حصل لها بقي مخيَّرًا في حفظ أوراده، أو الاشتغال بالوارد عنها.
(1)
ع: "وارتكب".
ومنهم من يوجب القيامَ بالأوراد والوظائف وعدمَ الإخلال بها، وهم صنفان أيضًا: أحدهما: يوجبونه حفظًا للقانون، وضبطًا للنَّاموس. والآخرون: يوجبونه حفظًا للوارد، وخوفًا من تدرُّج النّفس بمفارقته إلى حالتها الأولى من البهيميّة.
فهذه نهايةُ أقدام المتكلِّمين على طريق السُّلوك، وغايةُ معارفهم بحكم العبادة وما شُرعت لأجله. ولا تكاد تجد في كتب القوم غيرَ هذه الطُّرق الثّلاثة، على سبيل الجمع، أو على سبيل البدل.
فصل
وأمّا الصِّنف الرّابع ــ وهم المحمَّديَّةُ الإبراهيميَّةُ أتباعُ الخليلين، العارفون بالله وحكمته في أمره وشرعه وخَلْقه، وأهلُ البصائر في عبادته ومراده بها ــ فالطّوائف الثّلاثة محجوبون عنهم بما عندهم من الشُّبه الباطلة والقواعد الفاسدة، ما عندهم وراء ذلك شيءٌ. قد فرحوا بما عندهم من المحال، وقنعوا بما ألِفوه من الخيال. ولو علموا أنَّ وراءه ما هو أجَلُّ منه وأعظَمُ لَما ارتضَوا بدونه، ولكن عقولهم قصَّرت عنه. ولم يهتدوا إليه بنور النُّبوّة، ولم يشعروا به، ليجتهدوا في طلبه. ورأوا أنَّ ما معهم خيرٌ من الجهل، ورأوا تناقض ما مع غيرهم وفساده. فتركَّب من هذه الأمور إيثارُ ما عندهم على ما سواه، وهذه بليّة الطّوائف، والمعافى من عافاه الله تعالى.
فاعلم أنّ سرَّ العبوديّة وغايتَها وحكمتَها إنّما يطَّلع عليه من عرَف صفاتِ الرَّبِّ تعالى ولم يعطِّلها، وعرف معنى الإلهيّة وحقيقتها ومعنى كونه إلهًا، بل هو الإله الحقُّ، وكلُّ إلهٍ سواه فباطلٌ، بل أبطل الباطل، وأنّ حقيقة الإلهيّة لا تنبغي إلّا له، وأنَّ العبادةَ موجَبُ إلهيّته وأثرُها ومقتضاها،
وارتباطُها بها كارتباط متعلَّق الصِّفات بالصِّفات كارتباط
(1)
المعلوم بالعلم، والمقدور بالقدرة، والأصوات بالسمع، والإحسان بالرحمة، والعطاء بالجود.
فمَن أنكر حقيقة الإلهيّة ولم يعرفها، كيف يستقيم له معرفةُ حكمة العبادات وغاياتها ومقاصدها وما شُرعت لأجله؟ وكيف يستقيم له العلمُ بأنّها هي الغاية المقصودة بالخلق، فلها خُلِقوا، ولها أُرسلت الرُّسل، وأُنزلت الكتب، ولأجلها خُلِقت الجنّة والنار؛ وأنّ فرضَ تعطيل الخليقة عنها نسبةُ الله
(2)
إلى ما لا يليق به، ويتعالى عنه مَن خلق السّماوات والأرض بالحقِّ، ولم يخلقهما باطلًا، ولم يخلق الإنسان عبثًا ولم يتركه
(3)
سدًى مهملًا. قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} [المؤمنون: 115] أي لغير شيءٍ ولا حكمةٍ، ولا لعبادتكم لي ومجازاتي لكم. وقد صرَّح تعالى بهذا في قوله:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}
(4)
[الذاريات: 56]. فالعبادة هي الغايةُ التي خلق لها الجنّ والإنس والخلائق كلّها.
(1)
ج: "وكارتباط"، وقد زاد بعضهم الواو في ق، ل أيضًا. وهو خطأ، فإن ما ذكر بعده من أمثلة ارتباط متعلَّق الصفات بالصفات. وقد خفي السياق على من زاد الواو.
(2)
م، ج، ع:"لله".
(3)
كان السياق في الأصل: "
…
مِن خلقِ السماوات والأرض باطلًا ويخلق الإنسان عبثًا ويتركه"، وهو بيان ما لا يليق بالله ويتعالى عنه. ثم أصلح في المتن والهامش كما أثبت من النسخ الأخرى. و"مَن" في "من خلق السماوات
…
" في هذا السياق فاعل "يتعالى".
(4)
ع: "ليعبدوني" على قراءة يعقوب من العشرة. انظر: "تحبير التيسير"(ص 564).
وقال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36]. أي مهملًا. قال الشّافعيُّ رضي الله عنه
(1)
: لا يؤمر ولا يُنْهى. وقال غيرُه: لا يثاب ولا يعاقب
(2)
. والصحيح الأمران، فإنّ الثَّوابَ والعقابَ مترتِّبٌ
(3)
على الأمر والنهي، والأمرُ والنهيُ هو طلبُ العبادة وإرادتُها، وحقيقةُ العبادة امتثالُهما.
وقال تعالى: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} [آل عمران: 191]. وقال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الحجر: 85]. {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الجاثية: 22]. فأخبر أنّه خلق السّماوات والأرض بالحقِّ المتضمِّن أمره ونهيه، وثوابه وعقابه.
فإذا كانت السّماوات والأرض وما بينهما خُلِقت لهذا، وهو غاية الخلق، فكيف يقال: إنّه لا علّة له، ولا حكمةٌ مقصودةٌ هي غايته، أو إنّ ذلك لمجرَّد استئجار العُمَّال حتّى لا يتكدَّر عليهم الثّوابُ بالمنّة، أو لمجرَّد
(4)
استعداد النُّفوس للمعارف العقليّة وارتياضها لمخالفة العوائد!
فليتأمَّل اللّبيبُ الفرقانَ بين هذه الأقوال وبين ما دلَّ عليه صريحُ الوحي
(1)
في "الرسالة"(ص 21) و"أحكام القرآن"(1/ 36).
(2)
نقله في "بدائع الفوائد"(4/ 1595) بلفظ "لا يجزي بالخير والشر ولا يثاب ولا يعاقب". ولم أقف عليه. والقولان نقلهما المؤلف غير مرَّة في كتبه. انظر مثلًا: "مفتاح دار السعادة"(2/ 887، 1072) وسيأتي قوله بعد نقلهما في منزلة التوبة (ص 370): "وهما متلازمان".
(3)
ل، ج:"مرتب".
(4)
ل: "ولمجرَّد"، وهو سهو.
يجِدْ أصحابَ هذه الأقوال ما قدرَوا الله حقَّ قدره، ولا عرفوه حقَّ معرفته. فالله تعالى إنّما خلَق الخَلْقَ لعبادته الجامعة لكمال محبّته مع الخضوع له والانقياد لأمره.
فأصلُ العبادة: محبّةُ الله، بل إفرادُه بالمحبّة، وأن يكون الحبُّ كلُّه لله، فلا يُحِبُّ معه سواه، وإنّما يُحِبُّ ما يحبُّه
(1)
لأجله وفيه، كما يُحِبُّ أنبياءَه ورسلَه وملائكتَه وأولياءه. فمحبّتنُا لهم من تمام محبّته، وليست محبّةً معه كمحبَّة من يتّخذ من دون الله أندادًا يحبُّهم
(2)
كحبِّه.
وإذا كانت المحبّة له هي حقيقة عبوديّته وسرّها، فهي إنّما تتحقَّق باتِّباع أمره واجتناب نهيه. فعندَ اتِّباع الأمر والنّهي
(3)
تتبيَّن حقيقةُ العبوديّة والمحبّة. ولهذا جعل سبحانه اتِّباعَ رسوله صلى الله عليه وسلم عَلَمًا عليها، وشاهدًا لمن ادَّعاها، فقال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]. فجعَل اتِّباعَ رسوله مشروطًا بمحبّتهم لله، وشرطًا لمحبّة الله لهم. ووجودُ المشروط ممتنعٌ بدون تحقُّق شرطه
(4)
، فعُلِمَ انتفاءُ المحبّة عند انتفاء المتابعة. فانتفاءُ محبّتهم لله لازمٌ لانتفاء المتابعة لرسوله، وانتفاءُ المتابعة ملزومٌ لانتفاء محبّة الله لهم، فيستحيل إذًا ثبوتُ محبّتهم لله، وثبوتُ محبّة الله لهم بدون المتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم. ودلَّ على أنّ متابعة الرَّسول هي
(1)
ع: "يحبُّ".
(2)
ع: "يحبونهم".
(3)
ع: "واجتناب النهي". وما أثبته من الأصل وغيره معناه: عند امتثال الأمر والنهي فيأتمر بما أُمر وينتهي عما نُهي عنه.
(4)
ع: "بدون وجود شرطه وتحققه".
حبُّ الله ورسوله وطاعةُ أمره.
ولا يكفي ذلك في العبوديّة حتّى يكون الله ورسوله أحبَّ إلى العبد ممّا سواهما، فلا يكون عنده شيءٌ أحبَّ إليه من الله ورسوله. ومتى كان عنده شيءٌ أحبَّ إليه منهما فهذا هو الشِّرك الذي لا يُغفَر لصاحبه البتّة، ولا يهديه الله. قال تعالى:{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24].
فكلُّ مَن قدَّم طاعةَ أحدِ هؤلاء
(1)
على طاعة الله ورسوله، أو قولَ أحدٍ منهم على قول الله ورسوله، أو مرضاةَ أحدٍ منهم على مرضاة الله ورسوله، أو خوفَ أحدٍ منهم ورجاءَه والتوكُّلَ عليه على خوف الله ورجائه والتوكُّل عليه، أو معاملةَ أحدٍ منهم
(2)
على معاملة الله= فهو ممّن ليس اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه ممّا سواهما. وإن قاله بلسانه فهو كذبٌ منه، وإخبارٌ بخلاف ما هو عليه. وكذلك من قدَّمَ حكمَ أحدٍ على حكم الله ورسوله، فذلك عنده أحبُّ إليه من الله ورسوله.
لكن قد يشتبه الأمر على من يقدِّم قولَ أحدٍ أو حكمَه أو طاعتَه أو مرضاتَه ظنًّا منه أنّه لا يأمر ولا يحكم ولا يقول إلّا ما قاله الرّسول، فيطيعه، ويحاكم إليه، ويتلقَّى أقواله كذلك= فهذا معذورٌ إذا لم يقدِر على غير ذلك.
(1)
ع: "أحدٍ من هؤلاء".
(2)
لم يرد "منهم" في ع.
وأمّا إذا قدر على الوصول إلى الرَّسول صلى الله عليه وسلم
(1)
، وعرف أنّ غيرَ من اتَّبعه أولى به مطلقًا أو في بعض الأمور، ولم يلتفت إلى الرَّسول ولا إلى من هو أولى به= فهذا الذي يُخاف عليه، وهو داخلٌ تحت الوعيد. فإن استحلَّ عقوبةَ من خالفه وآذاه
(2)
ولم يوافقه على اتِّباع شيخه، فهو من الظَّلَمة المعتدين. وقد جعل الله لكلِّ شيءٍ قدرًا.
فصل
وبناءُ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} على أربعة قواعد
(3)
: التّحقُّقُ بما يحبُّه الله
(4)
ويرضاه، من قولِ اللِّسان والقلب وعملِ القلب والجوارح. فالعبوديّة: اسمٌ جامعٌ لهذه المراتب الأربع، فأصحابُ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} حقًّا هم أصحابها.
فقول القلب: هو اعتقاد ما أخبر الله سبحانه به عن نفسه وأسمائه وصفاته وأفعاله وملائكته ولقائه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم
(5)
.
وقول اللِّسان: الإخبارُ عنه بذلك، والدعوةُ إليه، والذَّبُّ عنه، وتبيينُ بطلان البدع المخالفة له، والقيامُ بذكره، وتبليغُ أوامره.
وعمل القلب: كالمحبّة له، والتوكُّل عليه، والإنابة إليه، والخوف منه
(1)
في هامش الأصل هنا: "بلغ قراءة على مصنفه أبقاه الله تعالى".
(2)
ع: "أذلَّة". وكذا وقعت العبارة في النسخ، والمقصود: استحلَّ عقوبة من خالفه ولم يوافقه على اتباع شيخه، وآذاه. فقوله:"آذاه" معطوف على "استحلَّ".
(3)
كذا في الأصل وغيره بتأنيث العدد.
(4)
بعده زيادة في ج، ع:"ورسوله". وكذا كان في الأصل ثم ضرب على اللام من الكلمة.
(5)
ع: "لسان رسله".
والرجاء له، وإخلاص الدِّين له، والصبر على أوامره وعن نواهيه وعلى أقداره، والرضا به وعنه، والموالاة فيه، والمعاداة فيه، والذلِّ له والخضوع والإخبات إليه، والطمأنينة به، وغير ذلك من أعمال القلوب التي فرضُها أفرَضُ من أعمال الجوارح، ومستحبُّها أحبُّ إلى الله من مستحبِّها. وعملُ الجوارح بدونها إمّا عديم المنفعة أو قليل المنفعة.
وأعمال الجوارح: كالصلاة والجهاد، ونقل الأقدام إلى الجمعة والجماعات، ومساعدة العاجز، والإحسان إلى الخلق، ونحو ذلك.
فـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} التزامٌ لأحكام هذه الأربعة، وإقرارٌ بها. و {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} طلبٌ للإعانة عليها والتّوفيق لها. و {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} متضمِّنٌ للتّعريف بالأمرين على التّفصيل، وإلهامِ القيام بهما، وسلوكِ طريق السّالكين إلى الله بهما.
فصل
وجميع الرُّسل إنّما دعوا إلى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، فإنّهم كلَّهم دعوا إلى توحيد الله وعبادته، من أوّلهم إلى آخرهم. فقال نوحٌ لقومه:{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]. وكذلك قال هودٌ وصالحٌ وشعيبٌ وإبراهيم عليهم السلام.
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]. وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا يُوحَى
(1)
إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]. وقال تعالى:
(1)
هكذا في النسخ على قراءة أبي عمرو وغيره.
{يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 51 - 52].
فصل
والله جعل العبوديّةَ وصفَ أكملِ خلقه وأقرَبِهم إليه، فقال:{لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} [النساء: 172]. وقال: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)} [الأعراف: 206].
وهذا يبيِّن أنّ الوقف التّامّ في قوله: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}
(1)
هاهنا، ثمّ يبتدئ:{وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 19 - 20]. فهما جملتان تامّتان مستقلّتان، أي: له من في السّماوات ومن في الأرض عبيدًا وملكًا، ثمّ استأنف جملةً أخرى فقال:{وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} يعني: أنّ الملائكة الذين عنده لا يستكبرون عن عبادته: لا يأنفون عنها ويتعاظمون
(2)
. ولا يستحسرون، فيعيَون وينقطعون. يقال: حسِرَ واستَحْسَرَ، إذا تعب وأعيا. بل
(1)
في النسخ الأربع ما عدا الأصل: "وله من في السماوات ومن في الأرض"، وهو خطأ. وقد غيَّر بعضهم في الأصل أيضًا ليوافق ما في غيره.
(2)
معطوف على "يأنفون". يعني: "ولا يتعاظمون" كما في ج. وفي ل ضرب بعضهم على الواو وكتب في الهامش: "أي لا" مع علامة صح.
عبادتهم وتسبيحهم كالنَّفَس لبني آدم
(1)
. فالأوّل وصفٌ لعبيد ربوبيّته، والثّاني وصفٌ لعبيد إلهيّته
(2)
.
(3)
[الأنبياء: 26 - 27]. وقال تعالى: {الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا} [الفرقان: 63] إلى آخر السُّورة. وقال: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان: 6]. وقال: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ} [ص: 17]، {(40) وَاذْكُرْ عَبْدَنَا} [ص: 41]، {(44) وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} [ص: 45]. وقال عن سليمان: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ} [ص: 30]. وقال عن المسيح: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} [الزخرف: 59]، فجعَل غايتَه العبوديَّةَ لا الإلهيّة، كما يقول أعداؤه النّصارى لعنهم الله.
ووصف أكرمَ خلقه عليه
(4)
وأعلاهم عنده منزلةً بالعبوديّة في أشرف مقاماته
(5)
، فقال:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23]، وقال:{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1]، وقال:
(1)
"تفسير البغوي"(5/ 313).
(2)
ق، ل، م:"وصف إلهيته". وفي ش: "وصف لإلهيته". وقد ذكر في هامش ل، ش ما أثبتناه من ج.
(3)
لم يرد "وقال تعالى
…
" إلى هنا في ع.
(4)
"عليه" ساقط من ش.
(5)
ذكر المصنف هذا المعنى في غير موضع من كتبه. انظر مثلًا: "طريق الهجرتين"(1/ 18)، و"الداء والدواء"(ص 438)، و"مفتاح دار السعادة"(1/ 10)، و"روضة المحبين"(ص 84). وسيأتي مرة أخرى في منزلة المحبة (3/ 400).
{الْحَمْدُ لِلَّهِ أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ} [الكهف: 1]، فذكره بالعبوديّة في مقام إنزال الكتاب عليه والتَّحدِّي بأن يأتوا بمثله. وقال:{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن: 19]، فذكره بالعبوديّة في مقام الدّعوة إليه. وقال:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1]، فذكره بالعبوديّة في مقام الإسراء.
وفي "الصّحيح"
(1)
عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "لا تُطْرُوني كما أَطْرَتِ النّصارى المسيحَ ابنَ مريم، فإنّما أنا عبدٌ، فقولوا: عبد الله ورسوله".
وفي الحديث الآخر: "إنَّما أنا عبدٌ، آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد
(2)
"
(3)
.
وفي "صحيح البخاري"
(4)
عن عبد الله بن عمرٍو قال: قرأت في التوراة
(1)
أخرجه البخاري (3445) من حديث عمر رضي الله عنه.
(2)
ع: "تأكل العبيد
…
تجلس العبيد".
(3)
أخرجه معمر في "جامعه"(19543 - مصنف عبد الرزاق) عن أيوب السختياني مرسلًا، وأخرجه أيضًا (19554) ــ ومن طريقه البيهقي في "شعب الإيمان" (5572) ــ عن يحيى بن أبي كثير مرسلًا؛ وأخرجه هناد بن السري في "الزهد" (799) والحسين المروزي في زوائده على "زهد ابن المبارك" (1/ 353) من طريقين عن الحسن مرسلًا؛ وأحمد في "الزهد" (19 - دار ابن رجب) عن عطاء بن أبي رباح مرسلًا. وقد رُوي موصولًا من حديث عائشة وابن عمر وأنس وأبي هريرة رضي الله عنهم بأسانيد ضعيفة وتالفة. ينظر:"زهد ابن المبارك"(2/ 53) و"البحر الزخار"(12/ 154) و"الكامل"(8/ 437 - نشرة السرساوي) و"الضعيفة"(3219) و"الصحيحة"(544).
(4)
برقم (2125).
صفة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم: محمَّدٌ رسول الله، عبدي ورسولي، سمَّيته المتوكِّل، ليس بفظٍّ ولا غليظٍ، ولا صخّابٍ بالأسواق، ولا يجزي بالسّيِّئة السّيِّئة، ولكن يعفو ويغفر.
وجعل سبحانه البشارة المطلقة لعباده، فقال: {فَبَشِّرْ عِبَادِ
(1)
(17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 17]. وجعل الأمن المطلق لهم، فقال تعالى: {يَا عِبَادي
(2)
لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} [الزخرف: 68 - 69].
وعزَل الشّيطانَ عن سلطانه عليهم خاصّةً، وجعل سلطانه على من تولّاه وأشرك به، فقال:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42]، وقال:{الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ} [النحل: 99 - 100].
وجعل النّبيُّ صلى الله عليه وسلم إحسانَ العبوديّة أعلى مراتب الدِّين، وهو الإحسان، فقال في حديث جبريل عليه السلام وقد سأله عن
(3)
الإحسان: "أن تعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك"
(4)
.
(1)
في النسخ: "عبادي"، وهي قراءة يعقوب من العشرة في الوقف. انظر:"تحبير التيسير"(ص 535).
(2)
هكذا في النسخ: "يا عبادي" على قراءة أبي عمرو وغيره.
(3)
"وقد سأله عن" ساقط من ش.
(4)
أخرجه البخاري (50) ومسلم (8) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.