الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولم يكن عملُه على مراد نفسه وما فيه لذّتها وراحتها من العبادات، بل على مراد ربِّه عز وجل، ولو كانت راحة نفسه ولذّتها في سواه.
فهذا المتحقِّق بـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} حقًّا، القائمُ بهما صدقًا. ملبسه ما تهيَّأَ، ومأكله ما تيسَّرَ، واشتغالُه بما أُمِر به في كلِّ وقتٍ بوقته، ومجلسه حيث انتهى ووجده خاليًا. لا تملكه إشارةٌ، ولا يتعبَّده
(1)
قيدٌ، ولا يستولي عليه رسمٌ. حرٌّ مجرَّدٌ، دائرٌ مع الأمر حيث دار، يدين بدين الآمر أنَّى توجَّهتْ ركائبُه، ويدور معه حيث استقلَّت مضاربُه. يأنسَ به كلُّ مُحِقٍّ، ويستوحش منه كلُّ مبطلٍ. كالغيث حيث وقَع نفَع. وكالنخلة لا يسقط ورقُها، وكلُّها منفعةٌ حتّى شوكُها. وهو موضعُ الغلظة منه على المخالفين لأمر الله، والغضبِ إذا انتُهِكَتْ محارمُ الله. فهو لله وبالله ومع الله. قد صحِبَ الله بلا خَلْقٍ، وصحِبَ النّاسَ بلا نَفْسٍ. بل إذا كان مع الله عزَلَ الخلائق من البين، وتخلَّى عنهم. وإذا كان مع خَلْقه عزَلَ نفسَه من الوسط وتخلّى عنها. فواهًا
(2)
! ما أغربَه بين النّاس! وما أشدَّ وحشته منهم! وما أعظم أنسَه بالله وفرَحَه به وطمأنينته به وسكونه إليه! والله المستعان، وعليه التكلان.
فصل
(3)
ثمّ للنّاس في منفعة العبادة وحكمتها ومقصودها طرقٌ أربعةٌ، وهم في ذلك أربعة أصنافٍ.
الصِّنف الأوّل:
نفاة الحِكَم والتّعليل
، الذين يردُّون الأمر إلى محض
(1)
هكذا في الأصل وع، وكذا كان في ل فغيِّر إلى "يقيِّده" كما في النسخ الأخرى.
(2)
بعده زيادة في ع: "له".
(3)
بإزائه في هامش ق: "بلغ مقابلة وقراءة على مصنفه".
المشيئة وصِرْف الإرادة. فهؤلاء عندهم القيامُ بها ليس إلّا لمجرَّد الأمر، من غير أن يكون سببًا لسعادةٍ في معاشٍ ولا معادٍ، ولا سببًا لنجاةٍ. وإنّما القيامُ بها لمجرَّد الأمرِ ومحضِ المشيئة، كما قالوا في الخلق: إنّه لم يخلُقْ ما خلَقَه لعلَّةٍ ولا لغايةٍ هي المقصودة به، ولا لحكمةٍ تعود إليه منه. وليس في المخلوقات أسبابٌ مقتضِياتٌ لمسبَّباتها، ولا فيها قوًى ولا طبائع. فليست النّار سببًا للإحراق، ولا الماءُ سببًا للإرواء والتبريد وإخراج النّبات، ولا فيهما قوّةٌ ولا طبيعةٌ تقتضي ذلك. وحصولُ الإحراق والرِّيِّ ليس بهما، لكن بإجراء العادة الاقترانيّة على حصول هذا عند هذا، لا بسببٍ ولا بقوّةٍ قامت به. وهكذا الأمرُ عندهم في أمره سواء، لا فرق في نفس الأمر بين المأمور والمحظور، ولكنَّ المشيئةَ اقتضت أمرَه بهذا، ونهيَه عن هذا، من غير أن يقوم بالمأمور به صفةٌ اقتضت حسنَه، ولا بالمنهيِّ عنه صفةٌ اقتضت قبحَه.
ولهذا الأصل لوازمُ وفروعٌ كثيرةٌ فاسدةٌ، قد ذكرناها في كتابنا الكبير المسمّى بـ"مفتاح دار السّعادة ومطلب
(1)
أهل العلم والإرادة"، وبيّنَّا فساد هذا الأصل من نحو ستِّين وجهًا
(2)
، وهو كتابٌ بديعٌ في معناه. وذكرناه أيضًا في كتابنا المسمّى بـ"سفر الهجرتين وطريق السّعادتين"
(3)
.
وهؤلاء لا يجدون حلاوة العبادة ولا لذّتها ولا يتنعَّمون بها، وليست الصَّلاةُ قُرَّةَ أعينهم، وليست الأوامرُ سرورَ قلوبهم وغذاءَ أرواحهم وحياتَها. ولهذا يسمُّونها تكاليف، أي قد كُلِّفوا بها. ولو سمَّى مدَّعٍ لمحبّة ملكٍ من
(1)
أشير في هامش ش إلى أن في نسخة: "منشور" في موضع "مطلب".
(2)
انظر: "المفتاح"(2/ 891 - 1172). وقد ذكر فيه ثلاثة وستين وجهًا.
(3)
انظر: "طريق الهجرتين"(1/ 193 - 250).
الملوك أو غيره ما يأمره به تكليفًا وأنِّي
(1)
إنّما أفعله بكُلْفةٍ، لم يعدَّه أحدٌ محبًّا له. ولهذا أنكر هؤلاء أو كثيرٌ منهم محبّةَ العبد لربِّه، وقالوا: إنّما يُحِبُّ ثوابَه وما يخلقه له من النَّعيم الذي يتمتَّع به، لا أنَّه يُحِبُّ ذاته؛ فجعلوا المحبّة لمخلوقه دونه. وحقيقةُ العبوديّة هي كمالُ المحبّة، فأنكروا حقيقةَ العبوديّة ولبَّها. وحقيقةُ الإلهيّة كونُه مألوهًا محبوبًا بغاية الحبِّ المقرونِ بغاية الخضوع والذُّلِّ والإجلال والتّعظيم، فأنكروا كونه محبوبًا، وذلك إنكارٌ لإلهيّته.
وشيخ هؤلاء هو الجعد بن درهم الذي ضحَّى به خالد بن عبد الله القَسْريُّ في يوم أضحًى، وقال: إنّه زعم أنّ الله لم يكلِّم موسى تكليمًا، ولم يتّخذ إبراهيمَ خليلًا
(2)
. وإنّما كان إنكارُه لكونه تعالى محبوبًا
(3)
، لم ينكر حاجة إبراهيم إليه، التي هي الخُلَّة عند الجهميّة، التي يشترك فيها جميع الخلائق، فكلُّهم أخِلّاءُ الله عندهم.
وقد بيّنَّا فساد قولهم هذا، وإنكارَهم محبّةَ الله من أكثر من ثمانين وجهًا في كتابنا المسمّى بـ"قرّة عيون المحبِّين وروضة قلوب العارفين"
(4)
. وذكرنا
(1)
كذا في الأصل وغيره، وفي طبعة الفقي:"وقال: إنِّي".
(2)
نقل المصنف هذا الخبر في "طريق الهجرتين"(1/ 295) من "خلق أفعال العباد" للبخاري (ص 29). وقد أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير"(3/ 158) أيضًا. وأخرجه الدارمي في "الرد على الجهمية"(ص 17، 176، 182) وغيرُه.
(3)
في ع بعده زيادة: "محبًّا".
(4)
سيأتي في منزلة المحبة (3/ 384) قوله: "وقد ذكرنا لذلك قريبًا من مائة طريق في كتابنا الكبير في المحبة"، وأحال على كتابه الكبير هذا في منزلة الرجاء (2/ 287) أيضًا. وسمَّاه في "طريق الهجرتين" (1/ 124):"المورد الصافي والظل الضافي".