الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
و
هل تصحُّ التّوبة من ذنبٍ مع الإصرار على غيره
؟
فيه قولان لأهل العلم، وهما روايتان عن الإمام أحمد رضي الله عنه
(1)
،
ولم يطَّلع على الخلاف مَن حكى الإجماعَ على صحّتها كالنَّواويِّ
(2)
وغيره.
والمسألة مشكلةٌ، ولها غورٌ، ويحتاج الجزمُ بأحد القولين إلى دليلٍ يحصل به الجزم.
(1)
وردت هنا حاشية في ش منقولة من أصلها: "المحققون من أصحاب الإمام أحمد على أنه لا خلاف عنه في هذه المسألة، وهي طريقة جماعة من متقدميهم كابن شاقلا وغيره. وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقد بسط الكلام عليها في شرح دعوة ذي النون عليه الصلاة والسلام، وبيَّن أن القول الآخر هو قول الخوارج والمعتزلة المكفِّرين بالذنبِ المخلِّدين به في النار [وأنكر صحةَ] ذلك عن أحمد إنكارًا شديدًا وقال: هو قولٌ مبتدَع لم يعرف عن أحد من السلف".
وفي "مختصر الفتاوى المصرية"(ص 137) أن القاضي وابن عقيل حكيا القول بعدم صحتها عن أحمد، والمعروف هو الأول. ثم ذكر رواية المرُّوذي التي بني عليها هذا القول وفسَّر مراد الإمام أحمد. وانظر نحوه في "مجموع الفتاوى"(10/ 320) و (15/ 374) وحكى ابن أبي يعلى الروايتين في "التمام"(2/ 319) وذكر أن رواية صحة التوبة اختارها والده وشيخ والده. والأخرى اختارها أبو بكر عبد العزيز وابن شاقلا، وصرَّح ابن عقيل في "الإرشاد" ــ كما في "الآداب الشرعية" (1/ 56) ــ بأنها اختياره وأنها قول جمهور المتكلمين. وانظر:"المعتمد" لأبي يعلى (ص 203).
(2)
الذي في "شرحه لصحيح مسلم"(17/ 59 - 60) أنَّ صحَّتها مذهب أهل السنة خلافًا للمعتزلة. وفي "رياض الصالحين"(ص 34) أنها تصح عند أهل الحق من ذلك الذنب ويبقى الباقي.
والَّذين صحَّحوها احتجُّوا بأنَّه لمَّا صحَّ الإسلامُ ــ وهو توبةٌ من الكفر ــ مع البقاء على معصيةٍ لم يَتُبْ منها، فهكذا تصحُّ التَّوبةُ
(1)
من ذنبٍ مع بقائه على آخر.
وأجاب الآخرون عن هذا بأنّ الإسلام له شأنٌ ليس لغيره، لقوَّته ونفاذه، وحصوله تبعًا بإسلام الأبوين أو أحدهما للطِّفل، وكذلك بانقطاع نسب الطِّفل من أبيه أو بموت أحد أبويه في أحد القولين، وكذلك بكون سابيه ومالكه مسلمًا في أحد القولين أيضًا. وذلك لقوَّته وتشوُّف الشَّرع إليه حتّى حصل بغير القصد بل بالتّبعيّة.
واحتجَّ الآخرون بأنَّ التَّوبة هي الرُّجوع إلى الله تعالى من مخالفته إلى طاعته، وأيُّ رجوعٍ لمن تاب من ذنبٍ واحدٍ، وأصرَّ على ألف ذنبٍ؟
قالوا: والله سبحانه إنّما لم يؤاخذ التّائبَ لأنّه قد رجع إلى طاعته وعبوديّته وتاب توبةً نصوحًا. والمصرُّ على مثل ما تاب منه ــ أو أعظمَ ــ لم يراجع الطَّاعةَ ولم يتُب توبةً نصوحًا.
قالوا: ولأنَّ التَّائبَ إذا تاب إلى الله فقد زال عنه اسمُ العاصي، كالكافر إذا أسلم زال عنه اسمُ الكافر. فأمَّا إذا أصرَّ على غير الذَّنب الذي تاب منه فاسمُ المعصية لا يفارقه، فلا تصحُّ توبته.
وسرُّ المسألة: أنَّ التَّوبةَ هل تتبعَّضُ كالمعصية، فيكون تائبًا من وجهٍ دون وجهٍ، وكالإيمان والإسلام؟
والرّاجحُ تبعُّضُها، فإنَّها كما تتفاضل في كيفيَّتها هكذا تتفاضل في كمِّيَّتها.
(1)
لفظ "التوبة" من ع.
ولو أتى العبدُ بفرضٍ وترَكَ فرضًا آخر لاستحقَّ العقوبةَ على ما تركه دون ما فعَلَه. فهكذا إذا تاب من ذنبٍ وأصرَّ على آخر، لأنَّ التَّوبةَ فرضٌ من الذَّنبين، فقد أدَّى أحدَ الفرضين وترَكَ الآخر، فلا يكون ما ترك مُوجِبًا لبطلان ما فعل، كمن ترك الحجَّ وأتى بالصَّلاة والصِّيام والزَّكاة.
والآخرون يجيبون عن هذا بأنَّ التَّوبةَ فعلٌ واحدٌ، معناه: الإقلاعُ عمَّا يكرهه الله تعالى، والنّدمُ عليه، والرُّجوعُ إلى طاعته. فإذا لم توجد بكمالها لم تكن صحيحةً، إذ هي عبادةٌ واحدةٌ. فالإتيانُ ببعضها وبعضِ واجباتها كالإتيان ببعض العبادة الواجبة وتركِ بعضها، فإنَّ ارتباط أجزاء العبادة الواحدة بعضِها ببعضٍ أشدُّ من ارتباط العبادات المتنوِّعات بعضِها ببعضٍ.
وأصحابُ القول الآخر يقولون: كلُّ ذنبٍ له توبةٌ تخصُّه، وهي فرضٌ منه، لا تتعلّق بالتَّوبة من الآخر، كما لا يتعلّق أحدُ الذَّنبين بالآخر.
والَّذي عندي في هذه المسألة: أنَّ التَّوبةَ لا تصحُّ من ذنبٍ مع الإصرار على آخَر من نوعه. وأمَّا التَّوبةُ من ذنبٍ مع مباشرةِ آخرَ لا تعلُّقَ له به ولا هو من نوعه، فتصحُّ
(1)
. كما إذا تاب من الرِّبا، ولم يتُب من شرب الخمر مثلًا، فإنَّ توبتَه من الرِّبا صحيحةٌ. وأمّا إذا تاب من ربا الفضل، وأصرَّ على ربا النَّسيئة
(2)
، أو بالعكس، أو تاب من تناول الحشيشة وأصرَّ على شرب الخمر، أو بالعكس= فهذا لا تصحُّ توبته. وهو كمن يتوب عن الزِّنى بامرأةٍ، وهو مصرٌّ على الزِّنى بغيرها غيرُ تائبٍ منه، أو تاب من شرب عصير العنب
(1)
وهذا الذي اختاره الحليمي في "المنهاج"(3/ 129).
(2)
السياق في ع: "ولم يتب من ربا النسيئة وأصرَّ عليه".
المُسْكِر، وهو مصرٌّ على غيره من الأشربة المُسْكِرة= فهذا في الحقيقة لم يتُبْ من الذّنب، وإنّما عدَل من نوعٍ منه إلى نوعٍ آخر. بخلاف من عدَل من معصيةٍ إلى معصيةٍ أخرى غيرها في الجنس، إمَّا لأنَّ وزرَها أخفُّ، وإمّا لغلبةِ دواعي الطَّبع إليها وقهرِ سلطان شهوتها له، وإمّا لأنَّ أسبابَها حاضرةٌ لديه عتيدةٌ، لا يحتاج إلى استدعائها بخلاف معصيةٍ يحتاج إلى استدعاء
(1)
أسبابها، وإمَّا لاستحواذ قُرنائه وخُلطائه عليه، فلا يدَعُونه يتوبُ منها، وله بينهم حُظوةٌ بها وجاهٌ، فلا تطاوعه نفسُه على إفساد جاهه بالتَّوبة، كما قال أبو نواسٍ لأبي العَتَاهِيَة وقد لامه على تهتُّكه في المعاصي:
أتراني يا عَتاهي
…
تاركًا تلك الملاهي
أتراني مفسدًا بالنْـ
…
نُسْكِ عند القوم جاهي
(2)
فمثلُ هذا إذا تاب من قتل النَّفس، وسرقَة
(3)
أموال المعصومين، وأكل أموال اليتامى، ولم يتُب من شرب الخمر والفاحشة= صحَّت توبتُه فيما
(4)
تاب منه ولم يؤاخَذ به، وبقي مؤاخَذًا بما هو مصرٌّ عليه. والله أعلم
(5)
.
فصل
ومن أحكام التّوبة: أنَّه هلُ يشترط في صحَّتها أن لا يعود إلى الذَّنب أبدًا،
(1)
م، ش:"لاستدعاء".
(2)
من خمسة أبيات في "ديوان أبي نواس"(5/ 235 - النشرات الإسلامية).
(3)
ما عدا ج: "بسرقة".
(4)
في ع: "ممَّا".
(5)
في الأصل بإزاء هذا السطر: "بلغ مقابلة وقراءة على مصنفه رضي الله عنه ".
أم ليس ذلك بشرطٍ؟
فشرَط بعضُ النَّاس عدمَ معاودة الذَّنب، وقال: متى عاد إليه تبيَّنَّا أنَّ التَّوبةَ كانت باطلةً غيرَ صحيحة.
والأكثرون على أنَّ ذلك ليس بشرطٍ، وإنَّما صحَّةُ التَّوبة تتوقَّف على الإقلاع عن الذّنب، والنَّدم عليه، والعزم الجازم على ترك معاودته. فإن كانت في حقِّ آدميٍّ فهل يشترط تحلُّلُه؟ فيه تفصيلٌ سنذكره إن شاء الله تعالى. فإذا عاوده مع عزمه حالَ التَّوبة على أن لا يعاوده، صار كمن ابتدأ المعصيةَ، ولم تبطل توبتُه المتقدِّمة
(1)
.
والمسألةُ مبنيَّةٌ على أصلٍ، وهو: أنَّ العبد إذا تاب من الذَّنب ثمَّ عاوده، فهل يعود إليه إثمُ الذَّنب الذي كان قد تاب منه ثمَّ عاوده، بحيث يستحقُّ العقوبة على الأوّل والآخر إن مات مصرًّا؟ أو أنّ ذلك قد بطل بالكلِّيّة، فلا يعود إثمُه، وإنَّما يعاقَب على هذا الأخير؟
وفي هذا الأصل قولان
(2)
:
فقالت طائفةٌ: يعود إليه إثمُ الذَّنب الأوّل لفساد التَّوبة وبطلانها بالمعاودة.
قالوا: لأنَّ التَّوبةَ من الذَّنب بمنزلة الإسلام من الكفر، والكافرُ إذا أسلم هدَم إسلامُه ما قبله من إثم الكفر وتوابعه؛ فإن ارتدَّ عاد إليه الإثم الأوَّلُ مع
(1)
انظر: "الإرشاد" للجويني (ص 409)، و"شرح صحيح مسلم" للنووي (2/ 45).
(2)
حكاهما الأشعري في "مقالات الإسلاميين"(ص 272) للمعتزلة. وذكر النووي في "شرح صحيح مسلم"(17/ 60) أن مذهب أهل السنة معاقَبته على الذنب الثاني.
إثم الرِّدّة، كما ثبت في "الصَّحيح"
(1)
عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "مَن أحسَنَ في الإسلام لم يُؤاخَذْ بما عمِل في الجاهليّة، ومن أساء في الإسلام أُخِذَ بالأوَّل والآخِر". فهذا حالُ من أسلم وأساء في إسلامه. ومعلومٌ أنَّ الرِّدَّة من أعظم الإساءة في الإسلام، فإذا أُخِذَ بعدها بما كان في حال كفره، ولم يُسْقِطه الإسلامُ المتخلِّلُ بينهما، فهكذا التّوبةُ المتخلِّلةُ بين الذَّنبين لا تُسقِط الإثمَ السَّابقَ، كما لا تمنع الإثمَ اللَّاحقَ.
قالوا: ولأنَّ صحَّةَ التَّوبة مشروطةٌ باستمرارها والموافاة عليها، والمعلَّقُ على الشَّرط
(2)
عدَمٌ عند عدم الشّرط، كما أنَّ صحَّةَ الإسلام مشروطةٌ باستمراره والموافاة عليه.
قالوا: والتَّوبةُ واجبةٌ وجوبًا مضيَّقًا بزمن العمر
(3)
، فوقتُها مدَّةُ العمر، إذ يجب عليه استصحابُ حكمها في مدَّة عمره. فهي بالنِّسبة إلى العمر كالإمساك عن المفطِّرات في صوم اليوم، فإذا أمسك معظمَ النَّهار، ثمّ نقَضَ إمساكَه بالمفطِّر بطَل ما تقدَّمه، ولم يُعتدَّ به، وكان بمنزلة من لم يمسك شيئًا من يومه.
قالوا: ويدلُّ على هذا الحديثُ الصَّحيحُ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"إنَّ العبدَ لَيعملُ بعمل أهل الجنّة حتّى ما يكون بينه وبينها إلّا ذراعٌ، فيسبِقُ عليه الكتابُ، فيعملُ بعمل أهل النَّار فيدخلُها"
(4)
. وهذا أعمُّ من أن يكون هذا
(1)
أخرجه البخاري (6921)، ومسلم (120) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(2)
ج، م، ش:"هذا الشرط"، وكذا كان في الأصل ثم طُمِس "هذا".
(3)
ج، م، ش، ع:"مدى العمر"، وكذا كان في ل، فعدِّل كما أثبت من الأصل.
(4)
أخرجه البخاري (3208)، ومسلم (2643) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
العملُ الثّاني كفرًا موجبًا للخلود أو معصيةً موجبةً للدُّخول، فإنَّه لم يقل:"فيرتدُّ فيفارقُ الإسلامَ"، وإنّما أخبر بأنَّه يعمل بعملٍ موجبٍ
(1)
له النَّار. وفي بعض "السُّنن"
(2)
: "إنَّ العبدَ لَيعمل بطاعة الله ستِّين سنةً، فإذا كان عند الموت جار في وصيَّته فدخل النَّارَ". فالخاتمةُ السّيِّئةُ أعمُّ من أن تكون خاتمةً بكفرٍ أو بمعصيةٍ، والأعمالُ بالخواتيم.
فإن قيل: فهذا
(3)
يلزم منه إحباطُ الحسنات بالسّيِّئات، وهذا قول المعتزلة
(4)
، والقرآنُ والسُّنةُ قد دلَّا على أنَّ الحسناتِ هي التي تُحبط السّيِّئات لا العكس، كما قال تعالى:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]. وقال النّبيُّ صلى الله عليه وسلم لمعاذٍ: "اتّق الله حيثما كنتَ، وأتبِعِ السّيِّئةَ الحسنةَ تمحُها، وخالقِ النَّاسَ بخلُقٍ حسنٍ"
(5)
.
(1)
ج، ش، ع:"يوجب".
(2)
أخرجه أبو داود (2867) والترمذي (2117) وابن ماجه (2704) وغيرهم من طريق الأشعث بن جابر عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه، وشهر بن حوشب فيه لين وقد تفرد به. وينظر "ضعيف أبي داود- الأم"(2/ 390) و"نزهة الألباب" للوائلي (5/ 2978 - 2979).
(3)
ش: "هذا".
(4)
انظر: "الإرشاد" للجويني (ص 389 - 390)، و"مجموع الفتاوى"(10/ 321 - 322، 637 - 638).
(5)
أخرجه أحمد (22059) والترمذي عقب (1987) وغيرهما من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، ونقل الترمذي عن شيخه محمود بن غيلان أن الصحيح أنه من مسند أبي ذر؛ كما عند أحمد (21354، 21403) والترمذي (1987) وغيرهما، وقال أحمد في الموضع الثاني:"وكان حدثنا به وكيع عن ميمون بن أبي شبيب عن معاذ ثم رجع". والحديث على كلا التقديرين منقطع؛ إذ ميمون بن أبي شبيب لم يدرك معاذًا ولا أبا ذر رضي الله عنه. وقال الدارقطني في "العلل"(987) بعد عرض طرقه: "وكأن المرسل أشبه بالصواب". وينظر: "جامع العلوم والحكم"(الحديث الثامن عشر) و"الصحيحة"(3/ 362).
قيل: والقرآنُ والسُّنّةُ أيضًا قد دلَّا على الموازنة وإحباطِ الحسنات بالسّيِّئات، فلا يُضرَبُ كتابُ الله بعضُه ببعضٍ. ولا يُرَدُّ القولُ بمجرَّد كون المعتزلة قالوه، فعلَ
(1)
أهلِ الهوى والتّعصُّب، بل يُقبلُ الحقُّ ممَّن قاله، ويُرَدُّ الباطلُ على من قاله.
فأمَّا الموازنةُ فمذكورةٌ في سورة الأعراف
(2)
، والأنبياء
(3)
، والمؤمنين
(4)
، والقارعة
(5)
.
وأمَّا الإحباطُ، فقد قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
(1)
في ش وضع بعضهم قبله إشارة اللحق، وكتب في الهامش:"فإنه" مع علامة صح، وفوقه حرف الظاء، يعني أن الظاهر عنده سقوط "فإنه" من النص. والنص سليم لا سقط فيه.
(2)
(3)
(4)
ج، ش:"المؤمنون"، وكذا غيِّر في ل. قال تعالى:{فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103)} .
(5)
الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]. وتفسيرُ الإبطال هاهنا بالرِّدَّة
(1)
لأنّها أعظمُ المبطلات، لا أنَّ المبطلَ منحصرٌ فيها.
وقال تعالى: {(263) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ} [البقرة: 264]. فهذان شيئان
(2)
عرضا بعد الصَّدقة فأبطلاها. وشبَّه سبحانه حالَ إبطالها بالمنِّ والأذى بحال المتصدِّق رياءً، في بطلان صدقة كلِّ واحدٍ منهما.
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2].
وفي "الصَّحيح"
(3)
عن النّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "من ترك صلاةَ العصر حبِط عملُه".
وقالت عائشة رضي الله عنها لأمِّ ولد زيد بن أرقم وقد باع بيعةَ العِينة
(4)
: أخبري زيدًا أنّه قد أبطل جهادَه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلَّا أن يتوبَ
(5)
.
(1)
ج: "وتفسير الإحباط هاهنا بالردة باطل"، تحريف عجيب.
(2)
ش، ع:"سببان". ورسمه في م محتمل.
(3)
أخرجه البخاري (553) من حديث بريدة رضي الله عنه.
(4)
ع: "بيع العينة".
(5)
أخرجه عبد الرزاق (14812) وابن المنذر في "الأوسط"(10/ 365) والدارقطني في "السنن"(3002، 3003) والبيهقي (5/ 330)، والحديث مختلف في تصحيحه وتضعيفه، قال ابن عبد الهادي:"إسناده جيد"، انظر:"تنقيح التحقيق"(4/ 69) و"التعليق المغني على الدارقطني" للعظيمابادي. وقد قوَّاه المؤلف وحسّنه في "تهذيب السنن"(2/ 457، 469).
وقد نصَّ أحمد على هذا في روايةٍ، فقال: ينبغي للعبد أن يتزوَّج إذا خاف على نفسه. ويستدينُ
(1)
ويتزوَّجُ، لا يقَعْ في محظورٍ فيحبطَ عملُه
(2)
.
فإذا استقرَّت قاعدةُ الشَّريعة: أنَّ مِن السّيِّئات ما يُحبِط الحسناتِ بالإجماع، ومنها ما يُحبِطها بالنَّصِّ، جاز أن تُحبِطَ سيِّئةُ المعاودة حسنةَ التَّوبة، فتصيرَ التَّوبةُ كأنَّها لم تكن، فيلتقي العملان ولا حاجزَ بينهما، فيكون التّأثيرُ لهما جميعًا.
قالوا: وقد دلَّ القرآنُ والسُّنَّةُ وإجماعُ السّلف على الموازنة، وفائدتُها اعتبار الرَّاجح، فيكون التّأثيرُ والعملُ له دون المرجوح. قال ابن مسعودٍ رضي الله عنه: يحاسَب النَّاسُ يوم القيامة، فمن كانت سيِّئاتُه أكثرَ من حسناته بواحدةٍ دخَلَ النّارَ، ومن كانت حسناتُه أكثرَ من سيِّئاته بواحدةٍ دخل الجنَّة. ثمَّ قرأ:{فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} [الأعراف: 8 - 9]. ثمَّ قال: إنَّ الميزانَ يخِفُّ بمثقال حبَّةٍ أو يرجَحُ. قال: ومن استوت حسناته وسيِّئاته كان من أصحاب الأعراف
(3)
.
(1)
ع: "فيستدين".
(2)
انظر نحوه في "كتاب الصلاة" للمصنف (ص 110). ويظهر أنه يشير إلى ما نقله في "بدائع الفوائد"(4/ 1415) من مسائل الفضل بن زياد القطان عن الإمام أحمد. والمسألة نفسها وردت في "مسائل صالح"(ص 265). وفي "البدائع"(4/ 1406) مسألة أخرى تشبهها من مسائل الفضل أيضًا.
(3)
أخرجه ابن المبارك في "الزهد"(2/ 123 - رواية أبي نعيم)، ومن طريق ابن المبارك أخرجه ابن أبي الدنيا (النهاية لابن كثير 2/ 34) والطبري في "تفسيره"(10/ 213). وفي سنده أبو بكر الهذلي، متروك. وقد روي عن غير واحد من السلف، ينظر:"تفسير الطبري"(10/ 212 - 217).
وعلى هذا، فهل يُحبِطُ الرَّاجحُ المرجوحَ حتّى يجعله كأن لم يكن، أو يُحبِط ما قابله بالموازنة، ويبقى التّأثيرُ للقدر الزَّائد؟
فيه قولان للقائلين بالموازنة، ينبني عليهما أنّه
(1)
إذا كانت الحسناتُ أرجحَ من السّيِّئات بواحدةٍ مثلًا
(2)
، فهل يدفع الرَّاجحُ المرجوحَ جملةً؟ فيثاب على الحسنات كلِّها، أو يسقط من الحسنات ما قابلَ السّيِّئاتِ فلا يثاب عليه، ولا يعاقَب على تلك السّيِّئات، فيبقى القدرُ الزّائدُ لا مقابلَ له، فيثابُ عليه وحده؟ وهذا
(3)
الأصل فيه قولان لأصحاب الموازنة. وكذلك إذا رجحت السّيِّئاتُ بواحدةٍ، هل يدخل النَّارَ بتلك الواحدة التي سَلِمت عن مقابلٍ، أو بكلِّ السّيِّئاتِ التي رجحت؟ على القولين
(4)
.
هذا كلُّه على أصل أصحاب التَّعليل والحِكَم.
وأمّا على أصول الجبريّةِ نُفاةِ التَّعليل والحِكَم والأسباب واقتضائها للثَّواب والعقاب، فالأمرُ مردودٌ عندهم إلى محض المشيئة، من غير اعتبار شيءٍ من ذلك. ولا يدرى عندهم ما يفعل الله، بل يجوز عندهم أن يعاقِبَ صاحبَ الحسنات الرّاجحة، ويثيبَ صاحبَ السّيِّئات الرَّاجحة، ويُدخِلَ الرَّجلين النَّارَ مع استوائهما في العمل وأحدُهما في الدَّرك تحت الآخر، ويغفرَ
(1)
لم يرد "أنه" في ل، ش، وهو مستدرك في هامش الأصل.
(2)
"مثلًا" ساقط من ش.
(3)
ع: "هذا" دون الواو قبلها.
(4)
وانظر: "طريق الهجرتين"(2/ 828).
لزيدٍ ويعاقبَ عمرًا مع استوائهما من جميع الوجوه، ويُنَعِّمَ من لم يُطِعه قطُّ، ويعذِّب من لم يعصه قطُّ! فليس عندهم سببٌ ولا حكمةٌ، ولا علّةٌ، ولا موازنةٌ، ولا إحباطٌ، ولا تدافُعٌ بين السيئات والحسنات. والخوفُ على المحسن والمسيء واحدٌ، إذ من الجائز تعذيبُهما. وكلُّ مقدورٍ له فجائزٌ عليه، لا يُعلَمُ امتناعُه إلَّا بإخبار الرَّسول أنّه لا يكون، فيمتنع وقوعُه لمطابقة خبرِه العلَم
(1)
بعدمِ وقوعه.
فصل
واحتجَّ الفريقُ الآخَر ــ وهم القائلون بأنَّه لا يعود إليه إثمُ الذَّنب الذي تاب منه بنقض التَّوبة ــ بأنَّ ذلك الإثمَ قد ارتفع بالتَّوبة، وصار بمنزلة ما لم يعمله، وكأنّه لم يكن، فلا يعودُ إليه بعد ذلك؛ وإنّما العائدُ إثمُ المستأنَف لا الماضي.
قالوا: ولا يُشترَط في صحَّةِ التَّوبة العصمةُ إلى الممات، بل إذا ندِم وأقلَعَ وعزَم على التَّرك مُحِيَ عنه إثمُ الذَّنب بمجرَّد ذلك، فإذا استأنفه استأنفَ إثمه.
قالوا: وليس هذا كالكفر الذي يُحبِط الأعمال، فإنَّ الكفرَ له شأنٌ آخر ولهذا يُحبِط جميع الحسنات، ومعاودةُ الذَّنب لا تُحبِط ما تقدّمَه من الحسنات.
قالوا: والتّوبةُ من أكبر الحسنات، فلو أبطلَها معاودةُ الذَّنب لأبطَلَ غيرَها من الحسنات. وهذا باطلٌ قطعًا، وهو يشبه مذهبَ الخوارج المكفِّرين
(1)
ع: "لعلم الله عز وجل".
بالذَّنب، والمعتزلةِ المخلِّدين في النّار بالكبيرة التي تقدَّمها الألوفُ من الحسنات؛ فإنَّ الفريقين متَّفقان على خلود أرباب الكبائر في النّار، لكنَّ الخوارجَ كفَّروهم، والمعتزلةَ فسَّقوهم، وكلا المذهبين باطلٌ في دين الإسلام، مخالفٌ للمنقول والمعقول وموجَبِ العدل واللهُ {لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40].
قالوا: وقد ذكر الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"
(1)
مرفوعًا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "إنّ الله يحبُّ العبدَ المفتَّن التَّوَّاب".
قلتُ: وهو الذي كلَّما فُتِن بالذّنب تاب منه. فلو كان معاودتُه تُبطِل
(2)
توبتَه لما كان محبوبًا للرَّبِّ، ولكان ذلك أدعى إلى مقته.
قالوا: وقد علَّق الله سبحانه قبولَ التَّوبة بالاستغفار وعدم الإصرار، دون المعاودة، فقال تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135]. والإصرار: عقدُ القلب على ارتكاب الذّنب متى ظفر به، فهذا الذي يمنَع مغفرتَه.
(1)
أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائده على "المسند"(605، 810) وزوائده على "فضائل الصحابة"(1191) وأبو يعلى (483) والدولابي في "الكنى"(2/ 840) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وإسناده ضعيف جدًّا. وأخرجه الحارث (1076 - بغية الباحث) من طريق آخر فيه الواقدي وقد كُذِّب. وقد حكم الألباني على الحديث بالوضع، انظر:"الضعيفة"(96).
(2)
كذا في ج، ش. ولم ينقط حرف المضارع في غيرهما. وفي ع: "كانت معاودته
…
".
قالوا: وأمّا استمرارُ التَّوبة فشرطٌ في صحَّة كمالها ونفعها، لا شرطٌ في صحَّة ما مضى منها، وليس ذلك كصيام اليوم وعدد ركعات الصَّلاة، فإنَّ تلك عبادةٌ واحدةٌ لا تكون مقبولةً إلّا بالإتيان بجميع أركانها وأجزائها. وأمّا التَّوبةُ فهي عباداتٌ متعدِّدةٌ بتعدُّد الذُّنوب، فكلُّ ذنبٍ له توبةٌ تخصُّه
(1)
، فإذا أتى بعبادةٍ وترك أخرى لم يكن ما ترك مُوجِبًا لبطلان ما فعل، كما تقدَّم تقريره. بل نظير هذا: أن يصوم من رمضان ويُفطِر منه بلا عذرٍ، فهل يكون ما أفطره منه مبطلًا لأجر ما صامه منه؟ بل نظير من صلّى ولم يصُم، أو زكّى ولم يحُجَّ.
ونكتة المسألة: أنَّ التَّوبةَ المتقدِّمةَ حسنةٌ، ومعاودةُ الذّنب سيِّئةٌ، فلا تُبطِل معاودتُه هذه الحسنةَ، كما لا تُبطل ما قارنها من الحسنات.
قالوا: وهذا على أصول أهل السُّنّة أظهَرُ، فإنّهم متَّفقون على أنَّ الشَّخصَ الواحدَ يكون فيه ولايةٌ لله وعداوةٌ من وجهين مختلفين، ويكون محبوبًا لله مبغوضًا له من وجهين أيضًا، بل يكون فيه إيمانٌ ونفاقٌ، وإيمانٌ وكفرٌ، ويكون إلى أحدهما أقربَ منه إلى الآخر فيكون من أهله، كما قال تعالى:{هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ} [آل عمران: 167]. وقال: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106]. أثبت لهم الإيمانَ به مع مقارنة
(2)
الشِّرك، فإن كان مع هذا الشِّرك تكذيبٌ لرسله لم ينفعهم ما معهم من الإيمان بالله. وإن كان معه تصديقٌ برسله، وهم مرتكبون لأنواعٍ من
(1)
ش: "محضة"، تصحيف.
(2)
ش: "مقارفة".
الشِّرك لا تُخرجهم عن الإيمان بالرُّسل وباليوم الآخر، فهؤلاء مستحقُّون للوعيد أعظم من استحقاق أرباب الكبائر. وشركهم قسمان: شركٌ خفيٌّ وجليٌّ، فالخفيُّ قد يُغفَر، وأمَّا الجليُّ فلا يغفره الله إلّا بالتّوبة منه، فإنَّ الله لا يغفر أن يُشرَك به.
وبهذا الأصل أثبت
(1)
أهلُ السُّنّة دخولَ أهل الكبائر النَّارَ ثمّ خروجَهم منها ودخولَهم الجنَّة، لما قام بهم من السَّببين.
فإذا ثبت هذا فمُعاوِدُ
(2)
الذَّنبِ مبغوضٌ لله من جهة معاودة الذَّنب، محبوبٌ له من جهة توبته وحسناته السّابقة. فرتَّبَ الله سبحانه على كلِّ سببٍ أثرَه ومسبَّبَه بالعدل والحكمة، ولا يظلم مثقالَ ذرّةٍ {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ} [فصلت: 46].
فصل
وإذا استغرقت سيِّئاتُه الحديثاتُ حسناتِه القديماتِ وأبطلتها، ثمَّ تاب منها توبةً نصوحًا خالصةً، عادت إليه حسناتُه، ولم يكن حكمُه حكمَ المستأنفِ لها، بل يقال له: تبتَ على ما أسلفتَ من خيرٍ؛ فإنَّ الحسناتِ التي فعلها في الإسلام أعظمُ من الحسنات التي يفعلها الكافر في كفره من عتاقةٍ وصدقةٍ وصلةٍ. وقد قال حكيم بن حِزامٍ رضي الله عنه: يا رسول الله، أرأيتَ عتاقةً أعتقتُها في الجاهليّة، وصدقةً تصدَّقتُ بها، وصلةً وصلتُ بها رحمي، هل
(3)
(1)
ش: "أثبتت".
(2)
ما عدا ق، ع:"فمعاودة".
(3)
ع: "فهل".
لي فيها من أجرٍ؟ فقال: "أسلمتَ على ما أسلفتَ من خيرٍ"
(1)
. وذلك أنَّ الإساءةَ المتخلِّلة بين الطَّاعتين قد ارتفعت بالتَّوبة وصارت كأنّها لم تكن، فتلاقت الطّاعتان واجتمعتا. والله أعلم.
فصل
ومن أحكامها: أنَّ العاصي إذا حيل بينه وبين أسباب المعصية، وعجَز عنها بحيث يتعذَّر وقوعُها منه، هل تصحُّ توبته؟
وهذا كالكاذب والقاذف وشاهدِ الزُّور إذا قُطِع لسانُه، والزّاني إذا جُبَّ، والسَّارقِ إذا أُتي على أطرافه الأربعة، والمزوِّرِ إذا قُطعت يدُه، ومَن وصل إلى حدٍّ بطلت معه دواعيه إلى معصيةٍ كان يرتكبها.
ففي هذا قولان للنّاس
(2)
:
فقالت طائفةٌ: لا تصحُّ توبتُه، لأنَّ التَّوبةَ إنّما تكون ممَّن يمكنه الفعلُ والتَّركُ، فالتَّوبةُ من الممكن لا من المستحيل. ولهذا لا تتصوَّر التَّوبةُ من نقل الجبال عن أماكنها، وتنشيف البحار، والطَّيران إلى السَّماء، ونحوه.
قالوا: ولأنَّ التَّوبةَ مخالفةُ داعي النَّفس، وإجابةُ داعي الحقِّ، ولا داعيَ للنَّفس هنا، إذ يعلم استحالة الفعل منها.
قالوا: ولأنَّ هذا كالمكرَه على التَّرك، المحمول عليه قهرًا، ومثلُ هذا لا تصحُّ توبته.
(1)
أخرجه البخاري (1436)، ومسلم (123).
(2)
انظر: "المنهاج" للحليمي (3/ 126 - 128)، و"إحياء علوم الدين"(4/ 40 - 42)، و"مجموع الفتاوى"(10/ 745 - 746)، (22/ 244 - 245).
قالوا: ومن المستقِرِّ في فِطَر النَّاس وعقولهم أنَّ توبةَ المفاليس وأصحاب الجوائح توبةٌ غيرُ معتبرةٍ، ولا يُحمَدون عليها، ولهذا يسمُّونها "توبةَ إفلاسٍ"، و"توبةَ جائحةٍ". قال الشَّاعر:
ورحتُ عن توبته سائلًا
…
وجدتُها توبةَ إفلاسِ
(1)
قالوا: ويدلُّ على هذا أيضًا أنَّ النُّصوصَ المتظافرةَ المتظاهرَة قد دلَّت على أنَّ التَّوبةَ عند المعاينة لا تنفع، لأنَّها توبةُ ضرورةٍ لا اختيارٍ. قال تعالى:{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 17 - 18]. والجَهالةُ هاهنا: جهالةُ العمل، وإن كان عالمًا بالتّحريم. قال قتادة رضي الله عنه: أجمع أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنَّ كلَّ ما عُصِيَ الله به فهو جهالةٌ، عمدًا كان أو لم يكن. وكلُّ مَن عصى الله فهو جاهلٌ
(2)
.
وأمَّا التَّوبةُ من قريبٍ، فجمهور المفسِّرين على أنّها التَّوبةُ قبلَ المعاينة. قال عكرمة: قبل الموت. قال الضَّحَّاك: قبلَ معاينة مَلك الموت. وقال السُّدِّيُّ والكلبيُّ: أن يتوب في صحَّته قبلَ مرض موته
(3)
.
(1)
من أربعة أبيات للبهاء زهير في "ديوانه"(ص 144 - دار المعارف).
(2)
"تفسير البغوي"(2/ 184).
(3)
انظر هذه الأقوال في المصدر السابق، وعنه نقل المؤلف الحديثين الآتيين أيضًا.
وفي "المسند"
(1)
وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ الله يقبل توبةَ العبد ما لم يُغَرْغِر".
وفي نسخة دَرَّاجٍ عن أبي الهيثَم عن أبي سعيدٍ مرفوعًا: "إنَّ الشَّيطانَ قال: وعِزَّتِكَ يا ربِّ، لا أبرح أُغوي عبادَك ما دامت أرواحُهم في أجسادهم. فقال الرّبُّ: وعزَّتي وجَلالي وارتفاع مكاني، لا أزال أغفرُ لهم ما استغفروني"
(2)
.
فهذا شأنُ التّائب من قريبٍ. وأمَّا إذا وقع في السِّياق فقال: إنِّي تبتُ الآن، لم تُقبَل توبتُه. وذلك لأنَّها توبةُ اضطرارٍ لا اختيارٍ، فهي كالتَّوبة بعد طلوع الشَّمس من مغربها، ويومَ القيامة، وعندَ معاينة بأس الله.
قالوا: ولأنَّ حقيقةَ التَّوبة هي: كفُّ النَّفس عن الفعل الذي هو متعلَّق النَّهي، والكفُّ إنّما يكون عن أمرٍ مقدورٍ، وأمّا المحالُ فلا يُعقَل كفُّ النَّفس عنه؛ ولأنَّ التّوبةَ هي الإقلاعُ عن الذَّنب، وهذا لا يتصوَّر منه الإيقاعُ حتَّى يتأتّى منه الإقلاع.
(1)
برقم (6160، 6408) من طريق عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن أبيه عن مكحول عن جبير بن نفير عن ابن عمر به. وأخرجه أيضًا الترمذي (3537) وابن ماجه (4253) وابن حبان (628) وغيرهم من طرق عن ابن ثوبان به. وعبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان مختلف فيه، وهو إلى الضعف أقرب، قال أحمد:"أحاديثه مناكير"، وقد تفرد بهذا الحديث ولم يُتابَع عليه. انظر:"الكامل"(7/ 135 - 136) و"الميزان"(2/ 551 - 552) و"تهذيب التهذيب"(6/ 151).
(2)
أخرجه أحمد (11237) وغيره، وقال أحمد:"أحاديث درَّاج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد فيها ضعف" كما في "الكامل" لابن عدي (4/ 486). وأخرجه أيضًا أحمد (11244، 11367) وغيره من طريق عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب عن أبي سعيد به، وعمرو فيه لين ولم يدرك أبا سعيد. وينظر:"الصحيحة"(104).
قالوا: ولأنَّ الذَّنبَ عزمٌ جازمٌ على فعل المحرَّم يقترن به فعلُه المقدورُ، والتَّوبةُ منه
(1)
عزمٌ جازمٌ على التَّرك المقدور يقترن به التَّركُ، والعزمُ على غير المقدور محالٌ، والتَّركُ في حقِّ هذا ضروريٌّ لازمٌ غيرُ مقدورٍ له، بل هو بمنزلة تركه للطيران إلى السَّماء وحملِ الجبال
(2)
ونحو ذلك.
والقول الثَّاني ــ وهو الصَّواب ــ أنَّ توبتَه صحيحةٌ ممكنةٌ، بل واقعةٌ؛ فإنَّ أركانَ التَّوبة مجتمعةٌ فيه، والمقدورُ له منها النَّدم. وفي "المسند"
(3)
مرفوعًا: "النَّدَمُ توبةٌ". فإذا تحقَّق ندمُه على الذَّنب ولومُه نفسَه عليه، فهذه توبتُه. وكيف يصحُّ أن تُسلَب التَّوبةُ عنه، مع شدَّة ندمه على الذَّنب، ولومِه نفسَه عليه؟ ولا سيَّما ما يتبعُ ذلك من بكائه وحزنه
(4)
وخوفه، وعزمِه الجازم، ونيَّتِه أنّه لو كان صحيحًا والفعلُ مقدورًا له= لما فَعَله.
وإذا كان الشّارعُ قد نزَّل العاجزَ عن الطَّاعة منزلةَ الفاعل لها إذا صحَّت نيّتُه، كقوله في الحديث الصَّحيح:"إذا مرِض العبدُ أو سافرَ كُتِبَ له ما كان يعملُ صحيحًا مقيمًا"
(5)
، وفي "الصّحيح"
(6)
أيضًا عنه: "إنّ بالمدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم واديًا إلّا كانوا معكم". قالوا: وهم بالمدينة؟ قال:
(1)
"منه" ساقط من ش.
(2)
ع: "ضروري ولازم غير مقدور، بل
…
ترك الطيران
…
ونقل الجبال".
(3)
تقدَّم تخريجه.
(4)
"وحزنه" من ع.
(5)
أخرجه البخاري (2996) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(6)
أخرجه البخاري (4423) من حديث أنس رضي الله عنه. وانظر: حديث جابر رضي الله عنه في "صحيح مسلم"(1911).
"وهم بالمدينة، حبَسهم العذرُ". وله نظائر في الحديث. فتنزيلُ العاجزِ عن المعصية، التّاركِ لها قهرًا ــ مع نيّته تركَها اختيارًا لو أمكنته ــ منزلةَ التَّاركِ المختارِ أولى.
يوضِّحه: أنَّ مفسدةَ الذَّنب التي يترتَّب عليها الوعيدُ تنشأ من العزم عليه تارةً ومن فعله تارةً، ومنشأُ المفسدة معدومٌ في حقِّ هذا العاجز فعلًا وعزمًا، والعقوبةُ تابعةٌ للمفسدة.
وأيضًا فإنَّ هذا تعذَّر منه الفعلُ، لم يتعذَّر منه التَّمنِّي والوِدادُ، فإذا كان يتمنّى ويودُّ لو واقَعَ الذَّنبَ، ومن نيَّته أنَّه
(1)
لو كان سليمًا لباشَرَه، فتوبتُه بالإقلاع عن هذا الوِداد والتَّمنِّي والحزنِ على فوته، فإنَّ الإصرارَ متصوَّرٌ في حقِّه قطعًا، فيتصوَّر
(2)
في حقِّه ضدُّه وهو التَّوبة، بل هي أولى بالإمكان والتَّصوُّر من الإصرار. وهذا واضحٌ.
والفرقُ بين هذا وبين المعايِن ومَن ورد القيامة: أنَّ التَّكليفَ قد انقطع بالمعاينة ووِرْدِ القيامة
(3)
، والتَّوبةُ إنّما تكون في زمن التَّكليف، وهذا العاجز لم ينقطع عنه التّكليفُ، فالأوامر والنّواهي لازمةٌ له، والكفُّ متصوَّرٌ منه عن التّمنِّي والوِداد والأسفِ على فوته، وتبديلُ ذلك بالنَّدَم والحزنِ على فعله. والله أعلم.
(1)
"أنه" من ع.
(2)
ش: "فيتعيَّن"، ولعله تحريف.
(3)
ج، م، ع:"ورود القيامة".
فصل
ومن أحكامها: أنَّ مَن توغَّل ذنبًا، وعزَم على التّوبة منه، ولا يمكنه التّوبةُ منه إلّا بارتكاب معصية
(1)
، كمن أولَجَ في فرجٍ حرامٍ، ثمّ عزَم على التَّوبة قبل النَّزع الذي هو جزءُ الوطء؛ وكمن توسَّط أرضًا مغصوبةً، ثمَّ عزم على التَّوبة، ولا يمكنه إلّا بالخروج الذي هو مشيٌ فيها وتصرُّفٌ، فكيف يتوبُ من الحرام بحرامٍ مثله؟ وهل تُعقَل
(2)
التَّوبةُ من الحرام بالحرامٍ؟
(3)
.
فهذا ممّا أشكل على بعض النَّاسِ، حتّى دعاه ذلك إلى أن قال بسقوط التَّكليف عنه في هذا الفعل الذي يتخلَّص به من الحرام. قال: لأنَّه لا يمكن أن يكون مأمورًا به وهو حرامٌ، وقد تعيَّن في حقِّه طريقًا للخلاص من الحرام، لا يمكن التّخلُّصُ بدونه، فلا حكمَ في هذا الفعل البتّة، وهو بمنزلة العفو الذي لا يدخل تحت التَّكليف.
وقالت طائفةٌ: بل هو حرامٌ واجبٌ، فهو ذو وجهين: مأمورٌ به من أحدهما، منهيٌّ عنه من الآخر. فيؤمر به من حيث تعيُّنه طريقًا للخلاص من الحرام، وهو من هذا الوجه واجبٌ؛ ويُنهى عنه من جهة كونه مباشرةً للحرام، وهو من هذا الوجه محرَّمٌ= فيستحقُّ عليه الثَّوابَ والعقابَ.
قالوا: ولا يمتنع كونُ الفعل في الشَّرع ذا وجهين مختلفين، كالاشتغال عن الحرام بالمباح، فإنَّ المباحَ إذا نظرنا إلى ذاته ــ مع قطع النّظر عن ترك
(1)
ل، ج:"بعضه".
(2)
كذا في ج، وأهمل حرف المضارعة في غيرها.
(3)
انظر: "المسوَّدة في أصول الفقه"(ص 85).
الحرام به ــ قضَينا بإباحته، وإذا اعتبرناه من جهة كونه تاركًا للحرام به كان واجبًا. نعم، غايتُه أنَّه لا يتعيَّن مباحٌ دون مباحٍ، فيكون واجبًا مخيَّرًا.
قالوا: وكذلك الصَّلاةُ في الدَّار المغصوبة، هي حرامٌ وهي واجبةٌ، وسترُ العورة بثوب الحرير كذلك حرامٌ واجبٌ، من وجهين مختلفين.
والصَّواب: أنَّ هذا النَّزعَ والخروجَ من الأرض توبةٌ ليس بحرامٍ، إذ هو مأمورٌ به قطعًا، ومحالٌ أن يؤمرَ بالحرام، وإنّما كان النَّزعُ الذي هو جزء الوطء حرامًا لقصد التّلذُّذِ به وتكميلِ الوطء. وأمّا النَّزعُ الذي يُقْصَد به مفارقةُ الحرام ويقطَعُ لذَّةَ المعصية
(1)
، فلا دليل على تحريمه، لا من نصٍّ ولا إجماعٍ ولا قياسٍ صحيحٍ يستوي فيه الأصلُ والفرعُ في علّةَ الحكم. ومحالٌ خلوُّ هذه الحادثة عن حكمٍ لله فيها، وحكمُه فيها: الأمرُ بالنَّزع قطعًا، وإلّا كانت الاستدامةُ مباحةً، وذلك عينُ المحال.
وكذلك الخروجُ من الأرض
(2)
مأمورٌ به، وإنّما تكون الحركةُ والتَّصرُّف في ملك الغير حرامًا إذا كان على وجه الانتفاع بها المتضمِّنِ لإضرار مالكها. أمَّا إذا كان لقصدِ تركِ الانتفاع وإزالةِ الضَّرر عن المالك، فلم يحرِّم الله ولا رسولُه ذلك، ولا دلَّ على تحريمه نظرٌ صحيحٌ ولا قياسٌ صحيحٌ. وقياسُه على مشيِ
(3)
مستديمِ الغَصْب وقياسُ نزع التّائب على نزع المستديم: من أفسَدِ القياس وأبينه بطلانًا.
(1)
ع: "وقطعُ لذَّة المعصية".
(2)
يعني المغصوبة كما ذكر في المسألة.
(3)
لفظ "مشي" ساقط من ش.
ونحن لا ننكر كونَ الفعل الواحد يكون له وجهان، ولكن إذا تحقَّق النَّهيُ عنه والأمرُ به أمكن اعتبارُ وجهيه؛ فإنَّ الشَّارعَ أمرَ بستر العورة، ونهى عن لُبس الحرير، فهذا السَّاترُ لها بالحرير قد ارتكب الأمرَين، فصار فعلُه ذا وجهين.
فأمَّا
(1)
محلُّ النِّزاع، فلم يتحقَّق فيه النَّهيُ عن النَّزع والخروجِ من الأرض من الشَّارع البتَّة، لا بقوله ولا بمعقول قوله، إلّا باعتبار هذا الفرد بفردٍ آخر، بينهما أشدُّ تباينٍ وأعظمُ فرقٍ في الحسِّ والعقل والفطرة والشَّرع.
وأمّا إلحاقُ هذا الفرد بالعفو فإن أريد به أنّه معفوٌّ له عن المؤاخذة به فصحيحٌ. وإن أريد أنَّه لا حكمَ لله فيه، بل هو بمنزلة فعل البهيمة والنَّائم والنّاسي والمجنون، فباطلٌ، إذ هؤلاءُ غير مخاطَبين، وهذا مخاطَبٌ بالنَّزع والخروج، فظهر الفرق. والله الموفِّق للصّواب.
فإن قيل: هذا يتأتّى لكم فيما إذا لم يكن في المفارقة بنزعٍ أو خروجٍ مفسدةٌ. فما تصنعون فيما إذا تضمَّن مفسدةً مثل مفسدة الإقامة، كمن توسَّط جماعةَ جرحى ليسلبهم
(2)
، فطرح نفسَه على واحدٍ، إن أقام عليه قتَلَه بثِقَلِه، وإن انتقل عنه لم يجد بدًّا من انتقاله إلى مثله يقتلُه بثِقَلِه، وقد عزم على التَّوبة، فكيف تكون توبته؟
(3)
.
(1)
ع: "وأما".
(2)
ع: "لسلبهم".
(3)
هذه المسألة ألقاها أبو هاشم الجبائي. انظر الكلام عليها في "البرهان" للجويني (1/ 104)، و"الواضح" لابن عقيل (5/ 427)، و"المسوَّدة"(ص 86)، و"مجموع الفتاوى"(16/ 20).
قيل: توبةُ مثل هذا بالتزام أخفِّ المفسدتين، من الإقامة على الذَّنب المعيَّن أو الانتقال عنه. فإن تساوت مفسدةُ الإقامة على الذَّنب ومفسدةُ الانتقال عنه من كلِّ وجهٍ، فهذا يؤمر من التَّوبة بالمقدور له منها، وهو: النَّدَم والعزمُ الجازمُ على ترك المعاودة. وأمَّا الإقلاعُ فقد تعذَّر في حقِّه إلّا بالتزام مفسدةٍ أخرى مثلِ
(1)
مفسدته.
فقيل: إنّه لا حكمَ لله في هذه الحادثة
(2)
، لاستحالة ثبوت شيءٍ من الأحكام الخمسة فيها، إذ إقامتُه على الجريح تتضمَّن مفسدةَ قتله، فلا يؤمَر بها ولا هو مأذونٌ له فيها. وانتقالُه عنه يتضمَّن مفسدةَ قتلِه الآخرَ
(3)
، فلا يؤمَر بالانتقال ولا يؤذن له فيه، فتعذَّر الحكمُ في هذه الحادثة، وعلى هذا فتتعذَّرُ التَّوبةُ منها.
والصّوابُ: أنّ التَّوبة غيرُ متعذِّرةٍ، ولله فيها حكمٌ؛ فإنّه لا واقعةَ إلّا ولله فيها حكمٌ، علِمَه مَن علِمَه وجَهِلَه مَن جَهِله. فيقال: حكمُ الله في هذه الواقعة كحكمه في المُلْجَأ، فإنّه قد أُلجئ قدرًا إلى إتلاف أحد النَّفسين ولا بدَّ، والمُلْجَأُ ليس له فعلٌ يضاف إليه، بل هو آلةٌ. فإذا صار هذا كالمُلجأ، فحكمُه أن لا يكون منه حركةٌ ولا فعلٌ ولا اختيارٌ، فلا يعدِل من واحدٍ إلى واحدٍ، بل يتخلّى عن الحركة والاختيار، ويستسلم استسلامَ من هو عليه
(4)
، إذ لا قدرةَ له على حركةٍ مأذونٍ له فيها البتَّةَ؛ فحكمُه الفناءُ عن الحركة والاختيار
(1)
ش: "دون".
(2)
انظر: "المنخول" للغزالي (ص 199)، و"التحبير شرح التحرير"(2/ 975).
(3)
ع: "قتل الآخر".
(4)
في هامش ع: "من الجرحى" مع علامة صح.
وشهودُ نفسه كالحجَر الملقى على هذا الجريح. ولا سيَّما إن كان قد ألقي عليه بغير اختياره، فليس له أن يلقي نفسَه على جاره لينجيه بقتله. والقدرُ ألقاه على الأوّل، فهو معذورٌ به، فإذا انتقل إلى الثّاني انتقل بالاختيار والإرادة. فهكذا إذا ألقى نفسه عليه باختياره ثمّ تاب وندم، لا نأمرُه بإلقاء نفسه على جاره، ليتخلَّص من الذَّنب بذنبٍ مثلِه سواءً.
وتوبةُ مثل هذا إنّما تتصوَّر بالنَّدَم والعزم فقط، لا بالإقلاع؛ والإقلاعُ
(1)
في حقِّه مستحيلٌ، فهو كمن أولَجَ في فرجٍ حرامٍ، ثمّ شُدَّ ورُبِط في حال إيلاجه بحيث لا يمكنه النَّزعُ البتّة؛ فتوبتُه بالنَّدم والعزم والتَّجافي بقلبه عن السُّكون إلى الاستدامة. وكذلك توبةُ الأوّل بذلك وبالتَّجافي عن الإرادة والاختيار. والله أعلم.
فصل
ومن أحكامها: أنّها إذا كانت متضمِّنةً لحقِّ آدميٍّ أن يخرُجَ إليه منه، إمَّا بأدائه وإمَّا باستحلاله منه بعد إعلامه به، إن كان حقًّا ماليًّا أو جنايةً على بدنه أو بدن موروثه، كما ثبت عن النّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال:"من كان لأخيه عنده مظلمةٌ من مالٍ أو عرضٍ، فليتحلَّلْه اليومَ، قبل أن لا يكون دينارٌ ولا درهمٌ إلّا الحسناتُ والسّيِّئاتُ"
(2)
.
وإن كانت المظلمة بقدحه فيه بغيبةٍ
(3)
أو قذفٍ، فهل يُشترَط في توبته
(1)
ع: "فالإقلاع".
(2)
أخرجه البخاري (2449) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
ع: "بقدح فيه أو بغيبة".
منها إعلامُه بذلك بعينه والتّحلُّل منه، أو إعلامه بأنّه نال
(1)
من عرضه ولا يشترط تعيينُه، أو لا يشترط لا هذا ولا هذا، بل يكفي في توبته أن يتوب بينه وبين الله تعالى من غير إعلام مَن قذفه واغتابه؟ على ثلاثة أقوالٍ. وعن أحمد رضي الله عنه روايتان منصوصتان في حدِّ القذف، هل يشترط في توبة القاذف إعلامُ المقذوف والتّحلُّل منه أم لا؟ ويخرَّج عليهما توبةُ المغتاب والشَّاتم. والمعروف من
(2)
مذهب الشّافعيِّ وأبي حنيفة ومالكٍ: اشتراطُ الإعلام والتّحلُّل. هكذا ذكر أصحابُهم في كتبهم
(3)
.
والّذين اشترطوا ذلك احتجُّوا بأنَّ الذَّنبَ حقُّ آدميٍّ، فلا يسقط إلّا بإحلاله منه وإبرائه.
ثمَّ مَن لم يصحِّح البراءةَ من الحقِّ المجهول يشترط
(4)
إعلامَه بعينه، لا سيَّما إذا كان مَن عليه الحقُّ عارفًا بقدره، فلا بدَّ من إعلام مستحقِّه به، لأنَّه قد لا تسمح نفسُه بالإبراء منه إذا عرف قدره.
واحتجُّوا بالحديث المذكور، وهو قوله:"من كان لأخيه عنده مظلمةٌ من مالٍ أو عرضٍ، فليتحلَّله اليومَ".
قالوا: ولأنّ في هذه الجناية حقَّين: حقًّا لله، وحقًّا لآدميٍّ، فالتَّوبةُ منها بتحلُّلِ الآدميِّ، والنَّدمِ فيما بينه وبين الله لأجل حقِّه.
(1)
ع: "قد نال".
(2)
ع: "في".
(3)
وانظر: "الوابل الصيب" للمؤلف (ص 389 - 390)، و"المحرَّر"(ص 652)، و"الأذكار" للنووي (ص 326)، و"الآداب الشرعية"(1/ 62).
(4)
ع: "شرَط".
قالوا: ولهذا كانت توبةُ القاتل لا تتِمُّ إلّا بتمكين وليِّ الدَّم من نفسه إن شاء اقتصَّ وإن شاء عفا. وكذلك توبةُ قاطعِ الطَّريق.
والقول الآخر: أنّه لا يُشترَط الإعلامُ بما نال من عرضه وقذفه واغتيابه، بل يكفي توبته بينه وبين الله، ويذكرُ المغتابَ والمقذوفَ في مواضع غيبته وقذفه بضدِّ ما ذكره به من الغيبة، فيبدِّلُ غيبتَه بمدحه والثّناء عليه وذكر محاسنه، وقذفَه بذكر عفّته وإحصانه، ويستغفر له بقدر ما اغتابه. وهذا اختيار شيخنا
(1)
قدَّس الله روحَه
(2)
.
واحتجَّ أصحابُ هذه المقالة بأنّ إعلامه مفسدةٌ محضةٌ لا تتضمَّن مصلحةً، فإنّه لا يزيده إلّا أذًى وحنقًا وغمًّا، وقد كان مستريحًا قبل سماعه، فإذا سمعه ربّما لم يصبر على حمله، وأورثَه ضررًا في نفسه أو بدنه
(3)
، كما قال الشّاعر:
فإنَّ الذي يؤذيك منه سماعُه
…
وإنَّ الذي قالوا وراءك لم يُقَلْ
(4)
(1)
بعده في ع زيادة: "أبي العباس بن تيمية".
(2)
انظر: "الصارم المسلول"(ص 493)، و"مجموع الفتاوى"(3/ 291)، (18/ 189).
(3)
ش: "وبدنه".
(4)
في "أنساب الأشراف"(11/ 184) أنَّ حضرمي بن عامر وفد على النبي صلى الله عليه وسلم في قصة وردت في "عيون الأخبار"(2/ 18) ولكن الاسم فيه العلاء بن الحضرمي، مع ذكر ثلاثة أبيات ــ هذا أحدها ــ أنشدها النبي صلى الله عليه وسلم. وكذا في "العقد"(2/ 184)، و"معجم المرزباني" (ص 157). وقيل غير ذلك. انظر: ترجمة قيس بن الربيع في "الإصابة"(9/ 100 - 101).
وما كان هكذا فإنَّ الشَّارعَ لا يبيحه، فضلًا عن أن يوجبه ويأمر به.
قالوا: وربَّما كان إعلامُه به سببًا للعداوة والحرب بينه وبين القائل، فلا يصفو له أبدًا، ويورثُه علمُه به عداوةً وبغضاءَ مولِّدةً لشرٍّ أكبرَ من شرِّ الغيبة والقذف. وهذا ضدُّ مقصود الشَّارع من تآلُف القلوب والتَّراحُم والتَّعاطُف والتَّحابِّ.
قالوا: والفرق بين ذلك وبين الحقوق الماليِّة وجنايات الأبدان من وجهين:
أحدهما: أنّه قد ينتفع بها إذا رجعت إليه، فلا يجوز إخفاؤها عنه، فإنَّه محضُ حقِّه، فيجب عليه أداؤه إليه؛ بخلاف الغيبة والقذف، فإنَّه ليس هناك شيءٌ ينفعه يؤدِّيه إليه إلَّا إضرارُه وتهييجُه فقط. فقياسُ أحدهما على الآخر من أفسَدِ القياس.
والثّاني: أنّه إذا أعلمه بها لم يؤذه، ولم يهيِّج منه غضبًا وعداوةً، بل ربَّما سرّه ذلك وفرح به؛ بخلاف إعلامِه بما مزَّق به عرضَه طول عمره ليلًا ونهارًا، من أنواع القذف والغيبة والهجو. فاعتبارُ أحدهما بالآخر اعتبارٌ فاسدٌ.
وهذا هو الصَّحيحُ من القولين كما رأيتَ. والله أعلم.
فصل
ومن أحكامها: أنَّ العبد إذا تاب من الذَّنب فهل يرجع إلى ما كان عليه قبل الذَّنب من الدَّرجة التي حطَّه عنها الذَّنبُ، أو لا يرجع إليها؟
(1)
.
(1)
للمصنف كلام مفصَّل على هذه المسألة في "طريق الهجرتين"(2/ 505 - 536)، وتكلَّم عليها في "الداء والدواء"(ص 207 - 208) أيضًا.
اختلف في ذلك.
فقالت طائفةٌ: يرجع إلى درجته، لأنَّ التَّوبةَ تجُبُّ الذَّنبَ بالكلِّيّة، وتُصيِّره كأن لم يكن، والمقتضي لدرجته ما معه من الإيمان والعمل الصّالح، فعاد إليها بالتّوبة.
قالوا: ولأنَّ التَّوبةَ حسنةٌ عظيمةٌ وعملٌ صالحٌ، فإن كان ذنبُه قد حطَّه عن درجته، فحسنتُه بالتَّوبة رقَّته
(1)
إليها. وهذا كمن سقط في بئرٍ، وله صاحبٌ شفيقٌ، أدلى إليه حبلًا تمسَّك به حتّى رقي منه إلى موضعه. فهكذا التَّوبةُ والعملُ الصَّالحُ مثل هذا القرين الصَّالح والأخ الشَّفيق.
وقالت طائفةٌ: لا يعود إلى درجته وحاله، لأنّه لم يكن في وقوفٍ، بل كان
(2)
في ترقٍّ وصعودٍ، فبالذَّنب صار في نزولٍ وهبوطٍ؛ فإذا تاب نقَص عليه ذلك القدرُ الذي كان مستعدًّا فيه للتَّرقِّي.
قالوا: ومثَلُ هذا مثَلُ رجلين سائرين على طريقٍ سيرًا واحدًا، ثمّ عرَض لأحدهما ما ردَّه على عقبه أو أوقفه، وصاحبُه سائرٌ؛ فإذا استقال هذا رجوعَه ووقفتَه وسار بإثر صاحبه لم يلحَقْه أبدًا، لأنَّه كلَّما سار مرحلةً تقدَّم ذلك أخرى.
قالوا: والأوَّلُ سيرُه بقوّة أعماله
(3)
، وكلَّما ازداد سيرًا ازدادت قَوّتُه.
(1)
ل، ج:"ترقيه".
(2)
ع: "وإنما كان".
(3)
في ع بعده زيادة: "وإيمانه"، وكذا بعد "سيره" في السطر الآتي.
وذلك الواقف الذي رجع قد ضعفت قوَّةُ سيره بالوقوف والرُّجوع.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يحكي هذا الخلاف، ثمَّ قال: والصَّحيحُ أنَّ من التَّائبين
(1)
من لا يعود إلى درجته، ومنهم من يعود إليها، ومنهم من يعود إلى أعلى منها فيصير خيرًا ممَّا كان قبل الذَّنب. وكان داود بع التَّوبة خيرًا منه قبل الخطيئة.
قال: وهذا بحسب حال التّائب بعد توبته وعزمه وحذره وجدِّه
(2)
وتشميره. فإن كان ذلك أعظمَ ممَّا كان له قبل الذّنب عاد خيرًا ممّا كان وأعلى درجةً، وإن كان مثلَه عاد إلى مثل حاله، وإن كان دونه لم يعُد إلى درجته وكان منحطًّا عنها
(3)
.
وهذا الذي ذكره هو فصلُ النِّزاع في هذه المسألة.
ويتبيَّن هذا بمثلين مضروبين:
أحدهما: رجلٌ مسافرٌ سائرٌ على الطَّريق بطمأنينةٍ وأمنٍ، فهو يعدو مرَّةً ويمشي أخرى، ويستريح تارةً وينام أخرى. فبينا هو كذلك إذ عرض له في طريق سيره ظلٌّ ظليلٌ، وماءٌ باردٌ، ومقيلٌ، وروضةٌ مزهرةٌ؛ فدعته نفسُه إلى النُّزول عليها، فنزلَ عليها، فوثب عليه منها عدوٌّ، فأخَذَه وقيَّده وكتَّفه ومنَعه عن السَّير، فعاين الهلاك وظنّ أنّه منقطَعٌ به، وأنَّه رزقُ الوحوش والسِّباع،
(1)
ش: "الناس".
(2)
في ع "وجدِّه" بعد "توبته".
(3)
انظر: "منهاج السنة"(2/ 432 - 434)، و"مجموع الفتاوى"(10/ 293 - 294)، (15/ 54 - 57).
وأنّه قد حيل بينه وبين مقصده الذي يؤمُّه. فبينا هو على ذلك تتقاذف به الظُّنونُ، إذ وقف على رأسه والده الشَّفيقُ القادرُ، فحلَّ كِتافَه وقيودَه، وقال: اركب الطَّريقَ، واحذر هذا العدوَّ، فإنَّه على منازل الطَّريق بالمرصاد. واعلم أنّك ما دمتَ حاذرًا له متيقِّظًا لا يقدر عليك، فإذا غفلتَ وثَب عليك، وأنا متقدِّمك إلى المنزلة وفرَطٌ لك، فاتَّبِعني على الأثر.
فإن كان هذا السّائرُ كيِّسًا فَطِنًا لبيبًا حاضر الذِّهن والعقل، استقبل سيرَه استقبالًا آخرَ
(1)
، واشتدَّ حذرُه، وتأهَّب لهذا العدوِّ، وأعدَّ له عُدَّتَه، فكان سيرُه الثّاني أقوى من الأوّل وخيرًا منه، ووصوله إلى المنزل أسرعَ. وإن غفَل عن عدوِّه وعاد إلى مثل حاله الأولى من غير زيادةٍ ولا نقصانٍ ولا قوَّةِ حذرٍ واستعدادٍ عاد كما كان، وهو معرَّضٌ لما عرَض له أولًا. وإن أورثه ذلك توانيًا في سَيره وفتورًا، وتذكُّرًا لطِيب مقيله وحُسنِ ذلك الرَّوض وعذوبة مائه وتفيُّؤ ظلاله، وسكونًا بقلبه إليه= لم يعُدْ إلى مثل سَيره ونقَص عمَّا كان.
المثلُ الثَّاني: عبدٌ في صحَّةٍ وعافية جسمٍ، عرَضَ له مرضٌ أوجب له حِمْيةً وشربَ دواءٍ وتحفُّظًا من التَّخليط، ونفَضَ
(2)
بذلك عنه مادّةً رديَّةً كانت مُنقِصةً لكمال قوّته وصحَّته، فعاد بعد المرض أقوى ممَّا كان قبله
(3)
:
لعلَّ عتبَك محمودٌ عواقبه
…
وربَّما صحَّت الأجسامُ بالعِلَلِ
(4)
(1)
في ع بعده زيادة: "أقوى من الأوّل وأتمَّ".
(2)
ع: "نقض". وفي غيرها ما عدا ق، ل:"نقص"، تصحيف.
(3)
في ع بعده زيادة: "كما قيل".
(4)
للمتنبي في "ديوانه"(ص 331) والرواية: "فربَّما"، وسيأتي مرة أخرى.
وإن أوجب له ذلك المرضُ ضعفًا في القوَّة، وتداركه بمثل ما نقص من قوَّته، عاد إلى مثل ما كان. وإن تداركه بدون ما نقص من قوَّته عاد إلى دون ما كان عليه من القوَّة.
وفي هذين المثلين كفايةٌ لمن تدبَّرهما.
وقد ضُرِب لذلك
(1)
مثلٌ آخَرُ برجلٍ خرج من بيته يريد الصَّلاةَ في الصَّفِّ الأوّل، لا يَلوي على شيءٍ في طريقه، فعرَض له رجلٌ من خلفه جبَذ
(2)
ثوبَه وأوقفه قليلًا، يريد تعويقَه عن الصَّلاة، فله معه حالان:
أحدهما: أن يشتغل به حتَّى تفوته الصَّلاةُ. فهذه حالُ غيرِ التّائب.
الثّانية: أن يجاذبَه على نفسه، ويتفلَّت منه، لئلَّا تفوتَه الصَّلاة. ثمّ له بعد هذا التّفلُّت ثلاثةُ أحوالٍ:
أحدها: أن يكون سيره جَمْزًا ووثوبًا
(3)
، ليستدرك ما فاته بتلك الوقفة، فربَّما استدركه وزاد عليه.
الثّاني: أن يعود إلى مثل سيره.
الثّالث: أن تورثه تلك الوقفةُ فتورًا وتهاونًا، فيفوتَه فضيلةُ الصَّفِّ الأوّل، أو فضيلةُ الجماعة وأوّل الوقت.
فهكذا التائبُ
(4)
سواءً.
(1)
ع: "لك". وكذا كان في الأصل ثم أصلح.
(2)
ج، ش:"جذب"، وهما بمعنًى.
(3)
ع: "ووثبًا".
(4)
ع: "التائبين السائرين".
فصل
ويتبيَّن هذا بمسألةٍ شريفةٍ، وهي أنَّه هل المطيعُ الذي لم يعصِ خيرٌ من العاصي الذي تاب إلى الله توبةً نصوحًا، أو هذا التّائبُ أفضَلُ منه؟
اختُلِفَ في ذلك.
فطائفةٌ رجَّحَت مَن لم يعصِ على من عصى وتاب
(1)
، واحتجُّوا بوجوهٍ:
أحدها: أنَّ أكملَ الخلق وأفضلَهم أطوَعُهم لله تعالى، وهذا الذي لم يعصِ أطوَعُ، فيكون أفضل.
الثّاني: أنَّ في زمن اشتغال العاصي بمعصيته يسبقه المطيعُ عدَّةَ مراحل إلى فوق، فتكون درجتُه أعلى من درجته. وغايته أنّه إذا تاب استقبل سيَره ليلحقَه، وذلك في سيرٍ آخر، فأنَّى له بلَحاقه! فهما بمنزلة رجلين مشتركين في الكسب، كلَّما كسَب أحدُهما شيئًا كسَب الآخرُ مثلَه، فعمَد أحدُهما إلى كسبه فأضاعه، وأمسَكَ عن الكسبِ المستأنَفِ؛ والآخَرُ يجِدُّ
(2)
في الكسب، فإذا أدركته حميَّةُ المنافسة، وعاد إلى الكسب، وجد صاحبَه قد كسَب في تلك المدَّة، شيئًا كثيرًا، فلا يكسب شيئًا إلّا كسب صاحبه نظيرَه
(3)
، فأنّى له بمساواته!
الثّالث: أنَّ غايةَ التَّوبةِ أن تمحو عن هذا سيِّئاتِه، ويصير بمنزلة من لم
(1)
في ع زيادة: "توبةً نصوحًا".
(2)
ع: "مُجِدُّ".
(3)
ع: "مثله".
يعملها، فيكون سعيُه في مدَّة المعصية لا له ولا عليه؛ فأين هذا السَّعيُ من سعي مَن هو كاسبٌ رابحٌ!
الرّابع: أنَّ الله يمقت على معاصيه ومخالفة أوامره، ففي مدّة اشتغال هذا بالذُّنوب كان حظُّه المقتَ، وحظُّ المطيع الرِّضا، فالله لم يزل عنه راضيًا، ولا ريب أنّ هذا خيرٌ ممَّن كان الله راضيًا عنه، فمقَتَه
(1)
، ثمَّ رضي عنه؛ فإنَّ الرِّضا المستمرَّ خيرٌ من الذي تخلَّلَه المقتُ.
الخامس: أنَّ الذَّنبَ بمنزلة شُرب السَّمِّ، والتَّوبةُ هي ترياقه ودواؤه، والطَّاعةُ هي الصِّحّة والعافية؛ وصحّةٌ وعافيةٌ مستمرّةٌ خيرٌ من صحّةٍ تخلَّلها مرضٌ وشربُ سمٍّ أفاق منه
(2)
.
السّادس: أنَّ العاصي على خطرٍ شديدٍ، فإنّه دائرٌ بين ثلاثة أشياء:
أحدُها: العطَب والهلاك بشرب السَّمِّ.
الثّاني: النُّقصان من القوّة وضعفها إن سلِمَ من الهلاك.
والثّالث: عودُ قوّته إليه كما كانت أو خيرًا منها.
والأكثرُ إنّما هو القسمان الأوّلان، ولعلَّ الثَّالثَ نادرٌ جدًّا. فهو على يقينٍ من ضرر السَّمِّ، وعلى رجاءٍ من حصول العافية؛ بخلاف من لم يتناول ذلك.
السّابع: أنَّ المطيعَ قد أحاط على بستان طاعته حائطًا حصينًا لا يجد
(1)
ع: "ثم مقته".
(2)
بعده زيادة في ع: "وربَّما أدَّيا به إلى التَّلف أو المرض أبدًا".
العدوُّ
(1)
إليه سبيلًا، فثمرتُه وزهرتُه ونضرتُه وبهجتُه في زيادةٍ ونموٍّ أبدًا. والعاصي قد فتَح فيه ثَغْرةً
(2)
، ومكَّن منه السُّرَّاقَ والأعداءَ، فدخلوا فعاثوا فيه، وأفسدوا
(3)
، وقطَّعوا ثمرته، وأحرقوا في نواحيه، وقطعَوا ماءه، أو نقَصوا سقيَه
(4)
، فإذا تداركه قَيِّمُه ولمَّ شعَثَه، وأصلَح ما فسد منه، وفتَح طرقَ مائه، وعمَّر ما خَرِب منه؛ فإنّه إمَّا أن يعود كما كان، أو أنقصَ، أو خيرًا؛ ولكن لا يلحق بستانَ صاحبه الذي لم يزل على نضارته وحسنه، بل في زيادةٍ ونموٍّ
(5)
.
الثّامن: أنَّ طمعَ العدوِّ في هذا العاصي إنّما كان لضعفِ علمه وضعفِ عزيمته، ولذلك يسمّى جاهلًا. قال قتادة رضي الله عنه: أجمع
(6)
أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنَّ كلَّ ما عُصي الله به فهو جهالةٌ
(7)
. وكذلك قال الله تعالى في حقِّ آدم عليه السلام: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115]. وقال في حقِّ غيره: {كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا} [الأحقاف: 35]. وأمَّا من قويت عزيمتُه، وكمُل علمُه، وقوي إيمانُه= لم يطمع فيه عدوُّه، فكان
(8)
أفضل.
التّاسع: أنَّ المعصيةَ لا بدَّ أن تؤثِّر أثرًا سيِّئًا، ولا بدَّ: إمَّا هلاكًا كلِّيًّا، وإمَّا
(1)
ع: "العدى".
(2)
بعده في ع زيادة: "وثلم فيه ثلمةً".
(3)
ع: "فعاثوا فيه يمينًا وشمالًا، وأفسدوا أغصانه، وخرَّبوا حيطانه".
(4)
في ع بعده زيادة: "فمتى يرجع هذا إلى حاله الأول".
(5)
في ع زيادة: "وتضاعُفِ ثمرته وكثرةِ غرسه".
(6)
ق، ل، ج:"احتج"، تصحيف. وكذا كان في م ثم أصلح.
(7)
تقدَّم تخريجه.
(8)
ع: "وكان".
خسرانًا وعقابًا يعقبُه إمَّا
(1)
عفوٌ ودخولُ الجنّة، وإمّا نقصُ درجةٍ، وإمّا خمودُ مصباح الإيمان. وعملُ التوبة في رفع هذه الآثار والتَّكفير، وعملُ المطيع في الزِّيادة ورفعة الدّرجات.
ولهذا كان قيامُ اللَّيل نافلةً للنّبيِّ صلى الله عليه وسلم خاصّةً فإنَّه يعمل في زيادة الدَّرجات، وغيرُه يعمل في التكفير، وأين هذا من هذا؟
العاشر: أنَّ المقبلَ على الله له سيرٌ
(2)
بجملة أعماله، وكلَّما ازدادت
(3)
طاعاتُه وأعمالُه ازداد كسبُه بها وعظُمَ. وهو بمنزلة من سافر
(4)
، فكسب عشرةَ أضعاف رأس ماله، فسافر ثانيًا برأسِ ماله الأوّل وكسبِه، فكسَب عشرةَ أضعافه أيضًا، فسافر ثالثًا أيضًا بهذا المال كلِّه، وكان ربحُه كذلك، وهلمَّ جرًّا. فإذا فتَر عن السَّفر في آخر أمره مرّةً واحدةً فاته من الرِّبح بقدر جميع ما ربح أو أكثرَ منه. وهذا معنى قول بعض العارفين
(5)
: لو أقبل عبدٌ على الله كذا وكذا سنةً ثمّ أعرض عنه لحظةً واحدةً كان ما فاته أكثرَ ممَّا حصل له
(6)
. وهو صحيحٌ بهذا المعنى، فإنّه قد فاته في مدّة الإعراض ربحُ تلك الأعمال
(1)
"إمَّا" من ع.
(2)
ع: "المقبل على الله المطيع له يسيرُ".
(3)
ع: "زادت".
(4)
ما عدا ج: "يسافر".
(5)
ع: "قول الجنيد".
(6)
ع: "أقبل صادق على الله ألف عام ثم أعرض
…
مما ناله". وقد نقله المؤلف في "الوابل الصيب" (ص 89) كما أثبت من الأصل وغيره. وهو من كلام الجنيد كما في ع، وبلفظها أخرجه السلمي في "طبقات الصوفية" (ص 161). وانظر: "حلية الأولياء" (10/ 278).
كلِّها، وهو أزيَدُ من الرِّبح المتقدِّم. فإذا كان هذا حالَ من أعرض، فكيف مَن عصى وأذنب؟ وفي هذا الوجه كفايةٌ.
فصل
وطائفةٌ رجَّحت التّائبَ، وإن لم تنكر كونَ الأوّل أكثرَ حسناتٍ منه. واحتجَّت بوجوهٍ:
أحدها: أنَّ عبوديّةَ التَّوبة من أحبِّ العبوديّات إلى الله وأكرمِها عليه، فإنّه سبحانه يحبُّ التّوّابين. ولو لم تكن التَّوبةُ أحبَّ الأشياء إليه لما ابتلى بالذَّنب أكرمَ الخلقِ عليه. فلمحبّته لتوبة عبده ابتلاه بالذَّنب الذي يُوجِب وقوعَ محبوبه من التَّوبة، وزيادةَ محبَّتِه لعبده، فإنَّ للتّائبين عنده محبّةً خاصّةً. يوضِّح ذلك:
الوجه الثّاني: أنَّ للتَّوبة عنده سبحانه منزلةً ليست لغيرها من الطَّاعات. ولهذا يفرح سبحانه بتوبة عبده حين يتوب
(1)
أعظمَ فرحٍ يقدَّر، كما مثَّلَه النّبيُّ صلى الله عليه وسلم بفرح الواجد لراحلته التي عليها طعامُه وشرابُه في الأرض الدَّوِّيَّةِ المهلكة، بعد ما فقدها وأيِسَ من أسباب الحياة
(2)
. ولم يجئ هذا الفرحُ في شيءٍ من الطَّاعات سوى التَّوبة. ومعلومٌ أنَّ لهذا الفرح تأثيرًا عظيمًا في حال التّائب وقلبه، ومزيدُه لا يعبَّر عنه. وهو من أسرار تقدير الذُّنوب على العباد، فالعبدُ ينال بالتَّوبة درجةَ المحبوبيَّة، فيصير حبيبًا لله، فإنَّ الله يحبُّ التَّوَّابين ويحبُّ العبدَ المفتَّنَ التَّوَّابَ
(3)
. يوضِّحه:
(1)
في ع بعده زيادة: "إليه".
(2)
تقدَّم تخريجه (ص 327).
(3)
كما ذكر في حديث تقدَّم تخريجه (ص 436).
الوجه الثّالث: أنَّ عبوديّةَ التَّوبة فيها من الذُّلِّ والانكسار والخضوع، والتّملُّقِ لله، والتّذلُّلِ له= ما هو أحبُّ إليه من كثيرٍ من الأعمال الظَّاهرة. فإن
(1)
زادت في القدر والكمِّيَّة على عبوديَّة التَّوبة، فإنَّ الذُّلَّ والانكسارَ روحُ العبوديّة ومخُّها ولبُّها. يوضِّحه:
الوجه الرّابع: أنَّ حصولَ مراتب الذُّلِّ والانكسار للتّائب أكملُ منها لغيره، فإنّه قد شارك مَن لم يُذنب في ذلِّ الفقر، والعبوديّة، والمحبّة؛ وامتاز عنه بانكسار المعصية
(2)
، والله سبحانه أقربُ ما يكون إلى عبده عند ذلِّه وانكسار قلبه، كما في الأثر الإسرائيليِّ:"يا ربِّ أين أجدك؟ قال: عند المنكسِرة قلوبُهم من أجلي"
(3)
. ولأجل هذا "أقربُ ما يكون العبد من ربِّه وهو ساجدٌ"
(4)
، لأنّه مقامُ ذلٍّ وانكسارٍ بين يدي ربِّه عز وجل.
وتأمَّلْ قولَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربِّه تبارك وتعالى أنّه يقول يوم القيامة: "ابنَ آدم، استطعمتُك فلم تُطعِمْني. قال: يا ربِّ، كيف أُطْعِمُك وأنت ربُّ العالمين؟ قال: استطعمك عبدي فلم تُطْعِمْه، أمَا لو أطعمتَه لوجدتَ ذلك عندي. ابنَ آدم، استسقيتُك فلم تَسْقِني. قال: يا ربِّ، كيف أسقيك، وأنت ربُّ العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلانٌ فلم تَسْقِه، أمَا لو سقيتَه لوجدتَ ذلك عندي. ابنَ آدم، مرضتُ فلم تَعُدْني. قال: يا ربِّ، كيف أعودك،
(1)
ج، ش، ع:"وإن".
(2)
ع: "بانكسار قلبه بالمعصية".
(3)
أخرجه عبد الله في زوائد "الزهد"(ص 64) عن عمران بن مسلم القصير قال: قال موسى: يا ربِّ أين أبغيك؟ قال: ابغِني عند المنكسرة قلوبهم.
(4)
قطعة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه مسلم (482).
وأنت ربُّ العالمين؟ قال: أمَا إنَّ عبدي فلانًا مرِضَ فلم تعُدْه، أمَا لو عُدْتَه لوجدتَني عنده"
(1)
. فقال في عيادة المريض: "لوجدتَني عنده"، وقال في الإطعام والإسقاء:"لوجدتَ ذلك عندي"، ففرَّق بينهما، فإنَّ المريضَ مكسورُ القلب ولو كان من كان، فلا بدَّ أن يكسره المرضُ، فإذا كان مؤمنًا قد انكسر قلبُه بالمرض كان الله عنده
(2)
.
وهذا ــ والله أعلم ــ هو السِّرُّ في استجابة دعوة الثّلاثة: المظلوم، والمسافر، والصّائم للكَسْرة التي في قلبِ كلِّ واحدٍ منهم، فإنَّ غربة المسافر وكسْرتَه ممّا يجده العبدُ في نفسه، وكذلك الصَّومُ فإنَّه يكسِر سورةَ النَّفس السَّبُعيّةِ الحيوانيّةِ ويُذلُّها.
والقصدُ: أنّ شمعةَ الخير والفضل والعطايا إنَّما تنزل في شَمْعَدَانِ
(3)
الانكسار، وللعاصي التّائبِ من ذلك نصيبٌ وافرٌ
(4)
. يوضِّحه:
الوجه الخامس: أنَّ الذَّنبَ قد يكون أنفعَ للعبد ــ إذا اقترنت به التَّوبةُ ــ من كثيرٍ من الطَّاعات. وهذا معنى قول بعض السَّلف: قد يعمل العبدُ الذَّنبَ
(5)
فيدخل به الجنَّةَ، ويعملُ الطَّاعةَ فيدخلُ بها النَّارَ. قالوا: وكيف ذلك؟ قال: يعمل الذَّنبَ فلا يزال نُصْبَ عينيه، إن قام وإن قعد وإن
(1)
أخرجه مسلم (2569) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
وانظر: "شفاء العليل"(ص 255) وما سيأتي في باب التلبيس.
(3)
الشَّمْعَدَان: مِسْرجة تركز عليها الشُّموع. وقد تحرَّف في ش إلى "ميدان"، و"شمعة" إلى "سعة".
(4)
ع: "أوفر نصيب".
(5)
ع: "إن العبد ليعمل الذنب".
مشى، كلما ذكَره أحدَثَ له توبةً
(1)
واستغفارًا وندمًا، فيكونُ ذلك سببَ نجاته. ويعملُ الحسنةَ، فلا تزال نُصْبَ عينيه، إن قام وإن قعد وإن مشى، كلَّما ذكرها أورثته عُجْبًا وكِبْرًا ومِنَّةً، فتكون سببَ هلاكه
(2)
.
فيكون الذَّنبُ موجِبًا لترتُّب طاعاتٍ وحسناتٍ ومعاملاتٍ قلبيّةٍ من خوفٍ من الله، وحياءٍ منه، وإطراقٍ بين يديه منكِّسًا رأسَه خَجِلًا باكيًا نادمًا مستقيلًا ربَّه. وكلُّ واحدٍ من هذه الآثار
(3)
أنفَعُ للعبد من طاعةٍ تُوجِب له صولةً، وكبرًا، وازدراءً بالنّاس، ورؤيتَهم بعين الاحتقار.
ولا ريب أنَّ هذا المُذْنِبَ خيرٌ عند الله وأقربُ إلى النَّجاة والفوز من هذا المعجَبِ بطاعته، الصّائلِ بها، المانِّ بها بحاله على الله وعباده، وإن قال بلسانه خلافَ ذلك، فالله شهيدٌ على ما في قلبه. ويكاد يعادي الخلائقَ إن
(4)
لم يعظِّموه ويرفعوه ويخضعوا له، ويجدُ في قلبه بِغضةً لمن لم يفعل به كذلك، ولو فتَّش نفسه حقَّ التّفتيش لرأى فيها ذلك كامنًا. ولهذا تراه عاتبًا على من لم يعظِّمه ويعرِفْ له حقَّه، متطلِّبًا لعيبه في قالبِ حميَّةٍ لله، وغضبٍ له! وإذا قام بمن يعظِّمه ويحترمه ويخضع له من الذُّنوب أضعافُ ما قام بهذا فتَح له بابَ المعاذير والرَّجاء، وأغمَض عينَه وسمعَه، وكفَّ لسانه وقلبه، وقال: بابُ العصمة عن غير الأنبياء عليهم السلام مسدودٌ! وربَّما ظنَّ أنَّ ذنوبَه تُكفَّر بإجلاله وتعظيمه وإكرامه!
(1)
ع: "مشى ذكر ذنبه فيحدث له انكسارًا وتوبةً".
(2)
أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(3/ 242) عن أبي حازم بنحوه.
(3)
ع: "الخصال".
(4)
من ج. وفي ش: "إذا"، وفي غيرهما:"إذ". وفي ع: "الخلق" بدلًا من "الخلائق".
فإذا أراد الله بهذا العبد خيرًا ألقاه في ذنبٍ كسَره
(1)
به، وعرَّفَه قدرَه، وكفَى به عبادَه شرَّه، ونكَّسَ به رأسَه، واستخرجَ به منه داءَ العُجب والكبر والمنّة عليه وعلى عباده فيكونُ هذا الذَّنبُ أنفع لهذا من طاعاتٍ كثيرةٍ، ويكون بمنزلة شُربِ الدَّواء ليستخرجَ به الدَّاءَ العُضالَ، كما قيل بلسان الحال في قصّة آدم عليه السلام وخروجه من الجنّة بذنبه:
يا آدمُ، لا تجزَعْ من كأسِ زللٍ
(2)
كانت سببَ كَيْسِك، فقد استُخْرِجَ بها منك داءٌ لا يصلُح أن تُجاورنا به، وأُلْبِسْتَ بها خِلْعةَ العبوديّة.
لعلَّ عتبَك محمودٌ عواقبُه
…
وربَّما صحَّتِ الأجسامُ بالعِلَلِ
(3)
يا آدَمُ، إنّما ابتليتُك بالذَّنب لأنِّي أُحِبُّ أن أُظْهِرَ فضلي وجودي وكرمي على من عصاني. "لو لم تُذنبوا لذهَبَ الله بكم، ولجاء بقومٍ يُذنبون فيستغفرون، فأغفِرُ لهم"
(4)
.
يا آدمُ، كنتَ تدخل عليَّ دخولَ الملوك على الملوك، واليومَ تدخلُ عليَّ دخولَ العبيد على الملوك
(5)
.
(1)
ع: "يكسره".
(2)
بعده في هامش ل: "فإنها" مع علامة صح. وفي الأصل وغيره: "كأس ذلك"، وما أثبتُّه من ع موافق لما جاء في "الفوائد"(ص 51)، و"مفتاح دار السعادة"(2/ 829)، ولا يبعد أن يكون "ذلك" تصحيفه. ويؤيده أنَّ في "بدائع الفوائد" (3/ 1198):"كأس خطأ" كما في مصدر الفقرة وهو "المدهش" لابن الجوزي (1/ 162).
(3)
للمتنبي وقد تقدَّم قريبًا.
(4)
تقدَّم تخريجه (ص 326).
(5)
وانظر: "الفوائد"(ص 51). وفي "طريق الهجرتين"(2/ 510) أنَّ في بعض الآثار يقول الله تعالى ذلك لداود عليه السلام.
يا آدَمُ، إذا عصمتُك وعصمتُ بنيك من الذُّنوب، فعلى مَن أجُودُ بحلمي؟ وعلى مَن أجُود بعفوي ومغفرتي وتوبتي، وأنا التَّوَّاب الرَّحيم؟
يا آدمُ، لا تجزَعْ من قولي لك
(1)
: "اخرُجْ منها"، فلك خلقتُها، ولكن اهبِطْ إلى دار المجاهدة، وابذُرْ بِذارَ التَّقوى، وأَمطِرْ عليه سحائبَ الجفون. فإذا اشتدَّ الحَبُّ واستغلَظَ واستوى على سوقه، فتعالَ فاحصُدْه
(2)
.
يا آدمُ، ما أهبطتُكَ من الجنَّةِ إلّا لتتوسَّل إليَّ في الصُّعود، وما أخرجتُك منها نفيًا لك عنها، ما أخرجتُك إلَّا لِتعود.
إن جرى بيننا وبينك عَتْبٌ
…
أو تناءَتْ منَّا ومنكَ الدِّيارُ
فالوِدادُ الذي عهدتَ مقيمٌ
…
والعِثارُ الذي أصبتَ جُبَارُ
(3)
يا آدَمُ، ذنبٌ تَذِلُّ به لدينا أحبُّ إلينا من طاعةٍ تُدِلُّ بها علينا.
يا آدمُ، أنينُ المذنبين أحبُّ إلينا من تسبيح المُدِلِّين.
"ويا ابنَ آدم، إنَّك ما دعوتَني ورجوتَني غفرتُ لك على ما كان منك ولا
(1)
"لك" ساقط من ش.
(2)
انظر نحوه في "الفوائد"(ص 51)، و"البدائع"(3/ 1198)، و"المفتاح"(1/ 26)، (2/ 830)، و"المدهش"(1/ 162).
(3)
البيتان للبحتري في "ديوانه"(2/ 852 - 853)، ورواية البيت الثاني في "المدهش" (1/ 162):
فالغليلُ الذي عهدت مقيمُ
…
والدُّموع التي شهدت غِزَارُ
وضمير الخطاب في البيتين للمؤنثِ. فتصرَّف المصنِّف في كلمة "الغليل" في صدر البيت الثاني، وغيَّر عجزَه ليناسب السِّياق.
أبالي. ابنَ آدم، لو بلغت ذنوبُك عَنانَ السَّماء، ثمَّ استغفرتَني غفرتُ لك
(1)
. يا ابنَ آدم، لو لقيتَني بقُرابِ الأرض خطايا، ثمَّ لقيتَني لا تشرك بي شيئًا أتيتُك بقُرابها مغفرةً"
(2)
.
ويُذكر عن بعض العُبَّاد
(3)
أنّه كان يطوف ليلةً، فسأل ربَّه في الطَّوافِ
(4)
أن يعصِمَه عن معصيته، ثمَّ غلبته عيناه فنام، فسمع قائلًا يقول: أنت تسألني العصمةَ، وكلُّ عبادي يسألوني العصمةَ، فإذا عصمتُهم فعلى من أجودُ
(5)
بمغفرتي وعفوي؟ وعلى من أتوب؟ وأين كرمي وعفوي ومغفرتي وفضلي؟ أو نحو هذا
(6)
من الكلام.
ويا ابنَ آدم، إذا آمنتَ بي ولم تُشرك بي شيئًا أقمتُ حمَلةَ العرش
(7)
ومَن حولَه يسبِّحون بحمدي ويستغفرون لك، وأنت على فراشك!
وفي الحديث العظيم الإلهيِّ حديثِ أبي ذرٍّ: "عبادي
(8)
، إنّكم تخطئون
(1)
العبارة "ابن آدم لو بلغت
…
لك" ساقطة من ش.
(2)
تقدَّم تخريجه (ص 302).
(3)
هو إبراهيم بن أدهم. انظر: "قوت القلوب"(2/ 102)، و"الرسالة القشيرية"(ص 364). ونقله المصنف في "شفاء العليل"(ص 223)، و"المفتاح"(2/ 815) أيضًا.
(4)
ع: "أنه كان يسأل ربَّه في طوافه بالبيت".
(5)
ع: "أتفضَّل وأجود".
(6)
ع: "ونحو هذا".
(7)
ع: "حملة عرشي".
(8)
ع: "يا عبادي".
باللّيل والنَّهار، وأنا أغفر الذُّنوب. فمن عَلِم أنِّي ذو قدرةٍ على المغفرة غفرتُ له ولا أبالي"
(1)
.
ويا عبدي! لا تعجَزْ، فمنك الدُّعاء وعليَّ الإجابة، ومنك الاستغفارُ وعليَّ المغفرة، ومنك التَّوبةُ وعليَّ تبديلُ سيِّئاتك حسناتٍ. يوضِّحه:
الوجه السادس
(2)
: وهو قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 70]. وهذا من أعظم البشارة للتَّائب إذا اقترن بتوبته
(3)
إيمانٌ وعملٌ صالحٌ، وهو حقيقةُ التَّوبة. قال ابن عبّاسٍ: ما رأيتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فرِحَ بشيءٍ قطُّ فرحَه بهذه الآية لمّا أُنزلت، وفرحَه بـ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 1 - 2]
(4)
.
(1)
لم أجد مَن أخرجه بهذا السياق، وهو مجموع من روايتين عن أبي ذر. أما قوله:"عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب" فقد أخرجه مسلم (2577) وغيره من رواية أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر رضي الله عنه. وأما الشطر الثاني فقد أخرجه أحمد (21540، 21367) والترمذي (2495) وابن ماجه (4257) وغيرهم من رواية شهر بن حَوشب، عن عبد الرحمن بن غَنْم، عن أبي ذر، وشهر فيه لين.
(2)
ما عدا م: "الثامن".
(3)
ع: "للتائبين
…
بتوبتهم".
(4)
أخرجه ابن أبي عاصم في "السنة"(1006 - نشرة الجوابرة) وأبو يعلى في "معجمه"(153) وابن المنذر في "الأوسط"(13/ 39) وابن الأعرابي في "معجمه"(2394) والطبراني في "الكبير"(12/ 217)، وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان ويوسف بن مهران، كلاهما ضعيف.
واختلفوا في صفة هذا التَّبديل، وهل هو في الدُّنيا، أو في الآخرة؟ على قولين
(1)
:
فقال ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما وأصحابُه: هو تبديلهم بقبائح أعمالهم محاسنَها، فبدَّلَهم بالشِّرك إيمانًا، وبالزِّنى عفّةً وإحصانًا، وبالكذب صدقًا، وبالخيانة أمانةً. فعلى هذا معنى الآية: أنَّ صفاتهم القبيحة وأعمالهم السّيِّئة، بُدِّلوا عوضها صفاتٍ جميلةً وأعمالًا صالحةً، كما يبدَّل المريضُ بالمرض صحّةً، والمبتلى ببلائه عافيةً.
وقال سعيد بن المسيِّب وغيره من التَّابعين: هو تبديلُ الله سيِّئاتهم التي عملوها بحسناتٍ يوم القيامة، فيعطيهم مكانَ كلِّ سيِّئةٍ حسنةً.
واحتجَّ أصحاب هذا القول بما روى التِّرمذيُّ في "جامعه"
(2)
: ثنا الحسين بن حُريثٍ، ثنا وكيعٌ، ثنا الأعمش، عن المعرور بن سُويدٍ، عن أبي
(1)
انظر القولين في "تفسير البغوي"(6/ 97). وقد ذكر المصنف في "طريق الهجرتين"(2/ 534 - 545) حجج القائلين بهما مع الفصل والترجيح.
(2)
أخرجه الترمذي بهذا السند وبهذا السياق في "الشمائل"(230). أما "الجامع" فقد أخرجه فيه (2596) أيضًا بنحوه ولكن بسند آخر: "حدثنا هنَّاد قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش
…
". والمصنف صادر هنا عن "تفسير البغوي" الذي ساق الحديث بالسند المذكور، ولم يسمِّ كتاب الترمذي فظن المصنف أن المقصود هو "الجامع". والحديث أخرجه مسلم (190)، وإليه عزا المصنف في "طريق الهجرتين" (2/ 539)، و"حادي الأرواح" (2/ 793).
ذرٍّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنِّي لأعلَمُ آخرَ رجلٍ يخرج من النّار. يؤتى بالرَّجُل يوم القيامة، فيقال: اعرضوا عليه صغارَ ذنوبه، ويخبَّأ عنه كبارُها، فيقال: عملتَ يوم كذا وكذا كذا وكذا، وهو مقرٌّ لا ينكِر، وهو مشفقٌ من كبارها. فيقال: أعطُوه مكانَ كلِّ سيِّئةٍ عمِلَها حسنةً. فيقول: إنَّ لي ذنوبًا ما أراها هاهنا". قال أبو ذرٍّ رضي الله عنه: فلقد رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ضَحِك حتّى بدت نواجذه.
وهذا حديثٌ صحيحٌ، ولكن في الاستدلال به على صحّة هذا القول نظرٌ، فإنَّ هذا قد عُذِّب بسيِّئاته ودخلَ بها النّارَ، ثمّ بعد ذلك أُخرِج منها، وأُعطِيَ مكانَ كلِّ سيِّئةٍ حسنةً، صدقةً تصدَّق اللهُ بها عليه ابتداءً بعدد ذنوبه؛ وليس في هذا تبديلُ تلك الذُّنوب بحسناتٍ، ولو كان كذلك لما عُوقِبَ عليها كما لم يعاقَب التّائبُ؛ والكلام إنَّما هو في تائبٍ أُثْبِتَ له مكانَ كلِّ سيِّئةٍ حسنةٌ، فزادت حسناته= فأين في هذا الحديث ما يدلُّ على ذلك؟
والنَّاسُ اشتغلوا بهذا الحديث
(1)
مستدلِّين به في تفسير هذه الآية على هذا القول، وقد علمتَ ما فيه. لكن للسَّلف غورٌ ودقّةُ فهمٍ لا يدركها كثيرٌ من المتأخِّرين. فالاستدلالُ به صحيحٌ بعد تمهيد قاعدةٍ إذا عُرِفتْ عُرِفَ لطفُ الاستدلال به ودقَّتُه. وهي: أنَّ الذَّنبَ لا بدَّ له من أثرٍ، وأثرُه يرتفع بالتَّوبة تارةً، وبالحسنات الماحية تارةً، وبالمصائب المكفِّرة تارةً، وبدخول النّار ليتخلَّص من أثره، وذلك إذا اشتدَّ أثرُه ولم تقوَ تلك الأمورُ على محوه، فلا بدَّ إذن من دخول النّار لأنَّ الجنّة لا يكون فيها ذرّةٌ من الخبيث
(2)
، ولا
(1)
ج، ش: "استقلوا
…
"، تصحيف. وفي ع: "استقبلوا هذا الحديث".
(2)
ع: "الخبث".
يدخلها إلّا من طاب من كلِّ وجهٍ. فإذا بقي عليه شيءٌ من خبث الذُّنوب أُدخِلَ كِيرَ الامتحان، ليتخلَّصَ
(1)
ذهبُ إيمانه من خبثه، فيصلُح حينئذٍ لدار الملك.
إذا عُلِمَ هذا فزوالُ موجَبِ الذَّنب وأثرِه تارةً يكون بالتَّوبة النَّصوح، وهي أقوى الأسباب. وتارةً يكون باستيفاء الحقِّ منه وتطهيره في النَّار، فإذا تطهَّر بالنّار، وزال أثرُ الوسخ والخبث عنه، أُعطِيَ مكان كلِّ سيِّئةٍ حسنةً. فإذا تطهَّر بالتَّوبة النَّصوح، وزال عنه بها أثرُ وسخِ الذُّنوب وخبثِها، كان أولى بأن يعطى مكان كلِّ سيِّئةٍ حسنةً، لأنَّ إزالةَ التّوبة لهذا الوسخ والخبث أعظمُ من إزالة النَّار وأحبُّ إلى الله تعالى، وإزالةُ النّار بدلٌ منها، وهي الأصل، فهي أولى بالتَّبديل ممَّا بعد الدُّخول. يوضِّحه:
الوجه السَّابع
(2)
: وهو أنَّ التَّائبَ قد بدَّل كلّ سيِّئةٍ حسنةً
(3)
بندمه عليها، إذ هو توبةُ تلك السّيِّئة، والنَّدمُ توبةٌ، والتَّوبةُ من كلِّ ذنبٍ حسنةٌ، فصار كلُّ ذنبٍ عمِله زائلًا بالتَّوبة التي حلَّت محلَّه وهي حسنةٌ، فصار له مكانَ كلِّ سيِّئةٍ حسنةٌ بهذا الاعتبار. فتأمَّلْه فإنَّه من ألطف الوجوه.
وعلى هذا فقد تكون هذه الحسنةُ مساويةً في القدر لتلك السّيِّئة، وقد تكون دونها، وقد تكون فوقها. وهذا بحسب نُصحِ هذه التَّوبة، وصدقِ التّائب فيها، وما يقترن بها من عمل القلب الذي تزيد مصلحتُه ونفعُه على مفسدة تلك السّيِّئة. وهذا من أسرار مسائل التّوبة ولطائفها. يوضِّحه:
(1)
في هامش ع أن في نسخة: "ليخلص".
(2)
ما عدا م: "التاسع".
(3)
لفظ "حسنة" لم يرد في ل، ج. وقد استدرك في هامش ق، م.
الوجه الثامن
(1)
: أنَّ ذنبَ العارف بالله تعالى وأمره قد يترتَّب عليه حسناتٌ أكبرُ منه وأكثَرُ، وأعظَمُ نفعًا، وأحبُّ إلى الله من عصمته من ذلك الذَّنب، من ذلٍّ وانكسارٍ وخشيةٍ، وإنابةٍ وندَمٍ، وتدارُكٍ بمراغمة العدوِّ بحسنةٍ أو حسناتٍ أعظمَ منه حتَّى يقولَ الشَّيطانُ: يا ليتني لم أُوقِعْه فيما أوقعتُه فيه، ويندمَ الشَّيطانُ على إيقاعه في الذّنب
(2)
كندامة فاعله على ارتكابه، لكن شتَّان ما بين النَّدَمين! والله تعالى يحبُّ من عبده مراغمةَ عدوِّه وغيظَه، كما تقدَّم أنَّ هذا من العبوديَّة. فيحصل من العبد بالتَّوبة والتَّدارُكِ وحصولِ محبوب الله تعالى من التّوبة وما يتبعها من زيادة الأعمال= ما يُوجِب جعلَ مكان السّيِّئة حسنةً بل حسناتٍ.
وتأمّل قوله تعالى: {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70]. ولم يقل: مكانَ كلِّ واحدةٍ واحدةً
(3)
، فهذا يجوز أن يبدِّل السّيِّئةَ الواحدةَ بعدَّة حسناتٍ بحسب حال المبدَّل.
وأمَّا في الحديث، فإنَّ الذي عذِّب على ذنوبه لم يبدِّلها في الدُّنيا بحسناتٍ من التَّوبة النَّصوح وتوابعها، فلم يكن له ما يجعل مكانَ السّيِّئة حسناتٍ، فأُعطِيَ مكانَ كلِّ سيِّئةٍ حسنةً واحدةً. وسكت النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عن كبار ذنوبه، ولمَّا انتهى إليها ضحِكَ، ولم يُبيِّن ما يُفعَل بها، وأخبر أنّ الله يبدِّل مكان كلِّ صغيرةٍ حسنةً. ولكن في الحديث إشارةٌ لطيفةٌ إلى أنَّ هذا التَّبديلَ يعُمُّ كبارها وصغارها من وجهين:
(1)
ما عدا م: "العاشر".
(2)
"في الذنب" ساقط من ش.
(3)
كلمة "واحدةً" ساقطة من ع.
أحدهما: قوله: "أَخْبِئوا عنه كبارَها". فهذا إشعارٌ بأنّه إذا رأى تبديلَ الصّغائر ذَكرَها وطمِعَ في تبديلها، فيكون تبديلُها أعظمَ موقعًا عنده
(1)
، وهو به أشدُّ فرحًا واغتباطًا.
والثّاني: ضَحِكُ النّبيِّ صلى الله عليه وسلم عند ذكر ذلك، وهذا الضَّحِكُ مُشْعِرٌ بالتّعجُّب ممّا يُفعَل به من الإحسان، وما يُقِرُّ به على نفسه من الذُّنوب من غير أن يقرَّر عليها ولا سُئل عنها، وإنّما عُرِضت عليه الصّغائر.
فتبارك الله ربُّ العالمين، وأجوَدُ الأجودين، وأكرَمُ الأكرمين، البرُّ اللَّطيفُ، المتودِّدُ إلى عباده بأنواع الإحسان وإيصالِه إليهم من كلِّ طريقٍ بكلِّ نوعٍ، لا إله إلّا هو الرَّحمن الرَّحيم
(2)
.
فصل
وكثيرٌ من النّاس إنّما يفسِّر التّوبةَ بالعزم على أن لا يعاود الذَّنبَ، وبالإقلاع عنه في الحال، وبالنَّدَم عليه في الماضي، وإن كان في حقِّ آدميٍّ فلا بدَّ من أمرٍ رابعٍ، وهو التّحلُّلُ منه.
وهذا الذي ذكروه بعضُ مسمَّى التّوبة بل شطرُها، وإلَّا فالتَّوبةُ في كلام الله ورسوله كما تتضمَّن ذلك، تتضمَّنُ العزمَ على فعل المأمور والتزامه. فلا يكون بمجرَّد الإقلاع والعزم والنّدم تائبًا، حتّى يوجدَ منه العزمُ الجازمُ على فعل المأمور والإتيان به. هذا حقيقة التّوبة، وهي اسمٌ لمجموع الأمرين، لكنَّها إذا قُرنت بفعل المأمور كانت عبارةً عمَّا ذكروه، فإذا أُفردت تضمَّنت
(1)
في ع بعده زيادة: "من تبديل الصغائر".
(2)
بإزائه في هامش الأصل: "بلغ مقابلة وقراءة على مصنفه".