الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلوبنا على طاعتك"
(1)
.
فصل
فإذا صحَّ له هذا المقامُ، ونزَل في هذه المنزلة، أشرف منها على مقام التّوبة، لأنّه بالمحاسبة قد تميَّز عنده ما له ممَّا عليه، فليجمع على التّشمير إليه والنُّزول فيه
(2)
إلى الممات.
و
منزلة التّوبة
أوّل المنازل وأوسطها وآخرها، فلا يفارقه العبد
(3)
، ولا يزال فيه إلى الممات. وإن ارتحل إلى منزلٍ آخر ارتحل به
(4)
، ونزل به. فالتّوبة هي بداية العبد ونهايته، وحاجتُه إليها في النِّهاية ضروريّةٌ، كما حاجتُه إليها في البداية كذلك.
وقد قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]. وهذه الآية في سورةٍ مدنيّةٍ، خاطب بها
(5)
أهلَ الإيمان وخيارَ خلقه أن يتوبوا إليه بعد إيمانهم وصبرهم وهجرتهم وجهادهم، ثمّ علَّقَ الفلاحَ بالتّوبة تعليقَ المسبَّبِ بسببه، وأتى بأداة "لعلّ" المُشعِرة بالتَّرجِّي إيذانًا بأنّكم إذا تبتم كنتم على رجاء الفلاح، فلا يرجو الفلاحَ إلّا التّائبون؛
(1)
أخرجه مسلم (2654) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، صدره: "إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد، يصرفه حيث يشاء، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
…
".
(2)
في ع "النزول فيه" قبل "والتشمير إليه".
(3)
ع: "العبد السالك".
(4)
بعده في ع زيادة: "واستصحبه معه".
(5)
ع: "خاطب الله بها".
جعلنا الله منهم!
وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11]. فقسَّم العبادَ إلى تائبٍ وظالمٍ، وما ثَمَّ قسمٌ ثالثٌ البتّة. وأوقع اسمَ الظَّالم على من لم يتُب، ولا أظلَمَ منه لجهله بربِّه وبحقِّه، وبعيبِ نفسه وآفاتِ أعماله.
وفي الصّحيح
(1)
عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "يا أيُّها النّاس، توبوا إلى الله، فوالله إنِّي لأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرّةً".
وكان أصحابُه يعدُّون له في المجلس الواحد قبل أن يقوم: "ربِّ اغفر لي وتُبْ عليَّ إنّك أنت التوَّاب الغفور" مائة مرّةٍ
(2)
.
وما صلّى صلاةً قطُّ بعد إذ أُنزلت عليه {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} إلى آخرها، إلّا قال في صلاته:"سبحانك اللهمّ ربّنا وبحمدك، اللهمّ اغفر لي"
(3)
.
وصحّ عنه أنّه قال: "لن ينجي أحدًا منكم عملُه". قالوا: ولا أنت يا
(1)
أخرجه البخاري (6307) من حديث أبي هريرة، ومسلم (2702) من حديث الأغرِّ المزني رضي الله عنهما.
(2)
أخرجه أحمد (4726) والبخاري في "الأدب المفرد"(618) وأبو داود (1516) والترمذي (3434) والنسائي في "الكبرى"(10219) وابن ماجه (3814) وابن حبان (927) من طرق عن مالك بن مِغْول عن محمد بن سوقة عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا، إلا أن لفظ البخاري وأبي داود وابن ماجه وابن حبان:"التواب الرحيم". قال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب. وانظر: "السلسلة الصحيحة"(556).
(3)
تقدَّم تخريجه (ص 205).
رسول الله؟ قال: "ولا أنا، إلّا أن يتغمَّدني الله برحمةٍ منه وفضلٍ"
(1)
.
فصلواتُ الله وسلامُه على أعلمِ الخلق بالله وحقوقه وعظمته وما يستحقُّه جلالُه من العبوديّة، وأعرفِهم بالعبوديّة وحقوقها وأقوَمِهم بها.
فصل
ولمّا كانت التّوبة هي رجوع العبد إلى الله ومفارقته لصراط المغضوب عليهم والضَّالِّين، وذلك لا يحصل إلّا بهداية الله تعالى له إلى الصِّراط المستقيم، ولا تحصل هدايته إلّا بإعانته وتوحيده= انتظمتها
(2)
سورةُ الفاتحة أحسنَ انتظامٍ، وتضمَّنَتها أبلغَ تضمُّنٍ.
فمن أعطى الفاتحةَ حقَّها علمًا وشهودًا وحالًا ومعرفةً عَلِمَ أنّه لا يصحُّ له قراءتُها على العبوديّة إلّا بالتّوبة النّصوح، فإنَّ الهدايةَ التَّامّةَ إلى الصِّراط المستقيم لا تكون مع الجهل بالذُّنوب، ولا مع الإصرار عليها، فإنَّ الأوّلَ جهلٌ ينافي معرفةَ الهدى، والثّاني غَيٌّ
(3)
ينافي قصدَه وإرادتَه. فلذلك لا تصحُّ التّوبةُ إلّا بعد معرفة الذّنب، والاعتراف به، وطلبِ التّخلُّص من سوء عواقبه.
قال في "المنازل"
(4)
: (وهي أن تنظر في الذّنب إلى ثلاثة أشياء: إلى انخلاعِك من العصمة حين إتيانه، وفرَحِك عند الظّفر به، وقعودِك على
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
ع: "وانتظمتها"، فيكون جواب لمَّا: "فمن أعطى الفاتحة
…
".
(3)
لفظ "غي" ساقط من ش.
(4)
"منازل السائرين"(ص 9 - 10) وسياق الكلام: "والتوبة لا تصح إلا بعد معرفة الذنب. وهي أن تنظر
…
"، يعني: ومعرفة الذنب أن تنظر
…
الإصرار عن تداركه، مع تيقُّنك نظرَ الحقِّ
(1)
إليك).
يحتمل أن يريد بالانخلاع عن العصمة انخلاعَه عن اعتصامه بالله
(2)
، فإنّه لو اعتصم به
(3)
لما خرج عن هداية الطّاعة. قال تعالى: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101]. فلو كملت عصمتُه بالله لم يخذله أبدًا. قال تعالى: {بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)} [الحج: 78]. أي متى اعتصمتم به تولَّاكم ونصَركم، ومِن نصرِه لكم: نصرُكم على أنفسكم وعلى الشّيطان، وهما العدوَّان اللَّذان لا يفارقان، وعداوتُهما أضرُّ من عداوة العدوِّ الخارج؛ فالنَّصرُ على هذا العدوِّ أهمُّ، والعبدُ إليه أحوجُ. وكمالُ النُّصرة عليه
(4)
بحسب كمال الاعتصام بالله. وسيأتي الكلام إن شاء الله بعد هذا في حقيقة الاعتصام وأنَّ الإيمانَ لا يقوم إلّا به.
ويحتمل أن يريد الانخلاعَ من عصمة الله له، وأنّك إنّما ارتكبتَ الذّنبَ بعد انخلاعك من ثوبِ عصمتِه لك. فمتى عرَفَ هذا الانخلاع عظُم خطرُه عنده، واشتدَّ
(5)
عليه مفارقتُه، وعلِمَ أنّ الهُلْكَ كلَّ الهُلْكِ بعده. وهو حقيقةُ الخذلان، فما خلَّى الله بينك وبين الذَّنب إلّا بعد أن خَذَلك، وخلَّى بينك وبين نفسك. ولو عصَمك ووفَّقك لما وجد الذّنبُ إليك سبيلًا. فقد أجمع
(1)
في مطبوعة "المنازل" وشروحه: "يقينك بنظر الحق"، وقد ذكر ناشر "شرح القاساني" (ص 42) أن في بعض نسخه:"تيقنك".
(2)
على هذا المعنى اقتصر التلمساني في "شرحه"(1/ 62).
(3)
ع: "بالله".
(4)
ع: "على العدو".
(5)
ع: "واشتدت".