الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والشِّرك كفرٌ، وشهوة البدعة فسقٌ، وشهوة الكبائر معصيةٌ. فإن ترَكَها لله مع قدرته عليها أُثيبَ، وإن ترَكَها عجزًا مع بذله مقدورَه في تحصيلها استحقَّ عقوبة الفاعل، لتنزُّله منزلتَه في أحكام الثّواب والعقاب، وإن لم ينزل
(1)
منزلته في أحكام الشّرع. ولهذا قال النّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار". قالوا: هذا القاتل يا رسول الله، فما بال المقتول؟ قال:"إنّه كان حريصًا على قتل صاحبه"
(2)
. فنزَّلَه منزلة القاتل، لحرصه
(3)
، في الإثم دون الحكم. وله نظائر كثيرةٌ في الثّواب والعقاب.
وقد عُلِمَ بهذا مستحَبُّ القلب ومباحُه.
فصل
وأمّا
عبوديّات اللِّسان
الخمس
(4)
، فواجبها
(5)
: النُّطق بالشّهادتين، وتلاوة ما يلزمه تلاوته من القرآن، وهو ما تتوقَّفُ صحّةُ صلاته عليه؛ وتلفُّظه بالأذكار الواجبة في الصّلاة التي أمَر الله بها ورسولُه، كما أمَر بالتّسبيح في الرُّكوع والسُّجود، وأمَر بقول "ربّنا ولك الحمد" بعد الاعتدال، وأمَر بالتّشهُّد، وأمَر بالتّكبير.
ومن واجبه: ردُّ السّلام. وفي ابتدائه قولان.
(1)
ع: "يتنزَّل".
(2)
أخرجه البخاري (31) ومسلم (2888) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
(3)
ش: "لخصمه"، وكأن ناسخها خفي عليه السياق، فأصلحه بزعمه.
(4)
ع: "خمسة". وفي م، ش، ج:"الخمسة". وكذا كان في ل ثم أصلح.
(5)
ش: "فواجباتها".
ومن واجبه: الأمرُ بالمعروف والنّهي عن المنكر، وتعليمُ الجاهل، وإرشادُ الضّالِّ، وأداءُ الشّهادة المتعيِّنة، وصدقُ الحديث.
وأمّا مستحَبُّه، فتلاوة القرآن، ودوام ذكر الله، والمذاكرة في العلم النّافع، وتوابع ذلك.
وأمّا محرَّمه، فهو النُّطقُ بكلِّ ما يبغضه الله ورسوله، كالنُّطق بالبدع المخالفة لما بعث الله به رسولَه، والدُّعاءِ إليها، وتحسينِها وتقويتِها؛ وكالقذفِ، وسبِّ المسلم وأذاه بكلِّ قولٍ، والكذب، وشهادة الزُّور، والقول على الله بلا علمٍ وهو أشدُّها تحريمًا.
ومكروهه: التّكلُّمُ بما تركُه خيرٌ من الكلام به، مع عدم العقوبة عليه.
وقد اختلف السّلف هل في حقِّه كلامٌ مباحٌ متساوي الطّرفين؟ على قولين ذكرهما ابن المنذر وغيره
(1)
. أحدهما: أنّه لا يخلو كلُّ متكلَّمٍ
(2)
به إمّا أن يكون له أو عليه، وليس في حقِّه شيءٌ لا له ولا عليه. واحتجُّوا بالحديث المشهور
(3)
،
وهو: "كلُّ كلام ابن آدم عليه لا له، إلّا ما كان من ذكر الله وما
(1)
انظر: "تفسير ابن عطية"(5/ 160)، و"زاد المسير"(8/ 11)، و"مجموع الفتاوى"(7/ 49)، و"الداء والدواء" للمؤلف (ص 374).
(2)
ع: "كلّ ما يتكلَّم".
(3)
كذا قال هنا، وأما في "الداء والدواء" (ص 374) فقال: "وقال بعض السلف
…
"، وقال المخرج: لم أقف عليه، وهو كذلك. وقد روي بنحوه من حديث أم حبيبة مرفوعًا: "كل كلام ابن آدم عليه لا له، إلا أمرٌ بمعروف أو نهيٌ عن منكر أو ذكرُ اللهِ" ذكره المؤلف أيضًا في "الداء والدواء" (ص 371 - 372)، أخرجه الترمذي (2412) وابن ماجه (3974) وعبد الله بن أحمد في زوائده على "الزهد" (123 - دار ابن رجب) وابن أبي الدنيا في "الصمت" (14) والنسائي في "أماليه" (15) والحاكم (2/ 512) وغيرهم من حديث محمد بن يزيد بن خنيس عن سعيد بن حسان المخزومي عن أم صالح عن صفية بنت شيبة عن أم حبيبة به.
وأخرجه البخاري في "التاريخ الكبير"(1/ 261) عن محمد بن يزيد بن خنيس عن سعيد بن حسان عن أم صالح مرسلًا، وعقبه بأنه رواه قتيبة بن سعيد بإسناده متصلًا عن صفية بنت شيبة به ولكن لم يذكر إسناده.
ومحمد بن يزيد بن خنيس فيه لين، وأم صالح فيها جهالة؛ فالحديث ضعيف. انظر:"الضعيفة"(1366) و"الداء والدواء"(ص 372 - مع التعليق والتخريج).
والاه". واحتجُّوا
(1)
بأنّه يُكتَب عليه كلامُه كلُّه، ولا يُكتَب إلّا الخيرُ والشّرُّ.
وقالت طائفةٌ: بل في الكلام
(2)
مباحٌ، لا له ولا عليه، كما في حركات الجوارح. قالوا: لأنّ كثيرًا من الكلام لا يتعلَّق به أمرٌ ولا نهيٌ، وهذا شأن المباح.
والتّحقيق: أنّ حركة اللِّسان بالكلام لا تكون متساوية الطّرفين، بل إمّا راجحةً أو مرجوحةً، لأنّ للِّسان شأنٌ
(3)
ليس لسائر الجوارح. فـ"إذا
(4)
أصبح ابنُ آدم فإنَّ الأعضاءَ كلَّها تكفِّر اللِّسانَ
(5)
، تقول: اتَّقِ الله، فإنّما نحن بك، فإن استقمتَ استقمنا، وإنّ اعوججتَ اعوججنا"
(6)
. وأكثَرُ ما يكُبُّ
(1)
في ش بعده زيادة: "عليه".
(2)
ع: "في هذا الكلام".
(3)
كذا في الأصل وغيره. وفي ج وضع تنوين النصب على النون، وفي م غيَّره بعضهم.
(4)
ع: "وإذا".
(5)
أي تخضع له. وفي ش: "تذكر"، تحريف.
(6)
أخرجه أحمد (11908) وعبد بن حميد (977 - المنتخب) والترمذي (2407) وابن أبي الدنيا في "الصمت"(12) وابن السُّنِّي في "عمل اليوم والليلة"(1) والبيهقي في "شعب الإيمان"(4595) وغيرهم من طرق عن حماد بن زيد عن أبي الصَّهْبَاء عن سعيد بن جبير عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعًا. وقد روي موقوفًا أيضًا، أخرجه أحمد في "الزهد"(1094 - دار ابن رجب) وهناد بن السري في "الزهد"(1097) ــ ومن طريقه الترمذي عقب (2407) ــ من طرق عن حماد بن زيد به. فمدار المرفوع والموقوف على أبي الصهباء الكوفي وفيه جهالة، ولعل الاضطراب منه، وهو ممن لا يقبل تفرده. وانظر تخريجه في "الداء والدواء"(ص 372 - 373).
النّاسَ على مناخرهم في النّار حصائدُ ألسنتهم
(1)
.
وكلُّ ما يتلفّظ به اللِّسان فإمّا أن يكون ممّا يرضي الله ورسوله أم لا
(2)
، فإن كان كذلك فهو الرّاجح، وإن لم يكن كذلك فهو المرجوح. وهذا بخلاف حركات سائر الجوارح
(3)
، فإنّ صاحبها قد ينتفع بتحريكها في المباح المستوي الطّرفين، لما له في ذلك من الرّاحة والمنفعة، فأبيح له استعمالُها فيما فيه منفعةٌ له، ولا مضرّةَ عليه فيه في الآخرة. وأمّا حركة اللِّسان بما لا ينتفع به فلا تكون إلّا مضرّةً، فتأمّله.
(1)
أخرجه أحمد (22016) والترمذي (2616) والنسائي في "الكبرى"(11330) وغيرهم عن أبي وائل عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، وأبو وائل لم يسمع من معاذ. وله طرق أخرى منقطعة مثل هذا الطريق. وقد أخرجه أحمد مختصرًا (22063) وغيره من حديث شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غَنْم عن معاذ به، وشهر بن حوشب فيه لين، ولذا علقه البخاري بصيغة التمريض في "خلق أفعال العباد"(ص 73)، وطريق شهر بن حوشب هو الذي رجحه الدارقطني في "العلل" (988؛ 6/ 79) وقال:"لأن الحديث معروف من رواية شهر على اختلاف عنه" .. انظر للتفصيل: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (الحديث التاسع والعشرون) و"إرواء الغليل"(413) و"الداء والدواء (1/ 365 - 366؛ التخريج).
(2)
ع: "أو لا".
(3)
ما عدا ع: "سائر حركات الجوارح".
فإن قيل: فقد يتحرّك بما فيه منفعةٌ ديناويَّةٌ مباحةٌ مستويةُ الطّرفين، فيكون حكمُ حركته حكمَ ذلك الفعل.
قيل: حركتُه بها عند الحاجة إليها راجحةٌ، وعند عدم الحاجة إليها مرجوحةٌ لا تفيده، فتكون عليه لا له.
فإن قيل: إذا
(1)
كان الفعلُ متساويَ الطّرفين كانت حركةُ اللِّسان الوسيلةُ إليه كذلك، إذ الوسيلةُ تابعةٌ للمقصود في الحكم.
قيل: لا يلزم ذلك. فقد يكون الشّيءُ مباحًا بل واجبًا، ووسيلتُه مكروهةٌ كالوفاء بالطّاعة المنذورة، هو
(2)
واجبٌ مع أنَّ وسيلته ــ وهو النّذر ــ مكروهٌ منهيٌّ عنه. وكذلك الحلف المكروه مرجوحٌ، مع وجوب الوفاء أو الكفّارة. وكذلك سؤالُ الخلق عند الحاجة مكروهٌ، ويباح له الانتفاعُ بما أخرجته له المسألة
(3)
. وهذا كثيرٌ جدًّا، فقد تكون الوسيلةُ متضمِّنةً مفسدةً تُكرَه أو تحرَّم لأجلها، وما جُعِلت وسيلةً إليه ليس بحرامٍ ولا مكروهٍ.
فصل
وأمّا العبوديّات الخمس على الجوارح، فعلى خمسة
(4)
وعشرين مرتبةً أيضًا، إذ الحواسُّ خمسةٌ
(5)
، وعلى كلِّ حاسّةٍ خمس عبودياتٍ.
(1)
ع: "فإذا".
(2)
ش: "وهو".
(3)
من هنا سقطت لوحة في تصوير الأصل (ق 31/ب- 32/أ).
(4)
م: "خمس" على الجادة.
(5)
غيِّر في ل إلى "خمس".
فعلى السَّمع وجوبُ الإنصات والاستماع لما أوجبه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عليه، من استماع الإسلام والإيمان وفروضهما. وكذلك استماع القراءة في الصَّلاة إذا جهر بها الإمام، واستماع الخطبة للجمعة في أصحِّ قولي العلماء.
ويحرم عليه استماعُ الكفر والبدع، إلّا حيث يكون في استماعه مصلحةٌ راجحةٌ، من ردِّه، أو الشّهادة على قائله، أو زيادة قوّة الإيمان والسُّنّة بمعرفة ضدِّهما من الكفر والبدعة، ونحو ذلك؛ وكاستماع سِرار من يهرب عنك بسرِّه، ولا يحبُّ أن يطلعك عليه، ما لم يكن متضمِّنًا لحقٍّ لله يجب
(1)
القيام به، أو لأذى مسلمٍ يتعيَّن نصحُه وتحذيرُه منه.
وكذلك استماع أصوات النِّساء الأجانب التي تخشى الفتنة بأصواتهنّ، إذا لم تدعُ إليه حاجةٌ من شهادةٍ، أو معاملةٍ، أو استفتاءٍ، أو محاكمةٍ، أو مداواةٍ
(2)
، ونحوها.
وكذلك استماعُ المعازف وآلات الطَّرب واللَّهو
(3)
، كالعود والطُّنبور واليرَاع ونحوها. ولا يجب عليه سدُّ أذنه إذا سمع الصّوت، وهو لا يريد استماعه، إلّا إذا خاف السُّكونَ إليه والإنصاتَ، فحينئذٍ يجب تجنُّبُ سَمْعِه وجوبَ سدِّ الذّرائع.
ونظير هذا: المُحْرِمُ لا يجوز له تعمُّدُ شمِّ الطّيب، وإذا حملت الرِّيحُ
(1)
م، ش، ج:"لحق الله بحسب". وكذا كان في ل دون أسنان السين ثم طمست ألف لفظ الجلالة وعلامة إهمال الحاء في "بحسب".
(2)
ما عدا ع، ش:"ومداواة".
(3)
ج: "اللهو والطرب".
رائحته وألقتها في مشامِّه لم يجب عليه سدُّ أنفه. ونظير هذا: نظرةُ الفجاءة لا تحرُم على النّاظر، وتحرُم عليه النّظرة الثّانية إذا تعمَّدَها.
وأمّا السَّمعُ المستحَبُّ فكاستماع المستحَبِّ من العلم، وقراءة القرآن، وذكر الله، واستماع كلِّ ما يحبُّه الله وليس بفرضٍ. والمكروه عكسه، وهو استماعُ كلِّ ما يكرهه ولا يعاقب عليه. والمباح ظاهرٌ.
وأمّا النّظر الواجب، فالنَّظرُ في المصحف وكتب العلم عند تعيُّنِ تعلُّمِ
(1)
الواجب منها، والنّظرُ إذا تعيَّن لتمييز الحلال من الحرام في الأعيان التي يأكلها وينفقها ويستمتع بها، والأمانات التي يؤدِّيها إلى أربابها ليميِّز بينها، ونحو ذلك.
والنّظر الحرام: النّظر إلى الأجنبيّات بشهوةٍ مطلقًا، وبغيرها إلّا لحاجةٍ، كنظر الخاطب، والمُسْتام، والمُعامِل، والشّاهد، والحاكم، والطَّبيب، وذي المحرم.
والمستحبُّ: النّظرُ في كتب العلم والدِّين، الذي يزداد به الرّجلُ إيمانًا وعلمًا، والنّظرُ في المصحف ووجوه العلماء والصّالحين والوالدين، والنّظرُ في آيات الله المشهودة ليستدلَّ بها على توحيده ومعرفته وحكمته.
والمكروه: فضولُ النَّظر التي لا مصلحة فيها
(2)
، فإنَّ له فضولًا كما للِّسان فضولًا
(3)
. وكم قادت فضولُهما إلى فضولٍ عزَّ التّخلُّص منها، وأعيا دواؤها. وقال بعض السّلف: كانوا يكرهون فضول النّظر، كما يكرهون
(1)
ش: "نقل"، تحريف.
(2)
ع: "الذي لا مصلحة فيه".
(3)
كذا في النسخ، والوجه:"فضولٌ".
فضول الكلام
(1)
.
والمباح: النّظر الذي لا مضرّة فيه في العاجل ولا الآجل، ولا منفعة.
ومن النّظر الحرام: النّظرُ إلى العورات، وهي قسمان: عورةٌ وراء الثِّياب، وعورةٌ وراء الأبواب.
ولو نظر في العورة التي وراء الأبواب، فرماه صاحبُ العورة، ففقأ عينه= لم يكن عليه شيءٌ، وذهبت هدرًا بنصِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم المتَّفَقِ على صحّته
(2)
، وإن ضمَّنَه بعضُ الفقهاء لكونه لم يبلغه النّصُّ أو تأوَّلَه
(3)
. هذا إذا لم يكن للنّاظر سببٌ يباح النّظر لأجله، كعورةٍ له هناك ينظرها، أو ريبةٍ هو مأمورٌ أو مأذونٌ له في اطِّلاعها.
وأمّا الذَّوق الواجب، فتناولُ الطَّعام والشَّراب عند الاضطرار إليه وخوف الموت، فإن تركه حتّى مات، مات عاصيًا قاتلًا لنفسه. قال الإمام أحمد
(4)
وطاوس
(5)
رضي الله عنهما: من اضطُرَّ إلى أكل الميتة، فلم يأكل حتّى
(1)
من كلام داود بن نصير الطائي، ذكره القشيري في ترجمته في "الرسالة"(ص 123). وهنا حاشية في م، ش نصُّها:"ومن النظر المكروه: النظر إلى الظَلَمة في مواكبهم ومجامعهم الدنيوية وما زخرفوه من البنيان ونحو ذلك. نصَّ على ذلك الإمام أحمد وسفيان الثوري".
(2)
أخرجه البخاري (6888) ومسلم (2158) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
انظر: "شرح صحيح البخاري" لابن بطال (8/ 546).
(4)
في رواية الأثرم عنه كما في "المغني"(13/ 331): "سئل أبو عبد الله
…
فذكر قول مسروق: من اضطُرَّ فلم يأكل
…
النار".
(5)
كذا وقع هنا وفي "عدَّة الصابرين"(ص 54). والظاهر أنه وهم، والصواب:"مسروق" كما ذكر المصنف في "روضة المحبين"(ص 205) وكما سيأتي في منزلة التوبة (ص 569). وهو الذي ذكر قوله أحمد في رواية الأثرم. وانظر: "زاد المسير"(1/ 176). وقد أخرج قوله عبد الرزاق (10/ 413) وذكره الثعلبي (2/ 46) وغيره. وانظر: "مجموع الفتاوى"(18/ 12)، (21/ 563)، (24/ 269)، (26/ 181) و"جامع المسائل"(4/ 45).
مات، دخل النّار.
ومن هذا: تناولُ الدّواء إذا تيقَّن النّجاةَ به من الهلاك، على أصحِّ القولين. وإن ظَنَّ الشِّفاء به، فهل هو مستحبٌّ أو مباحٌ والأفضل تركه؟ فيه نزاعٌ معروفٌ بين السّلف والخلف
(1)
.
والذّوق الحرام: كذوق الحرام
(2)
، والسُّموم القاتلة، والذّوق الممنوع منه للصِّيام الواجب.
وأمّا المكروه: فكذوق المشتبهات، والأكل فوق الحاجة، وذوق طعام الفُجاءة، وهو الطَّعام الذي تفجَأ آكلَه، ولم يُرِد أن يدعوك إليه؛ وكأكلِ أطعمةِ المُتَبارين
(3)
في الولائم والدّعوات ونحوها ــ وفي "السُّنن"
(4)
أنّ رسول الله
(1)
انظر: "التمهيد"(5/ 263 - 286)، و"مجموع الفتاوى"(24/ 269)، و"الفروع"(3/ 239).
(2)
في هامش ش: "المطعوم" مع علامة صح، يعني:"كذوق المطعوم الحرام". وفي ع بعده زيادة: "الخمر". وفي المطبوع: "كذوق الخمر".
(3)
ع: "المرائين".
(4)
أخرجه أبو داود (3754) والطبراني (11/ 340) والحاكم (4/ 128) والبيهقي في "السنن"(7/ 274) والضياء المقدسي في "المختارة"(11/ 384) من حديث جرير بن حازم عن الزبير بن الخِرِّيت عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا. قال أبو داود: "أكثر من رواه عن جرير لا يذكر فيه ابن عباس" أي روَوه مرسلًا. وقال ابن عدي في "الكامل" في ترجمة بقية بن الوليد (2/ 542 - نشرة السرساوي): "هذا الحديث الأصل فيه مرسل، وما أقلَّ مَن وصله
…
". وقال العقيلي في "الضعفاء" (2/ 495): "يُروَى عن الزبير بن خريت عن عكرمة عن ابن عباس، رفعه بعضهم، وأوقفه بعض على عكرمة، والصحيح الموقوف،
…
". وهو الذي جنح إليه الذهبي في "ميزان الاعتدال" (1/ 334) وفي "سير أعلام النبلاء" (8/ 527) والألباني في "الصحيحة" (2/ 203) وغيرهما.
- صلى الله عليه وسلم نهى عن طعام المتبارين ــ وذوقِ طعام من يُطعِمك حياءً منك لا بطيب نفس.
والذّوقُ المستحبُّ: أكلُ ما يعينك على طاعة الله ممّا أذِن الله فيه، والأكلُ مع الضّيف ليطيبَ له الأكلُ فينالَ منه غرضه، والأكلُ من طعام صاحب الدّعوة الواجبِ إجابتُها أو المستحَبِّ. وقد أوجب بعضُ الفقهاء الأكلَ من الوليمةِ الواجبِ إجابتُها
(1)
، للأمر به من الشّارع
(2)
.
والذّوق المباح: ما لم يكن فيه إثمٌ ولا رجحانٌ.
وأمّا تعلُّق العبوديّات الخمس
(3)
بحاسّة الشَّمِّ، فالشَّمُّ الواجبُ: كلُّ شمٍّ تعيَّنَ طريقًا للتّمييز بين الحلال والحرام، كالشَّمِّ الذي يعلم به هذا العين هل هو خبيث أو طيِّب؟ وهل هو سمٌّ قاتلٌ أو لا مضرّة فيه؟ أو يميِّز به بين ما
(1)
انظر: "شرح صحيح البخاري" لابن بطال (7/ 287) و"المغني"(10/ 197).
(2)
يشير إلى حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دعي أحدكم فليجب، فإن كان صائمًا فليُصَلِّ، وإن كان مفطرًا فليَطعَمْ". رواه مسلم (1431).
(3)
ما عدا ل: "الخمسة".
يملك الانتفاعَ به، ولا يملكه؟ ومن هذا شمُّ المقوِّم وربِّ الخبرة عند الحكم في التقويم والعيب ونحو ذلك.
وأمّا الشَّمُّ الحرامُ، فالتّعمُّدُ لشمِّ الطِّيب في الإحرام، وشمِّ الطِّيب المغصوب والمسروق، وتعمُّدُ شمِّ الطِّيب من النِّساء الأجنبيّات
خشيةَ الافتتان بما وراءه.
وأمّا الشَّمُّ المستحبُّ، فشمُّ ما يعينك على طاعة الله، ويقوِّي الحواسِّ، ويبسط
(1)
النّفسَ للعلم والعمل. ومن هذا هديّة الطِّيب والرّيحان إذا أُهديت لك، ففي
(2)
"صحيح مسلمٍ رضي الله عنه "
(3)
عن النّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "من عُرِض عليه ريحانٌ فلا يردُّه، فإنّه طيِّبُ الرِّيح، خفيفُ المحمل".
والمكروه: كشمِّ طيب الظَّلمَة وأصحاب الشُّبهات، ونحو ذلك.
والمباح: ما لا منع فيه من الله ولا تبعة، ولا فيه
(4)
مصلحةٌ دينيّةٌ.
وأمّا تعلُّق هذه الخمس
(5)
بحاسَّة اللَّمس، فاللَّمسُ الواجبُ كلمس الزّوجةِ حين يجب جماعها، والأمةِ الواجبِ إعفافُها.
والحرام: لمسُ
(6)
ما لا يحلُّ من الأجنبيّات.
(1)
ش: "ينشط".
(2)
ع: "وفي".
(3)
برقم (2253) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
ع: "تبعة فيه ولا".
(5)
ما عدا ل: "الخمسة". وكذا كان في ل أيضًا ثم أصلح.
(6)
ش: "كمسِّ".
والمستحبُّ: إذا كان فيه غضُّ بصره، وكفُّ نفسه عن الحرام، وإعفافُ أهله.
والمكروه: لمسُ الزّوجة في الإحرام للذّةٍ، وكذلك في الاعتكاف، وفي الصِّيام إذا لم يأمن نفسَه
(1)
. ومن هذا: لمسُ بدن الميِّت لغير غاسله، لأنّ بدنه قد صار بمنزلة عورة الحيِّ تكريمًا له. ولهذا يستحبُّ سترُه عن العيون، وتغسيلُه في قميص في أحد القولين
(2)
؛ ولمسُ فخذ الرّجل إذا قلنا: هو
(3)
عورةٌ.
والمباح ما لم يكن فيه مفسدةٌ ولا مصلحةٌ دينيّةٌ.
وهذه المراتب أيضًا مرتَّبَة
(4)
على البطش باليد، والمشي بالرِّجل، وأمثلتُها لا تخفى.
فالتّكسُّبُ المقدورُ للنّفقة على نفسه وأهله وعياله واجبٌ. وفي وجوبه لقضاء دينه خلافٌ، والصّحيح: وجوبه لتمكُّنه من أداء دينه
(5)
. ولا يجب لإخراج الزّكاة. وفي وجوبه لأداء فريضة الحجِّ نظرٌ، والأقوى في الدّليل: وجوبه لدخوله في الاستطاعةِ وتمكُّنِه
(6)
بذلك من أداء النُّسك، والمشهور
(1)
ج: "فتنة نفسه". وهنا انتهى السقط في مصورة الأصل.
(2)
انظر: "اختلاف الأئمة العلماء"(1/ 176)، و"المغني"(3/ 368).
(3)
كذا في الأصل وغيره. ولفظ "الفخذ" مؤنث.
(4)
لفظ "مرتَّبة" من ع وحدها.
(5)
انظر: "المغني"(6/ 581).
(6)
ش: "ولتمكنه".
عدم وجوبه
(1)
.
ومن البطش الواجب: إعانة المضطرِّ، ورمي الجمار، ومباشرة الوضوء والتّيمُّم.
والحرام: كقتل النّفس التي حرَّم الله، ونهبِ المال المعصوم
(2)
، وضربِ من لا يحلُّ ضربُه، ونحو ذلك. وكأنواع اللّعب المحرَّم بالنَّصِّ كالنَّرْد
(3)
، أو ما هو أشدُّ تحريمًا منه عند أهل المدينة كالشِّطْرَنْج، أو مثلُه عند فقهاء الحديث كأحمد وغيره، أو دونه عند بعضهم
(4)
. ونحو كتابة البدع المخالفة للسُّنّة تصنيفًا ونسخًا
(5)
إلّا مقرونًا بردِّها ونقضها، وكتابةِ الزُّور والظُّلم، والحكم الجائر، والقذف والتّشبيب بالنِّساء الأجانب، وكتابةِ ما فيه مضرّةٌ على المسلمين في دينهم أو دنياهم، ولاسيّما إن كسَبَ عليه مالًا {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79]. وكذلك كتابةُ المفتي على الفتوى ما يخالف حكمَ الله ورسوله إلّا أن يكون مجتهدًا مخطئًا، فالإثم موضوعٌ عنه.
وأمّا المكروه فكالعبث واللَّعب الذي ليس بحرامٍ، وكتابة ما لا فائدة في كتابته ولا منفعة في الدُّنيا والآخرة.
(1)
انظر: "الفروع"(5/ 231)، و"الإنصاف"(3/ 401).
(2)
ما عدا ع: "المغصوب" إلا ش التي أصلح فيها كما أثبت.
(3)
انظر: حديث بريدة رضي الله عنه في "صحيح مسلم"(2260).
(4)
انظر: "المغني"(14/ 155)، و"التهذيب في اختصار المدونة"(3/ 584)، و"روضة الطالبين"(11/ 225).
(5)
ع: "أو نسخًا".
والمستحبُّ كتابةُ كلِّ ما فيه منفعةٌ في الدِّين، أو مصلحةٌ لمسلمٍ. والإحسان بيده بأن يعينَ صانعًا، أو يصنعَ لأخرق، أو يُفْرغَ من دلوه في دلو المستقي، أو يحملَ له على دابّته، أو يمسكها حتّى يحمل عليها، أو يعاونه بيده فيما يحتاج إليه أو نحو ذلك. ومنه: لمسُ الرُّكن بيده في الطّواف. وفي تقبيلها بعد اللَّمس قولان
(1)
.
والمباح ما لا مضرَّة فيه ولا ثواب.
وأمّا المشي الواجب، فالمشيُ إلى الجُمُعات والجماعات في أصحِّ القولين لبضعةٍ وعشرين دليلًا مذكورةٍ في غير هذا الموضع
(2)
. والمشيُ حول البيت للطّواف الواجب، والمشيُ بين الصَّفا والمروة بنفسه أو بمركوبه، والمشيُ إلى حكم الله ورسوله إذا دعي إليه، والمشيُ إلى صلةِ رحمه وبرِّ والديه، والمشيُ إلى مجالس العلم الواجب طلبُه وتعلُّمه
(3)
، والمشيُ إلى الحجِّ إذا قربت المسافة ولم يكن عليه فيه ضررٌ.
والحرام: المشيُ في
(4)
معصية الله، وهو من رَجِلِ الشّيطان. قال تعالى: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجْلِكَ
(5)
} [الإسراء: 64]. قال مقاتلٌ رضي الله عنه:
(1)
"المغني"(5/ 228).
(2)
انظر: "كتاب الصلاة"(ص 212 - 246).
(3)
ل، ج:"أو تعلمه".
(4)
ع: "إلى".
(5)
قراءة حفص: "ورَجِلِك" بكسر الجيم، وقرأ أبو عمرو وغيره بسكونها كما أثبت. انظر:"الإقناع" لابن الباذش (ص 686).
استعِنْ عليهم بركبان جندك ومُشاتهم
(1)
. فكلُّ راكبٍ وماشٍ في معصية الله فهو من جند إبليس لعنه الله.
وكذلك تتعلَّق هذه الأحكام الخمسة
(2)
بالرُّكوب أيضًا.
فواجبه: الرُّكوب للغزو والجهاد، والحجِّ الواجب.
ومستحبُّه: الرُّكوب
(3)
للمستحبِّ من ذلك، ولطلب العلم، وصلة الرّحم، وبرِّ الوالدين. وفي الوقوف بعرفة نزاعٌ: هل الرُّكوب فيه أفضل أم على الأرض؟ والتّحقيق أنّ الرُّكوب أفضل إذا تضمَّن مصلحةً من تعليمٍ للمناسك، واقتداءٍ به
(4)
، وكان أعونَ له على الدُّعاء، ولم يكن فيه ضررٌ على الدّابّة
(5)
.
وحرامه: الرُّكوب في معصية الله.
ومكروهه: الرُّكوب للهو واللّعب وكلِّ ما تركُه خيرٌ من فعله.
ومباحه: الرُّكوب لما لم يتضمَّن فوتَ أجرٍ، ولا تحصيلَ وزرٍ.
فهذه خمسون مرتبةً على عشرة أشياء: القلب، والسّمع، والبصر، واللِّسان، والأنف، والفم، واليد، والرِّجل، والفرج، والاستواء على ظهر الدّابّة.
* * * *
(1)
"تفسير البغوي"(5/ 105).
(2)
ما عدا ق، ل:"الخمس". وكذا كان فيهما أيضًا ثم أصلح.
(3)
ع: "والمستحب في الركوب".
(4)
ش: "المناسك
…
". وفي ج: "
…
واقتدائه".
(5)
انظر: "المغني"(5/ 267)، و"مجموع الفتاوى"(26/ 132).
فصل
في منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} التي يتنقَّل
(1)
فيها القلبُ منزلةً منزلةً
في حال سيره إلى الله تعالى
وقد أكثر النّاس في صفة المنازل وعددها، فمنهم من جعلها ألفًا، ومنهم من جعلها مائةً، ومنهم من زاد ونقص
(2)
؛ وكلٌّ وصَفَها بحسب سيره وسلوكه. وسأذكر فيها أمرًا مختصرًا جامعًا نافعًا
(3)
، إن شاء الله تعالى.
فأوّل منازل العبوديّة: اليقظة. وهي انزعاج القلب لروعة الانتباه من رقدة الغافلين. ولله ما أنفع هذه الرّوعة! وما أعظم قدرها وخطرها! وما أشدَّ إعانتها على السُّلوك! فمن أحسَّ بها فقد أحسَّ والله بالفلاح، وإلّا فهو في سكرات الغفلة، فإذا انتبه شمَّر لله بهمَّته إلى السَّفر إلى منازله الأولى، وأوطانه
(4)
التي سُبِي منها.
فحيَّ على جنّاتِ عَدْنٍ فإنّها
…
منازلُك الأولى وفيها المخيَّمُ
ولكنّنا سَبْيُ العدوِّ فهل ترى
…
نعود إلى أوطاننا ونُسلَّمُ
(5)
(1)
هكذا مضبوطًا في ع. وفي ش، ج:"ينتقل".
(2)
أورد صاحب "المنازل"(ص 2 - 3) قول أبي بكر الكتَّاني (ت 322): "إن بين العبد والحق ألف مقام من نور وظلمة"، ثم ذكر أنه جعل كتابه مائة مقام مقسومة على عشرة أقسام. وانظر:"الرَّدُّ على الشاذلي" لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص 169).
(3)
لفظ "نافعًا" ساقط من ش.
(4)
ع: "من أوطانه".
(5)
البيتان من ميميَّة المؤلف في "طريق الهجرتين"(1/ 108)، و"حادي الأرواح"(1/ 14) وقد ذكرهما فيه مرة أخرى (2/ 604) وفي "إغاثة اللهفان"(1/ 117).
فأخذ في أُهبة السّفر، فانتقل إلى منزلة "العزم"، وهو العقدُ الجازمُ على المسير، ومفارقةُ كلِّ قاطعٍ ومعوِّقٍ، ومرافقةُ كلِّ معينٍ ومُوصلٍ. وبحسب كمال انتباهه ويقظته يكون عزمُه، وبحسب قوّة عزمه يكون استعدادُه.
فإذا استيقظ أوجبت له اليقظةُ "الفكرةَ"، وهي تحديقُ القلب نحو المطلوب الذي قد استعدَّ له
(1)
مجملًا، ولمَّا يهتد إلى تفصيله وطريق الوصول إليه.
فإذا صحَّت فكرتُه أوجبت له "البصيرةَ"، وهي
(2)
نورٌ في القلب
(3)
يُبصر به الوعد والوعيد، والجنّة والنّار، وما أعدَّ الله في هذه لأوليائه، وفي هذه لأعدائه. فأبصر النّاسَ وهم قد خرجوا من قبورهم مهطعين لدعوة الحقِّ، وقد نزلت ملائكةُ السّماوات فأحاطت بهم، وقد جاء الله، ونُصِبَ كرسيُّه لفصل القضاء، وقد أشرقت الأرضُ لنوره، ووُضِع الكتابُ، وجيء بالنبيين والشهداء، وقد نُصِب الميزان، وتطايرت الصُّحفُ، واجتمعت الخصومُ، وتعلَّق كلُّ غريمٍ بغريمه، ولاح الحوضُ وأكوابُه عن كثَبٍ، وكثر العطاشُ وقلَّ المواردُ
(4)
، ونُصِبَ الجسرُ للعبور، ولُزَّ النّاسُ إليه، وقسِّمت الأنوار
(1)
م، ش:"سعد به".
(2)
ع: "فهي".
(3)
في ع: "القلوب" مكان "القلب". وبعده في ج: "يرى به"، وهكذا نقله الفيروزابادي في "البصائر"(5/ 390). وقد سقطت الكلمتان من ق، ل، م فكتب بعضهم في هامش ق، ل كما في ج مع "لعله"، وفي هامش م كما أثبت من ع، ش مع علامة "صح".
(4)
ما عدا ق، ل:"الوارد"، وكذا في "البصائر".
دون ظلمته للعبور عليه، والنّار يحطِمُ بعضُها بعضًا تحته، والمتساقطون فيها أضعاف أضعاف النّاجين. فينفتح في قلبه عينٌ يرى بها ذلك، ويقوم بقلبه شاهدٌ من شواهد الآخرة يريه الآخرةَ ودوامَها، والدُّنيا وسرعةَ انقضائها.
فالبصيرة: نورٌ يقذفه الله في القلب، يرى به حقيقة ما أخبرت به الرُّسل، كأنّه شاهدٌ
(1)
رأي عينٍ، فيتحقَّق مع ذلك انتفاعُه بما دعت إليه الرُّسل، وتضرُّره بمخالفتهم. وهذا معنى قول بعض العارفين
(2)
: البصيرةُ تحقُّقُ الانتفاعِ بالشّيء والتّضرُّرِ به. وقال بعضهم: البصيرة ما خلَّصَك من الحيرة
(3)
، إمّا بإيمانٍ وإمّا بعيانٍ.
والبصيرة على ثلاث درجاتٍ، من استكملها فقد استكمل البصيرة: بصيرةٌ في الأسماء والصِّفات، وبصيرةٌ في الأمر والنّهي، وبصيرةٌ في الوعد والوعيد.
فالبصيرة في الأسماء والصِّفات: أن لا يتأثّر إيمانُك بشبهةٍ تعارضُ ما وصَف الله به نفسَه ووصفه به رسولُه، بل تكون الشُّبه المعارضة لذلك عنده
(4)
بمنزلة الشُّبه والشُّكوك في وجود الله، فكلاهما سواءٌ في البطلان عند أهل البصائر.
(1)
ع: "يشاهده".
(2)
لم أقف على اسمه، ونقله الفيروزابادي أيضًا دون عزو.
(3)
هذا التفسير لصاحب "المنازل"(ص 63) كما سيأتي، وما بعده من "شرح التلمساني"(2/ 343).
(4)
يعني: "عند إيمانك". وفي ع: "عندك".
وعقد هذا: أن يشهد قلبُك الرَّبَّ تعالى مستويًا على عرشه
(1)
، متكلِّمًا بأمره ونهيه، بصيرًا بحركات العالم علويِّه وسفليِّه وأشخاصه وذرَّاته
(2)
، سميعًا لأصواتهم، رقيبًا على ضمائرهم وأسرارهم، وأمرُ الممالك تحت تدبيره، نازلٌ من عنده وصاعدٌ إليه، وأملاكُه بين يديه تنفِّذ أوامره في أقطار الممالك؛ موصوفًا بصفات الكمال، منعوتًا بنعوت الجلال، منزَّهًا عن العيوب والنّقائص والمثال. هو كما وصف نفسَه في كتابه، وفوق ما يصفه به خلقُه. حيٌّ لا يموت، قيُّومٌ لا ينام، عليمٌ لا يخفى عليه مثقالُ ذرّةٍ في السّماوات ولا في الأرض، بصيرٌ يرى دبيب النّملة السّوداء على الصَّخرة الصَّمّاء في اللّيلة الظّلماء، سميعٌ يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللُّغات على تفنُّن الحاجات.
تمَّت كلماتُه صدقًا وعدلًا، وجلَّت صفاته أن تقاس بصفاتِ خَلقِه شبهًا ومثلًا، وتعالت ذاته أن تُشْبِهَ شيئًا من الذّوات أصلًا، ووسعت الخليقةَ أفعالُه عدلًا وحكمةً ورحمةً وإحسانًا وفضلًا.
له الخلق والأمر، وله النِّعمة والفضل، وله الملك والحمد، وله الثّناء والمجد. أوّل ليس قبله شيءٌ، آخرٌ ليس بعده شيءٌ، ظاهرٌ ليس فوقه شيءٌ، باطنٌ ليس دونه شيءٌ. أسماؤه كلُّها أسماء مدحٍ وحمدٍ وثناءٍ وتمجيدٍ، ولذلك كانت حسنى. وصفاتُه كلُّها صفاتُ كمالٍ، ونعوتُه نعوتُ جلالٍ، وأفعالُه كلُّها حكمةٌ ورحمةٌ ومصلحةٌ وعدلٌ. كلُّ شيءٍ من مخلوقاته دالٌّ عليه، ومرشدٌ لمن رآه بعين البصيرة إليه.
(1)
طمس بعضهم "مستويًا على عرشه" في ش.
(2)
ع: "وذواته".
لم يخلُق السّماواتِ والأرضَ وما بينهما باطلًا، ولا ترَكَ الإنسانَ سُدًى عاطلًا، بل خلق الخلق لقيام توحيده وعبادته، وأسبغ عليهم نعمَه ليتوسَّلوا بشكرها إلى زيادته وكرامته
(1)
. تعرَّفَ إلى عباده بأنواع التّعرُّفات، وصرَّف لهم الآيات، ونوَّع لهم الدِّلالات؛ ودعاهم إلى محبّته من جميع الأبواب، ومدَّ بينه وبينهم من عهده أقوى الأسباب؛ فأتمَّ عليهم نعمه السّابغة، وأقام عليهم حجّته البالغة. أفاض عليهم النِّعمة، وكتب على نفسه الرَّحمة، وضمَّن الكتاب الذي كتَبَه: أنّ رحمتَه تغلِبُ غضَبَه.
وتفاوتُ النّاس في هذه البصيرة بحسب تفاوتهم في معرفةِ النُّصوص النّبويّة وفهمِها، والعلمِ بفساد الشُّبَه المخالفة لحقائقها.
وتجد أضعفَ النّاس بصيرةً أهلَ الكلام الباطل المذموم الذي ذمَّه السّلفُ، لجهلهم بالنُّصوص ومعانيها، وتمكُّنِ الشُّبه الباطلة من قلوبهم. وإذا تأمّلتَ حالَ
(2)
العامَّة الذين ليسوا مؤمنين عند أكثرهم رأيتَهم أتمَّ بصيرةً منهم، وأقوى إيمانًا، وأعظم تسليمًا للوحي وانقيادًا للحقِّ
(3)
.
فصل
المرتبة الثّانية من البصيرة: البصيرة في الأمر والنّهي. وهي تجريده عن المعارضة بتأويلٍ أو تقليدٍ أو هوًى. فلا يقوم بقلبه شبهةٌ تعارض العلمَ بأمر الله ونهيه، ولا شهوةٌ تمنع من تنفيذه وامتثاله والأخذ به، ولا تقليدٌ يزيحه
(1)
ع، ج، م:"زيادة كرامته"، وقد حاول بعضهم تغييرها في م لتوافق ما أثبت.
(2)
م، ش، ج:"حالات". وكذا كان في ق، ل، فأصلح كما أثبت.
(3)
"للحق" من ع وحدها.
عن
(1)
بذل الجهد في تلقِّي الأحكام من مشكاة النُّصوص.
وقد علمتَ
(2)
بهذا أهلَ البصائر من العلماء من غيرهم.
فصل
المرتبة الثّالثة: البصيرة في الوعد والوعيد. فهو أن تشهدَ قيامَ الله على كلِّ نفسٍ بما كسبَتْ في الخير والشّرِّ، عاجلًا وآجلًا، في دار العمل ودار الجزاء؛ وأنَّ ذلك هو موجَبُ إلهيّته وربوبيّته وعدله وحكمته، وأنَّ الشَّكَّ في ذلك شكٌّ في إلهيّته وربوبيّته، بل شكٌّ في وجوده؛ فإنَّه يستحيل عليه خلافُ ذلك. ولا يليق أن ينسب إليه تعطيلُ الخليقة وإرسالُها هَملًا وتركُها سدًى، تعالى الله عن هذا الحسبان علوًّا كبيرًا. فشهادة العقل بالجزاء كشهادته بالوحدانيّة.
ولهذا كان الصّحيح أنَّ المعادَ معلومٌ بالعقل، وإنّما اهتُدي إلى تفاصيله بالوحي. ولهذا يجعل الله سبحانه وتعالى إنكارَ المعاد كفرًا به سبحانه، لأنّه إنكارٌ لقدرته أو لإلهيّته، وكلاهما
(3)
مستلزمٌ للكفر به. قال تعالى: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الرعد: 5].
وفي الآية قولان
(4)
: أحدهما: إن تعجَبْ من قولهم: {أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا
(1)
ش: "يريحه من". وكذا في م بإهمال الفعل.
(2)
ضبطت التاء في ل بالسكون، يعني: عُلِمَتْ.
(3)
ل، ش:"فكلاهما".
(4)
انظر: "تفسير البغوي"(4/ 295 - 296).
أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}، فعجَبٌ قولهم! كيف ينكرون هذا، وقد خُلقوا من ترابٍ، ولم يكونوا شيئًا. والثّاني: إن تعجَبْ من شركهم مع الله غيرَه، وعدمِ انقيادهم للتوحيد
(1)
وعبادته وحده لا شريك له، فإنكارُهم للبعث وقولُهم:{أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} فعَجبٌ
(2)
! وعلى التّقديرين: فإنكارُ المعاد عجَبٌ من الإنسان، وهو محض إنكار الرّبِّ والكفر به والجحد لإلهيّته وقدرته وحكمته وعدله وسلطانه.
ولصاحب "المنازل" في البصيرة طريقةٌ أخرى، قال
(3)
: (البصيرة: ما يخلِّصك من الحيرة. وهي على ثلاث درجاتٍ. الأولى: أن تعلم أنّ الخبر القائم بتمهيد الشّريعة يصدر عن عينٍ لا تخاف عواقبها، فترى من حقِّه أن تؤدِّيه
(4)
يقينًا، وتغضب له غيرةً).
ومعنى كلامه: أنّ ما أخبر به الرّسول صادرٌ عن حقيقةٍ صادقةٍ، لا يخاف متّبعها فيما بعد مكروهًا، بل يكون آمنًا من عاقبة اتِّباعها، إذ هي حقٌّ، ومُتَّبعُ الحقِّ لا خوفَ عليه. ومن حقِّ ذلك الخبر عليك أن تؤدِّي ما أُمِرتَ به منه من غير شكٍّ ولا سلوكِ الأحوَط، بل لا تبرأ ذمّتك وتنال الأجرَ
(5)
إلَّا بامتثالٍ
(1)
ع: "لتوحيده".
(2)
ع: "عجبٌ".
(3)
"منازل السائرين"(ص 63).
(4)
أثبت ناشر "المنازل" في المتن: "تلذُّه"، وكذا في شرحَي الإسكندري (ص 131) والقاساني (ص 337). وفي "شرح التلمساني"(2/ 343) كما نقل المؤلف، وهو صادر عنه. وفي ج:"أن لا تؤديه"، وهو خطأ.
(5)
ق، ل، ع:"الأمر"، تصحيف.
صادرٍ عن تصديقٍ محقَّقٍ لا يصحبه شكٌّ؛ وتغضبَ
(1)
على من خالف ذلك غيرةً عليه أن يضيع حقُّه، ويُهمَل جانبُه
(2)
.
وإنّما كانت الغيرة عند شيخ الإسلام
(3)
من تمام البصيرة لأنّه على قدر المعرفة بالحقِّ ومستحقِّه ومحبّته وإجلاله تكون الغيرةُ عليه أن يضيع، والغضب على من أضاعه؛ فإنّ ذلك دليلٌ على محبّة صاحب الحقِّ
(4)
وإجلاله وتعظيمه، وذلك عين البصيرة. فكما أنَّ الشَّكَّ القادحَ في كمال الامتثال مُعْمٍ لعين البصيرة، فكذلك عدمُ الغضب والغيرة على حقوق الله إذا أُضِيعَتْ ومحارمِه إذا انتُهِكَتْ مُعْمٍ لعين البصيرة.
قال: (الدّرجة الثّانية أن تشهد في هداية الحقِّ وإضلاله إصابةَ العَدْل، وفي تلوين أقسامه رعايةَ البرِّ، وتُعايِنَ في جذبه حبلَ الوَصْل)
(5)
.
يريد بشهود العدل في هدايته مَن هداه وإضلالِه مَن أضلَّه أمرين:
أحدهما: تفرُّده بالخلق والهدى والضّلال.
والثّاني: وقوع ذلك منه على وجه الحكمة والعدل، لا بالاتِّفاق، ولا بمحض المشيئة المجرَّدة عن وضع الأشياء مواضعها وتنزيلها منازلها، بل بحكمةٍ اقتضت هدى مَن عَلِمَ أنّه يزكو على الهدى، ويقبله، ويشكره عليه،
(1)
معطوف على "تؤدِّيَ".
(2)
انظر: "شرح التلمساني"(2/ 343 - 344).
(3)
يعني: صاحب "المنازل".
(4)
ج: "محبة الحق". وفي ش: "محبة صادقة للحق"، وكذا أصلح في م. والصواب ما أثبت من ق، ل، ع.
(5)
غُيِّر في ل إلى "الوصال"، كما في "المنازل" وكما سيأتي في الشرح.
ويُثمر عنده؛ وإضلالَ مَن عَلِمَ أنه لا يزكو على الهدى، ولا يقبله، ولا يشكر عليه، ولا يثمر عنده؛ فـ {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاتِهِ
(1)
} [الأنعام: 124] أصلًا وميراثًا.
وقال
(2)
تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53]. وهم الذين يعرفون قدر نعمته بالهدى، ويشكرونه عليها، ويحبُّونه، ويحمدونه على أن جعلهم من أهله. فهو سبحانه ما عدَلَ عن موجَب العدل والإحسان في هدايةِ مَن هَدى وإضلالِ مَن أضلَّ. ولم يطرُد عن بابه ولم يُبْعِد عن جنابه مَن يليق به التّقريب والهدى والإكرام، بل طرَدَ مَن لا يليق به إلّا الطّرد والإبعاد، وحكمتُه وحمدُه تأبى تقريبَه وتكريمَه وجَعْلَه من أهله وخاصّته وأوليائه.
ولا يبقى إلّا أن يقال: فلِمَ خلَقَ مَن هو بهذه المثابة؟ فهذا سؤال جاهلٍ ظالمٍ مفرطٍ في الجهل والظُّلم.
وخلقُ الأضداد
(3)
والمتقابلات هو من كمال الرُّبوبيّة، كاللّيل والنّهار، والحرِّ والبرد، واللَّذّة والألم
(4)
، والخير والشّرِّ، والنّعيم والجحيم
(5)
.
(1)
"رسالاته" قراءة أبي عمرو وغيره. وقرأ ابن كثير وحفص: "رسالتَه". انظر: "الإقناع" لابن الباذش (ص 643).
(2)
ع: "قال" دون الواو.
(3)
السياق في ع: "ظالم ضالٍّ
…
والظلم والضلال لأنَّ خلقَ الأضداد".
(4)
ل، ج:"الألم واللذة"، وكذا في الأصل ولكن ناسخه وضع فوقهما علامة التقديم والتأخير.
(5)
انظر هذا المعنى في "طريق الهجرتين"(ص 212، 253) وقد بالغ المؤلف هناك في تقريره.
قوله: (وفي تلوين أقسامه رعايةَ البِرِّ). يريد بتلوين الأقسام: اختلافَها في الجنس والقدر والصِّفة، من أقسام الأموال
(1)
والقوى والعلوم والصّنائع وغيرها، قسَّمها على وجه البرِّ والمصلحة، فأعطى كلًّا منهم ما يصلحه وما هو الأنفع له برًّا به وإحسانًا.
وقوله: (وتُعايِن في جذبه حبلَ الوصال). يريد: تعاين في توفيقِه لك للطّاعة وجذبِه إيّاك من نفسك أنّه يريد تقريبك منه. فاستعار للتّوفيق الخاصِّ الجذبَ، وللتّقريبِ الوصالَ، وأراد بالحبل السّببَ المُوصِلَ لك إليه
(2)
. فأشار بهذا إلى أنّك تستدلُّ بتوفيقِه لك وجذبِك من نفسك وجعلِك متمسِّكًا بحبله ــ الذي هو عهدُه ووصيَّتُه إلى عباده ــ على تقريبه لك. بل
(3)
تشاهد ذلك ليكون أقوى في المحبّة والشُّكر وبذلِ النّصيحة في العبوديّة. وهذا كلُّه من تمام البصيرة، فمن لا بصيرة له بمعزلٍ عن هذا.
قال
(4)
: (الدّرجة الثّالثة: بصيرةٌ تُفجِّر المعرفة، وتُثبِّت الإشارة، وتُنبت الفراسة).
يريد البصيرةَ في الكشف والعيان. أي يتفجَّرُ بها ينابيعُ المعارف من القلب. ولم يقل: "تفجِّر العلمَ" لأنَّ المعرفةَ أخصُّ من العلم عند القوم،
(1)
ج: "الأفعال". وفي غيرها ما عدا ع: "الأقوال".
(2)
انظر: "شرح التلمساني"(2/ 345).
(3)
لم يرد "بل" في ع.
(4)
"المنازل"(ص 63).
ونسبتُها إلى العلم نسبة الرُّوح إلى البدن، فهي روحُ العلم ولبُّه
(1)
.
وصدَق رحمه الله، فإنّ بهذه البصيرة يتفجَّر من قلب صاحبها ينابيعُ من المعارف لا تُنال بكسبٍ ولا دراسةٍ، إن هو إلّا فهمٌ يؤتيه الله عبدًا في كتابه ودينه، على قدر بصيرته
(2)
.
وقوله: (وتثبِّت الإشارة). يريد بالإشارة: ما يشير إليه القوم من الأحوال والمنازلات
(3)
والأذواق التي ينكرها الأجنبيُّ من السُّلوك ويثبِّتها أهل البصائر. وكثيرٌ
(4)
من هذه الأمور ترد على السّالك، فإن كان له بصيرةٌ ثبَّتَتْ بصيرتُه ذلك له وحقَّقَته عنده، وعرَّفَته تفاصيله. وإن لم يكن له بصيرةٌ بل كان جاهلًا لم يعرف تفصيلَ ما يرد عليه، ولم يهتد لتثبيته.
قوله: (وتُنبت الفراسةَ). يعني أنَّ البصيرةَ تُنبِت في أرضِ القلب الفراسةَ الصّادقَة. وهي نورٌ يقذفه الله في القلب، يفرِّق به بين الحقِّ والباطل والصّادق والكاذب. قال تعالى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75]. قال
(1)
انظر: "شرح التلمساني"(2/ 345). وسيأتي في باب المعرفة كلام مفصَّل للمؤلف في الفرق بين العلم والمعرفة.
(2)
ع: "بصيرة قلبه".
(3)
م، ش:"المنازل"، والصواب ما أثبت. والمنازلات نوعٌ من الواردات القلبية. في "الرسالة القشيرية" (ص 246):"وكما أنَّ ما يتكلَّفه العبد من معاملات ظاهره يوجب له حلاوة الطاعات، فما ينازله العبد من أحكام باطِنه يوجب له المواجيد. فالحلاوات ثمرات المعاملات، والمواجيدُ نتائج المنازلات". وانظر الفرق بين المنزل والمنازلة في "الفتوحات المكية"(2/ 577).
(4)
ما عدا ع: "وكثيرًا"، غير أن بعضهم طمس الألف في ل.
مجاهدٌ: للمتفرِّسين
(1)
. وفي "التِّرمذيِّ"
(2)
من حديث أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "اتَّقوا فراسة المؤمن، فإنّه ينظر بنور الله عز وجل". ثمّ قرأ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} ".
والتوسُّم: تفعُّلٌ من السِّيما
(3)
، وهي العلامة، فسُمِّي المتفرِّسُ متوسِّمًا، لأنّه يستدلُّ بما يشهد على ما غاب، فيستدلُّ بالعيان على الإيمان. ولهذا خصَّ تعالى بالآيات والانتفاعِ بها هؤلاء، لأنّهم يستدلُّون بما يشاهدون منها على حقيقة ما أخبرت به الرُّسل من الأمر والنّهي والثّواب والعقاب. وقد ألهم الله تعالى ذلك لآدم عليه السلام، وعلَّمه إيّاه حين علَّمه أسماء كلِّ شيءٍ. وبنوه هم نسخته وخلفاؤه، فكلُّ قلبٍ فهو
(4)
قابلٌ لذلك، وهو فيه بالقوّة، وبه تقوم الحجّة، وتحصل العبرة، وتصحُّ الدِّلالة. فبعث الله رسلَه مذكِّرين ومنبِّهين ومكمِّلين لهذا الاستعداد بنور الوحي والإيمان، فينضاف ذلك إلى نور الفراسة والاستعداد، فيصير نورًا على نورٍ، فتقوى البصيرة، ويعظُم النُّور ويدوم لزيادة مادّته ودوامها، ولا يزال في تزايدٍ حتّى يرى على الوجه والجوارح والكلام والأعمال.
ومن لم يقبل هدى الله ولم يرفع به رأسًا دخل قلبه في الغلاف والكِنان،
(1)
"تفسير البغوي"(4/ 388).
(2)
برقم (3127) من رواية عطيَّة العوفي ــ وهو ضعيف ــ عن أبي سعيد. قال الترمذي: هذا حديث غريب، إنما نعرفه من هذا الوجه.
وللحديث طرق وشواهد ولكنها واهية. انظر: "الضعيفة"(1821).
(3)
إن كان أصلها من الوسم لا السَّوم.
(4)
ج: "وهو". وفي ش، ع:"وكل قلب فهو".
فأظلَم، وعمي عن البصيرة، فحُجِبت عنه حقائقُ الإيمان، فيرى الحقَّ باطلًا، والباطلَ حقًّا، والرُّشدَ غيًّا، والغيَّ رشدًا. قال تعالى:{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]. والرَّين والرَّانُّ هو: الحجاب الكثيف المانع للقلب من رؤية الحقِّ والانقياد له
(1)
.
وعلى حسب قوّة البصيرة وضعفها تكون الفراسة، وهي نوعان:
فراسةٌ علويّةٌ شريفةٌ مختصّةٌ بأهل الإيمان.
وفراسةٌ سفليّةٌ دنيئةٌ مشتركةٌ بين المؤمن والكافر، وهي فراسة أهل الرِّياضة والجوع والسَّهر والخلوة وتجريدِ البواطن من أنواع الشّواغل. فهؤلاء لهم فراسةُ كشفِ الصُّور والإخبارِ ببعض المغيَّبات السُّفليّة التي لا يتضمَّن كشفُها والإخبارُ بها كمالًا للنّفس ولا زكاةً ولا إيمانًا ولا معرفةً. وهؤلاء لا تتعدَّى فراستُهم هذه السفليّاتِ، لأنّهم محجوبون عن الحقِّ تبارك وتعالى، فلا تصعد فراستهم إلى التّمييز بين أوليائه وأعدائه، وطريق هؤلاء وطريق هؤلاء
(2)
.
وهذه
(3)
فراسة الصّادقين العارفين بالله وأمره، فإنَّ هممهم
(4)
لمَّا
(1)
وانظر تفسيرَ المؤلف للرَّين في "الداء والدواء"(ص 148)، و"شفاء العليل"(ص 94).
(2)
وضعت في م علامة "صح" بين الكلمتين فوق السطر لكيلا يحسبهما أحد من التكرار فيحذفهما كما وقع في ش.
(3)
يعني الفراسة العلوية التي تمِّيز بين أولياء الحق تعالى وأعدائه وطريق هؤلاء وطريق هؤلاء. وفي ع: "وأمَّا".
(4)
ع: "همتهم".
تعلَّقتْ بمحبّة الله تعالى ومعرفته وعبوديّته ودعوةِ الخلق إليه على بصيرةٍ، كانت فراستهم متّصلةً بالله، متعلِّقةً بنور الوحي مع نور الإيمان، فميَّزَتْ بين ما يحبُّه الله وما يبغضه من الأعيان والأقوال والأعمال، وميَّزَتْ بين الخبيث والطّيِّب، والمُحِقِّ والمُبطِل، والصّادق والكاذب؛ وعرفت مقادير استعداد السّالكين إلى الله، فحملت كلَّ إنسانٍ على قدر استعداده علمًا وإرادةً وعملًا.
وفراسةُ
(1)
هؤلاء دائمًا حائمةٌ حول كشف طريق الرّسول وتعريفها
(2)
وتخليصها من بين سائر الطُّرق، وبين
(3)
كشف عيوب النّفس وآفات الأعمال العائقة عن سلوك طريقة المرسلين. فهذا أشرفُ أنواع البصيرة والفراسة، وأنفعُها للعبد في معاشه ومعاده.
فصل
فإذا انتبه وأبصر أخذ في القصد
(4)
وصدق الإرادة، وأجمعَ القصدَ والنِّيّةَ على سفر الهجرة إلى الله، وعلِمَ وتيقَّنَ أنّه لا بدَّ له منه، فأخذ في أهبة السّفر وتعبئة الزّاد
(5)
، والتّجرُّدِ عن عوائق السّفر، وقطعِ العلائق التي تمنعه من
(1)
ع: "ففراسة".
(2)
ش: "ومعرفتها". وفي ع: "وتعرفها"، وكذا كان في الأصل، ثم أصلح كما أثبت من النسخ الأخرى.
(3)
كذا في الأصل وغيره. والسياق يقتضي: "وحول".
(4)
ارجع لسياق الكلام إلى أول الفصل في منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} (ص 188)، وهو: "أول منازل العبودية: اليقظة، فإذا استيقظ أوجبت له اليقظة الفكرة، فإذا صحت فكرته أوجبت له البصيرة. فإذا انتبه وأبصر أخذ في القصد
…
".
(5)
في ع بعده زيادة: "ليوم المعاد".
الخروج.
وقد قسّم صاحب "المنازل" القصد إلى ثلاث درجاتٍ، فقال
(1)
: (الدّرجة الأولى: قصدٌ يبعث على الارتياض، ويخلِّص من التّردُّد، ويدعو إلى مجانبة الأغراض).
فذكر له ثلاث فوائد: أنّه يبعث على السُّلوك بلا توقُّفٍ ولا تردُّدٍ، ولا علّةٍ غير العبوديّة من رياءٍ أو سمعةٍ أو طلب محمدةٍ أو جاهٍ ومنزلةٍ عند الخلق.
قال: (الدّرجة الثّانية: قصدٌ لا يلقى سببًا إلّا قطَعَه، ولا حائلًا إلّا منَعَه، ولا تحاملًا إلّا سهَّله).
يعني أنّه لا يلقى سببًا يعُوق عن المقصود إلّا قطعه، ولا حائلًا دونه إلّا منعه، ولا صعوبةً إلّا سهَّلها.
قال: (الدّرجة الثّالثة: قصدُ الاستسلام لتهذيب العلم، وقصدُ إجابة دواعي الحكم
(2)
، وقصدُ اقتحام بحر الفناء).
(1)
"المنازل"(ص 50).
(2)
في ج، م، ش بعده زيادة:"الديني الأمري"، وكذا في ل، ويظهر أن ناسخها أخطأ بسبب انتقال النظر إلى شرحه، فلما تبين الخطأ عند المقابلة وضع عليها علامة الحذف. ولم تثبت الزيادة في الأصل فكتبها بعضهم في هامشه! هذا، وكذا "دواعي الحكم" في النسخ وفي شروح التلمساني (1/ 280) والقاساني (ص 266) والمناوي (ص 176). وفي مطبوعة "المنازل":"لوَطْءِ الحكم"، وكذا في شرحي الإسكندري (ص 107) والفركاوي (ص 68). ومن الغريب أن ناشر "المنازل" لم يشر إلى خلاف بين نسخه.
يريد أنّه ينقاد إلى العلم ليتهذَّب به ويصلُح به، ويقصد إجابة داعي الحكم الدِّينيِّ الأمريِّ كلَّما دعاه، فإنّ للحكم في كلِّ مسألةٍ من مسائل العلم مناديًا ينادي للإيمان بها علمًا وعملًا، فيقصد إجابة داعيها. ولكنَّ مراده بدواعي الحكم: الأسرار والحِكَم الدّاعية إلى شرع الحكم، فإجابتها قدرٌ زائدٌ على مجرّد الامتثال، فإنّها تدعو إلى المحبّة والإجلال والمعرفة والحمد. فالأمر
(1)
يدعو إلى الامتثال، وما تضمَّنه من الحِكَم والغايات تدعو إلى المعرفة والمحبّة.
وقوله: (وقصدُ اقتحامِ بحرِ الفناء)، هذا هو الغاية المطلوبة عند القوم. وهو عند بعضهم من لوازم الطّريق وليس بغايةٍ، وعند آخرين عارضٌ من عوارض الطّريق، ليس بغايةٍ، ولا هو لازمٌ لكلِّ سالكٍ. وأهلُ القوّة والعزم لا يعرض لهم، وحالُ البقاء أكمل منه، ولهذا كان البقاء حال نبيِّنا ليلةَ الإسراء، وقد رأى ما رأى؛ وحالُ موسى الفناء، ولهذا خرَّ صَعِقًا عند تجلِّي الله للجبل
(2)
. وامرأةُ العزيز كانت أكمل حبًّا ليوسف من النِّسوة، ولم يعرض لها ما عرض لهنّ عند رؤيته لفنائهنّ وبقائها
(3)
. وسيأتي إن شاء الله تحقيقُ الكلام فيه.
فصل
فإذا استحكم قصدُه صار عزمًا جازمًا، مستلزمًا
(4)
للشُّروع في السّفر،
(1)
ل، ج:"والأمر".
(2)
انظر: "الجواب الصحيح"(4/ 12) وكتابنا هذا (3/ 357، 472، 503).
(3)
وانظر هذا المعنى أيضًا في "طريق الهجرتين"(2/ 703 - 704).
(4)
"مستلزمًا" ساقط من ش.
مقرونًا بالتّوكُّل على الله. قال تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159].
والعزم هو: القصد الجازم المتّصل بالفعل، ولذلك قيل: إنّه أوّل الشُّروع في الحركة لطلب المقصود. والتّحقيق: أنّ الشُّروعَ في الحركة ناشئٌ
(1)
عن العزم، لا أنّه نفسُه، ولكن لمّا اتَّصَل به من غير فصلٍ ظُنَّ أنّه هو. وحقيقته: هو استجماع قوى الإرادة على الفعل.
والعزم نوعان، أحدهما
(2)
: عزم المريد على الدُّخول في الطّريق، وهذا
(3)
من البدايات. والثّاني: عزمٌ في حال السّير، وهو أخصُّ من هذا، وهو من المقامات، وسنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى.
وفي هذه المنزلة يحتاج إلى تمييز ما له ممّا عليه، ليستصحِبَ ما له، ويؤدِّيَ ما عليه. وهو المحاسبة، وهي قبل التَّوبة في الرتبة، فإنّه إذا عرَف ما له وما عليه أخَذَ في أداء ما عليه والخروج منه، وهو التّوبة.
وصاحب "المنازل" قدَّم التَّوبةَ على المحاسبة. ووجهُ هذا أنّه رأى التَّوبةَ هي أوّلُ منازل السّائر بعد يقظته، ولا تتمُّ التّوبة إلّا بالمحاسبة، فالمحاسبة تكميل مقام التّوبة. فالمرادُ بالمحاسبة: الاستمرارُ على حفظ التّوبة حتّى لا يخرج عنها، وكأنّه وفاءٌ بعقد التَّوبة.
واعلم أنَّ ترتيبَ هذه المقامات ليس باعتبار أنَّ السَّالكَ يقطع المقامَ ويفارقه وينتقل إلى الثّاني، كمنازل السَّير الحسِّيِّ. هذا محالٌ، ألا ترى أنَّ
(1)
رسمه في النسخ: "ناشٍ".
(2)
"أحدهما" ساقط من م، ش.
(3)
ع: "وهو".
اليقظةَ معه في كلِّ مقامٍ لا تفارقه. وكذلك البصيرة والإرادة والعزم. وكذلك التّوبة، فإنّها كما أنَّها من أوّل المقامات فهي آخرها أيضًا، بل هي في كلِّ مقامٍ مستصحَبةٌ.
ولهذا جعلها الله آخر مقامات خاصَّته، فقال تعالى في غزوة تبوك آخرِ الغزوات التي قطعوا فيها الأودية والبدايات والأحوال والنِّهايات
(1)
(2)
[التوبة: 117]، فجعل التّوبةَ أوّلَ أمرهم وآخرَه.
وقال في سورة أجَلِ رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي آخرُ سورةٍ أُنزلت جميعًا: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} . وفي "الصّحيحين"
(3)
عن عاشئة رضي الله عنها أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ما صلّى صلاةً بعد إذ أُنزلت عليه هذه السُّورة إلّا قال في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهمَّ ربَّنا وبحمدك، اللهمّ اغفر لي".
(1)
يعني المقامات التي ذكرها صاحب "المنازل" في هذه الأقسام الأربعة. وهي عشرة أقسام في كتابه. والظاهر أن ذكر الأربعة هنا للتمثيل فقط، والمقصود المقامات على وجه العموم.
(2)
"تزيغ" و"رؤُفٌ" على قراءة أبي عمرو وغيره. وقراءة حفص وحمزة: "يزيغ"، وكذلك قراءة حفص والحرميين وابن عامر:"رَءوفٌ". انظر: "الإقناع" لابن الباذش (ص 302، 659).
(3)
البخاري (4967) ومسلم (484).
فالتّوبة هي نهايةُ كلِّ سالكٍ وكلِّ وليٍّ لله، وهي الغاية التي يجري إليها العارفون بالله وعبوديّته وما ينبغي له. قال تعالى:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 72 - 73]، فجعل سبحانه التّوبةَ غايةَ كلِّ مؤمنٍ ومؤمنةٍ.
وكذلك الصَّبر فإنّه لا ينفكُّ عنه في مقامٍ من المقامات.
وإنّما هذا التّرتيبُ ترتيبٌ للمشروط المتوقِّفِ على شرطه المصاحبِ له. مثال ذلك: أنّ الرِّضا مترتِّبٌ على الصّبر، لتوقُّفِ الرِّضا عليه واستحالةِ ثبوته بدونه. فإذا قيل: إنَّ مقامَ الرِّضا ــ أو حالَه على الخلاف بينهم هل هو مقامٌ أو حالٌ؟
(1)
ــ بعد مقام الصّبر، لا يُعْنَى به أنّه يفارق الصّبرَ، وينتقل إلى الرِّضا. وإنّما يُعْنَى أنّه لا يحصل له مقام الرِّضا حتّى يتقدَّم له قبله مقامُ الصَّبر. فافهم هذا التّرتيب في مقامات العبوديّة.
وإذا كان كذلك علمتَ أنَّ القصدَ والعزمَ متقدِّمٌ على سائر المنازل، فلا وجه لتأخيره. وعلمتَ بذلك أنَّ المحاسبةَ متقدِّمةٌ على التّوبة بالرُّتبة أيضًا، فإنّه إذا حاسب نفسَه خرج ممَّا عليه، وهي حقيقة التّوبة؛ وأنَّ منزلةَ التّوكُّل قبل منزلة الإنابة، لأنّه يتوكَّل في حصولها، فالتّوكُّل وسيلةٌ، والإنابة غايةٌ؛ وأنَّ مقامَ التَّوحيد أولى المقامات أن يبدأ به، كما هو أوَّلُ دعوة الرُّسل كلِّهم، وقال النّبيُّ صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبلٍ: "فليكن أوّلَ ما تدعوهم إليه شهادةُ أن لا إله
(1)
كما سيأتي قريبًا.
إلّا الله"
(1)
، ولأنّه لا يصحُّ مقامٌ من المقامات ولا حالٌ من الأحوال إلّا به، فلا وجه لجعله آخر المقامات. وهو مفتاحُ دعوة الرُّسل، وأوّلُ فرضٍ فرضه الله على العباد. وما عدا هذا من الأقوال فخطأٌ، كقول من يقول: أوّلُ الفروض النّظرُ، أو القصدُ إلى النّظر، أو المعرفةُ، أو الشَّكُّ الذي يوجب النّظر
(2)
. وكلُّ هذه الأقوال خطأٌ، بل أوّلُ الواجبات مفتاحُ دعوة المرسلين كلِّهم، وهو أوّلُ ما دعا إليه فاتحُهم نوحٌ
(3)
: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]، وأوّلُ ما دعا إليه خاتمهم محمّدٌ صلى الله عليه وسلم
(4)
.
ولأرباب السُّلوك اختلافٌ كثيرٌ في عدد المقامات وترتيبها، كلٌّ يصِفُ منازلَ سيره، وحالَ سلوكه. ولهم اختلافٌ في بعض منازل السَّير: هل هي من قسم المقامات أو من قسم الأحوال؟ والفرق بينهما: أنّ المقامات كسبيّةٌ، والأحوال موهبة
(5)
، ومنهم من يقول: الأحوال هي نتائج المقامات، والمقامات نتائج الأعمال
(6)
.
(1)
أخرجه البخاري (1458) ومسلم (19) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(2)
انظر لردِّ هذه الأقوال وبيان فسادها: "الاستقامة"(1/ 142 - 143)، و"درء التعارض"(7/ 353)، و"مجموع الفتاوى"(16/ 331).
(3)
بعده في ع زيادة: "بقوله".
(4)
سيأتي نحوه في منزلة التوحيد (4/ 439). وانظر: "جامع المسائل"(8/ 171).
(5)
ع: "موهبية". وانظر: "الرسالة القشيرية"(ص 237).
(6)
لم أجد هذا القول، ولكن انظر للفرق بين المقام والحال بالإضافة إلى المصدر السابق:"اللمع"(ص 41 - 42) و"عوارف المعارف"(2/ 264). وبعده في ع زيادة: "فكلُّ من كان أصحَّ عملًا كان أعلى مقامًا، وكلُّ مَن كان أعلى مقامًا كان أعظم حالًا".
فممّا اختلفوا فيه: الرِّضا، هل هو حالٌ أو مقامٌ؟ فيه خلافٌ بين الخراسانيِّين والعراقيِّين، وحكم بينهم بعض الشُّيوخ، وقال: إن حصل بكسبٍ فهو مقامٌ، وإلّا فهو حالٌ
(1)
.
والصّحيح
(2)
: أنّ الواردات والمنازلات لها أسماءٌ باعتبار أحوالها، فتكون لوامع وبوارق ولوائح عند أوّل ظهورها وبدوِّها، كما يلمع البارقُ ويلوح على بُعدٍ، فإذا نازلته وباشرها فهي أحوالٌ، فإذا تمكَّنت منه وثبتت له من غير انتقالٍ فهي مقاماتٌ. فهي لوامعُ ولوائحُ في أوّلها، وأحوالٌ في أوسطها، ومقاماتٌ في نهايتها. فالّذي كان بارقًا هو بعينه الحال، والّذي كان حالًا هو بعينه المقام. وهذه الأسماء له باعتبار تعلُّقه بالقلب، وظهوره له، وثباته فيه.
وقد ينسلخ السّالك من مقامه كما ينسلخ من الثّوب، وينزل إلى ما دونه، ثمّ قد يعود إليه، وقد لا يعود.
ومن المقامات ما يكون جامعًا لمقامين. ومنها ما يكون جامعًا لأكثر من ذلك. ومنها ما يندرج فيه جميع المقامات، فلا يستحقُّ صاحبُه اسمَه إلّا عند استجماع جميع المقامات فيه.
فالتَّوبة جامعةٌ لمقام المحاسبة ومقام الخوف، لا يتصوَّر وجودها
(3)
بدونهما.
(1)
انظر: "الرسالة القشيرية"(ص 453) وقد ذهب الخراسانيون إلى أنه مقام، والعراقيون إلى أنه حال، وجمع بين القولين صاحب "الرسالة".
(2)
بعده في ع زيادة: "في هذا".
(3)
ش، ع:"وجوده"، يعني: مقام التوبة.
والرِّضا جامعٌ لمقام الصبر ومقام المحبَّة، لا يتصور وجوده
(1)
بدونهما.
والتّوكُّل جامعٌ لمقام التّفويض والاستعانة والرِّضا، لا يتصوَّر وجوده بدونها.
والرَّجاء جامعٌ لمقام الخوف والإرادة.
والخوف جامعٌ لمقام الرَّجاء والإرادة.
والإنابة جامعةٌ لمقام المحبّة والخشية، لا يكون العبد
(2)
منيبًا إلّا باجتماعهما.
والإخبات جامعٌ لمقام المحبَّة والذُّلِّ والخضوع، لا يكون
(3)
أحدها بدون الآخر إخباتًا.
والزُّهد جامعٌ لمقام الرَّغبة والرَّهبة، لا يكون زاهدًا مَن لم يرغب فيما يرجو نفعه، ويرهب ممَّا يخاف ضَرَّه
(4)
.
ومقامُ المحبَّة جامعٌ لمقام المعرفة والخوف والرّجاء والإرادة، فالمحبّة معنًى يلتئم من هذه الأربعة، وبها تحقُّقُها.
ومقامُ الخشية جامعٌ لمقام المعرفة بالله، والمعرفةِ بحقِّ عبوديّته، فمتى عرَف الله وعرَف حقَّه اشتدَّت خشيتُه له، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ
(1)
في الأصل: "وجودهما"، وهو سهو. وكذا كان في ل فأصلح.
(2)
لفظ: "العبد" من ع.
(3)
ع: "لا يكمل".
(4)
ق، م:"ضدَّه"، وأصلح في ل. وفي ع:"ما يخاف ضرره".
عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]. فالعلماء به وبأمره هم أهلُ خشيته. قال النّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "أنا أعلمكم بالله وأشدُّكم له خشيةً"
(1)
.
ومقامُ الهيبة جامعٌ لمقام المحبّة والإجلال والتّعظيم.
ومقامُ الشُّكر جامعٌ لجميع مقامات الإيمان، ولذلك كان أرفعها وأعلاها. وهو فوق الرِّضا. وهو يتضمَّن الصَّبرَ من غير عكسٍ، ويتضمَّن التّوكُّلَ والحبّ
(2)
والإنابة والإخبات والخشوع والخوف والرّجاء. فجميع هذه
(3)
المقامات مندرجةٌ فيه، لا يستحقُّ صاحبُه اسمَه على الإطلاق إلّا باستجماع المقامات له. ولهذا كان الإيمان نصفَين: نصف صبرٍ، ونصف شكرٍ، والصّبرُ داخلٌ في الشُّكر، فرجع الإيمانُ كلُّه إلى الشُّكر. والشّاكرون هم أقلُّ العباد، كما قال تعالى:{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13].
ومقامُ الحياء جامعٌ لمقام المعرفة والمراقبة.
ومقامُ الأنس جامعٌ لمقام الحبِّ مع القرب. فلو كان المحبُّ بعيدًا من محبوبه لم يأنَسْ به، ولو كان قريبًا من رجلٍ ولم يحبَّه لم يأنَسْ به
(4)
، حتّى يجتمع له حبُّه مع القرب منه.
ومقامُ الصِّدق الجامعُ
(5)
للإخلاص والعزم، فباجتماعهما يصحُّ له مقامُ
(1)
أخرجه البخاري (6101) ومسلم (2356) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2)
في ع ذكر الحب بعد الإنابة.
(3)
لم يرد "هذه" في ع.
(4)
"به" ساقط من ج.
(5)
كذا في الأصل وغيره ما عدا ش ففيها "جامعٌ" كما في الفقرات الأخرى.
الصِّدق.
ومقامُ المراقبة جامعٌ للمعرفة
(1)
مع الخشية، فبحسبهما يصحُّ مقام المراقبة.
ومقامُ الطُّمأنينة جامعٌ للإنابة والتّوكُّل والتّفويض والرِّضا والتّسليم. فهو معنًى يلتئم من هذه الأمور، إذا اجتمعت صار صاحبُها صاحبَ طمأنينةٍ، وما نقَص منها نقَص من الطُّمأنينة.
وكذلك الرّغبة والرّهبة، كلٌّ منهما يلتئمُ من الرّجاء والخوف. والرّجاءُ على الرّغبة أغلب، والخوفُ على الرّهبة أغلب.
وكلُّ مقامٍ من هذه المقامات، فالسّالكون بالنِّسبة إليه نوعان: أبرارٌ، ومقرَّبون. فالأبرار في أذياله، والمقرَّبون في ذِرْوةِ سنامه. وهكذا مراتب الإيمان جميعها. وكلٌّ من النّوعين لا يحصي تفاوتَهم وتفاضلَ درجاتهم إلّا الله تعالى.
وتقسيمُهم ثلاثةَ أقسامٍ عامٌّ، وخاصٌّ، وخاصُّ خاصٍّ إنّما نشأ من جعل الفناءِ غايةَ الطَّريق وعلَمَ القوم الذي
(2)
شمّرَوا إليه. وسنذكر ما في ذلك إن شاء الله تعالى، وأقسامَ الفناء ومحمودَه ومذمومَه وفاضلَه ومفضولَه، فإنَّ إشارةَ القوم إليه ومدارَهم عليه.
على أنّ التّرتيب الذي يشير إليه مرتِّبُ المنازل
(3)
لا يخلو عن تحكُّمٍ
(1)
ج: "لمقام المعرفة".
(2)
ج، م، ش:"الذين"، تصحيف.
(3)
أيًّا كانَ، الهروي أو غيره. وقد كان في ل، م:"للمنازل"، فأصلح. وفي ع:"كلُّ مرتِّب للمنازل".
ودعوى من غير مطابقةٍ، فإنَّ العبدَ إذا التزم عَقْدَ الإسلام، ودخل فيه كلِّه، فقد التزم لوازمَه الظّاهرةَ والباطنةَ ومقاماتِه وأحوالَه. وله في كلِّ عَقْدٍ من عقوده وواجبٍ من واجباته أحوالٌ ومقاماتٌ، لا يكون موفِّيًا لذلك العقد والواجب إلّا بها. وكلَّما وفَّى واجبًا أشرَفَ على واجبٍ آخر بعده، وكلَّما قطَع منزلةً استقبل أخرى.
وقد يعرض له أعلى المقامات والأحوال في أوّل بداية سيره، فيُفتَح عليه من حال المحبّة والرِّضا والأنس والطُّمأنينة ما لم يحصل بعدُ للسالك في نهايته. ويحتاج هذا السَّالكُ في نهايته إلى أمورٍ من البصيرة والتّوبة والمحاسبة أعظمَ من حاجة صاحب البداية إليها. فليس في ذلك ترتيبٌ كلِّيٌّ لازمٌ للسُّلوك
(1)
.
وقد ذكرنا أنَّ التَّوبةَ التي جعلوها من أوّل المقامات هي غايةُ العارفين ونهايةُ أولياء الله المقرَّبين، ولا ريب أنّ حاجتهم إلى المحاسبة في نهايتهم فوقَ حاجتهم إليها في بدايتهم.
فالأَولى: الكلامُ في هذه المقامات على طريقة المتقدِّمين من أئمّة القوم كلامًا مطلقًا في كلِّ مقامٍ مقامٍ ببيان حقيقته، وموجَبه، وآفته المانعة من حصوله، والقاطع عنه، وذكر عامِّه وخاصِّه. فكلامُ أئمّة الطّريق هو على هذا المنهاج لمن تأمَّلَه، كسهل بن عبد الله التُّسْتَريِّ، وأبي طالبٍ المكِّيِّ،
(1)
كان في الأصل: "لاز السلوك"، فأصلح كما أثبت من ل، ج، ع. وفي م:"لأرباب السلوك". وقد ترك ناسخ ش بياضًا بعد "لا"، فكتب بعضهم في هامشها:"لعله: لأهل"، يعني: لأهل السلوك.
والجنيد بن محمَّدٍ، وأبي عثمان النَّيسابوريِّ، ويحيى بن معاذٍ الرَّازيِّ؛ وأرفعَ من هؤلاء طبقةً مثل أبي سليمان الدَّارانيِّ، وعون بن عبد الله الذي كان يقال له "حكيمُ الأمّة"
(1)
، وأضرابهما؛ فإنّهم تكلَّموا
(2)
على أعمال القلوب وعلى الأحوال كلامًا مفصّلًا جامعًا مبيَّنًا مطلقًا، من غير ترتيبٍ، ولا حصرٍ للمقامات بعددٍ معلومٍ، فإنّهم كانوا أجلَّ من هذا، وهممُهم أعلى وأشرف. إنّما هم حائمون على اقتباس الحكمة والمعرفة، وطهارة القلوب، وزكاة النُّفوس، وتصحيح المعاملة. ولهذا كلامُهم قليلٌ فيه البركة، وكلامُ المتأخِّرين كثيرٌ طويلٌ قليل البركة.
ولكن لا بدّ من مخاطبة أهل الزّمان باصطلاحهم، إذ لا قوّة لهم للتَّشمير إلى تلقِّي السُّلوك عن السّلف الأول وكلماتهم وهديهم. ولو برز لهم هديُهم وحالُهم لأنكروه، ولعدُّوه سلوكًا عامِّيًّا، وللخاصّة سلوكٌ آخر، كما يقوله ضُلَّال المتكلِّمين وجَهَلتُهم: إنّ القوم كانوا أسلم، وإنَّ طريقنا أعلم
(3)
؛ وكما يقوله من لم يقدِر قدرَهم من المنتسبين إلى الفقه: إنّهم لم يتفرَّغوا لاستنباطه وضبط قواعده وأحكامه اشتغالًا منهم بغيره، والمتأخِّرون تفرَّغوا لذلك، فهم أفقه
(4)
.
(1)
المشهور بهذا اللقب أبو الدرداء رضي الله عنه. ثم أبو مسلم الخولاني، روي أنَّ كعبًا قال فيه:"هذا حكيم هذه الأمة". انظر: "سير أعلام النبلاء"(2/ 335) و (4/ 9)، و"المعين في طبقات المحدثين" للذهبي (ص 25).
(2)
ق، ل:"نظموا"، ولعله تصحيف ما أثبت من ج، ش، ع.
(3)
انظر: "درء التعارض"(5/ 378) و"مجموع الفتاوى"(4/ 157).
(4)
انظر: "مجموع الفتاوى"(11/ 366).
فكلُّ هؤلاء محجوبون عن معرفة مقادير السّلف وعمق علومهم، وقلّة تكلُّفهم، وكمال بصائرهم. وتالله ما امتاز عنهم المتأخِّرون إلّا بالتّكلُّف والاشتغال بالأطراف التي كانت همّةُ القوم مراعاةَ أصولها، وضبطَ قواعدها، وشدَّ معاقدها؛ وهممُهم مشمِّرةٌ إلى المطالب العالية في كلِّ شيءٍ. فالمتأخِّرون في شأنٍ، والقومُ في شأنٍ آخر
(1)
، و {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3].
فالأولى بنا: أن نذكر منازلَ العبوديّة الواردة في القرآن والسُّنّة، ونشيرَ إلى معرفة حدودها ومراتبها، إذ معرفةُ ذلك من تمام معرفة حدود ما أنزل الله تعالى على رسوله. وقد وصف تعالى مَن لم يعرفها بالجهل والنِّفاق، فقال:{الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة: 96]. فبمعرفةِ
(2)
حدودها درايةً والقيامِ بها رعايةً، يستكمل العبدُ الإيمانَ، ويكونُ من أهل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} .
ونذكر لها ترتيبًا غيرَ مستحَقٍّ، بل مستحسنٌ
(3)
بحسب ترتيب السّير الحسِّيِّ، ليكون ذلك أقربَ إلى تنزيل المعقول منزلةَ المشهود بالحسِّ، فيكونَ التّصديقُ به
(4)
أتمَّ، ومعرفتُه أكمل، وضبطُه أسهل. وهذه فائدة ضرب الأمثال، وهي خاصَّةُ العقل ولبُّه. ولهذا أكثر تعالى منها في القرآن، ونفى
(1)
لم يرد لفظ "آخر" في م، ش، ع. وقد استدرك أيضًا في ق.
(2)
ما عدا ع: "فمعرفة"، فاختلَّ السياق في ق، ج، واستدرك "بها" قبل "يستكمل" في هامش ل. ووقع "بها" في ش بعد "يستكمل"، وفي م بعد "العبد".
(3)
كذا في الأصل وغيره. يعني: "بل هو مستحسن".
(4)
"به" ساقط من ع.
عقلَها عن غير العلماء، فقال:{وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43].
فاعلم أنَّ العبدَ قبل وصول الدّاعي إليه في نوم الغفلة، قلبُه نائمٌ وطرفُه يقظان، فصاح به النّاصح، وأسمَعَه داعي النَّجاح، وأذَّن به مؤذِّنُ الرَّحمن: حَيَّ على الفلاح.
فأوّل مراتب هذا النّائم: اليقظة والانتباه من النَّوم. وقد ذكرنا أنّها انزعاجُ القلب لروعة الانتباه
(1)
.
وصاحب "المنازل" يقول
(2)
: (هي القومة لله المذكورة في قوله: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ} [سبأ: 46]). قال: (القومةُ لله هي: اليقظةُ من سنة الغفلة، والنُّهوضُ عن ورطة الفترة. وهي أوّلُ ما يستنير
(3)
قلبُ العبد بالحياة لرؤية نور التّنبيه. وهي ثلاثة أشياء: لحظُ القلب إلى النِّعمة على اليأسِ من عدِّها والوقوفِ على حدِّها، والتّفرُّغُ إلى معرفة المنّة بها، والعلمُ بالتّقصير في حقِّها).
وهذا الذي ذكره هو موجَبُ اليقظة وأثرُها، فإنّه إذا نهض من ورطة الغفلة، واستنار قلبُه برؤية نور التّنبيه، أوجب له ذلك ملاحظةَ نعم الله الباطنة والظّاهرة. وكلّما حدَّقَ قلبَه وطرفَه فيها شاهد عِظَمَها
(4)
وكثرتَها، فيئس من
(1)
انظر ما سبق في (ص 188).
(2)
"منازل السائرين"(ص 8).
(3)
ق، ج:"يستبشر"، تصحيف. وأخشى أن يكون الإعجام في ق بخط بعض القراء.
(4)
في ق وضع بعضهم بعد الميم نقطتين ليقرأ: "عظمتها" كما في ع.
عدِّها والوقوفِ على حدِّها، وفرَّغ قلبَه لمشاهدةِ منّةِ الله عليه بها من غير استحقاقٍ ولا استجلابٍ لها بثمنٍ، فتيقَّن
(1)
حينئذٍ تقصيرَه في واجبها، وهو القيامُ بشكرها.
فأوجب له شهودُ تلك المنَّةِ والتَّقصيرِ نوعين جليلين من العبوديّة: محبّةُ المنعم واللَّهَجُ بذكره، وتذلُّلُه وخضوعُه له وإزراؤه
(2)
على نفسه، حيث عَجَز عن شكر نعمه فصار متحقِّقًا بـ "أبوء لك بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي فاغفر لي إنّه لا يغفر الذُّنوب إلّا أنت"
(3)
، وعلِمَ حينئذٍ أنَّ هذا الاستغفار حقيقٌ بأن يكون سيِّد الاستغفار، وعلِمَ حينئذٍ أنَّ اللهَ لو عذَّب أهلَ سماواته وأهلَ أرضه لعذَّبهم وهو غيرُ ظالمٍ لهم، ولو رحِمَهم لكانت رحمتُه خيرًا لهم من أعمالهم، وعلِمَ أنَّ العبدَ دائمًا سائرٌ إلى الله بين مطالعة المنّة ومشاهدة التّقصير.
قال
(4)
: (الثّاني: مطالعةُ الجناية، والوقوفُ على الخطر فيها، والتّشميرُ لتداركها، والتّخلُّصُ من رقِّها، وطلبُ النَّجاة بتمحيصها).
فينظرُ إلى ما سلَف منه من الإساءة، ويعلمُ أنّه على خطرٍ عظيمٍ فيها، مشرفٌ على الهلاك بمؤاخذة صاحب الحقِّ بموجَبِ حقِّه. وقد ذمَّ اللهُ تعالى في كتابه مَن نسي ما قدَّمَت يداه، فقال:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [الكهف: 57].
(1)
ش: "فيتيقن".
(2)
في م وحدها رسمت الكلمة: "إزراه" لتقرأ منصوبة.
(3)
أخرجه البخاري (6306) من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه.
(4)
"منازل السائرين"(ص 8).
فإذا طالَعَ جنايتَه شمَّر لاستدراك الفارط بالعلم والعمل، وتخلَّص من رقِّ الجناية بالاستغفار والنَّدَم، وطلَبَ التّمحيصَ، وهو تخليصُ إيمانه ومعرفته من خَبَث الجناية، كتمحيص الذّهب والفضّة، وهو تخليصُهما من خَبَثهما.
ولا يمكن دخول الجنّة إلّا بعد هذا التّمحيص، فإنّها لا يدخلها إلّا طيِّبٌ. ولهذا تقول لهم الملائكة:{سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73]. وقال تعالى: {تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} [النحل: 32]. فليس في الجنّة ذرّة خَبَثٍ.
وهذا التّمحيص يكون في دار الدُّنيا بأربعة أشياء: بالتّوبة، والاستغفار، والحسنات الماحية، والمصائب المكفِّرة. فإن محَّصَتْه هذه الأربعةُ وخلَّصَتْه كان من {تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ} ، يبشِّرونهم بالجنّة، وكان من الذين تتنزَّل عليهم الملائكةُ عند الموت {أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت: 30 - 32].
وإن لم تَفِ هذه الأربعةُ بتمحيصه وتخليصه، فلم تكن التّوبة نصوحًا ــ وهي العامَّة الشَّاملة الصَّادقة ــ ولم يكن الاستغفار كاملًا تامًّا ــ وهو المصحوب بمفارقة الذنب والنَّدم عليه، هذا هو الاستغفار النّافع، لا استغفارُ مَن في يده قدح المسكر
(1)
، وهو يقول: أستغفر الله، ثمّ يرفعه إلى
(1)
ع: "السكر".
فيه ــ ولم تكن الحسناتُ في كمِّيّتها وكيفيّتها وافيةً بالتّكفير ولا المصائبُ، وهذا إمّا لعِظَم الجناية، وإمّا لضعف الممحِّص، وإمّا لهما= مُحِّص في البرزخ بثلاثة أشياء:
أحدها: صلاة أهل الإيمان عليه، واستغفارهم له، وشفاعتهم له.
الثّاني: تمحيصه بفتنة القبر وروعةِ الفتَّان والعَصْرة والانتهار، وتوابع ذلك.
الثّالث: ما يُهدي إليه إخوانُه المسلمون من هدايا الأعمال، من الصّدقة عنه، والحجِّ عنه، والصِّيام عنه، وقراءة القرآن، والصّلاة؛ وجعل ثوابِ ذلك له. وقد أجمع النّاسُ على وصول الصّدقة والدُّعاء، قال الإمام أحمد رحمةُ الله عليه: لا يختلفون في ذلك. وما عداهما فيه اختلافٌ، والأكثرون يقولون بوصول الحجِّ. وأبو حنيفة رحمه الله يقول: إنّما يصل
(1)
ثوابُ الإنفاق
(2)
. وأحمدُ ومَن وافقه مذهبُهم في ذلك أوسعُ المذاهب، يقولون: يصل إليه ثوابُ جميع القُرَب بدنيِّها وماليِّها والجامعِ للأمرين
(3)
. واحتجُّوا بأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لمن سأله: يا رسول الله، هل بقي من برِّ أبويّ شيءٌ أبَرُّهما به بعد
(1)
بعده في ع زيادة: "إليه".
(2)
في ق، ل هنا حاشية نصُّها:"هذا القول المنسوب إلى أبي حنيفة هو رواية عن محمد بن الحسن رحمه الله. وظاهر مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى موافقة الإمام أحمد رحمه الله تعالى". وقد ذكر ابن أبي العز قول محمد في "شرح الطحاوية"(ص 458) الذي اعتمد فيه في هذا البحث على كلام ابن القيم في كتاب "الروح".
(3)
للمصنف بحث طويل في إهداء القرب إلى الأموات في كتاب "الروح"(2/ 352 - 419). وانظر: "المغني"(3/ 519 - 523)، و"مجموع الفتاوى"(24/ 300، 315، 366)، و"جامع المسائل"(4/ 255).
موتهما
(1)
؟ قال: "نعم"
(2)
. فذكر الحديث.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من مات وعليه صيامٌ صام عنه وليُّه"
(3)
.
فإن لم تف هذه الثلاثة بالتّمحيص مُحِّصَ
(4)
في الموقف بثلاثة أشياء
(5)
: أهوال القيامة وشدّة الموقف، وشفاعة الشُّفعاء، وعفو الله.
فإن لم تف هذه الثّلاثة بتمحيصه، فلا بدّ له من دخول الكِير رحمةً في حقِّه، ليتخلّص ويتمحَّص ويتطهَّر في النّار، فتكون النّارُ طهرةً له وتمحيصًا لخَبثه، ويكون مَكْثُه فيها على حسب كثرة الخَبَث وقلّته، وشدّته وضعفه
(6)
، فإذا خرج خَبَثُه
(7)
أُخرِجَ من النّار، وأُدخِلَ الجنّة.
(1)
ج، م، ش:"بعدهما". ويظهر أن ق، ل كان فيهما "مماتهما" كما في ع، فغيِّر إلى "موتهما".
(2)
أخرجه أحمد (16059) والبخاري في "الأدب المفرد"(35) وأبو داود (5142) وابن ماجه (3664) وابن حبان (418) والحاكم (4/ 154) وغيرهم من طريق أسيد بن علي عن أبيه علي بن عبيد مولى أبي أسيد الساعدي، عن أبي أسيد الساعدي مرفوعًا. وعلي بن عبيد مجهول، قد تفرد بالرواية عنه ابنه وهو صدوق، والحديث ضعَّفه الألباني في "الضعيفة"(597) ومحققو "المسند".
(3)
أخرجه البخاري (1952) ومسلم (1147) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(4)
قبله في ع: "فبين يديه" وفوقه "كذا" مرتين: مرة على "فبين" وأخرى على "محِّص". وبعده في ش: "بدنه"، وكذا في م مهملًا. وكذا كان في ق، ل، فضرب عليه. وفي ج:"قيَّض الله تعالى له في الموقف ثلاثة" بدلًا من "محِّص في الموقف بثلاثة".
(5)
بعده في ع زيادة: "هو" وفوقه: "كذا".
(6)
بعده في ع زيادة: "وتراكمه".
(7)
بعده في ع زيادة: "وصفِّي ذهبُه وصار خالصًا طيبًا".
قال
(1)
: (الثّالث) يعني من مراتب اليقظة: (الانتباهُ لمعرفة الزِّيادة والنُّقصان من الأيّام، والتّنصُّلُ عن تضييعها، والنّظرُ إلى الضَّنِّ
(2)
بها لِتدارُكِ فائتها وتعميرِ باقيها).
يعني أنّه يعرفُ ما معه من الزِّيادة والنُّقصان، فيتداركُ ما فاته في بقيّة عمره التي لا ثمن لها، ويبخل بساعاته ــ بل بأنفاسه ــ عن ذهابها ضَيَاعًا في غير ما يقرِّبه إلى الله تعالى، فهذا هو حقيقة الخسران المشترك بين النّاس، مع تفاوتهم في قدره قلّةً وكثرةً. فكلُّ نفَسٍ يخرج في غير ما يقرِّب إلى الله تعالى، هو حسرةٌ على العبد في معاده، ووقفةٌ له في طريق سيره، أو نكسةٌ إن استمرَّ، وحجابٌ إن انقطع به.
قال
(3)
: (فأمّا معرفة النِّعمة، فإنّها تصفو بثلاثة أشياء: بنورِ العقل، وشَيْمِ برقِ المِنَّة، والاعتبارِ بأهل البلاء).
يعني أنّ حقيقة مشاهدة النِّعمة تصفو بهذه الثّلاثة. وهي النُّور الذي أوجَبَ اليقظةَ، فاستنار القلب به لرؤية التنبيه. وعلى حسبه قوّةً وضعفًا تصفو له مشاهدة النِّعمة، فإنّ من لم ير نعمةَ الله عليه إلّا في مأكلِه وملبسِه وعافيةِ بدنه وقيامِ وجهه بين النّاس، فليس له نصيبٌ من هذا النُّور البتّة. فنعمةُ الله بالإسلامِ والإيمانِ وجذبِ عبده إلى الإقبال عليه، والتّنعُّمِ بذكره، والتّلذُّذِ بطاعته= هو أعظمُ النِّعم، وهذا إنّما يُدرَك بنورِ العقل وهدايةِ التّوفيق.
(1)
"منازل السائرين"(ص 9).
(2)
رسمه في ج، م بالظاء.
(3)
"منازل السائرين"(ص 9).
وكذلك شَيْمُه بروقَ مننِ الله عليه. وهو النّظرُ إليها ومطالعتُها من خلال سُحُبِ
(1)
الطّبع وظلماتِ النّفس.
والنّظرُ إلى أهل البلاء، وهم أهلُ الغفلةِ عن الله والابتداعِ في دين الله، فهذان الصِّنفان هم أهل البلاء حقًّا، فإذا رآهم وعلِمَ ما هم عليه عظمَتْ نعمةُ الله عليه في قلبه، وصَفَتْ له، وعرَف قدرَها. فالضِّدُّ يُظْهِرُ حسنَه الضِّدُّ
(2)
.
وبضِدِّها تتبيَّنُ الأشياءُ
(3)
حتّى إنَّ من تمام نعيم أهل الجنّة رؤيةَ أهل النّار وما هم فيه من العذاب.
قال
(4)
: (وأمّا مطالعةُ الجناية، فإنّها تصحُّ بثلاثة أشياء: بتعظيم الحقِّ، ومعرفةِ النَّفس، وتصديقِ الوعيد).
يعني أنّ من كملَتْ عظمةُ الحقِّ في قلبه عظمَتْ عنده مخالفتُه، لأنَّ
(1)
م، ش:"حجب".
(2)
ضمَّن عجز البيت الآتي:
ضِدَّانِ لما استَجمعا حَسُنا
…
والضِّدُّ يُظهِر حُسْنَه الضِّدُّ
وهو من القصيدة الدعدية المعروفة باليتيمة وقد تنازعها شعراءُ كُثْرٌ غلب عليها منهم اثنان: علي بن جَبَلة العكوَّك (شعره المجموع: 116) وأبو الشيص الخزاعي (ديوانه المجموع: 138).
(3)
عجز بيت للمتنبي في "ديوانه"(ص 117). وصدره:
ونذيمُهم وبهم عرفنا فضلَه
(4)
"منازل السائرين"(ص 9).
مخالفةَ العظيم ليست كمخالفة مَن هو دونه.
ومَن عرَف قدرَ نفسه وحقيقتَها وفقرَها الذَّاتيَّ إلى مولاها الحقِّ في كلِّ لحظةٍ ونفَسٍ، وشِدَّةَ حاجتها إليه، عظمت عنده جنايةُ المخالفة لمن هو شديدُ الضَّرورة إليه في كلِّ لحظةٍ ونفَسٍ. وأيضًا فإذا عرَفَ حقارتَها مع عِظَمِ قدرِ مَن خالفه عظُمت الجنايةُ عنده، فشمَّر في التّخلُّص منها.
وكذلك بحسب تصديقه بالوعيد ويقينه به، يكون تشميرُه في التّخلُّص من الجناية التي تلحقه به. ومدارُ السّعادة وقطبُ رحاها على التّصديق بالوعيد، فإذا تعطَّل من قلبه التّصديقُ بالوعيد خرِبَ خرابًا لا يرجى معه فلاحٌ البتّة. والله تعالى أخبر أنّه إنّما تنفع الآياتُ والإنذارُ لمن صدَّق بالوعيد وخاف عذاب الآخرة، فهؤلاء هم المقصودون بالإنذار والمنتفعون بالآيات، دون مَن عداهم. قال تعالى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ} [هود: 103]. وقال: {(44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ} [النازعات: 45]. وقال: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45].
وأخبر تعالى أنّ أهل النّجاة في الدُّنيا والآخرة هم المصدِّقون بالوعيد الخائفون منه، فقال تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم: 13 - 14]
(1)
.
(1)
لم ترد الآية (13) في ع.
قال
(1)
: (وأمّا معرفة الزِّيادة والنُّقصان من الأيّام فإنّها تستقيم بثلاثة أشياء: سماعِ
(2)
العلم، وإجابةِ دواعي الحرمة، وصحبةِ الصّالحين. وملاكُ ذلك كلِّه خلعُ العادات).
يعني: أنَّ السَّالك على حسب علمه بمراتب الأعمال ونفائس الكسب، تكون معرفتُه بالزِّيادة والنُّقصان في حاله وإيمانه. وكذلك تفقُّدُ إجابة داعي تعظيمِ حُرُماتِ الله من قلبه: هل هو سريع الإجابة لها، أم بطيءٌ عنها؟ فبحسَبِ إجابتِه الدّاعي سرعةً وإبطاءً تكون زيادتُه ونقصانُه. وكذلك صحبةُ أرباب العزائم المشمِّرين إلى اللَّحاقِ بالملأ الأعلى يعرف به ما معه من الزِّيادة والنُّقصان.
والّذي يملك به ذلك كلَّه خروجُه عن العادات والمألوفات، وتوطينُ النّفس على مفارقتها، والغربةُ بين أهل الغفلة والإعراض. وما على العبد أضرُّ من ملكِ العادات له، وما عارضَ الكفّارُ الرُّسلَ إلّا بالعادات المستمرّة الموروثة لهم عن الأسلاف
(3)
. فمن لم يوطِّن نفسَه على مفارقتِها والخروجِ عنها والاستعدادِ للمطلوب منه، فهو مقطوعٌ، وعن فلاحه وفوزه ممنوعٌ. {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46].
(1)
"منازل السائرين"(ص 9).
(2)
ش: "بسماع"، وكذا في مطبوعة "المنازل". وفي "شرح التلمساني" كما أثبت من النسخ الأخرى.
(3)
بعده في ع زيادة: "الماضين".
فصل
فإذا استحكمت يقظتُه أوجبت له الفكرةَ، وهي كما تقدَّم
(1)
: تحديق القلب إلى جهة المطلوب التماسًا له.
وصاحب "المنازل" جعلها بعد "البصيرة"، وقال في حدِّها
(2)
: (هي تلمُّسُ البصيرة لاستدراك البغية). أي التماسُ العقل للمطلوب بالتّفتيش
(3)
عليه.
قال
(4)
: (وهي ثلاثة أنواعٍ: فكرةٌ في عين التّوحيد، وفكرةٌ في لطائف الصَّنعة، وفكرةٌ في معاني الأعمال والأحوال).
قلت: الفكرة فكرتان: فكرةٌ تتعلَّق بالعلم والمعرفة، وفكرةٌ تتعلَّق بالطّلب والإرادة. فالّتي تتعلَّق بالعلم والمعرفة فكرةُ التَّمييز بين الحقِّ والباطل، والثّابت والمنفيِّ. والّتي تتعلَّق بالطّلب والإرادة فهي الفكرة التي تميِّز بين النَّافع والضَّارِّ. ثمّ يترتَّب عليها فكرةٌ أخرى في الطّريق إلى حصول ما ينفع فيسلكها، وطريقِ ما يضرُّ فيتركها.
فهذه ستّة أقسامٍ لا سابع لها، هي محالُّ
(5)
أفكار العقلاء.
فالفكرةُ في التّوحيد استحضارُ أدلّته وشواهده الدَّالَّةِ على بطلان الشِّرك
(1)
في (ص 189).
(2)
"منازل السائرين"(ص 13).
(3)
ع: "والتفتيشُ".
(4)
في الموضع السابق.
(5)
كذا ضبط في ش بالشدَّة، وفي ع:"مجال" بالجيم.
واستحالته، وأنَّ الإلهيّةَ يستحيل ثبوتُها لاثنين كما يستحيل ثبوتُ الرُّبوبيّة لاثنين، فكذلك أبطَلُ الباطل
(1)
عبادةُ اثنين والتّوكُّلُ على اثنين، بل لا تصلُح العبادةُ إلّا للإله الحقِّ والرَّبِّ الحقِّ، وهو الله الواحد القهّار.
وقد خبَط صاحبُ "المنازل" في هذا الموضع، وجاء بما يرغب عنه الكُمَّل من سادات السّالكين والواصلين إلى الله؛ فقال
(2)
: (الفكرةُ في عين التّوحيد اقتحامُ بحر الجحود).
وهذا بناءً على أصله الذي أصَّله وانتهى إليه كتابُه في أمر الفَناء، فإنَّه لمَّا رأى أنَّ الفكرةَ في عين التّوحيد تُبعِد
(3)
العبدَ من التّوحيد الصّحيح، لأنّ التّوحيد الصّحيح عنده لا يكون إلّا بعد فناء الفكر والمتفكِّر، والفكرةُ تدلُّ على بقاء الرَّسْم لاستلزامها مفكِّرًا وفعلًا قائمًا به، والتّوحيدُ التّامُّ عنده لا يكون مع بقاء رسمٍ أصلًا= كانت الفكرةُ عنده علامةَ الجحود واقتحامًا
(4)
لبحره
(5)
.
وقد صرَّح بهذا في أبياته في آخر الكتاب
(6)
:
ما وحَّدَ الواحدَ من واحدٍ
…
إذ كلُّ مَن وحَّده جاحدُ
توحيدُ مَن ينطق عن نعته
…
عاريّةٌ أبطَلَها الواحدُ
(1)
ع: "من أبطل الباطل".
(2)
"منازل السائرين"(ص 14).
(3)
ضبط في ع بتشديد العين. وفي ج، م، ش:"تقعد".
(4)
هكذا في ع. وفي الأصل وغيره: "واقتحامها"، وغيِّر في ل إلى "لاقتحامها".
(5)
قول المصنف: "لما رأى أن الفكرة
…
بحره" مأخوذ من "شرح التلمساني" (1/ 82).
(6)
"المنازل"(ص 113)، وسيأتي شرح المؤلف لها في موضعها (4/ 542).
توحيدُه إيّاه توحيدُه
…
ونعتُ مَن ينعته لاحدُ
ومعنى أبياته: ما وحَّدَ اللهَ عز وجل أحدٌ حقَّ توحيده الخاصِّ الذي تفنى فيه الرُّسوم، ويضمحلُّ فيه كلُّ أحدٍ
(1)
، ويتلاشى فيه كلُّ مكوَّنٍ؛ فإنّه لا يتصوَّر منه التّوحيد إلّا ببقاء الرّسم، وهو الموحِّدُ وتوحيدُه القائم به. فإذا وحَّده شهِد فعلَه الحادث ورسمَه الحادث، وذلك جحودٌ لحقيقة التّوحيد الذي تفنى فيه الرُّسوم، وتتلاشى فيه الأكوان. فلذلك قال:"إذ كلُّ من وحَّده جاحدٌ". هذا أحسنُ ما يُحمَل عليه كلامُه.
وقد فسَّره أهلُ الوحدة بصريح مذهبهم
(2)
. قالوا: معنى "كلُّ من وحَّده جاحدُ" أي كلُّ من وحَّده فقد وصف الموحَّدَ بصفةٍ تتضمَّن جحدَ حقِّه الذي هو عدمُ انحصاره تحت الأوصاف. فمَن وصَفَه فقد جَحَد إطلاقَه عن قيود الصِّفات
(3)
.
وقوله: (توحيدُ من ينطق عن نعته عاريةٌ) أي: توحيدُ المحدَثِ له النّاطقِ عن نعته عاريّةٌ مسترَدَّةٌ، فإنّه الموحَّد قبل توحيد هذا النّاطق وبعد فنائه، فتوحيدُه له عاريّةٌ أبطلها الواحدُ الحقُّ بإفنائه كلَّ ما سواه.
والاتِّحاديُّ يقول: معناه أنَّ الموحَّد واحدٌ من جميع الوجوه، فأبطَلَ ببساطة ذاته تركيبَ نطق واصفه، وأبطَلَ بإطلاقه تقييدَ نعتِ موحِّدِه.
قوله: (توحيدُه إيّاه توحيدُه)، يعني أنّ تَوحيدَه الحقيقيّ هو توحيدُه
(1)
ع: "كلُّ حادث".
(2)
ع: "بصريح كلامهم في مذهبهم".
(3)
انظر: "شرح التلمساني"(2/ 611) لهذه الفقرة وما عزاه إلى "الاتحادي" فيما يأتي.
لنفسه، حيث لا هناك رسمٌ ولا مكوَّنٌ، فما وحَّد اللهَ حقيقةً إلّا اللهُ.
والاتِّحاديُّ يقول: ما ثمَّ غيرٌ يوحِّده، بل هو الموحِّد لنفسه بنفسه، إذ ليس ثمّ سوًى في الحقيقة.
وقوله: (ونعتُ مَن ينعته لاحدُ)، أي نعتُ النّاعت له ميلٌ وخروجٌ عن التّوحيد الحقيقيِّ ــ والإلحادُ أصله: الميل ــ لأنّه بنعته له قائمٌ بالرُّسوم، وبقاءُ الرُّسوم ينافي توحيدَه الحقيقيَّ.
والاتِّحاديُّ يقول: نعتُ النّاعت له شركٌ، لأنّه أسند إلى المطلَق ما لا يليق به إسنادُه من التّقييد، وذلك شركٌ وإلحادٌ
(1)
.
فرحمةُ الله على أبي إسماعيل، فتَح للزّنادقة بابَ الكفر والاتِّحاد
(2)
، فدخلوا منه، وأقسموا بالله جَهْدَ أيمانهم: إنّه معهم ومنهم
(3)
. وغرَّه سرابُ الفناء، فظنّ أنّه لجّةُ بحر المعرفة وغايةُ العارفين، وبالغ في تحقيقه وإثباته، فقاده قَسْرًا إلى ما ترى.
و"الفناء" الذي يشير إليه القوم ويعملون عليه: أن تذهبَ المحدَثاتُ في شهود العبد، وتغيبَ في أفق العدَم كما كانت قبل أن توجد، ويبقى الحقُّ تعالى كما لم يزل. ثمّ تغيبَ صورةُ المشاهِد ورسُمه أيضًا، فلا يبقى له صورةٌ ولا رسمٌ، ثمّ يغيب شهوده أيضًا، فلا يبقى له شهودٌ، ويصيرَ الحقُّ هو الذي يشاهِد نفسَه بنفسه، كما كان الأمر قبل إيجاد المكوَّنات. وحقيقته: أن يفنى
(1)
وقد أفاض المصنف القول في تفسير الأبيات المذكورة حيث جاءت في آخر الكتاب.
(2)
ش: "الإلحاد".
(3)
ع: "إنه لمنهم، وما هو منهم".
مَن لم يكن، ويبقى مَن لم يزل.
قال صاحب "المنازل"
(1)
: (هو اضمحلال ما دون الحقِّ علمًا، ثمّ جحدًا، ثمّ حقًّا. وهو على ثلاث درجاتٍ:
الدّرجة الأولى: فناءُ المعرفة في المعروف، وهو الفناء علمًا. وفناءُ العِيان في المُعايَن وهو الفناء جحدًا. وفناءُ الطّلب في الوجود وهو الفناء حقًّا.
الدّرجة الثّانية: فناءُ شهود الطّلب لإسقاطه، وفناءُ شهود المعرفة لإسقاطها، وفناءُ شهود العيان لإسقاطه.
الدّرجة الثّالثة: الفناءُ عن شهود الفَناء ــ وهو الفَناء حقًّا ــ شائمًا برقَ العين، راكبًا بحرَ الجَمْع، سالكًا سبيلَ البقاء).
فنذكر ما في هذا الكلام من حقٍّ وباطلٍ، ثمّ نُتْبِعُه ذكرَ أقسام الفناء، والفرق بين الفناءِ المحمودِ الذي هو فناء خاصَّة أولياء الله المقرَّبين
(2)
، والفناءِ المذمومِ الذي هو فناء أهل الإلحاد القائلين بوحدة الوجود، وفناءِ المتوسِّطين الناقصين عن درجة الكمال، بعون الله وحوله وتأييده.
فقوله: (الفناء اضمحلالُ ما دون الحقِّ جحدًا)، لا يريد به أنّه يعدَم من الوجود بالكلِّيّة. وإنّما يريد اضمحلالَه في العلم، فيعلَمُ أنَّ ما دونه باطلٌ، وأنَّ وجودَه بين عدمين، وأنّه ليس له من ذاته إلّا العدَم. فعدمُه بالذّات، ووجودُه بإيجاد الحقِّ له، فيفنى في علمه كما كان فانيًا في حال عدمه. فإذا فني في علمه ارتقى إلى درجةٍ أخرى فوق ذلك، وهي جحدُ السِّوى وإنكاره. وهذه أبلغ
(1)
(ص 104).
(2)
ع: "والمقربين".
من الأولى، لأنّها غيَّبته عن السِّوى، وقد يغيب عنه وهو غيرُ جاحدٍ له، وهذه الثّانيةُ جحدُه وإنكارُه.
ومن هاهنا دخل الاتِّحاديُّ، وقال: المرادُ جحدُ السِّوى بالكلِّيّة، وأنّه ما ثَمَّ غيرٌ بوجهٍ ما. وحاشا شيخَ الإسلام من إلحاد أهل الاتِّحاد، وإن كانت عبارته موهمةً بل مفهِمةً
(1)
. وإنّما أراد بالجحد في الشُّهود، لا في الوجود. أي يجحده أن يكون مشهودًا، فيجحد وجودَه الشُّهوديَّ العلميَّ، لا وجودَه العينيَّ الخارجيَّ. فهو أولًا يغيب عن وجوده الشُّهوديِّ العلميِّ، ثمّ ينكر ثانيًا وجودَه في علمه، وهو اضمحلالُه جحدًا، ثمّ يرتقي من هذه الدّرجة إلى أخرى أبلغَ منها، وهو
(2)
اضمحلاله في الحقيقة، وأنّه لا وجود له البتّة، وإنّما وجودُه قائمٌ بوجود الحقِّ، فلولا وجودُ الحقِّ لم يكن هذا موجودًا، ففي الحقيقة: الموجود إنّما هو الحقُّ وحده، والكائناتُ من أثر وجوده. هذا معنى قولهم: إنّها لا وجود لها، وإنّها معدومةٌ وفانيةٌ ومضمحلّةٌ.
والاتِّحاديُّ يقول: إنّ السّالك في أوّل سلوكه يرى أنّه لا فاعل في الحقيقة إلّا الله، فهذا توحيد العلم، ولا يقدر في طوره على أكثر من ذلك. ثمّ ينتقل من هذا إلى الدّرجة الثّانية، وهو شهودُ عَودِ الأفعال إلى الصِّفات، والصِّفاتِ إلى الذّات، فعاد الأمرُ كلُّه إلى الذّات، فيجحد وجود السِّوى بالكلِّيّة، فهذا هو الاضمحلال جحدًا. ثمّ يرتقي عن هذه الدّرجة إلى ركوب البحر الذي تغرق فيه الأفعال والأسماء والصِّفات، ولا يبقى إلّا أمرٌ مطلقٌ لا يتقيَّد باسمٍ ولا فعلٍ ولا صفةٍ، وقد اضمحلَّ فيه كلُّ معنًى وقيدٍ وصفةٍ ورسمٍ. وهذا
(1)
زاد بعضهم في ع فوق السطر بحروف صغيرة: "ذلك".
(2)
ع: "وهي".
عندهم غاية السّفر الأوّل، فحينئذٍ يأخذ في السّفر الثّاني، وهو البقاء
(1)
.
قوله: (الدّرجة الأولى: فناء المعرفة في المعروف).
يريد: اضمحلالَ معرفته وتلاشيَها في معروفه، وأن يغيبَ بمعروفه عن معرفته، كما يغيب بمشهوده عن شهوده، وبمذكوره عن ذكره، وبمحبوبه عن حبِّه، وبمَخُوفه عن خوفه. وهذا لا ريب في إمكانه ووقوعه، فإنَّ القلبَ إذا امتلأ بشيءٍ لم يبق فيه متَّسَعٌ لغيره. وأنت ترى الرّجلَ يشاهد محبوبَه الذي قد استغرق في حبِّه، بحيث تخلَّلَ حبُّه جميعَ أجزاء قلبه، أو شاهد المَخُوف الذي
(2)
امتلأ بخوفه، فيعترضُه دهشٌ عن شعوره بحبِّه أو خوفه، لاستيلاءِ سلطانِ المحبوب والمخُوف على قلبه، وعدمِ اتِّساعِه لشهود غيرٍ
(3)
البتّة. ولكن هذا لنقصه لا لكماله، والكمال وراء هذا. فلا أحدَ أعظمُ محبّةً لله من الخليلين، وكانت حالُهما أكملَ من هذه الحال. وشهودُ العبوديّة أكمَلُ وأتمُّ وأبلَغُ من الغَيبة عنها بشهود المعبود، فشهودُ العبوديَّةِ والمعبودِ درجةُ الكُمَّل، والغَيبةُ بأحدهما عن الآخر للنّاقصين. فكما أنّ الغَيبة بالعبادة عن المعبود نقصٌ، فكذلك الغَيبةُ بالمعبود عن عبادته؛ حتّى إنَّ من العارفين من لا يعتدُّ بهذه العبادة، ويرى إيجادها عدمًا
(4)
، ويقول: هي بمنزلة عبوديّة
(1)
انظر: "شرح التلمساني"(2/ 570).
(2)
ع: "يشاهد المخوف والذي".
(3)
ع: "غيره".
(4)
في ع: "إعادتها"، وفي هامشها:"خ إيجادها عدمًا" وقد سقط لفظ "عدمًا" من النسخ إلا ج، فاستدرك في هامش ق، ل. ولفظ "إيجادها" مهمل في ق، م، فاقترح بعضهم في هامش م أن يكون صوابه "إعادتها". وأثبت ناسخ ش:"فسادها". وفي ل، ج:"اتحادها" مع علامة الإهمال في ج، وهو تصحيف.
النّائم وزائل العقل، لا يُعتدُّ بها. ولم يُبعِد هذا القائل.
فالحقُّ تعالى
(1)
مرادُه من عبده: استحضارُ عبوديّته، لا الغَيبةُ عنها. والعاملُ على الغَيبة عنها عاملٌ على مراده من الله وعلى حظِّه والتّنعُّمِ بالفناء في شهوده، لا على مراد الله منه. وبينهما ما بينهما! فكيف يكون قائمًا بحقيقة العبوديّة من يقول:"إيّاك نعبد"، ولا شعور له بعبوديّته البتّة، بل حقيقةِ "إيّاك نعبد" علمًا ومعرفةً وقصدًا وإرادةً وعملًا! وهذا مستحيلٌ في وادي الفناء، ومن له ذوقٌ يعرف هذا وهذا.
قوله: (وفَناءُ العِيان في المعايَن، وهو الفَناء جحدًا).
لمّا كان ما قبل هذا فناء العلم في المعلوم، والمعرفة في المعروف، والعيانُ فوق العلم والمعرفة، إذ نسبتُه إلى العلم كنسبة المرئيِّ إليه= كان الفناءُ في هذه المرتبة فناءَ عيانه في معاينه، ومحوَ أثره، واضمحلالَ رسمه.
قوله: (وفَناءُ الطّلب في الموجود
(2)
، وهو الفناء حقًّا).
يريد: أنّه لا يبقى لصاحب هذا العيان طلبٌ، لأنّه قد ظفر بموجوده ومطلوبه، وطلبُ الموجود
(3)
محالٌ، لأنّه إنّما يُطلَب المفقودُ عن العيان لا
(1)
"تعالى" من ع.
(2)
كذا في جميع النسخ هنا وفي "شرح التلمساني"(2/ 570). وفي "المنازل": "الوجود" كما سبق فيما نقله المصنف قبل الشرح، وكما سيأتي في آخر الكتاب في شرح منزلة الفناء.
(3)
م، ش:"الوجود".
الموجود، فإذا استغرَق في عيانه وشهوده فني الطّلبُ حقًّا.
قوله: (الدّرجة الثّانية: فناءُ شهود الطَّلَب لإسقاطه، وفناءُ شهود المعرفة لإسقاطها، وفناءُ شهود العيان لإسقاطه).
يريد: أنّ الطَّلَبَ يسقط، فيشهد العبدُ عدمَه. فهاهنا أمورٌ ثلاثةٌ مترتِّبةٌ. أحدها: فناءُ الطّلب وسقوطُه، ثمّ شهودُ سقوطه، ثمّ سقوطُ شهوده. فهذا هو فناء شهود الطّلب لإسقاطه.
وأمّا فناء شهود المعرفة لإسقاطها، فيريد به: أنَّ المعرفةَ تسقُط في شهود العيان، إذ هو فوقها، وهي تفنى فيه؛ فيشهد سقوطَها في العيان، ثمّ يسقُط شهودُ سقوطها. وصاحب "المنازل" يرى أنّ المعرفة قد يصحبها شيءٌ من حجاب العلم، ولا يرتفع ذلك الحجاب إلّا بالعيان، فحينئذٍ تفنى في حقِّه المعارفُ، فيشهد فناءَها وسقوطَها؛ ولكن بعدُ عليه بقيّةٌ لا تزول عنه حتّى يسقط شهودُ فنائها وسقوطِها منه. فالعارفُ يخالطه بقيّةٌ من العلم لا تزول إلّا بالمعاينة، والمعايِنُ قد يخالطه بقيّةٌ من المعرفة لا تزول إلّا بشهود سقوطها، ثمّ سقوطِ شهودِ هذا السُّقوط
(1)
.
وأمّا فناء شهود العِيان لإسقاطه، يعني
(2)
أنَّ العيانَ أيضًا يسقُط فيشهده العبدُ ساقطًا، فلا يبقى إلّا المعايَنُ وحدَه.
(1)
هذا التفسير مأخوذ من "شرح التلمساني"(2/ 571 - 572).
(2)
كذا في النسخ دون الفاء على جواب أمَّا، ولحذفها نظائر في أحاديث "صحيح البخاري"، انظر:"شواهد التوضيح"(ص 198 - دار البشائر الإسلامية) ولكن حذفت هنا ــ فيما يظهر ــ لمتابعة المؤلف "شرح التلمساني"(2/ 572) ذاهلًا عن سياقه.
قال الاتِّحاديُّ
(1)
: هذا دليلٌ على أنَّ الشَّيخَ يرى مذهب أهل الوحدة، لأنَّ العِيانَ إنّما يسقط في مبادئ حضرة الجمع، لأنّه يقتضي ثلاثة أمورٍ: معايِنٌ، ومعايَنٌ، ومعاينةٌ؛ وحضرةُ الجمع تنفي التَّعداد.
وهذا كذبٌ على شيخ الإسلام، وإنّما مراده: فناء شهود العيان، فيفنى عن مشاهدة المعاينة، ويغيب بمُعايَنِه عن معاينته، لا
(2)
أنَّ مرادَه انتفاءُ التَّعدادِ والتّغايُرِ بين المعايِن والمعايَن. وإنّما مرادُه: انتفاءُ الحاجبِ عن درجة الشُّهود، لا عن حقيقة الوجود؛ ولكنّه بابُ الإلحاد
(3)
، هؤلاء الملاحدةُ منه يدخلون. والفرقُ بينَ إسقاطِ الشَّيء عن درجة الوجود العلميِّ الشُّهوديِّ، وإسقاطِه عن رتبة الوجود الخارجيِّ العينيِّ
(4)
؛ فشيخُ الإسلام بل مشايخُ القوم
(5)
المتكلِّمين بلسان الفناء، هذا مرادهم.
وأمّا أهل الوحدة، فمرادهم: أنّ حضرة الجمع والوحدة تنفي التَّعدادَ
(6)
(1)
يعني التلمساني في "شرحه" في الموضع المذكور، ولم يرد فيه "هذا دليل
…
الوحدة".
(2)
ج: "إلا"، وهو خطأ يقلب المعنى. وكذا كان في ل ثم ضرب على الهمزة.
(3)
في ل ضرب على همزة ال ليقرأ: "لإلحادِ هؤلاء الملاحدةِ" كما في ع. وفي ش: "الاتحاد".
(4)
لم يرد خبر المبتدأ (الفرق) في الكلام وهو ظاهر. وقد وقع في ش: "العين" مكان "العيني"، فاقترح في هامشها أن يكون صواب العبارة:"بيِّنٌ لذي العين".
(5)
هكذا في ع. وفي م، ش:"مشايخ شيخ القوم"، وكذا كان في ل، ثم ضُرب على "شيخ". وفي ج:"بل شيخ القوم"، وكذا كان في الأصل (ق) ثم أثبت "مشايخُ" في الهامش كأنه لحق، وإنما هو تصحيح لفظ "شيخ". وقد جمعت النسخ الأخرى بين الخطأ وصوابه.
(6)
ع: "التعدد".
والتّقييد في الشُّهود والوجود
(1)
، بحيث يبقى المعروفُ والمعرفةُ والعارفُ من عينٍ واحدةٍ. لا، بل ذلك هو نفسُ العين الواحدة، وإنّما العلمُ والعقلُ والمعرفةُ حجُبٌ، بعضُها أغلَظُ من بعضٍ. ولا يصير السّالكُ عندهم محقِّقًا حتّى يخرِقَ حجابَ العلم والمعرفة والعقل، فحينئذٍ يفضي إلى ما وراء الحجاب من شهود الوحدة المطلقة التي لا تتقيَّد بقيدٍ، ولا تختصُّ بوصفٍ.
قوله: (الدّرجة الثّالثة: الفناء عن شهود الفناء).
أي يشهد فناءَ كلِّ ما سوى الحقِّ في وجود الحقِّ، ثمّ يشهد الفناءَ قد فني أيضًا، ثمّ يفنى عن شهود الفناء، فذلك هو الفناء حقًّا.
وقوله: (شائمًا برقَ العين). يعني ناظرًا إلى عين الجمع، فإذا شام برقَه من بُعدٍ انتقل من ذلك إلى ركوب لجّة بحر الجمع، وركوبُه إيّاها هو فناؤه في جمعه. ويعني بالجمع: الحقيقة الكونيّة القدريّة التي يجتمع فيها جميعُ المتفرِّقات. وتشميرُ القوم إلى شهودها والاستغراق والفناء فيها فهو غاية السُّلوك والمعرفة عندهم.
وسنذكر إن شاء الله أنّ العبد لا يدخل بهذا الفناء والشُّهود في الإسلام، فضلًا أن يكون به من المؤمنين، فضلًا أن يكون به من خاصَّة أولياء الله المقرّبين! فإنّ هذا شهودٌ مشتركٌ لأمرٍ
(2)
أقرَّت به عبّادُ الأصنام وسائرُ أهل الملل أنّه لا خالق إلّا الله. قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25]، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87].
(1)
ش: "الوجود والشهود".
(2)
م، ش:"لأنه"، تحريف.
فالاستغراقُ والفناءُ في شهود هذا القدر غايتُه التّحقيقُ لتوحيد الرُّبوبيّة الذي أقرَّ به المشركون ولم يدخلوا به في الإسلام. وإنّما الشّأنُ في توحيد الإلهيّة الذي دعت إليه الرُّسلُ، ونزلت
(1)
به الكتبُ، وتميَّزَ به أولياءُ الله من أعدائه، وهو أن لا يُعبَد إلّا الله، ولا يُحَبَّ سواه، ولا يُتوكَّلَ على غيره. والفناء في هذا التّوحيد هو فناء خاصَّة المقرَّبين، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
فصل
إذا عُرِفَ مرادُ القوم بالفناء، فنذكر أقسامه، ومراتبه، وممدوحه ومذمومه ومتوسِّطه.
فاعلم أنَّ الفَناءَ مصدرُ فنيَ يفنى فَناءً، إذا اضمحلَّ وتلاشى وعُدِمَ. وقد يُطلقَ على ما تلاشت قواه وأوصافه مع بقاء عينه، كما قال الفقهاء: لا يُقتَل في المعركة شيخٌ فانٍ. وقال تعالى: {(25) كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا} [الرحمن: 26] أي هالكٌ ذاهبٌ. ولكنَّ القومَ اصطلحوا على وضع هذه اللّفظة لتجريد شهودِ الحقيقة الكونيّة، والغَيبةِ عن شهود الكائنات.
وهذا الاسم يُطلَق على ثلاثة معانٍ: الفناء عن وجود السِّوى، والفناء عن شهود السِّوى، والفناء عن إرادة السِّوى
(2)
.
(1)
ع: "أنزلت".
(2)
تكلم المؤلف على المعاني الثلاثة للفناء في "طريق الهجرتين"(2/ 565 - 569) أيضًا، ومبنى كلامه على قاعدة شيخه في الفناء والبقاء، وهي مطبوعة ضمن "جامع المسائل" (7/ 159 - 197). وانظر أيضًا:"الرد على الشاذلي"(ص 150 - 155)، و"الرد على المنطقيين"(ص 517 - 521)، و"مجموع الفتاوى"(10/ 218 - 223).
فأمّا الفناء عن وجود السِّوى، فهو فناء الملاحدة القائلين بوحدة الوجود، وأنّه ما ثَمَّ غيرٌ
(1)
، وأنَّ غايةَ العارفين والسّالكين الفناءُ في الوحدة المطلقة، ونفيُ التّكثُّر والتّعدُّد عن الوجود بكلِّ اعتبارٍ، فلا يشهد غيرًا أصلًا، بل يشهد وجودَ العبد عينَ وجود الرّبِّ، بل ليس عندهم في الحقيقة ربٌّ وعبدٌ.
وفناءُ هذه الطّائفة في شهود الوجودِ كلِّه واحدًا
(2)
، وهو الواجب بنفسه، ما ثَمَّ وجودان: ممكنٌ، وواجبٌ. ولا يفرِّقون بينَ كون وجود المخلوقات بالله، وبينَ كونِ وجودها هو عين وجوده. وليس عندهم فرقانٌ بين العالمين وربِّ العالمين، ويجعلون الأمر والنّهي للمحجوبين عن شهودهم وفنائهم، وهو تلبيسٌ عندهم. والمحجوبُ عندهم شهِدَ
(3)
أفعاله طاعاتٍ ومعاصي، لأنه في مقام الفرق، فإذا ارتفعت درجته شهِدَ أفعالَه كلَّها طاعاتٍ لا معصية فيها، لشهوده الحقيقةَ الكونيَّةَ الشَّاملةَ لكلِّ موجودٍ. فإذا ارتفعت درجته عندهم فلا طاعة ولا معصية، بل ارتفعت الطّاعات والمعاصي، لأنّها تستلزم اثنينيّةً وتعدادًا
(4)
، وتستلزم مطيعًا ومطاعًا وعاصيًا ومعصيًّا؛ وهذا عندهم محض الشِّرك، والتّوحيد المحض يأباه. فهذا فناء هذه الطّائفة.
وأمّا الفناء عن شهود السِّوى، فهو الفناء الذي يشير إليه أكثر الصُّوفيّة المتأخِّرين، ويعدُّونه غايةً، وهو الذي بنى عليه أبو إسماعيل الأنصاريُّ كتابه
(1)
في ع زاد بعضهم بعده الهاء وكتب فوقه حرف الخاء يعني أن في نسخة أخرى: "غيره".
(2)
مفعول ثان للشهود. وفي ع: "واحد"، وهو خطأ.
(3)
ع: "من يشهد".
(4)
ع: "وتعدّدًا"، وقد سبق مثله.
وجعله الدّرجة الثّالثة في كلِّ بابٍ من أبوابه.
وليس مرادهم فناءَ وجود ما سوى الله تعالى في الخارج، بل فناؤه عن شهودهم وحسِّهم. فحقيقتُه: غَيبةُ أحدهم عن سوى مشهوده، بل غَيبتُه أيضًا عن شهوده ونفسه، لأنّه يغيب بمعبوده عن عبادته، وبمذكوره عن ذكره، وبموجوده عن وجوده، وبمحبوبه عن حبِّه، وبمشهوده عن شهوده. وقد يسمّى حالُ مثلِ هذا سكرًا، واصطلامًا، ومحوًا، وجمعًا؛ وقد يفرِّقون بين معاني هذه الأسماء.
وقد يغلب شهودُ القلب بمحبوبه ومذكوره حتّى يغيبَ به ويفنى به، فيظنّ أنّه اتّحد به وامتزج، بل يظنُّ أنّه نفسُه، كما يحكى أنّ رجلًا ألقى محبوبُه نفسَه في الماء، فألقى المحبُّ نفسَه وراءه، فقال له: ما الذي أوقعك في الماء؟ فقال: غبتُ بك عنِّي، فظننت أنّك أنِّي
(1)
.
وهذا إذا عاد إليه عقلُه يعلم أنّه كان غالطًا في ذلك، وأنّ الحقائق متميِّزةٌ في ذاتها، فالرَّبُّ ربٌّ، والعبدُ عبدٌ، والخالقُ بائنٌ عن المخلوقات، ليس في مخلوقاته شيءٌ من ذاته، ولا في ذاته شيءٌ من مخلوقاته؛ ولكن في حال السُّكر والمحو والاصطلام والفناء قد يغيب عن هذا التّمييز. وفي مثل
(2)
(1)
نقل هذه الحكاية شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع كثيرة من كتبه. انظر مثلًا: "الجواب الصحيح"(3/ 338)، و"منهاج السنة"(5/ 356)، و"مجموع الفتاوى"(2/ 314، 369، 396، 482)، ورسالة إبطال وحدة الوجود ضمن "مجموعة الرسائل والمسائل"(1/ 83).
(2)
كلمة "مثل" ساقطة من ع.
هذه الحال قد يقول صاحبها ما يحكى عن أبي يزيد
(1)
أنّه قال: "سبحاني"
(2)
، أو "ما في الجبّة إلّا الله"
(3)
، ونحو ذلك من الكلمات التي لو صدرت عن قائلها وعقلُه معه لكان كافرًا. ولكن مع سقوط التّمييز والشُّعور قد يرتفع عنه قلمُ المؤاخذة.
وهذا الفناء يُحمَد منه شيءٌ، ويُذَمُّ منه شيءٌ، ويُعفى منه عن شيءٍ.
فيُحمَد منه: فناؤه عن حبِّ ما سوى الله وعن خوفِه ورجائه والتّوكُّلِ عليه والاستعانةِ به والالتفاتِ إليه، بحيث يبقى دينُ العبد ظاهرًا وباطنًا كلُّه لله.
وأمّا عدمُ الشُّعور والعلم، بحيث لا يفرِّق صاحبُه بين نفسه وغيره، ولا بين الرَّبِّ والعبد
(4)
ــ مع اعتقادِه الفرقَ ــ ولا بين شهوده ومشهوده، بل لا
(1)
طَيفور بن عيسى البِسْطامي (188 - 261).
(2)
انظر: "اللُّمع"(ص 390) و"قوت القلوب"(2/ 121). قال صاحب "اللُّمع"(ص 391): "وقد قصدت بسطام وسألت جماعةً من أهل بيت أبي يزيد رحمه الله عن هذه الحكاية، فأنكروا ذلك، وقالوا: لا نعرف شيئًا من ذلك. ولولا أنه شاع في أفواه الناس ودوَّنوه في الكتب ما اشتغلت بذكر ذلك".
(3)
نسبت هذه الكلمة أيضًا إلى أبي يزيد كما هنا في أكثر من كتاب لشيخ الإسلام نحو "قاعدة الفناء والبقاء" في "جامع المسائل"(7/ 160)، و"منهاج السنة"(5/ 357)، و"الرد على الشاذلي"(ص 151) وغيرها. وكذا في "تاريخ الإسلام"(6/ 345) وغيره من كتب الذهبي ولكن لم يذكرها السَّرَّاج في الباب الذي عقده في "اللمع"(ص 380 - 395) في الكلمات الشطحيات التي حكيت عن أبي يزيد. ويظهر من سياق الكلام في "وفيات الأعيان"(2/ 140) أنها من شطحات الحلَّاج.
(4)
ش: "العبد والرب".
يرى السِّوى ولا الغيرَ= فهذا ليس بمحمودٍ، ولا هو وصف كمالٍ
(1)
، ولا هو ممّا يُرْغَب فيه ويؤمَر به. بل غايةُ صاحبه أن يكون معذورًا لعَجزه وضعفِ قلبه وعقله عن احتمالِ التّمييز والفرقان، وإنزالِ كلِّ ذي منزلةٍ منزلتَه موافقةً لداعي العلم، ومقتضى الحكمة، وشهودٍ للحقائق على ما هي عليه، والتّمييزِ بين القديم والمحدَث، والعبادة والمعبود؛ فيُنْزِلُ العبادةَ منازلَها، ويشهدُ مراتبَها ويعطي كلَّ مرتبةٍ منها حقَّها من العبوديّة، ويشهَدُ قيامَه بها فإنّ شهودَ العبد قيامَه بالعبوديّة أكمَلُ في العبوديّة من غَيبته عن ذلك؛ فإنّ أداءَ العبوديّة في حال غَيبة العبد عنها وعن نفسه بمنزلة أداء السّكران والنّائم، وأداؤها في حال كمال يقظته وشعوره بتفاصيلها وقيامه بها أتَمُّ وأكمَلُ وأقوى عبوديّةً.
فتأمَّلْ حالَ عبدين في خدمة سيِّدهما: أحدُهما يؤدِّي حقوق خدمته في حال غَيبته عن نفسه وعن خدمته لاستغراقه بمشاهدة
(2)
سيِّده. والآخَرُ يؤدِّيها في حالِ كمالِ حضوره وتمييزه، وإشعارِ نفسه بخدمةِ السّيِّد وابتهاجِها بذلك فرحًا بخدمته، وسرورًا والتذاذًا منه، واستحضارًا لتفاصيل الخدمة ومنازلها؛ وهو مع ذلك عاملٌ على مراد سيِّده منه، لا على مراده من سيِّده. فأيُّ العبدين أكمل؟
فالفناءُ حظُّ الفاني ومرادُه. والعلمُ والشُّعورُ، والتّمييزُ والفرقُ، وتنزيلُ الأشياء منازلَها وجعلُها في مراتبها= حقُّ الرَّبِّ ومرادُه. ولا يستوي صاحبُ هذه العبوديّة، وصاحبُ تلك. نعم، هذا أكمل حالًا من الذي لا حضور له ولا مشاهدة، بل هو غائبٌ بطبعه ونفسه عن معبوده وعن عبادته. وصاحبُ
(1)
ج: "الكمال"، وكذا كان في ق، ل، فطمست "ال" في ق وضرب عليها في ل.
(2)
ج: "في مشاهدة".
التَّمييز والفرقان ــ وهو صاحب الفناء الثّالث ــ أكمل منهما.
فزوالُ العقلِ والتّمييزِ والغَيبةُ عن شهود نفسه وأفعالها لا يُحمَد، فضلًا عن أن يكون في أعلى مراتب الكمال؛ بل يُذَمُّ إذا تسبَّب إليه وباشَرَ أسبابَه، وأعرض عن الأسباب التي توجب له التّمييز والعقل. ويُعذَر إذا ورد عليه ذلك بلا استدعاءٍ، بل كان مغلوبًا عليه، كما يُعذَر النّائمُ، والمغمى عليه، والمجنونُ، والسّكرانُ الذي لا يُذَمُّ على سُكره كالمُوجَرِ
(1)
والجاهلِ بكون الشَّراب مسكِرًا ونحوهما.
وليس أيضًا هذه الحال بلازمةٍ لجميع السّالكين، بل هي عارضةٌ لبعضهم: منهم من يبتلى بها كأبي يزيد وأمثاله، ومنهم من لا يبتلى بها وهم أكمل وأقوى، فإنَّ الصّحابةَ ــ وهم ساداتُ العارفين وأئمّةُ الواصلين، وقدوةُ السَّالكين ــ لم يكن فيهم من ابتُلي بمثل ذلك
(2)
، مع قوّة إرادتهم، وكثرة منازلاتهم
(3)
، ومعاينة ما لم يعاينه غيرُهم، ولا شَمَّ له رائحةً، ولم يخطُر على قلبه. فلو كان هذا الفناء كمالًا لكانوا هم أحقَّ به وأهلَه، وكان لهم منه
(4)
ما لم يكن لغيرهم.
ولا كان أيضًا هذا حال نبيِّنا صلى الله عليه وسلم
(5)
. ولهذا، في ليلة المعراج، لمّا أُسري به وعايَنَ ما عايَنَ ممّا أراه الله إيّاه من آياته الكبرى لم تعرض له هذه الحال،
(1)
من الوَجُور. وهو الذي صُبَّ المسكِرُ في حلقه وهو كاره.
(2)
ع: "بذلك".
(3)
هي نوع من الواردات القلبية، وقد تقدَّم تفسيرها.
(4)
"منه" ساقط من ش، وكان ساقطًا من الأصل أيضًا فاستدرك فوق السطر.
(5)
ع: "هذا أيضًا لنبيِّنا ولا حالًا من أحواله صلى الله عليه وسلم ".
بل كان كما وصفه الله تعالى بقوله: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 17 - 18]، وقال:{وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60]. قال ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما: هي رؤيا عينٍ، أُرِيَهَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ليلةَ أُسْري به
(1)
. ومع هذا فأصبح بينهم لم يتغيَّر عليه حالُه، ولم يعرِضْ له صَعَقٌ ولا غَشْي، يخبرهم عن تفاصيل ما رأى غيرَ فانٍ عن نفسه ولا عن شهوده. ولهذا كانت حالُه صلى الله عليه وسلم أكملَ من حال موسى بن عمران لمَّا خرَّ صَعِقًا من تجلِّي الله للجبل وجعلِه دكًّا.
فصل
وهذا الفناء له سببان:
أحدهما: قوّة الوارد وضعف المورود. وهذا لا يُذَمُّ صاحبُه.
الثّاني: نقصانُ العلم والتّمييز. وهذا يُذَمُّ صاحبُه، ولا سيَّما إذا أعرض عن العلم الذي يحول بينه وبين هذا الفناء، وذمَّه وذمَّ أهلَه، ورأى ذلك عائقًا من عوائق الطّريق، فهذا هو المذمومُ المخوفُ عليه.
ولهذا عظُمَتْ وصيّةُ أئمَّة القوم بالعلم، وحذَّروا من السُّلوك بلا علمٍ، وأمَروا بهَجْرِ مَن هَجَرَ العلمَ وأعرضَ عنه وعدمِ القبول منه، لمعرفتهم بمآلِ أمرِه وسوءِ عاقبةِ سَيره
(2)
. وعامَّةُ من تزندق من السّالكين فلإعراضه عن دواعي العلم، وسيرِه على جادَّة الذَّوق والوجد والفناء، ذاهبةً به الطّريقُ كلَّ مذهبٍ. فهذا فتنته، والفتنةُ به شديدةٌ! وبالله التّوفيق.
(1)
أخرجه البخاري (3888).
(2)
ع: "عاقبته في سيره".
فصل
وأصل هذا الفناء: الاستغراقُ في توحيد الرُّبوبيّة، وهو رؤيةُ تفرُّدِ الله تعالى بخلق الأشياء وملكها واختراعها، وأنّه ليس في الوجود قطُّ إلّا ما شاءه وكوَّنه. فيشهد ما اشتركت فيه المخلوقاتُ من خلقِ الله إيّاها، ومشيئتهِ لها، وقدرتِه عليها، وشمولِ قيُّوميَّته وربوبيَّته لها؛ ولا يشهد ما افترقت فيه من محبّة الله لهذا وبغضه لهذا، وأمره بما أمرَ به ونهيِه عمّا نهى عنه، وموالاته لقومٍ ومعاداته لآخرين.
فلا يشهد التّفرقةَ في الجمع، وهي: تفرقةُ الخلق والأمر في جمع الرُّبوبيّة، تفرقةُ موجَبِ الإلهيّة في جمع الرُّبوبيّة
(1)
، تفرقةُ
(2)
الإرادة الدِّينيّة في جمع الإرادة الكونيّة، تفرقةُ ما يحبُّه ويرضاه في جمعِ
(3)
ما قدَّره وقضاه.
ولا يشهد الكثرةَ في الوحدة، وهي: كثرةُ معاني الأسماء الحسنى والصِّفات العُلا، واقتضاؤها لآثارها في وحدة الذّات الموصوفة بها؛ فلا يشهد كثرةَ دلالات أسماء الرّبِّ تعالى وصفاته على وحدة ذاته. فهو الله الذي لا إله إلّا هو، الرَّحمن الرَّحيم الملك القدُّوس السَّلام المؤمن المهيمن العزيز الجبّار المتكبِّر. وكلُّ اسمٍ له صفةٌ، وللصِّفة حكمٌ، فهو سبحانه واحدُ الذّات، كثيرُ الأسماء والصِّفات. فهذه كثرةٌ في وحدةٍ.
والفرقُ بين مأموره ومنهيِّه، ومحبوبه ومبغوضه، ووليِّه وعدوِّه= تفرقةٌ في جمعٍ.
(1)
"تفرقة موجب
…
الربوبية" ساقط من ش.
(2)
ج، ش:"معرفة"، تحريف. وكذا كان في ق، م ثم أصلح.
(3)
ش: "جميع"، خطأ.
فمن لم يتّسع شهودُه لهذه الأمور الأربعة، فليس من خاصَّة أولياء الله العارفين؛ بل إن ضاق شهودُه عنها مع اعترافه بها فهو مؤمنٌ ناقصٌ. وإن جحدها ــ أو شيئًا منها ــ فكفرٌ صريحٌ أو بتأويلٍ، مثل أن يجحد تفرقةَ الأمر والنّهي، أو جمعَ
(1)
القضاء والقدر، أو كثرةَ معاني الأسماء والصِّفات أو وحدة الذّات.
فليتدبَّر اللَّبيبُ السَّالكُ هذا الموضعَ حقَّ التَّدبُّر، وليعرف حقَّ قدره
(2)
، فإنّه مجامعُ طُرقِ العالَمين وأصلُ تفرُّقهم، قد ضبطتُ لك معاقدَه، وأحكمتُ لك قواعدَه. وبالله تعالى التّوفيق.
وإنّما يعرف قدرَ هذا مَن اجتاز
(3)
القِفارَ، واقتحم البِحارَ، وعرض له ما يعرض لسالك القفر وراكب البحر. ومن لم يسافر ولم يخرج عن وطن طبعه ومَرْباه، وما ألِفَ عليه أصحابَه وأهلَ زمانه، فبمعزلٍ
(4)
عن هذا. فإن عرَف قدرَه، وكفى النّاسَ شرَّه، فهذا تُرجى له السّلامة. وإن عدا طورَه، وأنكر ما لم يعرفه، وكذَّب بما لم يُحِط بعلمه
(5)
، ثمّ تجاوز إلى تكفير من خالفَه ولم يقلِّد شيوخه ويرضى
(6)
بما رضي هو به لنفسه، فذلك الظّالمُ الجاهل الذي ما ضَرَّ إلّا نفسَه ولا أضاعَ إلّا حظَّه.
(1)
ل: "جميع"، خطأ.
(2)
ع: "وليعرف قدره".
(3)
ش: "اجتاب".
(4)
ع: "فهو بمعزل".
(5)
ع: "به علمًا".
(6)
كذا بإثبات حرف العلة في جميع النسخ. يعني: "ولم يرضَ".
فصل
ويعرض للسّالك على درب الفناء معاطب ومهالك، لا ينجيه منها إلّا بصيرةُ العلم، التي إن صَحِبَتْه في سَيره، وإلّا فبسبيلِ مَن هلك
(1)
.
منها: أنّه إذا اقتحم عقَبةَ الفناء ظنَّ أنَّ صاحبَها قد سقط عنه الأمرُ والنّهيُ، لتشويشِه على الفناء ونقضِه له ــ والفناء عنده غايةُ العارفين ونهاية التّوحيد ــ فيرى تركَ كلِّ ما أبطله وأزاله من أمرٍ أو نهيٍ أو غيرهما.
ويصرِّح بعضُهم بأنّه إنّما يسقط الأمر عمَّن شهد الإرادة
(2)
، وأمّا من لم يشهدها فالأمرُ والنّهيُ لازمٌ له. ولا يعلم هذا المغرورُ أنَّ غايةَ ما معه: الفناءُ في توحيد أهل الشِّرك الذي أقرُّوا به ولم يكونوا به مسلمين البتّة، كما قال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25]. وقال: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ
(1)
ل: "بسبيل". وفي ج: "فسبيل"، يعني:"فسبيلُ من هلك سبيلُه" كما جاء في حديث ابن مسعود في "مسند أحمد"(3707) وغيره: "فإن هلكوا فسبيلُ من هلك
…
". وقد أثبت ما في الأصل وغيره لورود مثله في "إغاثة اللهفان" (2/ 899): "فإن تدارك ذلك بالتوبة النصوح وإلا فبسبيل من هلك". وسيأتي في فصل التوبة (ص 534): "وإن هلك بهما فبسبيل من هلك". وكأن الباء في كلام المؤلف جاءت قياسًا على الباء في "فبها ونعمت" المحذوفة في جواب "إن صحبَتْ" و"إن تدارك".
(2)
انظر: "منهاج السنة"(3/ 76)، و"مجموع الفتاوى"(10/ 165)، و"قاعدة في الفناء والبقاء" ضمن "جامع المسائل"(7/ 163 - 164) وهذه الفقرة مع الآيات منقولة منها، وكذا ما بعدها.
قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 84 - 89]. وقال: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106]. قال ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما: تسألهم من خلق السّماوات والأرض؟ فيقولون: الله، وهم يعبدون غيره
(1)
.
ومن كان هذا التّوحيدُ والفناءُ فيه غايةَ توحيده انسلخ من دين الله ومن جميع رسله وكتبه، إذ لم يتميَّز عنده ما أمر الله به ممّا نهى عنه، ولم يفرِّق بين أولياء الله وأعدائه، ولا بين محبوبه ومبغوضه، ولا بين المعروف والمنكر؛ فسوَّى بين المتّقين والفجّار، والطّاعة والمعصية؛ بل ليس عنده في الحقيقة إلّا طاعةٌ، لاستواء الكلِّ في الحقيقة التي هي المشيئة العامَّة الشَّاملة.
ثمّ صاحبُ هذا المقام يظنُّ أنّه صاحب الجمع والتّوحيد، وأنّه وصل إلى عين الحقيقة، وإنّما وصل إلى الحقيقة الشّاملة التي يدخل فيها إبليس وجنوده أجمعون وكلُّ كافرٍ ومشركٍ وفاجرٍ، فإنَّ هؤلاء كلَّهم تحت الحقيقة الكونيّة القدريّة. فغايةُ صاحب هذا المشهد وصولُه إلى
(2)
أن يشهد استواءَ هؤلاء والمؤمنين الأبرار وأولياءِ الله وخاصَّةِ عباده في هذه الحقيقة.
ومع هذا، فلا بدّ له من الفرقِ والموالاةِ والمعاداةِ ضرورةً، فينسلخُ عن الفرق الشّرعيِّ، فيعود إلى الفرق الطَّبعيِّ بهواه وطبعه، إذ لا بدّ أن يفرِّق بين
(1)
عزاه في "الدر المنثور"(4/ 593) إلى ابن جرير وابن أبي حاتم وأبي الشيخ. وقد أخرجه ابن جرير في "تفسيره"(13/ 373)، والبخاري في "خلق أفعال العباد"(ص 100) عن عكرمة.
(2)
حرف "إلى" ساقط من ج، م.
ما ينفعه فيميلَ إليه، ويضرُّه فيهربَ منه. فبينا هو منكرٌ على أهل الفرق الشّرعيِّ ناكبًا عن طريقتهم إلى عين الجمع، إذ انتكس وارتكس وعاد إلى الفرق الطَّبعيِّ النّفسيِّ، فيوالي ويعادي ويحبُّ ويبغضُ بحسب هواه وإرادته! فإنّ
(1)
الفرق أمرٌ ضروريٌّ للإنسان، فمن لم يكن فرقُه قرآنيًّا محمَّديًّا، فلا بدَّ له من قانونٍ يفرِّق به: إمّا سياسةُ سائسٍ فوقه، أو ذوقٌ منه أو من غيره، أو رأيٌ منه أو من غيره، أو يفرِّق فرقًا بهيميًّا حيوانيًّا بحسب مجرّد شهوته وغرضه
(2)
أين توجّهت به= فلا بدّ من التّفريق بأحد هذه الوجوه.
فلينظر العبد مَن الحاكمُ عليه في الفرق، وَلْيزِنْ به إيمانَه قبل أن يوزن، وَلْيحاسِبْ نفسَه قبل أن يُحاسَب، وليستبدل الذّهبَ بالخزف، والدُّرَّ بالبعر، والماءَ الزُّلال بالسَّرابِ الذي {بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ} [النور: 39] قبلَ أن يسأل الرّجعةَ إلى دار الصَّرف، فيقالَ: هيهات! اليومُ يومُ الوفاء، وما مضى فقد فات، أُحْصِيَ المستخرَجُ والمصروفُ، وستعلم الآن ما معك من النّقد الصّحيح والزُّيوف!
وأصحابُ هذه الحقيقة أتباعُ كلِّ ناعقٍ، يميلون مع كلِّ صائحٍ، لم يستضيئوا بنورالعلم، ولم يلجؤوا إلى ركنٍ وثيقٍ. وإذا تناهوا في حقيقتهم وأضافوا الجميعَ إلى الله إضافةَ المحبّة والرِّضا، وجعلوها عينَ المشيئة والخلق، ضاهؤوا الذين قال الله فيهم: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا
(1)
ش: "وإن".
(2)
ج: "وأغراضه".
أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ}
(1)
[الأنعام: 148]، وقولهم:{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ}
(2)
[النحل: 35]، وقولَهم عن آلهتهم:{لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 20]، وقولهم إذا فعلوا فاحشةً:{وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا}
(3)
[الأعراف: 28]، فاحتجُّوا بإقرار الله لهم قدرًا وكونًا على رضاه ومحبّته وأمره، وأنّه لو كره ذلك لحال بينهم وبينه، ولما أقرَّهم عليه؛ فجعلوا قضاءَه وقدرَه عينَ محبّته ورضاه. ووَرِثهم مَن سوَّى بين المخلوقات ولم يفرِّقْ بالفرق النَّبويِّ القرآنيِّ.
وطائفةٌ من المشركين ذكرت ذلك معارضين لأمر الله ونهيه وما بعَثَ به رسلَه بقضائه وقدره، فعارضوا الحقيقةَ الدِّينيَّةَ الشَّرعيَّةَ بالحقيقة الكونيَّة القدريَّة. ووَرِثهم مَن يحتجُّ بالقضاء والقدر في مخالفة الأمر والنّهي.
وكلا الطّائفتين
(4)
أبطلت أمره ونهيه بقضائه وقدره.
وظنّت طائفةٌ ثالثةٌ أنّ إثباتَ القضاء والقدر يُبطل الشّرائع والنُّبوّات، وأنّ المشركين احتجُّوا على بطلانها بإثباته، فجعلت التّكذيبَ به من أصول
(1)
لم ترد هذه الآية في ع. ووقع في النسخ الأخرى في أول الآية سهوًا: "وقال الذين أشركوا"، فأصلح في ل وحدها.
(2)
وردت الآية في ع بزيادة "وقال الذين أشركوا" في أولها.
(3)
هكذا في ع، وهو مقتضى السياق غير أن بعضهم استدرك في هامشها "قالوا" في أول الآية كما في النسخ الأخرى.
(4)
كذا بتذكير "كلا"، وله نظائر كثيرة في كتب المصنف وشيخه. انظر ما علقت على "طريق الهجرتين"(2/ 505).
الإيمان، بل أعظم
(1)
أصوله، فردّت قضاء الله وقدره الشّامل العامّ بأمره ونهيه
(2)
.
فانظر إلى اقتسام الطّوائف هذا
(3)
الموضعَ، وافتراقهم في مفرَقِ هذه الطّريق علمًا وخبرًا
(4)
وسلوكًا وحقيقةً، وتأمَّلْ أحوالَ الخلق في هذا المقام= ينكشِفْ لك أسرارُ العالمين، وتعرف أين أنت وأين مقامك؟ وتعلم ما جنى هذا الجمعُ وهذا الفناءُ على الإيمان، وما خرَّب من القواعد والأركان! وتتحقَّق حينئذٍ أنَّ الدِّينَ كلَّه فرقانٌ في قرآنٍ
(5)
: فرقٌ في جَمْعٍ، وكثرةٌ في وحدةٍ، كما تقدَّم بيانه؛ وأنّ أولى النّاس بالله ورسله وكتبه ودينه أصحابُ الفرق في الجمع، فيقومون بالفرق بين ما يحبُّه الله ويبغضه، ويأمر به وينهى عنه، ويواليه ويعاديه علمًا وشهودًا، وإرادةً وعملًا، مع شهودهم الجمعَ لذلك كلِّه في قضائه وقدره ومشيئته الشَّاملة العامَّة، فيؤمنون بالحقيقة الدِّينيّة والكونيّة، ويعطون كلَّ حقيقةٍ حظَّها من العبادة.
فحظُّ الحقيقة الدِّينيّة: القيامُ بأمره ونهيه، ومحبّةُ ما يحبُّه وكراهةُ ما
(1)
ج، ش:"من أعظم" بزيادة "من".
(2)
وانظر: "طريق الهجرتين"(1/ 188 - 192).
(3)
م: "في هذا". وفي ش: "انقسام الطوائف في هذا".
(4)
ضبط في ق بضم الخاء.
(5)
خلافًا لصاحب "الفصوص"(ص 70) الذي قال في النص الثالث: "واعلم أنَّ الأمرَ قرآنٌ، لا فرقانٌ". ويكنون بالقرآن عن رؤية التفرقة بعين الجمع، وهي عندهم أكمل مقامات العارفين. انظر:"لطائف الإعلام" للقاشاني (2/ 561، 581). وانظر: "الروح" للمؤلف (2/ 725) وقد ضبط في طبعته الثانية خطأً: "قِرَان" فليصلح.
يكرهه، وموالاةُ من والاه ومعاداةُ من عاداه؛ وأصلُ ذلك: الحبُّ فيه والبغض فيه. وحظُّ الحقيقة الكونيّة: إفرادُه بالافتقارِ إليه، والاستعانةِ به، والتّوكُّلِ عليه، والالتجاءِ إليه؛ وإفرادُه بالسُّؤالِ والطَّلبِ والتّذلُّلِ له والخضوعِ، والتّحقُّقُ بأنّه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يملكُ أحدٌ سواه لهم
(1)
ضرًّا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا، وأنّه مقلِّبُ
(2)
القلوب، فقلوبُهم ونواصيهم بيده، وأنّه ما من قلبٍ إلّا وهو بين إصبعَين من أصابعه، إن شاء أن يُقيمه أقامه، وإن شاء أن يُزيغه أزاغه.
فلهذه الحقيقة عبوديّةٌ، ولهذه الحقيقة عبوديّةٌ
(3)
، ولا تُبطِل إحداهما الأخرى
(4)
، بل لا تتمُّ إلّا بها، ولا تتمُّ العبوديّة إلّا بمجموعهما. وهذا حقيقة قوله:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} بخلاف من أبطل حقيقة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} بحقيقة {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، وقال: إنّها جمعٌ، و {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} فرقٌ. وإذا غلا في هذا المشهد لم يستحسِنْ حسنةً، ولم يستقبِحْ قبيحةً. ويصرِّح بذلك ويقول: العارف لا يستحسن حسنةً ولا يستقبح قبيحةً لاستبصاره بسرِّ القدر
(5)
.
(1)
"لهم" ساقط من ش.
(2)
ش: "يقلب".
(3)
الجملة الثانية من ع وحدها.
(4)
ج، ش:"بالأخرى".
(5)
نقله المؤلف في غير موضع من هذا الكتاب وغيره، وعزاه في "شفاء العليل"(ص 14) إلى "شيخ الملحدين ابن سينا في إشاراته"، ولعله يقصد قوله في "الإشارات" (4/ 114):"العارف لا يعنيه التحسس والتجسس، ولا يستهويه الغضب عند مشاهدة المنكر كما تعتريه الرحمة، فإنه مستبصر بسرِّ الله في القدر". وهذا المعنى بعينه سيأتي في كلام صاحب "المنازل" في لطائف أسرار التوبة: "اللطيفة الثالثة: أنَّ مشاهدة الحكم لم تدع له استحسان حسنة ولا استقباح سيئة
…
" وشيخ الإسلام لما ذكر هذه المقولة قال: "كما ذكر ذلك صاحب منازل السائرين". انظر: "مجموع الفتاوى" (13/ 213)، و"الرد على الشاذلي" (ص 153)، و"منهاج السنة" (5/ 359).
ومنهم من يقول: حقيقة هذا المشهد أن يشهد الوجودَ كلَّه حسنًا لا قبيحَ فيه، وأفعالَهم كلَّها طاعاتٍ لا معصيةَ فيها، لأنّهم، وإن عصوا الأمر، فهم يطيعون المشيئة، ويقولون:
أصبحتُ منفعلًا لما تختاره
…
منِّي ففعلي كلُّه طاعاتُ
(1)
ويقول قائلهم: من شهد الحقيقةَ سقط عنه الأمرُ. ويحتجُّون بقوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99] ويفسِّرون "اليقين" بشهود الحكمِ الكونيِّ، وهي الحقيقةُ عندهم
(2)
. ولا ريب أنَّ العامَّةَ خيرٌ من هؤلاء وأصحُّ إيمانًا، فإنَّ هذا زندقةٌ ونفاقٌ، وكذبٌ منهم على أنفسهم ونبيِّهم وإلههم.
أمّا كذبُهم على أنفسهم، فإنَّهم لا بدَّ أن يفرِّقوا قطعًا، فرغبوا عن الفرق
(1)
البيت لابن إسرائيل محمد بن سوَّار الشاعر الصوفي الدمشقي (ت 677) كما في "مجموع الفتاوى"(8/ 257)، وقد أنشده شيخ الإسلام والمصنف في غير موضع من كتبهما. انظر مثلًا:"قاعدة الفناء والبقاء" في "جامع المسائل"(1/ 170)، و"منهاج السنة"(3/ 25)، و"طريق الهجرتين"(1/ 55)، وسيأتي في هذا الكتاب أكثر من مرة.
(2)
انظر: "جامع المسائل"(7/ 168)، (4/ 278 - 279)، و"مجموع الفتاوى"(10/ 165 - 166)، (13/ 267)، و"منهاج السنة"(3/ 76).
النّبويِّ القرآنيِّ، فوقعوا في الفرق النّفسيِّ الطّبعيِّ، مثل حال إبليس، تكبَّر عن السُّجود لآدم، ورضي لنفسه بالقيادة لفُسَّاق ذرِّيّته! ومثل المشركين تكبَّروا عن عبادة الله، ورضُوا لأنفسهم عبادةَ الأحجار والأوثان! ومثل أهل البدع تكبَّروا عن تقليد النُّصوص وتلقِّي الهدى من مشكاتها، ورضُوا لأنفسهم بتقليد أقوالٍ مخالفةٍ للفطرة والعقل والشّرع، وظنُّوها قواطع عقليّةً، وقدَّموها على نصوص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهي في الحقيقة شبهاتٌ باطلةٌ مخالفةٌ للسَّمع والعقل.
ومثل الجهميَّة الأولى نزَّهوا الرَّبَّ عن عرشه، وجعلوه في أجواف البيوت والحوانيت والحمّامات، وقالوا: هو في كلِّ مكانٍ بذاته، ونزَّهوه عن صفات كماله ونعوت جلاله حذرًا ــ بزعمهم ــ من التَّشبيه، فشبّهوه بالجامدات النّاقصة الخسيسة التي لا تتكلَّم، ولا لها سمع ولا بصر ولا علم ولا حياة، بل شبَّهوه بالمعدومات الممتنعِ وجودُها.
ومثل المعطِّلة الذين قالوا: ما فوق العرش إلّا العدم، وليس فوق العرش ربٌّ يُعبَد، ولا إلهٌ يُصلَّى له ويُسْجَد، ولا تُرفَعُ الأيدي إليه، ولا رُفِعَ المسيحُ إليه، ولا تعرجُ الملائكةُ والرُّوح إليه، ولا أُسْري برسول الله صلى الله عليه وسلم إليه ودنا منه حتّى كان قاب قوسين أو أدنى، ولا ينزل من عنده شيءٌ، ولا يصعد إليه شيءٌ، ولا يراه أهلُ الجنّة من فوقهم يوم القيامة. واستواؤه على عرشه لا حقيقة له، بل على المجاز الذي يصحُّ نفيُه. وعلوُّه فوق خلقه بالرُّتبة والشّرف، لا بالذّات. وكذلك فوقيَّتُه فوقيَّةُ قهرٍ، لا فوقيّة ذاتٍ. فنزَّهوه عن كمال علوِّه وفوقيّته، ووصفوه بما ساوَوْا
(1)
به بينه وبين العدم المستحيل،
(1)
ج: "شابهوا"، تحريف.
فقالوا: لا داخلَ العالم، ولا خارجَه، ولا متصلًا به، ولا منفصلًا عنه، ولا محايثًا له، ولا مباينًا له، ولا هو فينا، ولا خارجٌ عنّا. ومعلومٌ أنّه لو قيل لأحد: صِفْ لنا العَدَمَ، لوصفه بهذا بعينه! وانطباقُ هذا السَّلب على العدم المحض أقرب إلى العقول والفِطَر من انطباقه على ربِّ العالمين الذي ليس في مخلوقاته شيءٌ من ذاته، ولا في ذاته شيءٌ من مخلوقاته، بل هو بائنٌ عن خلقه، مستوٍ على عرشه، عالٍ على كلِّ شيءٍ، وفوق كلِّ شيءٍ.
والقصد: أنَّ كلَّ من أعرض عن شيءٍ من الحقِّ وجَحَده وقَع في باطلٍ مقابلٍ لما أعرض عنه من الحقِّ وجَحَده، ولا بدَّ؛ حتّى في الأعمال، مَن رغب عن العمل لوجه الله وحدَه ابتلاه الله بالعمل لوجوه الخلق، فرغب عن العمل لِمَن ضرُّه ونفعُه وموتُه وحياتُه ونشورُه وسعادتُه بيده، فابتلي بالعمل لمن لا يملك له شيئًا من ذلك.
وكذلك مَن رغِبَ عن إنفاق ماله لله وفي طاعته
(1)
، ابتُلِيَ بإنفاقه لغير الله، وهو راغمٌ
(2)
. وكذلك مَن رغِبَ عن التَّعب لله ابتُلِيَ بالتَّعب في خدمة الخلق
(3)
، ولا بدّ. وكذلك مَن رغِبَ عن الهدي بالوحي ابتُلِيَ بكُناسةِ الآراء وزُبالةِ الأذهان ووسَخِ الأفكار.
فليتأمَّلْ من
(4)
يريد نصحَ نفسه وسعادتَها وفلاحَها هذا الموضعَ في نفسه وفي غيره. والله المستعان.
(1)
ع: "ما له في طاعة الله".
(2)
"وكذلك من رغب
…
راغم" ساقط من ج.
(3)
ج: "عن التعبد لله ابتلي بخدمة الخلق".
(4)
ل: "ثم"، تحريف.
ولا ريب أنّ العامّة ــ مع غفلتهم وشهواتهم ــ أصحُّ إيمانًا من هؤلاء، إذ
(1)
لم يعطِّلوا الأمر والنّهي؛ فإنَّ إيمانًا مع تفرقةٍ وغفلةٍ خيرٌ من شهودٍ وجمعيّةٍ يصحَبها فسادُ الإيمان والانسلاخُ منه.
وأمّا كذبُهم على نبيِّهم، فاعتقادُهم أنّه إنّما كان قيامُه بالأوراد والعبادات لأجل التَّشريع، لا لأنَّها فرضٌ عليه، إذ قد سقط عنه
(2)
ذلك بشهود الحقيقة وكمال اليقين؛ فإنّ الله عز وجل أمَرَه وأمَرَ سائرَ رسله بعبادته إلى حين انقضاء آجالهم، فقال:{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99] وهو الموت بالإجماع، كما قال في الآية الأخرى عن الكفّار:{مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46)} [المدثر: 46 - 47]. وقال صلى الله عليه وسلم: "أمّا عثمان بن مظعونٍ فقد جاءه اليقينُ من ربِّه"
(3)
قاله لمّا مات عثمان. وقال المسيح صلى الله على نبينا وعليه وسلَّم: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم: 30 - 31]. فهذه وصيّةُ الله تعالى للمسيح عليه السلام، وكذلك لجميع أنبيائه ورسله وأتباعهم. قال الحسن رضي الله عنه: لم يجعل الله لعبادة المؤمن
(4)
أجلًا دون الموت
(5)
.
(1)
ج، م:"إذا"، وطمست الألف في ش.
(2)
"عنه" ساقط من ع.
(3)
أخرجه البخاري (1243) وقد تقدَّم.
(4)
ج: "لعبادته". وفي ع: "لعبده المؤمن". وفي ش: "لعباده المؤمنين"، وكذا غُيِّر في م.
(5)
أخرجه ابن المبارك في "الزهد"(18) وأحمد في "الزهد"(ص 221) وابن المقرئ في "معجمه"(720). وانظر: "درء التعارض"(3/ 273) و"الاستقامة"(1/ 418).
وإذا
(1)
جمع هؤلاء التّجهُّمَ في الأسماء والصِّفات إلى شهود هذه الحقيقة والوقوف عندها، فأعاذك الله من تعطيل الرَّبِّ وشرعِه بالكلِّيّة، فلا ربٌّ يُعبَد، ولا شرعٌ يُتّبع بالكلِّيّة!
ومن أراد الوقوف على حقيقة ما ذكرنا فليسيِّر طرفَه بين تلك المعالم، وليقف على تلك المعاهد، وليسأل الأحوالَ والرُّسومَ والشَّواهدَ، فإن لم تُجِبْه حِوارًا
(2)
، أجابته حالًا واعتبارًا. وإنّما يصدِّق بهذا من رافق السّالكين، وفارق القاعدين، وتبوّأ الإيمان
(3)
، وفارق عوائد أهل الزّمان، ولم يرض بقول القائل:
دع المعاليَ لا تنهَضْ لبغيتها
…
واقعُدْ فإنَّكَ أنت الطَّاعم الكاسي
(4)
(1)
ج: "فإذا".
(2)
في م ضبطه بكسر الحاء ووضع تحتها علامة الإهمال. وفي ل، ع:"جُؤَارًا" كذا مضبوطًا، ورسمه في ق يحتمل أيضًا هذا الضبط. وفي هامش ع أن في نسخةٍ "جوابًا". والجؤار: قيل إنه الصياح ورفع الصوت ولكن بالدعاء والتضرع. والعبارة مشهورة من كلام الفضل بن عيسى الرَّقاشي، وفيها "حوارًا". انظر:"البيان والتبيُّن"(1/ 81، 308)، و"مجموع الفتاوى"(12/ 450)، (14/ 174). ومثله جاء في كلام المصنف في "روضة المحبين"(ص 283).
(3)
ج: "عوائد الإيمان"، والظاهر أن الناسخ وجد كلمة "عوائد" في هامش الأصل فأخطأ موضعها.
(4)
من الأبيات السائرة للحطيئة. انظر: "ديوانه" نشرة نعمان طه (ص 50) والرواية: "دع المكارم لا ترحل".
فصل
الدّرجة الثّالثة من درجات الفناء: فناءُ خواصِّ الأولياء وأئمّة المقرَّبين، وهو الفناء عن إرادة السِّوى شائمًا برقَ الفناء عن إرادة ما سواه، سالكًا سبيلَ الجمع على ما يحبُّه ويرضاه، فانيًا بمراد محبوبه منه عن مراده هو من محبوبه، فضلًا عن إرادة غيره. قد اتَّحَدَ مرادُه بمراد محبوبه ــ أعني المرادَ الدِّينيَّ الأمريَّ، لا المرادَ الكونيَّ القدريَّ ــ فصار المرادان واحدًا.
وليس في العقل اتِّحادٌ صحيحٌ إلّا هذا، والاتِّحاد في العلم والخبر، فيكون المرادان والمعلومان والمذكوران واحدًا، مع تباين الإرادتين والعِلمين والخبرين. فغايةُ المحبّة اتِّحادُ مراد المحبِّ بمراد المحبوب، وفناءُ إرادة المحبِّ في مراد المحبوب. فهذا الاتِّحادُ والفناءُ هو اتِّحادُ خواصِّ المحبِّين وفناؤهم، قد فَنُوا بعبادته عن عبادة ما سواه، وبحبِّه وخوفه ورجائه والتّوكُّل عليه والاستعانة به والطّلب منه عن حبِّ ما سواه وخوفه ورجائه والتّوكُّل عليه.
ومن تحقيق هذا الفناء: أن لا يحبَّ إلّا في الله، ولا يبغض إلّا فيه، ولا يوالي إلّا فيه، ولا يعادي إلّا فيه، ولا يعطي إلّا له، ولا يمنع إلّا له، ولا يرجو إلّا إيَّاه، ولا يستعين إلّا به. فيكون دينُه كلُّه ظاهرًا وباطنًا لله، ويكون الله ورسوله أحبَّ إليه ممّا سواهما، فلا يوادُّ من حادَّ اللهَ ورسولَه ولو كان أقربَ الخلق إليه، بل:
يعادي الذي عادى من النّاس كلِّهم
…
جميعًا ولو كان الحبيبَ المصافيا
(1)
(1)
من قصيدة لأبي قيس صِرْمة بن أبي أنس الأنصاري في "سيرة ابن هشام"(1/ 512). وقد أنشده المصنف ضمن أبيات في "زاد المعاد"(3/ 73)، و"روضة المحبين" (ص 389). والرواية:"نعادي"، ولعل المصنف غيَّرها ليناسب السياق.
وحقيقة ذلك: فناؤه عن هوى نفسه وحظوظها بمَراضي ربِّه وحقوقه.
والجامعُ لهذا كلِّه: تحقيقُ شهادة أن لا إله إلّا الله علمًا ومعرفةً وعملًا وحالًا وقصدًا.
وحقيقةُ هذا النّفي والإثبات الذي تضمَّنته هذه الشّهادةُ هو: الفناء والبقاء، فيفنى عن تألُّهِ ما سواه علمًا وإقرارًا وتعبُّدًا، ويبقى بتألُّهِه وحده. فهذا الفناء وهذا البقاء هو حقيقة التَّوحيد الذي اتفقت عليه المرسلون، وأُنزلت به الكتب، وخُلِقت لأجله الخليقة، وشُرِعت له الشّرائع، وقامت عليه سوقُ الجنّة، وأُسِّس عليه الخلقُ والأمرُ.
وحقيقتُه أيضًا: البراء والولاء: البراءُ من عبادة غير الله، والولاءُ لله، كما قال تعالى:{(3) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ} [الممتحنة: 4]. وقال
(1)
إبراهيم لأبيه وقومه: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف: 26 - 27]، وقال أيضًا:{قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا} [الأنعام: 78 - 79]. وقال الله لرسوله: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)} إلى آخر السورة. وهذه براءةٌ منهم ومن معبودهم، وسمَّاها براءةً من الشِّرك
(2)
.
(1)
ش، ع:"وإذ قال"، وفي ج:"وقوله تعالى: وإذ قال".
(2)
سمَّاها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث نوفل الأشجعي، أخرجه أحمد (23807)، (24009/ 49، 50) والدارمي (3470) وأبو داود (5055) والترمذي (3403) والنسائي في "الكبرى"(10569، 10570، 11645) وغيرهم من طرق عن أبي إسحاق السبيعي عن فروة بن نوفل الأشجعي عن أبيه مرفوعًا. وقد اختُلف على أبي إسحاق في إسناده، وقد رجح الترمذي والدارقطني في "العلل"(3174) الوجه المذكور. والحديث صححه ابن حبان (790، 5526، 5546) والحاكم (2/ 632)، وحسَّنه الحافظ في "نتائج الأفكار"(3/ 61).
وهي حقيقة المحو والإثبات، فيمحو إلهيَّةَ ما سوى الله من قلبه علمًا وقصدًا وعبادةً، كما هي ممحوَّةٌ من الوجود، ويُثبِت فيه إلهيّتَه سبحانه وحده.
وهي حقيقة الجمع والفرق، فيفرِّق بين الإله الحقِّ ومَن ادُّعِيَتْ له الإلهيّةُ بالباطل، ويجمع تألُّهَه وعبادتَه وحبَّه وخوفَه ورجاءَه وتوكُّلَه واستعانتَه على إلهه الحقِّ الذي لا إله سواه.
وهي حقيقة التّجريد والتّفريد، فيتجرَّد عن عبادة ما سواه، ويُفرده وحده بالعبادة. فالتّجريد نفيٌ، والتّفريد إثباتٌ، ومجموعهما هو التّوحيد.
فهذا الفناء والبقاء، والولاء والبراء، والمحو والإثبات، والجمع والفرق
(1)
، والتَّجريد والتَّفريد= المتعلِّقُ بتوحيد الإلهيّة: هو النّافع المثمر المُنجي الذي به تنال السّعادة والفلاح.
وأمّا تعلُّقُه بتوحيد الرُّبوبيّة الذي أقرَّ به المشركون عُبَّادُ الأصنام، فغايتُه فناءٌ في تحقيق توحيدٍ مشتركٍ بين المؤمنين والكفّار وأولياء الله وأعدائه، لا يصير به وحده الرّجلُ مسلمًا، فضلًا عن كونه عارفًا محقِّقًا.
(1)
ش: "التفرق".
وهذا الموضع ممّا غلِطَ فيه من أكابر الشُّيوخ وأصحاب الإرادة مَن غلِط، والمعصوم من عصَمه الله، وبالله المستعان
(1)
.
* * * *
(1)
السياق في ع: "وهذا الموضع يكثر من غلط فيه من أكابر الشيوخ وأصحاب الإرادة ممن غلظ حجابه، والمعصوم من عصمه الله، وبالله المستعان والتوفيق والعصمة".