الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقرة. فأما قوله: «الرّجاء أضعف منازل المريدين» ، فتعقبه بأنه «ليس كذلك، بل هو من أجلِّ منازلهم وأعلاها وأشرفها. وعليه وعلى الحبِّ والخوف مدارُ السَّير إلى الله. وقد مدح الله أهله وأثنى عليهم
…
» إلخ (2/ 266 - 268).
وأما قوله: «لأنه معارضة من وجهٍ، واعتراض من وجهٍ، وهو وقوع في الرعونة» ، فقال في الرد عليه: «بل هو عبوديّة وتعلُّقٌ بالله من حيث اسمُه المُحسن البَرُّ، فذلك التّعلُّق والتّعبُّد بهذا الاسم والمعرفةُ بالله هو الذي أوجب له الرجاءَ مِن حيث يدري ومن حيث لا يدري، فقوّة الرجاء على حسب قوَّة المعرفة بالله وأسمائه وصفاته وغلبةِ رحمته غضبَه
…
» إلخ (2/ 268 - 280). وهو تعقُّب طويل متين مثل معظم تعقباته، ويدل على تعمقه في فهم المسائل الدقيقة للسلوك واقتداره على حسن الإبانة عنها.
وأمَّا قول الشيخ: «إن التنزيل نطق به لفائدةٍ واحدة، وهي كونه يبرِّد حرارة الخوف» ، فتعقبه ابن القيم بقوله:«بل لفوائد كثيرةٍ أُخَر سوى هذه» . ثم ذكر إحدى عشرة فائدة (2/ 280 - 283)، نكتفي هنا بذكر واحدة منها، وهي:«أنَّ الرجاء حادٍ يحدو به في سيره إلى الله، ويطيِّب له المسير، ويحثُّه عليه، ويبعثه على ملازمته. فلولا الرجاء لما سرى أحدٌ، فإن الخوف وحده لا يحرِّك العبد، وإنّما يحرِّكه الحبُّ، ويزعجه الخوف، ويحدوه الرّجاء» .
وختم ابن القيم هذا النقد الطويل لكلام الهروي داعيًا له، معتذرًا عن اعتراضه عليه، معترفًا بفضل الشيخ عليه، وكل ذلك بعبارة بليغة يحسن أن نختم بها هذا المبحث أيضا. قال:
«والله يشكر لشيخ الإسلام سعيَه، ويُعلي درجته، ويَجزيه أفضل جزائه، ويجمع بيننا وبينه في محلِّ كرامته. فلو وَجَد مريدُه سعةً وفسحةً في ترك
الاعتراض عليه واعتراض كلامه لَمَا فعل، كيف وقد نفعه الله بكلامه، وجلس بين يديه مجلس التِّلميذ من أستاذه، وهو أحدُ مَن كان على يديه فتحُه يقظةً ومنامًا. وهذا غاية جهد المقلِّ في هذا الموضع، فمن كان عنده فضلُ علمٍ فليَجُد به، أو فليُعذِر ولا يبادر إلى الإنكار؛ فكم بين الهدهد وسليمان نبيِّ الله ــ صلى الله على نبينا وعليه وسلَّم ــ وهو يقول:{أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل: 22]! وليس شيخُ الإسلام أعلمَ من نبيِّ الله، ولا المعترضُ عليه بأجهلَ من هدهد! وبالله المستعان».
* * *
موارد الكتاب
استفاد المؤلف في كتابه من مصادر متنوعة حسب ما تقتضي الموضوعات، فعند ذكر الأحاديث المرفوعة يرجع إلى أمهات كتب الحديث، وينقل عنها ويسوق ألفاظها، مثل الكتب الستة و «المسند» و «الموطأ» و «صحيح ابن حبان» و «صحيح الحاكم» (أي: المستدرك) وغيرها، وقد قمنا ببيانها عند تخريج هذه الأحاديث في تعليقاتنا، ولا حاجة إلى سردها في هذه المقدمة. إلا أنه قد ينقل أحاديث بواسطة كتب أخرى كـ «السنن والأحكام عن المصطفى» للضياء المقدسي، فإنه قد نقل منه أحاديث «باب في كراهية المسألة» مستوفاةً ومرتَّبةً بنفس الترتيب والألفاظ، وهي أكثر من عشرين حديثًا (2/ 569 - 577). ولعله صدر عن «رياض الصالحين» في موضع (2/ 613).
أما أقوال الصحابة والتابعين في التفسير فقد اعتمد فيها على «تفسير البغوي» كما صرَّح به مرارًا، و «البسيط» للواحدي كما ظهر لنا بالتتبع ولم يصرِّح باسمه إلا مرةً واحدة (1/ 27)، وأحيانًا ينقل عن «تفسير الطبري» (3/ 503) وغيره من التفاسير المسندة في بعض المواضع، وهي قليلة.
وأما آثارهم في الزهد فينقلها من كتاب «الزهد» للإمام أحمد (2/ 223، 3/ 563، 4/ 22، 166) ومؤلفات ابن أبي الدنيا وغيرها.
وكان جلُّ اعتماده على «الرسالة القشيرية» في ذكر أقوال الصوفية، بل يسوق أحيانًا بعض الأحاديث المرفوعة باللفظ الوارد فيها، ويعزوها إلى كتب السنة الأخرى، انظر على سبيل المثال (2/ 459).
ويرجع أحيانًا إلى «شعب الإيمان» (2/ 555 - 557)، و «قوت القلوب» (2/ 545 - 546)،، و «إحياء علوم الدين» للغزالي (1/ 170، 2/ 202)، و «المواقف» للنفزي (4/ 546)، و «عوارف المعارف» للسهروردي (3/ 129، 4/ 391).
وقد يكون رجع إلى «اللمع» لأبي نصر السرَّاج أيضًا، ففي (2/ 482) نقل قولًا لابن عطاء باللفظ الذي أورده السرَّاج في كتابه. ثم نقله بعد صفحات (2/ 486) باللفظ الذي في «الرسالة القشيرية» .
وكان بين يديه شرح التلمساني للمنازل، ينقل عنه ويتتبع انحرافاته في شرحه، وقد صرَّح بذلك ووصفه بقوله:«وتولى شرح كتابه أشدُّهم في الاتحاد طريقةً وأعظمهم فيه مبالغةً وعنادًا لأهل الفرق: العفيف التلمساني، ونزَّل الجمع الذي يشير إليه صاحب المنازل على جمع الوجود، وهو لم يرد به حيث ذكره إلا جمع الشهود، ولكن الألفاظ مجملة، وصادفت قلبًا مشحونًا بالاتحاد، ولسانًا فصيحًا متمكنًا من التعبير عن المراد» (1/ 410).
وفي مسائل العقيدة ومقالات الفرق رجع إلى «مقالات الإسلاميين» للأشعري (1/ 291، 3/ 240، 4/ 442)، وكتب الباقلاني وأبي يعلى (2/ 505)، و «الرسالة النظامية» و «الشامل» و «الإرشاد» الثلاثة للجويني وكتاب سعد الزنجاني (2/ 339). ونقل عن كتاب «السنة» لعبد الله بن أحمد في موضعين (3/ 192، 4/ 237).
ومن الكتب الأخرى التي نقل منها أو ذكرها: «الفروق» للعسكري (4/ 281)، و «محن العلماء» لابن زبر (3/ 58)، وقد تحرف اسم المؤلف في المطبوعات إلى ابن عبد البر!!
وعندما ذكر صاحب «المنازل» ذكر عددًا من مؤلفاته ووصفه بقوله: «وصاحب المنازل رحمه الله كان شديد الإثبات للأسماء والصفات، مضادًّا للجهمية من كل وجه، وله كتاب «الفاروق» استوعب فيه أحاديث الصفات وآثارها، ولم يُسبق إلى مثله، وكتاب «ذم الكلام وأهله» طريقتُه فيه أحسنُ طريقة، وكتاب لطيف في أصول الدين يسلك فيه طريقة أهل الإثبات ويقرّرها
…
» (1/ 409).
وذكر المؤلف في أثناء الكتاب سبعة من مؤلفاته، وأحال عليها للتفصيل، وقد سبق ذكرها في إثبات نسبة الكتاب.
أما استفادته من شيخه شيخ الإسلام ونقلُه من كتبه وسماعُه للكثير من كلامه فهو مذكور في مواضع كثيرة من الكتاب، بل يعتبر هذا الكتاب أهم مصدر لمعرفة أحوال شيخ الإسلام وزهده وورعه وفراسته ومعرفته بأحوال القلوب، واختياراته وتوجيهاته، ويمكن أن يفرد منها جزء لطيف يحوي من كلام الشيخ وآرائه وأحواله ما لا يوجد في مصدر آخر
(1)
.
* * *
(1)
وقد ضمّنا في «الجامع لسيرة الإسلام» ــ الطبعة الخامسة ــ أهمّ ما ذكره ابن القيم عن شيخه من أحوال ومواقف. (علي العمران).
أثره في الكتب اللاحقة
كان من الطبيعي أن يكون شرح ابن القيم هذا مصدرًا مهمًّا للشراح من بعده، ولكن لم نقف في الشروح التي وصلتنا من اعتمد عليه سوى أبي عبد الله الشُّطيبي (ت 963) في شرحه «عيون الناظرين» ، فقد عدّه من الشروح السبعة التي لخَّص منها كتابه
(1)
.
وقد نقل عن الكتاب عددٌ من المؤلفين، واعتمدوا على كلام ابن القيم فيه عند شرح موضوعات التوحيد والزهد والتصوف، وقد ذكر بعضهم عنوان الكتاب «شرح المنازل» أو «المدارج» أو «مدارج السالكين» ، واقتصر بعضهم على ذكر المؤلف دون الكتاب، واستفاد منه ابن أبي العزّ الحنفي (ت 792) في «شرح الطحاوية» في مواضع دون أن يذكر المؤلف أو الكتاب، وهو أقدم مَن نقل عنه. وفيما يلي ذكر هذه المواضع:
شرح الطحاوية
(2)
…
مدارج السالكين
1/ 19، 20
…
1/ 214
1/ 21، 22
…
4/ 439
1/ 25
…
4/ 447
1/ 154، 155
…
4/ 478، 479
1/ 167 (حدود المحبة)
…
3/ 372 وما بعدها
1/ 228، 229
…
3/ 157 وما بعدها
(1)
«عيون الناظرين» (ص 105).
(2)
اعتمدنا على طبعة مؤسسة الرسالة سنة 1417.
فصل
المرتبة الرّابعة: مرتبة المحدَّث
(1)
.
وهذه دون مرتبة الوحي الخاصِّ، فتكون
(2)
للصدِّيقين، كما كانت لعمر بن الخطّاب رضي الله عنه، كما قال النّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إنّه قد
(3)
كان في الأمم قبلكم محدَّثون، فإن يكن في هذه الأمّة أحدٌ فعمر بن الخطّاب"
(4)
رضي الله عنه.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيميّة
(5)
رضي الله عنه يقول: جزَم بأنّهم كائنون في الأمم قبلنا، وعلَّق وجودَهم في هذه الأمّة بـ "إنْ" الشّرطيّة، مع أنّها أفضل الأمم؛ لاحتياجِ الأمم قبلنا إليهم، واستغناءِ هذه الأمّة عنهم لكمالِ نبوَّةِ نبيِّها ورسالته، فلم يُحوِج الله الأمّةَ بعده إلى محدَّثٍ ولا ملهَمٍ، ولا صاحبِ كشفٍ ولا إلى منامٍ. فهذا التّعليق لكمال الأمّة واستغنائها، لا لنقصها.
والمحدَّث: هو الذي يحدَّث في سرِّه وقلبه بالشَّيء، فيكون كما يحدَّث به.
قال شيخنا رضي الله عنه: والصِّدِّيقُ كان
(6)
أكملَ من المحدَّث، لأنّه استغنى بكمال صدِّيقيّته ومتابعته عن التّحديث والإلهام والكشف، فإنّه قد سلَّم
(1)
غيِّر في ل إلى "التحديث".
(2)
ع: "وتكون".
(3)
"قد" ساقطة من ع.
(4)
أخرجه البخاري (3469) عن أبي هريرة رضي الله عنه، ومسلم (2398) عن عائشة رضي الله عنها.
(5)
ع: "تقي الدين ابن تيمية".
(6)
لم ترد "كان" في ع.
قلبه
(1)
وسرَّه وظاهرَه وباطنَه للرّسول صلى الله عليه وسلم، فاستغنى به عمّا منه
(2)
.
قال: وكان هذا المحدَّث يَعْرِض ما يُحدَّث به على ما جاء به الرَّسول، فإن وافقه قبله، وإلّا ردَّه. فعُلِمَ أنّ مرتبة الصِّدِّيقيّة فوق مرتبة التّحديث
(3)
.
قال: وأمّا ما يقوله كثيرٌ من أصحاب الخيالات والجهالات: حدّثني قلبي عن ربِّي، فصحيحٌ أنّ قلبه حدّثه، لكن عمَّن
(4)
؟ عن شيطانه، أو عن ربِّه؟ فإذا قال: حدَّثني قلبي عن ربِّي، كان مُسْنِدًا للحديث إلى من لم يعلم أنّه حدَّثه به، وذلك كذبٌ
(5)
.
قال: ومحدَّث الأمّة لم يكن يقول ذلك، ولا تفوَّه به يومًا من الدّهر، وقد أعاذه الله من أن يقول ذلك. بل كتب كاتبه يومًا: هذا ما أرى الله تعالى أميرَ المؤمنين عمرَ بن الخطّاب، فقال: لا، امحُه واكتب: هذا ما رأى عمرُ بن الخطَّاب. فإن كان صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأً فمن عمر، واللهُ ورسولُه منه بريءٌ
(6)
. وقال في الكلالة: أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابًا فمن الله،
(1)
في ع بعده زيادة: "كلَّه".
(2)
انظر نحوه في "الجواب الصحيح"(2/ 382)، و"الصفدية"(1/ 259)، و"شرح الأصفهانية"(ص 175)، و"مجموع الفتاوى" (17/ 46). وانظر:"مفتاح دار السعادة"(2/ 726).
(3)
من هنا وقع في بعض النسخ المتأخرة في أول الفصل: "وتكون دون مرتبة الصديقين" بدلًا من "وتكون للصديقين". وانظر: "جامع المسائل"(1/ 57)، و"درء التعارض"(5/ 28).
(4)
"عمَّن" ساقط من ع.
(5)
وانظر: "مجموع الفتاوى"(13/ 218)، و"إغاثة اللهفان"(1/ 213 - 214).
(6)
أخرجه الطحاوي في "شرح مشكل الآثار"(9/ 214) والهروي في "ذم الكلام"(266) والبيهقي (10/ 116) وابن حزم في "الإحكام"(6/ 48) من طرق عن أبي إسحاق الشيباني عن أبي الضحى عن مسروق به. وصحح إسناده المؤلف في "أعلام الموقعين"(1/ 114) وابن حجر في "التلخيص الحبير"(6/ 3202). وقوله: "والله ورسوله منه بريء" لم أجده.
وإن يكن خطأً فمنِّي ومن الشّيطان
(1)
. فهذا قول المحدَّث بشهادة الرّسول صلى الله عليه وسلم، وأنت ترى الاتِّحاديَّ والحلوليَّ والمباحيَّ والشطّاح والسّماعيّ مجاهرًا
(2)
بالقِحَة والفِرية، ويقول: حدّثني قلبي عن ربِّي.
فانظر إلى ما بين القائلين والمرتبتين والقولين والحالين، وأعطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، ولا تجعل الزَّغَلَ والخالصَ شيئًا واحدًا.
فصل
المرتبة الخامسة: مرتبة الإفهام.
(1)
أخرجه الدارمي (3015) والطبري (6/ 475) والخطيب في "الفقيه والمتفقه"(531) والبيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 223) وغيره من طرق عن عاصم الأحول عن الشعبي من قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وفيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:"إني لأستحيي الله أن أرد شيئًا قاله أبو بكر". وأخرجه ابن أبي شيبة (32255) من طريق آخر عن عاصم به بنحوه دون قول عمر. وإسناده إلى الشعبي صحيح، انظر:"تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (1/ 291) و"التلخيص الحبير"(4/ 2053) و"الضعيفة"(10/ 183).
(2)
م، ش:"يجاهر". وفي ج: "مجاهر"، ويبدو أنه كان كذا في الأصل ثم زِيدت الألف والتنوين.
[الأنبياء: 78 - 79]. فذكر هذين النّبيّين الكريمين، وأثنى عليهما بالعلم والحكم، وخصَّ سليمان بالفهم في هذه الواقعة المعيَّنة.
وقال عليُّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه وقد سئل: هل خصَّكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيءٍ دون النّاس؟ فقال: لا والّذي فلَقَ الحبَّةَ وبرأ النَّسمةَ، إلّا فهمًا يؤتيه الله عبدًا في كتابه، وما في هذه الصّحيفة. وكان
(1)
فيها العقلُ ــ وهو الدِّيات ــ، وفَكاكُ الأسير، وأن لا يُقتَل مسلمٌ بكافرٍ
(2)
.
وفي كتاب عمر بن الخطّاب رضي الله عنه لأبي موسى الأشعريِّ
(3)
: "والفهمَ الفهمَ فيما أُدْلِيَ إليك". فالفهمُ نعمةٌ من الله تعالى على عبده، ونورٌ يقذفه
(4)
في قلبه، يدرك ما لا يدركه غيرُه
(5)
، فيفهم من النّصِّ ما لا يفهمه
(1)
ل: "فكان". وتلوح نقطة على الواو في ق.
(2)
رواه البخاري (3047).
(3)
أخرجه بهذا اللفظ ضمن حديث طويل البيهقيُّ في "الكبرى"(10/ 150) وفي "المعرفة"(14/ 240) وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(32/ 71)، وهو عند الدارقطني (4471، 4472) وغيره بلفظ: "الفهم الفهم فيما يختلج عندك". وفي بدايته عند الجميع: "
…
القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة. فافهَمْ إذا أدلي إليك
…
". قال البيهقي في "المعرفة": "هو كتاب معروف مشهور لابد للقضاة من معرفته والعمل به"، وقال شيخ الإسلام في "منهاج السنة" (6/ 71): "
…
تداولها الفقهاء وبنوا عليها واعتمدوا على ما فيها من الفقه وأصول الفقه، ومن طرقها ما رواه أبو عبيد وابن بطة وغيرهما بالإسناد الثابت
…
"، وقال الألباني في "الإرواء" (8/ 241): "وهي وجادة صحيحة من أصح الوجادات وهي حجة".
(4)
ع: "يقذفه الله".
(5)
ع: "يعرف به ويدرك ما لا يدركه غيره ولا يعرفه".
غيرُه، مع استوائهما في حفظه وفهمِ أصل معناه.
فالفهمُ عن الله ورسوله عنوان الصِّدِّيقيّة ومنشور الوراثة
(1)
النّبويّة. وفيه تفاوتت مراتب العلماء، حتّى عُدَّ ألفٌ بواحدٍ
(2)
.
فانظر إلى فهم ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما وقد سأله عمر، ولمن حضر من أهل بدرٍ وغيرهم، عن سورة {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} وما خُصَّ به ابنُ عبّاسٍ من فهمه منها: نعيَ الله سبحانه نبيَّه إلى نفسه وإعلامَه بحضور أجله؛ وموافقةِ عمر
(3)
له على ذلك
(4)
، وخفائه
(5)
على غيرهما من الصّحابة رضي الله عنهم، وابنُ عبّاسٍ إذ ذاك أحدثُهم سنًّا. وأين تجد في هذه السُّورة الإعلام بأجله، لولا الفهم الخاصُّ؟ ويَدِقُّ هذا حتّى يصل إلى مراتب تتقاصر عنها أفهامُ أكثر النّاس، فيحتاج مع النّصِّ إلى غيره؛ ولا يقع الاستغناء بالنُّصوص في حقِّه، وأمّا في حقِّ صاحب الفهم فلا يحتاج مع النُّصوص إلى غيرها.
فصل
المرتبة السادسة: مرتبة البيان العامِّ.
وهو تبيينُ الحقِّ وتمييزُه من الباطل بأدلّته وشواهده وأعلامه، بحيث يصير مشهودًا للقلب كشهود العين للمرئيّات.
(1)
ع: "الولاية".
(2)
اقتباس من قول البحتري وهو من أبياته السائرة (ديوانه 1/ 625):
ولم أر أمثال الرجال تفاوتت
…
إلى الفضل حتى عُدَّ ألفٌ بواحدِ
(3)
سياق الكلام: "فانظر إلى فهم ابن عباس
…
وموافقةِ عمر".
(4)
كما في "صحيح البخاري"(3627) وغيره من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(5)
رسمه في الأصل وغيره: "خفاؤه".
وهذه المرتبة هي حجّة الله على خلقه، التي لا يعذِّب أحدًا ولا يُضِلُّه إلّا بعد وصوله إليها، قال تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115]. فهذا الإضلالُ عقوبةٌ منه لهم، حين بيَّن لهم، فلم يقبلوا ما بيَّنه
(1)
، ولم يعملوا به، فعاقبهم بأن أضَلَّهم عن الهدى. وما أضلَّ الله سبحانه أحدًا قطُّ إلّا بعد هذا البيان.
وإذا عرفتَ هذا عرفتَ سرَّ القدر، وزالت عنك شكوكٌ كثيرةٌ وشبهاتٌ في هذا الباب، وعلمتَ حكمةَ الله في إضلاله مَن يُضِلُّه من عباده
(2)
. والقرآن يصرِّح بهذا في غير موضعٍ، كقوله:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]، وقوله:{وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ}
(3)
[النساء: 155]. فالأوّل: كفر عنادٍ، والثّاني: كفر طبعٍ. وقوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110]. فعاقبهم على ترك الإيمان به حين تبيَّنوه وتحقَّقوه، بأن قلَّب أفئدتهم وأبصارهم فلم يهتدوا له. فتأمَّلْ هذا الموضع حقَّ التّأمُّل، فإنّه موضعٌ عظيمٌ.
وقال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17]. فهذا
(4)
هدى البيان والدِّلالة، وهو شرطٌ لا موجِبٌ، فإنّه إن لم يقترن به هدًى آخر بعده لم يحصل به كمال الاهتداء، وهو هدى التّوفيق والإلهام.
(1)
بعده في ع زيادة: "لهم".
(2)
"من عباده" ساقط من ش.
(3)
في الأصل وغيره: "وقالوا قلوبنا غلف
…
" خلط بين آيتين: آية البقرة (88) وآية النساء (155).
(4)
ش: "وهذا". وكذا كان في الأصل ثم أصلح.