المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الحكم بغير ما أنزل الله - مدارج السالكين - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة التحقيق

- ‌تحرير عنوان الكتاب

- ‌توثيق نسبة الكتاب للمؤلف

- ‌تاريخ تأليفه

- ‌موضوع الكتاب وترتيب مباحثه

- ‌منهج المؤلف فيه

- ‌«منازل السائرين» وشروحه

- ‌مقارنة الكتاب بأهم شروح «المنازل»

- ‌تعقبات ابن القيم على الهروي

- ‌موارد الكتاب

- ‌أثره في الكتب اللاحقة

- ‌مختصرات ودراسات عن الكتاب

- ‌نسخ الكتاب الخطية

- ‌طبعات الكتاب

- ‌منهج التحقيق

- ‌نماذج من النسخ الخطية

- ‌ مراتب الهداية الخاصّة والعامّة

- ‌المرتبة الثّالثة: إرسال الرّسول الملكيِّ إلى الرّسول البشريِّ

- ‌المرتبة الرّابعة: مرتبة المحدَّث

- ‌المرتبة السابعة: البيان الخاصُّ

- ‌العبادة تجمع أصلين:

- ‌الاستعانة تجمع أصلين:

- ‌ نفاة الحِكَم والتّعليل

- ‌ القدريّة النفاة

- ‌ لزوم {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} لكلِّ عبد إلى الموت

- ‌ انقسام العبوديّة إلى عامّةٍ وخاصّةٍ

- ‌رحى العبوديّة تدور على خمس عشرة قاعدةً

- ‌ عبوديّات اللِّسان

- ‌فصلفلنرجع إلى ذكر منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} التي لا يكون العبدُ من أهلها حتّى ينزل منازلها

- ‌ منزلة المحاسبة

- ‌منزلة التّوبة

- ‌ الفرحُ بالمعصية

- ‌ المجاهرةُ بالذّنب

- ‌شرائطُ التَّوبة

- ‌حقائق التّوبة

- ‌دفعُ القدر بالقدر نوعان:

- ‌سرائرُ حقيقة التّوبة

- ‌ التَّوبة من التَّوبة

- ‌لطائف أسرار التّوبة

- ‌النّاس في الأسباب والقوى والطّبائع ثلاثة أقسامٍ:

- ‌توبةُ الأوساط من استقلال المعصية

- ‌توبةُ الخواصِّ من تضييع الوقت

- ‌ المبادرةُ إلى التَّوبة من الذَّنب فرضٌ على الفور

- ‌هل تصحُّ التّوبة من ذنبٍ مع الإصرار على غيره

- ‌ حقيقةَ التّوبة:

- ‌ التَّوبة النَّصوح وحقيقتها

- ‌ الفرق بين تكفير السّيِّئات ومغفرة الذُّنوب

- ‌التّوبةُ لها مبدأٌ ومنتهًى

- ‌ الحكم بغير ما أنزل الله

- ‌الْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ

- ‌فسقُ العمل

- ‌فسقُ الاعتقاد:

- ‌ توبة المنافق

- ‌ توبةَ القاذف

- ‌ توبة السَّارق

- ‌ الإثم والعدوان

- ‌ الفحشاء والمنكر

- ‌ القول على الله بلا علمٍ

الفصل: ‌ الحكم بغير ما أنزل الله

وهذا تأويل ابنِ عبّاسٍ وعامَّةِ أصحابه في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]. قال ابن عبَّاسٍ: ليس بكفرٍ ينقل عن الملَّة، بل إذا فعَلَه فهو به كفرٌ؛ وليس كمن كفَر بالله واليوم الآخر

(1)

. وكذلك قال طاوسٌ.

وقال عطاءٌ: هو كفرٌ دون كفرٍ، وظلمٌ دون ظلمٍ، وفسقٌ دون فسقٍ.

ومنهم من تأوَّلَ الآية على ترك الحكم بما أنزل الله جاحدًا له، وهو قول عكرمة. وهو تأويلٌ مرجوحٌ، فإنَّ نفسَ جحوده كفرٌ، سواءٌ حكَم أو لم يحكُم.

ومنهم من تأوَّلَها على ترك الحكم بجميع ما أنزل الله. قال: ويدخل في ذلك الحكمُ بالتَّوحيد والإسلام. وهذا تأويل عبد العزيز الكِنانيِّ. وهو أيضًا بعيدٌ، إذ الوعيد على نفي الحكم بالمنزَّل، وهو يتناول تعطيلَ الحكم بجميعه وببعضه.

ومنهم من تأوَّلَها على الحكم بمخالفة النّصِّ تعمُّدًا من غير جهلٍ به ولا خطأٍ في التّأويل. حكاه البغويُّ عن العلماء عمومًا.

ومنهم من تأوَّلَها على أهل الكتاب. وهو قول قتادة والضّحاك وغيرهما. وهو بعيدٌ خلافُ ظاهر اللَّفظ، فلا يصار إليه.

ومنهم من جعله كفرًا ينقُل عن الملَّة.

والصَّحيحُ: أنَّ‌

‌ الحكم بغير ما أنزل الله

يتناول الكفرين: الأصغرَ

(1)

هذا القول والأقوال الآتية منقولة من "تفسير البغوي"(3/ 61).

ص: 519

والأكبرَ، بحسب حال الحاكم، فإنّه إن اعتقد وجوبَ الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة، وعدَلَ عنه معصيةً، مع اعترافه بأنّه مستحقٌّ للعقوبة= فهذا كفرٌ أصغر. وإن اعتقد أنَّه غيرُ واجبٍ وأنّه مخيَّرٌ فيه، مع تيقُّنه أنّه حكمُ الله تعالى، فهذا كفرٌ أكبر. وإن جهِلَه وأخطَأَه، فهذا مخطئٌ له حكمُ المخطئين.

والقصدُ أنَّ المعاصي كلَّها نوعٌ من الكفر الأصغر، فإنّها ضدُّ الشُّكر الذي هو العملُ بالطَّاعة. فالسَّعيُ إمَّا شكرٌ، وإمَّا كفرٌ، وإمَّا ثالثٌ لا من هذا ولا من هذا.

فصل

وأمّا الكفر الأكبر، فخمسة أنواعٍ: كفرُ تكذيبٍ، وكفرُ استكبارٍ وإباءٍ مع التَّصديق، وكفرُ إعراضٍ، وكفرُ شكٍّ، وكفرُ نفاقٍ.

فأمَّا كفرُ التَّكذيب، فهو اعتقادُ كذب الرَّسول. وهذا القسم قليلٌ في الكفّار، فإنَّ الله تعالى أيَّد رسله، وأعطاهم من البراهين والآيات على صدقهم ما أقام به الحجَّةَ، وأزال به المعذرة. قال تعالى عن قوم فرعون:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14]. وقال لرسوله صلى الله عليه وسلم: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33].

وإن سمِّي هذا

(1)

كفرَ تكذيبٍ أيضًا فصحيحٌ، إذ هو تكذيبٌ باللِّسان.

وأمّا كفر الإباء والاستكبار، فنحوُ كفر إبليس، فإنّه لم يجحد أمرَ الله ولا قابله بالإنكار، وإنّما تلقَّاه بالإباء والاستكبار.

(1)

يعني: كفر الجحود المذكور في الآيتين، وسيفرده بالكلام بعد قليل.

ص: 520

ومن هذا: كفرُ مَن عرَفَ صدقَ الرَّسول وأنَّه جاء بالحقِّ من عند الله، ولم ينقَدْ له إباءً واستكبارًا. وهو الغالبُ على كفر أعداء الرُّسل، كما حكى الله تعالى عن فرعون وقومه:{أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون: 47]، وقولُ الأمم لرسلهم:{قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا} [إبراهيم: 10]، وقولُه:{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} [الشمس: 11]. وهو كفرُ اليهود، كما قال تعالى:{فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89]، وقال:{يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146]. وهو كفرُ أبي طالبٍ أيضًا، فإنَّه صدَّقه ولم يشكَّ في صدقه، ولكن أخذته الحَميّةُ وتعظيمُ آبائه أن يرغَب عن ملَّتهم، ويشهدَ عليهم بالكفر.

وأمّا كفرُ الإعراض، فأن يُعرِض بسمعه وقلبه عن الرَّسول، لا يصدِّقه ولا يكذِّبه، ولا يواليه ولا يعاديه، ولا يصغي إلى ما جاء به البتّة، كما قال أحدُ بني عبدِ يالِيلَ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: والله، لا أقول لك كلمةً. إن كنتَ صادقًا، فأنت أجلُّ في عيني من أن أرُدَّ عليك. وإن كنتَ كاذبًا، فأنتَ أحقَرُ من أن أكلِّمك

(1)

.

وأمّا كفرُ الشّكِّ، فأن لا يجزمَ بصدقه ولا بكذبه، بل يشكَّ في أمره. وهذا لا يستمرُّ شكُّه إلّا إذا ألزم نفسَه الإعراضَ عن النّظر في آيات صدقه جملةً، فلا يسمعها ولا يلتفت إليها. وأمّا مع التفاته إليها ونظره فيها، فإنَّه لا يبقى معه شكٌّ، لأنَّها مستلزمةٌ للصِّدق، ولا سيَّما بمجموعها، فإنَّ دلالتها على الصِّدق كدلالة الشَّمس على النّهار.

(1)

انظر: "سيرة ابن هشام"(1/ 419)، و"دلائل النبوة" لأبي نعيم (1/ 295).

ص: 521

وأمّا كفرُ النِّفاق، فأن

(1)

يُظْهِرَ بلسانه الإيمان، وينطوي بقلبه على التّكذيب. فهذا هو النِّفاق الأكبر، وسيأتي بيانُ

(2)

أقسامه إن شاء الله تعالى.

فصل

(3)

وكفرُ الجحود نوعان: كفرٌ مطلقٌ عامٌّ، ومقيَّدٌ خاصٌّ.

فالمطلق: أن يجحد جملةَ ما أنزل الله تعالى، ورسالةَ الرَّسول.

والخاصُّ

(4)

المقيَّد: أن يجحد فرضًا من فروض الإسلام، أو تحريمَ محرَّمٍ

(5)

من محرَّماته، أو صفةً وصف الله بها نفسه، أو خبرًا أخبر الله به= عمدًا، أو تقديمًا لقول من خالفه عليه لغرضٍ

(6)

من الأغراض.

وأمّا جحدُ ذلك جهلًا أو تأويلًا يُعذَر فيه صاحبُه، فلا يكفر صاحبُه به، كحديث الذي جحَد قدرةَ الله عليه وأمَر أهلَه أن يُحْرِقوه ويُذَرُّوه في الرِّيح، ومع هذا فغفَر الله له

(7)

ورحِمَه لجهله

(8)

، إذ كان ذلك الذي فعله مبلغَ

(1)

ع: "فهو أن".

(2)

"بيان" من ع.

(3)

هذا الفصل ساقط من ج. وقد أدرج المؤلف رحمه الله من قبلُ كفرَ الجحود مجملًا في كفر التكذيب، ولعله رأى فيما بعد أن يفرده بالكلام.

(4)

ع: "وأمَّا الخاصُّ".

(5)

ش: "أو محرَّمًا".

(6)

ق، ل، ع:"بغرض".

(7)

ع: "ومع هذا فما تلافاه أن غفر له".

(8)

ش، م، ع:"بجهله".

ص: 522

علمه، لم يجحد قدرة الله على إعادته عنادًا وتكذيبًا

(1)

.

فصل

وأمّا الشِّركُ، فهو نوعان: أكبر وأصغر.

فالأكبر: لا يغفره الله إلّا بالتَّوبة منه. وهو أن يتَّخذ من دون الله ندًّا يحبُّه كما يحبُّ الله. وهو الشِّرك الذي تضمَّن تسويةَ آلهة المشركين بربِّ العالمين. ولهذا قالوا لآلهتهم في النَّار: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97 - 98] مع إقرارهم بأنَّ الله وحده خالقُ كلِّ شيءٍ وربُّه

(2)

ومليكه، وأنَّ آلهتهم لا تخلُق ولا ترزُق ولا تميت ولا تحيي. وإنَّما كانت هذه التَّسوية في المحبَّة والتَّعظيم والعبادة، كما هو حال أكثر مشركي العالم؛ بل كلُّهم يحبُّون معبوديهم

(3)

ويعظِّمونها ويوالونها من دون الله. وكثيرٌ منهم، بل أكثرُهم يحبُّون آلهتَهم أعظَم من محبَّة الله، ويستبشرون بذكرهم أعظمَ من استبشارهم إذا ذُكِرَ الله وحده. ويغضبون لتنقُّص

(4)

معبودهم وآلهتهم من المشايخ أعظمَ ما

(5)

يغضبون إذا انتقص

(6)

أحدٌ ربَّ

(1)

أخرجه البخاري (3478، 3481)، ومسلم (2757، 2756) من حديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما.

(2)

لفظ "وربُّه" ساقط من ش.

(3)

ج: "معبوداتهم".

(4)

ل، ج، ع:"لمنتقص".

(5)

ج، ع:"ممَّا".

(6)

ش: "تنقَّص".

ص: 523

العالمين. وإذا انتُقِصَتْ

(1)

حرمةٌ من حرمات آلهتهم ومعبوديهم غضبوا غضبَ اللَّيثِ إذا حَرِب

(2)

. وإذا انتُهِكَتْ حرماتُ الله لم يغضبوا لها، بل إذا قام المنتهِكُ لها بإطعامهم شيئًا رضُوا عنه ولم تتنكَّر له قلوبهم!

وقد شاهدنا نحن وغيرنا هذا

(3)

منهم جهرةً. ونرى أحدَهم قد اتّخذ ذكرَ إلهه ومعبوده من دون الله على لسانه إن قام وإن قعد، وإن عثَر، وإن مرِضَ، وإن استوحى

(4)

. فذكرُ إلهه ومعبوده من دون الله هو الغالبُ على قلبه ولسانه، وهو لا ينكر ذلك، ويزعم أنّه بابُ حاجته إلى الله، وشفيعُه عنده، ووسيلتُه إليه.

وهكذا كان عُبَّاد الأصنام سواءً، وهذا القدرُ هو الذي قام بقلوبهم، وتوارثَه المشركون بحسب اختلاف آلهتهم. فأولئك كانت آلهتهم من الحجر وغيرُهم اتَّخذها من البشر.

قال تعالى حاكيًا عن أسلاف هؤلاء المشركين: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ

(1)

ع: "انتهكت".

(2)

أي اشتدَّ غضبه. وضبطه بعضهم في الأصل بضم الحاء وتشديد الراء، وضبط في ع بضم الحاء. وفي ج:"حورب". وفي ش غيِّر إلى "حرد" بالدال، وهو بمعنى الغضب.

(3)

في ع وقع "هذا" قبل "نحن".

(4)

في المطبوع: "استوحش"، والصواب ما أثبت من جميع النسخ. واستوحى: استصرَخَ. في "طريق الهجرتين"(2/ 915) عن عبَّاد الجنِّ: "كانوا يستوحونهم ويعوذون بهم". وفي "جامع المسائل"(3/ 146): "يقول عند هجوم العدو عليه: يا سيِّدي فلان! يستوحيه ويستغيث به". وانظر: (5/ 228) و"مجموع الفتاوى"(18/ 322).

ص: 524

دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}. ثمَّ شهد عليهم بالكفر والكذب

(1)

، وأخبر أنّه لا يهديهم، فقال:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3]. فهذه حالُ من اتَّخذ من دون الله وليًّا، يزعُم أنّه يقرِّبه إلى الله. وما أعزَّ من يخلُص من هذا! بل ما أعزَّ من لا يعادي مَن أنكره!

والّذي في قلوب هؤلاء المشركين وسلفهم أنّ آلهتهم تشفع لهم عند الله، وهذا عينُ الشِّرك. وقد أنكره الله عليهم

(2)

في كتابه، وأبطله، وأخبر أنَّ الشَّفاعةَ كلَّها له، وأنّه لا يشفع عنده أحدٌ إلّا لمن أذن الله أن يشفع فيه ورضي قولَه وعملَه. وهم أهلُ التَّوحيد الذين لم يتّخذوا من دون الله شفعاء، فإنّه يأذن سبحانه في الشَّفاعة لهم لمن شاء

(3)

، حيث لم يتَّخذوهم شفعاء من دونه، فيكون أسعدَ النّاس بشفاعة من يأذن الله له صاحبُ التَّوحيد الذي لم يتَّخذ شفيعًا من دون الله.

والشَّفاعةُ التي أثبتها الله ورسولُه هي الشَّفاعةُ الصَّادرةُ عن إذنه لمن وحَّده، والَّتي نفاها الله: الشَّفاعةُ الشِّركيّةُ التي في قلوب المشركين المتَّخذين من دون الله شفعاء، فيعامَلُون

(4)

بنقيض قصدهم من شفاعتهم

(5)

، ويفوز بها الموحِّدون.

(1)

ع: "بالكذب والكفر" على ترتيبهما في الآية.

(2)

ع: "أنكر الله عليهم ذلك".

(3)

ع: "لمن شاء في الشفاعة لهم".

(4)

في الأصل، ع، ش:"فيعاملوا"، وكذا كان في ل، م فأصلح كما أثبت من ج.

(5)

ج: "حرمان شفاعتهم".

ص: 525

فتأمَّلْ قولَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة، وقد سأله: من أسعَدُ النَّاسِ بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: "أسعدُ النَّاس بشفاعتي: من قال لا إله إلّا الله"

(1)

، كيف جعل أعظمَ الأسباب التي تُنال بها شفاعتُه تجريدَ التَّوحيد، عكسَ ما عند المشركين أنَّ الشَّفاعةَ تُنال باتِّخاذهم شفعاء وعبادتهم وموالاتهم من دون الله. فقَلَب النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ما في زعمهم الكاذب، وأخبر أنَّ سببَ الشَّفاعة تجريدُ التَّوحيد، فحينئذٍ يأذن الله للشَّافع أن يشفَع.

ومن جهل المشرك: اعتقادُه أنَّ من اتَّخذه وليًّا أو شفيعًا أنَّه يشفَع له وينفعه عند الله، كما يكون خواصُّ الملوك والولاة تنفع مَن والاهم! ولم يعلموا أنَّ الله لا يشفع عنده أحدٌ إلّا بإذنه، ولا يأذن في الشَّفاعة إلّا لمن رضي قولَه وعملَه، كما قال تعالى في الفصل الأوّل:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، وفي الفصل الثّاني:{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]. وبقي فصلٌ ثالثٌ، وهو أنّه لا يرضى من القول والعمل إلّا التَّوحيدَ واتِّباعَ الرَّسول، وعن هاتين الكلمتين يسأل الأوّلين والآخرين، كما قال أبو العالية: كلمتان يُسأل عنهما الأوّلون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟

(2)

.

فهذه ثلاث

(3)

فصول، تقطع شجرةَ الشِّرك من قلب من وعاها وعقلها:

(1)

في هامش م، ش بخط بعضهم مع علامة صح:"خالصًا من قلبه" كما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري (99) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه الطبري في "التفسير"(14/ 141).

(3)

ش: "ثلاثة" على الجادَّة. وفي ع: "ثلاث أصول".

ص: 526

لا شفاعة إلّا بإذنه، ولا يأذن إلّا لمن رضي

(1)

قوله وعمله، ولا يرضى من القول والعمل إلّا بتوحيده

(2)

واتِّباع رسوله.

فالله تعالى لا يغفر شركَ العادلين به غيره، كما قال تعالى:{ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1]. وأصحُّ القولين أنّهم يعدلون به غيرَه في العبادة والموالاة والمحبّة، كما في الآية الأخرى:{تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97 - 98]، وكما في آية البقرة:{يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [165].

وترى المشرك يكذِّب حالُه وعملُه لقوله

(3)

، فإنّه يقول: لا نحبُّهم كحبِّ الله، ولا

(4)

نسوِّيهم بالله؛ ثمّ يغضب لهم ولحرماتهم ــ إذا انتُهكت ــ أعظمَ ممّا يغضبُ لله! ويستبشرُ بذكرهم، ويتبَشْبَشُ به، سيَّما إذا ذُكِر عنهم ما ليس فيهم من إغاثة اللَّهَفات

(5)

، وكشف الكربات، وقضاء الحاجات؛ وأنّهم بابٌ بين الله وبين عباده= ترى المشركَ يفرَحُ ويُسَرُّ ويحِنُّ قلبُه وتهيجُ منه لواعجُ التَّعظيم والخضوع لهم والموالاة. وإذا ذكرتَ له الله وحده، وجرَّدتَ توحيدَه لحقته وحشةٌ وضيقٌ وحرجٌ، ورماك بتنقُّص الآلهة التي له، وربَّما عاداك!

(1)

ع: "ارتضى".

(2)

ع: "توحيده".

(3)

كذا في جميع النسخ. ومن نظائر استعمال المؤلف لام التقوية كما هنا ما سبق في (ص 222، 339).

(4)

ق، ل:"ألا". وفي ج دون واو العطف.

(5)

ش: "اللهفان".

ص: 527

رأينا ــ واللهِ ــ منهم هذا عيانًا، ورمَونا بعداوتهم، وبغَوا لنا الغوائل، والله مخزيهم في الدُّنيا والآخرة. ولم تكن حجَّتُهم إلّا أن قالوا كما قال إخوانهم: عاب آلهتنا، فقال هؤلاء: تنقَّصتم مشايخَنا وأبوابَ حوائجنا إلى الله تعالى. وهكذا قال النَّصارى للنّبيِّ صلى الله عليه وسلم، لمَّا قال لهم: إنَّ المسيحَ عبدٌ قالوا: تنقَّصتَ المسيحَ وعِبْتَه

(1)

! وهكذا قال أشباهُ المشركين لمن منع اتِّخاذَ القبور أوثانًا تُعْبَد

(2)

ومساجدَ، وأمَر بزيارتها على الوجه الذي أذِن الله فيه ورسوله، قالوا: تنقَّصتَ أصحابَها!

فانظر إلى هذا التَّشابه بين قلوبهم، حتّى كأنَّهم قد تواصَوا به! و {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ فَهُوَ

(3)

وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف: 17].

وقد قطَع تعالى الأسباب التي يتعلَّق بها المشركون جميعَها قطعًا يعلم مَن تأمَّلَه وعرَفَه أنَّ من اتّخذ من دون الله وليًّا أو شفيعًا، فهو كمثل العنكبوت اتّخذت بيتًا، وإنَّ أوهنَ البيوت لَبيتُ العنكبوت، فقال تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 22 - 23].

فالمشرك إنّما يتّخذ معبوده لما يحصل له به من النَّفع، والنَّفعُ لا يكون

(1)

لعله يشير إلى قصة وفد نجران ومجادلتهم للنبي صلى الله عليه وسلم. انظر: "سيرة ابن هشام"(1/ 575 - 576)، و"تفسير الطبري"(5/ 172 - 174).

(2)

"تعبد" ساقط من ل.

(3)

هكذا بالياء في النسخ على قراءة أبي عمرو وغيره.

ص: 528

إلّا ممَّن فيه خصلةٌ من هذه الأربع: إمّا مالكٌ لما يريد عابده منه، فإن لم يكن مالكًا كان شريكًا للمالك، فإن لم يكن شريكًا له كان معينًا له وظهيرًا، فإن لم يكن معينًا ولا ظهيرًا كان شفيعًا عنده. فنفى سبحانه المراتب الأربع نفيًا مترتِّبًا منتقلًا

(1)

من الأعلى إلى ما دونه، فنفى المِلْكَ، والشِّركةَ، والمظاهرةَ، والشَّفاعةَ التي يطلبها

(2)

المشرك؛ وأثبتَ شفاعةً لا نصيب فيها لمشركٍ، وهي الشَّفاعةُ بإذنه. فكفى بهذه الآية نورًا وبرهانًا ونجاةً، وتجريدًا للتَّوحيد، وقطعًا لأصول الشِّرك وموادِّه لمن عقلها!

والقرآنُ مملوءٌ من أمثالها ونظائرها، ولكنَّ أكثرَ النَّاس لا يشعُر بدخول الواقع تحته وتضمُّنه له، ويظنُّه في نوعٍ وقومٍ قد خلوا من قبل ولم يُعقبوا وارثًا! وهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن.

ولَعَمْرُ الله، إن كان أولئك قد خلَوا، فقد ورثهم مَن هو مثلُهم، وشرٌّ منهم، ودونهم. وتناولُ القرآن لهم كتناوله لأولئك، ولكنَّ الأمرَ كما قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: إنّما تُنقَضُ عُرى الإسلام عروةً عروةً، إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهليّة

(3)

.

(1)

يحتمل قراءة "متنقلًا". وفي ش: "مستقلا"، تحريف.

(2)

ع: "يظنُّها".

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة (33139) وابن سعد في "الطبقات"(6/ 129) وأبو نعيم في "الحلية"(7/ 243) والحاكم (4/ 428) وصححه، بلفظ:"قد علمتُ وربِّ الكعبة متى تهلك العرب، إذا ساس أمرهم من لم يصحَب الرسولَ ولم يعالج أمرَ الجاهلية". وتفسيره في "الجعديات"(2/ 180) و"شعب الإيمان"(7120).

ينظر تعليق محقق "مفتاح دار السعادة"(2/ 836) حيث نبَّه على أن لفظ المصنف ملفق من حديث أبي أمامة الباهلي وأثر عمر هذا، وقد أخرجهما البيهقي في "شعب الإيمان" متتابعين.

ص: 529

وهذا لأنّه إذا لم يعرف الجاهليّةَ والشِّركَ وما عابه القرآن وذمَّه وقع فيه وأقرَّه، ودعا إليه، وصوَّبه وحسَّنه، وهو لا يعرف أنّه هو الذي

(1)

كان عليه الجاهليّةُ، أو نظيره، أو أشَرُّ

(2)

منه، أو دونه؛ فينتقضُ بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروفُ منكرًا والمنكرُ معروفًا، والبدعةُ سنّةً والسُّنّةُ بدعةً؛ ويكفَّر الرّجلُ بمحض الإيمان وتجريد التَّوحيد، ويبدَّعُ بتجريد متابعة الرَّسول ومفارقة الأهواء والبدع. ومن له بصيرةٌ وقلبٌ حيٌّ يرى ذلك عيانًا! فالله المستعان.

فصل

وأمّا الشِّركُ الأصغَرُ، فكيسير الرِّياء، والتَّصنُّع للخلق، والحلِف بغير الله، كما ثبت عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال:"من حلَف بغير الله فقد أشرك"

(3)

، وقولِ الرَّجل للرَّجل: ما شاء الله وشئت، وهذا من الله ومنك، وإنَّا بالله وبك، وما لي إلَّا الله وأنت، وأنا متَّكلٌ على الله وعليك، ولولا أنت لم يكن كذا وكذا. وقد يكون هذا شركًا أكبر بحسب حال قائله ومقصده.

(1)

ع: "أنه الذي" بإسقاط "هو".

(2)

ش: "أسوأ"، وفي غيرها ما عدا الأصل:"شرٌّ".

(3)

أخرجه أحمد (5375، 5594، 6072) وأبو داود (3251) والترمذي (1535) وغيرهم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، ولكن أعله البيهقي (10/ 29) بالانقطاع. والمحفوظ ما أخرجه البخاري (6647) ومسلم (1646) من حديث ابن عمر بلفظ:"إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم" دون هذه الزيادة. وانظر: تعليق محقق "مسند الفاروق"(2/ 227 - دار الفلاح).

ص: 530

وصحَّ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال لرجلٍ قال له: ما شاء الله وشئتَ: "أجعلتني لله ندًّا؟ قل: ما شاء الله وحده"

(1)

. وهذا اللّفظ أخفُّ من غيره من الألفاظ.

ومن أنواع الشِّرك: سجودُ المريد للشَّيخ، فإنّه شركٌ من السَّاجد والمسجود له. والعجب أنَّهم يقولون: ليس هذا سجودًا، وإنّما هو وضعُ الرّأس قدَّامَ الشَّيخ! فيقال لهؤلاء: ولو سمَّيتموه ما سمَّيتموه، فحقيقةُ السُّجود: وضعُ الرّأس لمن يسجد

(2)

له. وكذلك السُّجودُ للصَّنم وللشَّمس وللنَّجم وللحجر= كلُّه وضعُ الرّأس قُدَّامَه.

ومن أنواعه: ركوعُ المتعمِّمين بعضِهم لبعضٍ عند الملاقاة. وهذا سجودٌ في اللُّغة، وبه فُسِّر قوله تعالى:{ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [النساء: 154] أي منحنين

(3)

، وإلّا فلا يمكن الدُّخول بالجبهة على الأرض. ومنه: قولُ العرب: سجدت الأشجار، إذا أمالتها الرِّياحُ

(4)

.

(1)

أخرجه أحمد (1839، 2561، 3247) والبخاري في "الأدب المفرد"(783) والنسائي في "الكبرى"(10759) والبيهقي (3/ 217) وغيرهم من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. وفيه الأجلح أبو حجية وهو مختلف فيه، وثقه ابن معين ووصفه ابن عدي بأنه مستقيم الحديث عنده، وضعفه ابن سعد وأبو داود والنسائي وأبو حاتم والعقيلي وابن حبان، "تهذيب التهذيب" (1/ 190). ولكن قال الحافظ في "التقريب":"صدوق شيعي، واعتمده الألباني فصححه. انظر: "الصحيحة" (139، 1093).

(2)

ع: "سُجِد".

(3)

انظر: "تفسير البغوي"(1/ 99).

(4)

ع: "أمالها الرِّيح".

ص: 531

ومن أنواعه: حلقُ الرّأس للشَّيخ، فإنّه تعبُّد لغير الله، ولا يُتعبَّد بحلق الرّأس إلّا في النُّسك لله خاصّةً.

ومن أنواعه: التَّوبةُ للشَّيخ، فإنّها شركٌ عظيمٌ، فإنَّ التَّوبةَ لا تكون إلّا لله، كالصّلاة والصِّيام والحجِّ والنُّسك، فهي خالصُ حقِّ الله.

وفي "المسند"

(1)

: أنّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بأسيرٍ، فقال: اللهمَّ إنِّي أتوبُ إليك، ولا أتوب إلى محمّدٍ. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"عرَفَ الحقَّ لأهله".

فالتّوبةُ عبادةٌ لا تنبغي إلّا لله، كالسُّجود والصِّيام.

ومن أنواعه: النَّذرُ لغير الله، فإنّه شركٌ. وهو أعظم من الحلِف بغير الله، فإذا كان مَن حلَف بغير الله فقد أشرك، فكيف بمن نذَر لغير الله؟ مع أنَّ في "السُّنن"

(2)

من حديث عقبة بن عامرٍ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم "النَّذْرُ حَلْفَةٌ".

ومن أنواعه: الخوفُ من غير الله، والتّوكُّلُ على غير الله، والعملُ لغير الله، والإنابةُ والخضوعُ والذُّلُّ لغير الله، وابتغاءُ الرِّزق من عند غيره، وحمدُ غيره على ما أعطى والغُنيةُ

(3)

بذلك عن حمده سبحانه، والذَّمُّ والسَّخَطُ على ما لم يَقسِمْه ولم يجر به القدر، وإضافةُ نعمه إلى غيره، واعتقادُ أن يكون في

(1)

برقم (15587) وغيره من حديث الأسود بن سريع، وفيه انقطاع.

(2)

لم أجده مسندًا بهذا اللفظ، وقد ذكره الإمام أحمد في "مسائله" برواية صالح (1/ 396) موقوفًا على عقبة من قوله. وذكره شيخ الإسلام في مواضع من تصانيفه، تارةً مرفوعًا كما في "مجموع الفتاوى"(25/ 277، 35/ 258، 271)، وتارةً موقوفًا كما في "الرد على السبكي في مسألة تعليق الطلاق"(ص 118، 364، 531، وغيرها).

(3)

ش: "الغيبة"، تصحيف.

ص: 532

الكون ما لا يشاؤه.

ومن أنواعه: طلبُ الحوائج من الموتى، والاستغاثةُ بهم، والتّوجُّهُ إليهم. وهذا أصلُ شرك العالم، فإنَّ الميِّتَ قد انقطع عملُه، وهو لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا

(1)

، فضلًا لمن استغاث به وسأله قضاء حاجته، أو سأله أن يشفع له إلى الله فيها. وهذا من جهله بالشَّافع والمشفوع عنده، كما تقدَّم، فإنّه لا يقدر أن يشفع له عند الله إلّا بإذنه. والله لم يجعل استغاثته

(2)

وسؤاله سببًا لإذنه، وإنّما السَّببُ لإذنه كمالُ التَّوحيد، فجاء هذا المشركُ بسببٍ يمنع إذنَه

(3)

، وهو بمنزلة من استعان في حاجةٍ بما يمنع حصولَها! وهذه حالةُ كلِّ مشركٍ.

والميِّتُ محتاجٌ إلى من يدعو له، ويترحَّم عليه، ويستغفر له، كما أوصانا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا زرنا قبور المسلمين أن نترحَّم عليهم ونسألَ لهم العافية والمغفرة. فعكَس المشركون هذا، وزاروهم زيارةَ العبادةِ واستقضاءِ الحوائج والاستغاثةِ

(4)

بهم، وجعلوا قبورَهم أوثانًا تُعْبَد، وسمَّوا قصدَها حجًّا

(5)

، واتّخذوا عندها الوقفةَ وحلقَ الرّأس؛ فجمعوا بين الشِّركِ بالمعبود الحقِّ، وتغييرِ دينه، ومعاداةِ أهل التَّوحيد ونسبةِ أهله إلى التّنقُّص بالأموات

(6)

. وهم

(1)

ع: "ضرًّا ولا نفعًا".

(2)

ش، ع:"استعانته".

(3)

ع: "الإذن". وكان مثله في الأصل ثم أصلح.

(4)

ج، م، ش:"الاستعانة".

(5)

لفظ "حجًّا" ساقط من ش.

(6)

كذا بالباء في جميع النسخ، ومثله في "إغاثة اللهفان" (1/ 103):"التنقُّص بالمشايخ". وفي "بدائع الفوائد"(4/ 1576): "والتنقُّص به".

ص: 533

قد تنقَّصوا الخالقَ بالشِّرك، وأولياءَه الموحِّدين له الذين لم يشركوا به شيئًا بذمِّهم وعيبهم ومعاداتهم. وتنقَّصوا من أشركوا به غايةَ التّنقُّص، إذ ظنُّوا أنَّهم راضون منهم بهذا، وأنَّهم أمروهم به، وأنَّهم يوالونهم عليه. وهؤلاء هم أعداء الرُّسل والتَّوحيد في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، وما أكثَرَ المستجيبين لهم! وللهِ خليلُه إبراهيم عليه السلام حيث يقول:{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم: 35 - 36].

وما نجا من شَرَكِ

(1)

هذا الشِّرك الأكبر إلّا من جرَّد توحيده لله، وعادى المشركين في الله، وتقرَّب بمقتهم إلى الله، واتَّخذ الله وحده وليَّه وإلهَه ومعبودَه، فجرَّد حبَّه لله، وخوفَه لله، ورجاءَه لله، وذلَّه لله، وتوكُّلَه على الله، واستعانتَه

(2)

بالله، والتجاءَه إلى الله، واستغاثتَه بالله؛ وأخلصَ قصدَه لله متّبعًا لأمره متطلِّبًا لمرضاته. إذا سأل سأل الله، وإذا استعان استعان بالله، وإذا عمِل عَمِل لله؛ فهو لله، وبالله، ومع الله.

والشِّركُ أنواعٌ كثيرةٌ لا يحصيها إلّا الله.

ولو ذهبنا نذكر أنواعه لاتَّسَع الكلامُ أعظمَ اتِّساعٍ، ولعلَّ الله أن يساعدَ بوضع كتابٍ فيه وفي أقسامه وأسبابه ومباديه ومضرَّته وما يندفع به، فإنَّ العبدَ إذا نجا منه ومن التَّعطيل ــ وهما الدَّاءان اللَّذان هلكت بهما الأمم ــ فما بعدَهما هو أيسرُ منهما، ومن

(3)

هلك بهما فبسبيلِ مَن هلك، ولا آسى على الهالكين.

(1)

لفظ "شَرَك" ساقط من ش، وكأنَّ ناسخها أو ناسخَ أصلها قرأه:"شِرْك"، فحذفه.

(2)

ل: "واستغاثته" هنا، وفيما يأتي:"واستعانته".

(3)

ج، م، ش، ع:"وإن"، وكذا كان في ق، ل ثم أُصلح.

ص: 534

فصل

وأمّا النِّفاق فالدَّاء العُضال

(1)

الذي يكون الرَّجلُ ممتلئًا منه، وهو لا يشعر، فإنّه أمرٌ خفيٌّ يخفى على النَّاس، وكثيرًا ما يخفى على من تلبَّس به، فيزعُم أنّه مصلحٌ وهو مفسدٌ.

وهو نوعان: أكبر، وأصغر.

فالأكبَرُ يُوجِب الخلودَ في النَّار في دركها الأسفل، وهو أن يُظهِر للمسلمين إيمانَه بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهو في الباطن منسلِخٌ من ذلك مكذِّبٌ به، لا يؤمن بأنَّ الله تكلَّم بكلامٍ أنزله على بشرٍ جعله رسولًا للنَّاس يهديهم بإذنه، ويُنذرهم بأسَه، ويخوِّفهم عقابَه.

وقد هتَك الله

(2)

سبحانه أستارَ المنافقين وكشَفَ أسرارهم في القرآن، وجلّى لعباده أمورهم، ليكونوا منها ومن أهلها على حذرٍ. وذكَر طوائفَ العالم الثّلاثة في أوّل البقرة: المؤمنين، والكفّار، والمنافقين؛ فذكر في المؤمنين أربعَ آياتٍ، وفي الكفّار آيتين، وفي المنافقين ثلاث عشرة آيةً لكثرتهم ولعموم الابتلاء بهم، وشدّة فتنتهم على الإسلام وأهله، فإنَّ بليّةَ الإسلام بهم شديدةٌ جدًّا، فإنهم منتسبون إليه وإلى نصرته وموالاته، وهم أعداؤه في الحقيقة، يُخْرِجون عداوتَه في كلِّ قالبٍ يظنُّ الجاهلُ أنّه عِلمٌ وإصلاحٌ، وهو غايةُ الجهل والإفساد.

فلله كم من معقلٍ للإسلام قد هدموه! وكم من حصنٍ له قد قلَعوا

(1)

في ع بعده زيادة: "الباطن".

(2)

في ع بعده زيادة: "به".

ص: 535

أساسَه وخرَّبوه! وكم من عَلَمٍ له قد طمسوه! وكم من لواءٍ مرفوعٍ له قد وضعوه! كم

(1)

ضربوا بمعاول الشُّبه في أصول غِراسه

(2)

ليقلعوها! وكم عمَّوا عيونَ موارده بآرائهم ليدفنوها ويقطعوها!

فلا يزال الإسلامُ منهم في محنةٍ وبليّةٍ، ولا يزال يطرُقُه مِن شُبَههم سريَّةٌ بعد سريَّةٍ، ويزعمون أنّهم بذلك مصلحون! {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 12]، {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8].

اتَّفقوا على مفارقة الوحي، فهم على ترك الاهتداء به مُجْمِعُون. {فَتَقَطَّعُوا

(3)

أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53]، {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112]، ولأجل ذلك {اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30].

درست معالمُ الإيمان في قلوبهم فليسوا يعرفونها، ودثَرت معاهدُه عندهم فليسوا يعمُرونها، وأفَلَتْ كواكبُه من قلوبهم فليسوا يُحْيُونها، وكسَفَت شمسُه عند اجتماع ظُلَمِ آرائهِم فليسوا يبصرونها.

لم يقبلوا هدى الله الذي أرسَلَ به رسولَه ولم يرفعوا به رأسًا، ولم يروا بالإعراض عنه إلى آرائهم وأفكارهم بأسًا.

خلعوا نصوصَ الوحي عن سلطنة الحقيقة وعزلوها عن ولاية اليقين،

(1)

ع: "وكم".

(2)

ش: "غرسه".

(3)

ما عدا ش: "وتقطعوا".

ص: 536

وشنُّوا عليها غاراتِ التَّأويلات الباطلة، فلا يزال يخرج عليها منهم كمينٌ بعد كمينٍ. نزلت عليهم نزولَ الضَّيف على أقوامٍ لئامٍ، فعامَلوها

(1)

بغير ما ينبغي لها من القبول والإكرام. وتلقَّوها من بعيدٍ، ولكن بالدَّفع في الصُّدور منها والأعجاز، وقالوا: ما لك عندنا من عبورٍ، وإن كان لا بدَّ فعلى سبيل المجاز!

أعَدُّوا لدفعها أصنافَ العُدَد وضروبَ القوانين، وقالوا لمَّا حلَّت بساحتهم: ما لنا ولظواهر لفظيّةٍ لا تفيدنا شيئًا من اليقين! وعوامُّهم قالوا: حسبُنا ما وجدنا عليه خلَفَنا المتأخِّرين، فإنّهم أعلَمُ بها من السَّلَف الماضين، وأقوَمُ بطرائق الحجج والبراهين. وأولئك غلبت عليهم السَّذاجةُ وسلامةُ الصُّدور، ولم يتفرَّغوا لتمهيد قواعد النَّظر، ولكن صرفوا هِمَمَهم إلى فعل المأمور وترك المحظور. فطريقةُ المتأخِّرين أعلَمُ وأحكَمُ، وطريقةُ السّلف الماضين أجهَلُ لكنَّها أسلَم!

أنزلوا نصوصَ السُّنّة والقرآن منزلةَ الخليفة في هذا الزَّمان: اسمُه على السِّكَّة

(2)

وفي الخطبة فوق المنابر مرفوعٌ، والحكمُ النَّافذُ لغيره، فحكمُه غيرُ مقبولٍ ولا مسموعٍ!

لبسوا ثيابَ أهل الإيمان على قلوب أهل الزَّيغ

(3)

والكفران، فالظَّواهرُ ظواهرُ الأنصار، والبواطنُ قد تحيَّزت إلى الكفَّار. فألسنتُهم ألسنةُ المسالمين، وقلوبُهم قلوبُ المحاربين، يقولون: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ

(1)

ع: "فقابلوها".

(2)

يعني: على النقود المضروبة، وقد سبق.

(3)

بعده في ع زيادة: "والخسران والغِل".

ص: 537

وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8].

رأسُ مالهم: الخديعةُ والمكرُ، وبضاعتُهم: الكذبُ والخَتْرُ. وعندهم العقلُ المعيشيُّ أنَّ الفريقين عنهم راضون، وهم بينهم آمنون

(1)

، {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يُخَادِعُونَ

(2)

إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 9].

قد نهَكَت أمراضُ الشُّبهات والشَّهوات قلوبَهم فأهلكتها، وغلبت القصودُ السَّيِّئةُ على إراداتهم ونيّاتهم فأفسدتها. ففسادُهم قد ترامى إلى الهلاك، فعجَز عنه الأطبَّاءُ العارفون، {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 10].

من عَلِقَتْ مخاليبُ شكوكهم بأديم إيمانه مزَّقَتْه كلَّ التَّمزيق، ومن تعلَّقَ شررُ فتنتهم بقلبه ألقاه في عذاب الحريق، ومن دخلت شبهاتُ تلبيسهم في مسامعه حالت بين قلبه وبين التَّصديق. ففسادُهم في الأرض كثيرٌ، وأكثرُ النَّاس عنه غافلون، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 11 - 12].

المتمسِّكُ عندهم بالكتاب والسُّنَّة صاحبُ ظواهر، مبخوسٌ حظُّه من المعقول. والدَّائرُ مع النُّصوص عندهم كحمارٍ يحمل أسفارًا، فهمُّه في حمل المنقول. وبضاعةُ تاجر الوحي لديهم كاسدةٌ، وما هو عندهم بمقبولٍ. وأهلُ

(1)

وانظر: "إغاثة اللهفان"(2/ 82) و"الداء والدواء"(ص 195) و"مفتاح دار السعادة"(1/ 324).

(2)

هكذا في النسخ ــ ما عدا ع ــ على قراءة أبي عمرو وغيره.

ص: 538

الاتِّباع عندهم سفهاء، فهم في خلواتهم ومجالسهم بهم يطنُزُون

(1)

، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 13].

لكلٍّ منهم وجهان: وجهٌ يلقى به المؤمنين، وآخَرُ ينقلب به إلى إخوانه من الملحدين. وله لسانان: أحدهما يقبله بظاهره المسلمون، والآخر يترجم به عن سرِّه المكنون. {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14].

قد أعرضوا عن الكتاب والسُّنّة استهزاءً بعلمهما

(2)

واستحقارًا، وأبوا أن ينقادوا لحكم الوحيين فرحًا بما عندهم من العلم الذي لا ينفع

(3)

واستكبارًا. فتراهم أبدًا بالمتمسِّكين بصريح الوحي يستهزئون، {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15].

خرجوا في طلب التِّجارة البائرة في بحار الظُّلمات، فركبوا مراكبَ الشُّبَه والشُّكوك تجري بهم في موج الخيالات، فلعبت بسفنهم الرِّيحُ القاصفُ

(4)

، فألقتها بين سفن الهالكين. {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16].

(1)

في هامش ق، ل:"أي يسخرون".

(2)

ع: "بأهلها".

(3)

بعده في ع زيادة: "الاستكثار منه [و] أشرًا".

(4)

ل، ج، ش، ع:"العاصف".

ص: 539

أضاءت لهم نارُ الإيمان فأبصروا في ضوئها مواقعَ الهدى والضَّلال، ثمَّ طفئ ذلك النُّورُ، وبقيت نارٌ تأجَّجُ ذاتُ تلهُّبٍ

(1)

واشتعالٍ، فهم بتلك النَّار معذَّبون، وفي تلك الظُّلمات يعمهون. {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17].

أسماعُ قلوبهم قد أثقَلَها الوَقْرُ فهي لا تسمع منادي الإيمان، وعيونُ بصائرهم عليها غشاوة العَمى فهي لا تُبصر حقائق القرآن، وألسنتهُم بها خَرَسٌ عن الحقِّ فهم به لا ينطقون، {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [البقرة: 18].

صابَ عليهم صيِّبُ الوحي وفيه حياة القلوب والأرواح، فلم يسمعوا منه إلّا رعدَ التَّهديد والوعيد والتَّكاليف التي وظِّفت

(2)

عليهم بالمساء والصَّباح. فجعلوا أصابعهم في آذانهم، واستغشَوا ثيابهم، وجدُّوا في الهرب والطَّلب في آثارهم والصِّياح. فنُودي عليهم على رؤوس الأشهاد وكُشفت حالُهم للمستبصرين، وضُرب لهم مثلان بحسب حال الطّائفتين منهم: النَّاظرين، والمقلِّدين، فقيل:{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} [البقرة: 19].

ضعفت أبصارُ بصائرهم عن احتمال ما في الصَّيِّب من بروق أنواره وضياء معانيه، وعجزت أسماعُهم عن تلقِّي رُعود وعيده

(3)

وأوامره

(1)

ع: "لهب".

(2)

ش: "وضعت".

(3)

ع: "وعوده". ج: "تلقي وعيده ووعده".

ص: 540

ونواهيه، فقاموا عند ذلك حيارى في أودية التِّيه! لا ينتفع بسمعه السَّامعُ ولا يهتدي ببصَره البصيرُ، {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 20].

لهم علاماتٌ يُعرفَون بها مبيَّنةٌ في السُّنَّة والقرآن، باديةٌ لمن تدبَّرها من أهل بصائر الإيمان. قام بهم واللهِ الرِّياءُ وهو أقبحُ مقامٍ قامه الإنسان، وقعد بهم الكسلُ عمَّا أُمِروا به من أوامر الرَّحمن، فأصبح الإخلاصُ لذلك عليهم ثقيلًا، فإذا {قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142].

أحدُهم كالشَّاة العائرة بين الغنَمين، تَعِيرُ

(1)

إلى هذه مرّةً وإلى هذه مرّةً، ولا يستقرُّ

(2)

مع إحدى الفئتين، فهم واقفون بين الجمعين ينظرون أيُّهم أقوى وأعزُّ قبيلًا {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء: 143].

يتربَّصون الدَّوائرَ بأهل السُّنَّة والقرآن، فإن كان لهم فتحٌ من الله قالوا: إنَّا كنَّا في الباطن

(3)

معكم؟ وأقسموا على ذلك بالله جَهْدَ الأيمانِ

(4)

. وإن كان

(1)

ش: "تفرّ"، تصحيف. والعائرة: المترددة الحائرة بين قطيعين لا تدري أيهما تتبع. وهو لفظ حديث ابن عمر رضي الله عنهما في "صحيح مسلم"(2784).

(2)

كذا في الأصل يعني: أحدهم، وفي ل، ش، ع:"تستقر" يعني الشاة.

(3)

لم يرد "في الباطن" في ع. وفي ش: "البواطن".

(4)

هكذا في ل مصلحًا وهو مقتضى السجع، والفقرات كلها مسجوعة. وفي غيرها:"جهد أيمانهم".

ص: 541

لأعداء الكتاب والسُّنّة من النُّصرة

(1)

نصيبٌ، قالوا: ألم تعلموا أنّ عقد الإخاء بيننا

(2)

محكمٌ، وأنَّ النَّسَب بيننا قريبٌ! فيا من يريد معرفتهم، خذ صفاتهم

(3)

من كلام ربِّ العالمين، فلا تحتاج بعده دليلًا:{الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141].

يُعجِبُ السَّامعَ قولُ أحدهم لحلاوته ولينه، ويُشهد اللهَ على ما في قلبه من كذبه ومَينه، فتراه عند الحقِّ نائمًا، وفي الباطل واقفًا على الأقدام! فخذ وصفهم من قول القدُّوس السّلام:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة: 204].

أوامرُهم التي يأمرون بها أتباعَهم متضمِّنةٌ لفساد البلاد والعباد، ونواهيهم عمَّا فيه صلاحُهم في المعاش والمعاد. وأحدُهم تلقاه بين جماعة أهل الإيمان في الصّلاة والذِّكر والزُّهد والاجتهاد، فإذا

(4)

{تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205].

فهم جنسٌ بعضُه يشبه

(5)

بعضًا: يأمرون بالمنكر بعد أن يفعلوه، وينهون عن المعروف بعد أن يتركوه، ويبخلون بالمال في سبيل الله ومرضاته أن

(1)

سقط "من النصرة" من ش، فزاد بعضهم بعد كلمة "نصيب":"بالنصرة"، وهو خطأ.

(2)

بعده في م زيادة: "وبينكم".

(3)

ش: "صفتهم".

(4)

ش، ع:"وإذا" كما في الآية، وكذا غيِّر في م.

(5)

ع: "يشبه بعضه".

ص: 542

يُنفقوه. كم ذكَّرهم الله بنِعَمه فأعرضوا عن ذكره ونسوه! وكم كشَفَ حالهم لعباده المؤمنين ليجتنبوه! فاسمعوا أيُّها المؤمنون: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة: 67].

إن حاكمتَهم إلى صريح الوحي وجدتَهم عنه نافرين، وإن دعوتَهم إلى حكم كتاب الله وسنّة رسوله رأيتهم عنه مُعرضين. فلو شهدت حقائقَهم لرأيتَ بينها وبين الهدى أمدًا بعيدًا، ورأيتَها معرضةً عن الوحي إعراضًا شديدًا، {قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)} [النساء: 61].

فكيف لهم بالفلاح والهدى بعدما أصيبوا في عقولهم وأديانهم! وأنّى لهم التّخلُّصُ من الضَّلال والرَّدى وقد اشتروا الكفرَ بإيمانهم! فما أخسَر تجارتَهم البائرة وقد اشتروا بالرَّحيق المختوم حريقًا! {إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62)} [النساء: 62].

نشِبَ زَقُّومُ الشُّبَه والشُّكوك في قلوبهم، فلا يجدون لها مُسيغًا

(1)

، {الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)} [النساء: 63].

تبًّا لهم، ما أبعدهم عن حقيقة الإيمان! وما أكذَب دعواهم للتَّحقيق والعرفان! فالقومُ في شأنٍ، وأتباعُ الرَّسول في شأنٍ! ولقد أقسم الله جل جلاله

(1)

كذا ضبط بضم الميم في ق، ل، م، ع. وفي ش بفتح الميم وهو سائغ أيضًا.

ص: 543

في كتابه بنفسه المقدَّسة قسمًا عظيمًا، يعرف مضمونَه أولو البصائر، فقلوبُهم منه على وجَلٍ إجلالًا له وتعظيمًا، فقال تعالى تحذيرًا لأوليائه وتنبيهًا على حال هؤلاء وتفهيمًا:{وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65].

تسبق يمينُ أحدهم كلامَه من غير أن تُعرضَ

(1)

عليه، لعلمه بأنّ قلوب أهل الإيمان لا تطمئنُّ إليه، فيتبرّأ بيمينه من سوء الظّنِّ به وكشفِ ما لديه. وكذلك أهلُ الرِّيبة يكذبون، ويحلفون ليحسبَ السَّامعُ أنّهم صادقون، وقد {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المنافقون: 2].

تبًّا لهم! برزوا إلى البيداء مع ركب الإيمان، فلمّا رأوا طولَ الطَّريق وبعدَ الشُّقَّة نكصوا على أعقابهم ورجعوا، وظنُّوا أنّهم يتمتَّعون بطيب العيش ولذّة المنام في ديارهم، فما مُتِّعوا به ولا بتلك النُّجْعة

(2)

انتفعوا. فما هو إلّا أن صاح بهم الصَّائحُ فقاموا عن موائد أطعمتهم والقومُ جياعٌ ما شبعوا، فكيف حالهم عند اللِّقاء، وقد عرفوا ثمّ أنكروا، وعمُوا بعدما عاينوا الحقَّ وأبصروا! {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 3].

أحسَنُ النَّاس أجسامًا، وأحلاهم

(3)

لسانًا، وألطفُهم بيانًا، وأخبثُهم

(1)

ش: "يعزم".

(2)

ع: "الهجعة".

(3)

ع: "وأخلبهم".

ص: 544

قلوبًا، وأضعَفُهم جَنانًا. فهم كالخشب المسنَّدة التي لا تمييز

(1)

لها، قد قُلِعَت من مغارسها فتساندت إلى حائطٍ يقيمها لئلَّا يطأها السّالكون. {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون: 4].

يؤخِّرون الصَّلاةَ عن وقتها الأوّل إلى شَرَقِ الموتى، فالصُّبحُ عند طلوع الشّمس، والعصرُ عند الغروب. وينقُرونها نقرَ الغراب، إذ هي صلاةُ الأبدان لا صلاةُ القلوب. ويلتفتون فيها التفاتَ

(2)

الثَّعلب إذا تيقَّنَ أنّه مطرودٌ ومطلوبٌ. ولا يشهدون الجماعة، بل إن صلّى أحدُهم ففي البيت أو الدُّكّان. وإذا خاصَمَ فجَر، وإذا عاهَدَ غدَر، وإذا حدَّثَ كذَب، وإذا وعَد أخلَفَ، وإذا ائتُمِنَ خان

(3)

. هذه معاملتُهم للخلق، وتلك معاملتُهم للخالق

(4)

. فخذ وصفَهم من أوّل المطفِّفين، وآخر (والسَّماء والطَّارق)

(5)

، فلا ينبِّئك عن أوصافهم مثلُ خبيرٍ، {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة: 73].

فما أكثرهم! وهم الأقلُّون. وما أجبرهم! وهم الأذلُّون. وما أجهلهم!

(1)

ع: "ثمر". وفي هامش الأصل بإزاء هذا السطر وما قبله وما بعده: "بلغ مقابلة وقراءة على مصنفه رضي الله عنه ".

(2)

ش: "تلفُّت".

(3)

كما جاء في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عند البخاري (34) ومسلم (58).

(4)

ش: "للحق".

(5)

كذا في النسخ، وفي آخر سورة الطارق ذِكر وصف الكيد، والسياق يقتضي ذِكر تأخير الصلاة، فلعله أراد "سورة الماعون".

ص: 545

وهم المتمعلمون

(1)

. وما أغرّهم بالله إذ هم بعظمته جاهلون! {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} [التوبة: 56].

إن أصاب أهلَ الكتاب والسُّنّة عافيةٌ ونصرٌ وظهورٌ ساءهم ذلك وغمَّهم. وإن أصابهم ابتلاءٌ من الله وامتحانٌ يمحِّص به ذنوبهم، ويكفِّر به سيِّئاتِهم أفرَحَهم ذلك وسرَّهم. وهذا تحقيقُ إرثِهم وإرثِ من عاداهم، ولا يستوي مَن موروثُه الرَّسولُ ومَن موروثُه المنافقون. {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 50 - 51]. وقال تعالى في شأن السَّلفين

(2)

المتخلِّفين، والحقُّ لا يُدفَع بمكابرة أهل الزَّيغ والتّخليط، {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: 120].

كره الله طاعتَهم

(3)

لخبث قلوبهم وفساد نيّاتهم، فثبَّطهم عنها وأقعَدَهم.

(1)

ج، م، ش:"المتعلمون"، تحريف. تمعلَمَ: تعالم، ومثله تمعقَلَ. قال المؤلف في نونيته (5752):

فظٌّ غليظٌ جاهلٌ متمعلِمٌ

ضخمُ العمامة واسعُ الأردانِ

وفي "الصواعق"(3/ 893): "فمن أراد أن يتمعقل بعقول هؤلاء

". وفي "سير أعلام النبلاء" (14/ 374): "وتمعقَلَ على النص"، وانظره أيضًا (9/ 228). والصيغة من اللغة الدارجة ولا تزال مستعملة.

(2)

ش: "السَّفِلين".

(3)

ع: "طاعاتهم".

ص: 546

وأبغضَ قربَهم منه وجوارهم، لميلهم إلى أعدائه، فطرَدَهم عنه وأبعَدَهم. وأعرضوا عن وحيه فأعرض عنهم، وأشقاهم وما أسعدهم. وحكَم عليهم بحكمٍ عدلٍ لا مطمع لهم في الفلاح بعده إلّا أن يكونوا من التّائبين، فقال:{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46]. ثمّ ذكر حكمته في تثبيطهم وإقعادهم، وطردِهم عن بابه وإبعادهم، وأنَّ ذلك من لطفه بأوليائه وإسعادهم، وهو أحكم الحاكمين، فقال

(1)

: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة: 47].

ثقلت عليهم النُّصوصُ فكرهوها، وأعيا عليهم حملُها فألقَوها عن أكتافهم ووضَعوها، وتفلَّتت منهم السُّننُ أن يحفظوها فأهملوها، وصالت عليهم نصوصُ الكتاب والسُّنّة فوضعوا لها قوانينَ ردُّوها بها ودفعوها. ولقد هتَكَ الله أستارهم، وكشَف أسرارهم، وضرَب لعباده أمثالَهم. وعَلِمَ أنّه كلّما انقرض منهم طوائفُ خلَفَهم أمثالُهم، فذكر أوصافَهم لأوليائه ليكونوا منها على حذَرٍ، وبيَّنها لهم، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 9].

هذا شأنُ من ثقلت عليه النُّصوصُ، ورآها حائلةً بينه وبين بدعته وهواه فهي في وجهه كالبنيان المرصوص. فباعها بـ"محصَّلٍ"

(2)

من الكلام الباطل، واستبدل منها بـ"الفصوص"

(3)

! فأعقبهم ذلك أن أفسد عليهم إعلانَهم

(1)

ع: "فقال وهو أحكم الحاكمين".

(2)

يشير إلى كتاب "محصَّل أفكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والحكماء والمتكلمين" لفخر الدين الرازي. وانظر فيه "منهاج السنة"(5/ 433).

(3)

يعني: "فصوص الحكم" لابن عربي.

ص: 547

وإسرارَهم. {لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} [محمد: 26 - 28].

أسرُّوا سرائرَ النِّفاق فأظهَرَها الله على صفحاتِ الوجوه منهم وفلَتاتِ اللِّسان، ووسَمهم لأجلها بسيما لا يخفَون بها على أهل البصائر والإيمان. وظنُّوا أنَّهم إذا كتموا كفرَهم وأظهروا إيمانَهم راجُوا على النُّقّاد

(1)

! والنّاقدُ البصيرُ

(2)

قد كشفها لكم: {أَعْمَالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 29 - 30].

فكيف بهم إذا جُمِعوا ليوم التَّلاق، وتجلّى الله جل جلاله للعباد وقد كُشِفَ عن ساقٍ، ودُعُوا إلى السُّجود فلا يستطيعون، {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم: 43]!

أم كيف بهم إذا حُشِروا إلى جسر جهنّم، وهو أدقُّ من الشَّعْرة

(3)

، وأحَدُّ من الحُسام! وهو دَحْضٌ مزَلَّةٌ مظلمٌ لا يقطعه أحدٌ إلّا بنورٍ يبصر به مواطئَ الأقدام. فقُسِّمت بين النّاس الأنوارُ ــ وهم على قدر تفاوتها في المرور والذَّهاب ــ وأُعْطُوا نورًا ظاهرًا مع أهل الإسلام، كما كانوا بينهم في هذه

(1)

ع: "على الصيارف والنقاد".

(2)

ع: "كيف والنقاد البصير".

(3)

ج، ش:"الشعر".

ص: 548

الدّار يأتون بالصَّلاة والزَّكاة والحجِّ والصِّيام. فلمّا توسَّطوا الجسرَ عصَفَتْ على أنوارهم أهويةُ النِّفاق، فأطفأت ما بأيديهم من المصابيح. فوقفوا حيارى لا يستطيعون المرور، فضُرِبَ بينهم وبين أهل الإيمان بسورٍ له بابٌ، ولكن قد حيل بين القوم وبين المفاتيح. باطنُه الذي يلي المؤمنين فيه الرَّحمة، وما يليهم من قِبَله

(1)

العذابُ والنِّقمة. ينادُون من تقدَّمهم من وفد الإيمان، ومشاعلُ الرَّكب تلوح على بعدٍ كالنُّجوم، تبدو لناظر الإنسان:{نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ بَيْنَهُمْ} [الحديد: 13] لنتمكّن في هذا المضيق من العبور، فقد طفئت أنوارُنا ولا جوازَ اليوم إلّا بمصباحٍ من النُّور. {ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ} حيث قسِّمت الأنوار، فهيهات الوقوفُ لأحدٍ في مثل هذا المضمار! كيف يلتمس الوقوف في هذا المضيق؟ وهل يَلوي اليوم أحدٌ على أحدٍ في هذا الطّريق؟

(2)

.

فذكَّروهم باجتماعهم معهم وصحبتهم لهم في هذه الدَّار، كما يذكِّر الغريبُ صاحبَ الوطن بصحبته له في الأسفار:{مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى} نصوم كما تصومون، ونصلِّي كما تصلُّون، ونقرأ كما تقرؤون، ونتصدَّق كما تتصدّقون، ونحجُّ كما تحجُّون؟ فما الذي فرَّق بيننا اليومَ، حتّى انفردتم دوننا بالمرور؟ {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ} كانت ظواهركم معنا وبواطنكم مع كلِّ ملحدٍ وكلِّ ظلومٍ كفورٍ، {أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ

(1)

م، ع:"قبلهم"، وكذا كان في ق، ل ثم أصلح بطمس الميم.

(2)

بعده في ع زيادة: "وهل يلتفت اليوم رفيق إلى رفيق".

ص: 549

وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)} [الحديد: 14 - 15].

لا تستطِلْ أوصافَ القوم، فالمتروكُ والله أكثَرُ من المذكور! كاد القرآن أن يكون كلُّه في شأنهم، لكثرتهم على ظهر الأرض وفي أجواف القبور. فلا خلَتْ بقاعُ الأرض منهم لئلَّا يستوحشَ المؤمنون في الطُّرقات، وتتعطَّل بهم أسباب المعيشات، وتتخطَّفَهم الوحوشُ والسِّباعُ في الفلَوات! سمع حذيفة رضي الله عنه رجلًا يقول: اللهمَّ أهلِكِ المنافقين، فقال: يا ابنَ أخي، لو أهلك المنافقين

(1)

لاستوحشتم في طرقاتكم

(2)

!

تالله

(3)

لقد قطَّع خوفُ النِّفاق قلوبَ السّابقين الأوّلين، ولعلمهم بدِقِّه وجِلِّه وتفاصيلهِ وجُمَلِه ساءت

(4)

ظنونهم بأنفسهم حتّى خشُوا أن يكونوا من جملة المنافقين. قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه لحذيفة بن اليمان: يا حذيفةُ، نشدتُك بالله، هل سمَّاني لك رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم؟ فقال: لا، ولا أزكِّي بعدك أحدًا

(5)

.

(1)

ع: "هلك المنافقون".

(2)

بعده في ع: "لقلّة السالك". أخرج الخرائطي في "اعتلال القلوب"(377) و"مساوئ الأخلاق"(303) وابن بطة في "الإبانة الكبرى"(934، 935) من قول الحسن: "لولا المنافقون لاستوحشتم في الطرق"، وهذا لفظ "الإبانة". وانظر:"قوت القلوب"(2/ 229). ونحوه في "الإبانة"(936) أيضًا عن الشعبي. أما قول حذيفة فأخرجه الخرائطي في "مساوئ الأخلاق"(304) وابن بطة في "الإبانة"(933) بلفظ: "لو هلكوا ما انتصفتم من عدوكم". وكأنَّ ما ورد هنا ملفَّق من القولين.

(3)

ل، ع:"بالله". ج: "يالله".

(4)

السياق في ع: "الأولين لعلمهم

وساءت".

(5)

أخرجه وكيع في "الزهد"(477) وابن أبي شيبة (38545) من طريقين عن زيد بن وهب بنحوه، وإسناده صحيح. وأخرجه البزار في "المسند" (2885) بنحوه من طريق آخر عن وائل عن حذيفة. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (3/ 42):"ورجاله ثقات". وقال ابن حجر في "مختصر زوائد البزار"(590): "إسناده صحيح".

ص: 550

وقال ابن أبي مُلَيكة: أدركتُ ثلاثين من أصحاب محمّدٍ صلى الله عليه وسلم كلُّهم يخاف النِّفاقَ على نفسه، ما منهم أحدٌ يقول: إنَّ إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل. ذكره البخاريُّ

(1)

.

وذكَر

(2)

عن الحسن رضي الله عنه: ما أمِنَه إلّا منافقٌ، ولا خافه إلّا مؤمنٌ.

ولقد ذُكر عن بعض الصَّحابة أنّه كان يقول في دعائه: اللهمَّ إنِّي أعوذ بك من خشوع النِّفاق. قيل: وما خشوعُ النِّفاق؟ قال: أن يخشع البدنُ، والقلبُ غيرُ خاشعٍ

(3)

.

بالله تعالى

(4)

، لقد ملئت قلوبُ القوم إيمانًا ويقينًا، وخوفُهم من النِّفاق

(1)

تعليقًا قبل الحديث (48)، وأخرجه في "تاريخه" (5/ 137). وأخرجه الحافظ في "تغليق التعليق" (2/ 52) وذكر مَن أخرجه. وانظر:"فتح الباري"(1/ 110).

(2)

تعليقًا أيضًا في الموضع السابق. وقد وصله الفريابي في "صفة النفاق"(81). قال ابن رجب في "فتح الباري"(1/ 195): "هذا مشهور عن الحسن، صحيح عنه".

(3)

ع: "ليس بخاشع". وقد أخرجه أحمد في "الزهد"(757) وابن أبي شيبة (36861) والبيهقي في "الشعب"(6567) عن أبي الدرداء رضي الله عنه، وفي إسناده انقطاع. وفي "الزهد" لابن المبارك (143) عن أبي يحيى أنه بلغه أن أبا الدرداء أو أبا هريرة قال. وأخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (6568) مرفوعًا من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه. قال العراقي في "المغني عن حمل الأسفار" (ص 1243):"وفيه الحارث بن عبيد الأنماري، ضعَّفه أحمد وابن معين".

(4)

هكذا في الأصل ول. وفي ع: "تالله". وفي ج: "خاشع لله تعالى. تالله". وكذا في ش بحذف "تالله". والأثر في المصادر المذكورة وفي كتاب "الروح"(2/ 655)، و"أعلام الموقعين"(2/ 515) قد انتهى بكلمة "خاشع"، فالظاهر أن ما بعده كلام مستأنف.

ص: 551

شديدٌ، فهمُّهم لذلك ثقيلٌ. وسواهم كثيرٌ منهم لا يجاوز إيمانُهم حناجرَهم، وهم يدَّعون أنَّه كإيمان جبريل وميكائيل!

زرعُ النِّفاق ينبُت على ساقيتين: ساقية الكذب، وساقية الرِّياء، ومخرجُهما من عينين: عين ضعف البصيرة، وعين ضعف العزيمة. فإذا تمَّت هذه الأركانُ الأربعُ استحكم بنيانُ النِّفاق

(1)

، ولكنَّه بمدارج السُّيول على شفا جرُفٍ هارٍ. فإذا سال سيلُ الحقائق وعاينوا يومَ

(2)

تُبلى السّرائر، وكُشِفَ المستور، وبُعثر ما في القبور، وحُصِّل ما في الصُّدور= تبيّن حينئذٍ لمن كانت بضاعتُه النِّفاقَ أنَّ حواصلَه التي حصَّلها كانت كالسَّراب، {بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ} [النور: 39]

(3)

.

(1)

ع: "بنات النفاق وبنيانه".

(2)

ع: "فإذا شاهدوا سيل الحقائق يوم".

(3)

بعده في ع زيادة طويلة نصُّها: قلوبُهم عن الخيرات لاهيةٌ، وأجسادُهم إليها ساعيةٌ، والفاحشةُ في فِجاجهم فاشيةٌ، وإذا سمعوا الحقَّ كانت قلوبُهم عن سماعه قاسيةً، وإذا حضروا الباطلَ وشهدوا الزُّورَ انفتحت أبصارُ قلوبهم، وكانت آذانُهم واعيةً. فهذه والله أماراتُ النِّفاق، فاحذرها أيُّها الرّجلُ قبل أن تنزل بك القاضية.

إذا عاهدوا لم يفُوا، وإن وعدوا أخلفوا، وإن قالوا لم ينصفوا، وإن دُعوا إلى الطَّاعة وقفوا، وإذا قيل لهم: تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرّسول صدَفوا، وإذا دعتهم أهواؤهم إلى أغراضهم أسرعوا إليها وانصرفوا.

فذرهم وما اختاروا لأنفسهم من الهوان والخزي والخسران، فلا تثق بعهودهم، ولا تطمئنَّ إلى وعودهم، فإنّهم فيها كاذبون، وهم لما سواها مخالفون. {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 75 - 77] ".

ص: 552