الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعقبات ابن القيم على الهروي
كان ابن القيم رحمه الله معظِّماً لشيخ الإسلام الهروي، محبًّا له، مقدِّرًا لمواقفه في نصر السنة وإثبات الصفات ومخالفة أهل البدع، معترفًا بعلو منزلته في السير إلى الله. بل عدَّ نفسه مريدا «نفعَه الله بكلامه، وجلس بين يديه مجلس التِّلميذ من أستاذه، وهو أحدُ مَن كان على يديه فتحُه يقظةً ومنامًا» (2/ 283).
فلا غرو أن يكون شيخ الإسلام الهروي حبيبًا إلى ابن القيم، ولكن الحقَّ أحبُّ إليه من شيخ الإسلام (2/ 262). وكما أن زلات الشيخ لا توجب عنده إهدار محاسنه وإساءة الظن به، فكذلك محلُّه من العلم والإمامة والمعرفة والتفقه في السلوك لا يقتضي صرف النظر عن هفواته وسقطاته، إذ كلُّ أحد مأخوذٌ من قوله ومتروكٌ إلا المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى صلوات الله وسلامه عليه (1/ 309). وقد نصَّ في موضع على أن القول لا يُردُّ بمجرد كون المعتزلة قالوه، بل يُقبل الحق ممن قاله ويُردّ الباطل على من قاله (1/ 431). هذا المنهج السليم في الأخذ والترك والقبول والرد هو الذي سار عليه رحمه الله في جميع مصنفاته.
وقد أكد التزامه هذا المنهجَ في مواضع عديدة من هذا الكتاب، منها قوله في باب التوكل:«ولولا أنَّ الحقَّ لله ورسوله، وأنَّ كلَّ من عدا الله ورسوله فمأخوذٌ من قوله ومتروك، وهو عرضة الوهم والخطأ= لما اعترضنا على من لا نلحق غبارهم، ولا نجري معهم في مضمارهم، ونراهم فوقنا في مقامات الإيمان ومنازل السائرين كالنُّجوم الدَّراريِّ» .
ولمّا أشاد بذكر محاسن الهروي ومواقفه في نصر السنة قائلًا: «وصاحبُ «المنازل» رحمه الله كان شديدَ الإثبات للأسماء والصِّفات مضادًّا للجهميّة من كلِّ وجهٍ. وله كتابُ «الفاروق» استوعَبَ فيه أحاديثَ الصِّفات وآثارَها ولم يُسبَق إلى مثله، وكتابُ «ذمِّ الكلام وأهله» طريقتُه فيه أحسَنُ طريقةٍ. وله كتابٌ لطيفٌ في أصول الدِّين، يسلك فيه طريقةَ أهلِ الإثبات ويقرِّرها. وله مع الجهميّة المقاماتُ المشهورةُ، وسعَوا بقتله إلى السُّلطان مرارًا عديدةً والله يعصمه منهم
…
وفي موضع آخر أشار إلى أن أبا إسماعيل حاشاه «من إلحاد أهل الاتحاد، وإن كانت عبارته موهمة، بل مفهمة» (1/ 229)، وأنه «فتَح للزّنادقة بابَ الكفر والاتِّحاد، فدخلوا منه، وأقسموا بالله جَهْدَ أيمانهم: إنّه
معهم ومنهم. وغرَّه سرابُ الفناء، فظنّ أنّه لجّةُ بحر المعرفة وغايةُ العارفين، وبالغ في تحقيقه وإثباته» (1/ 227).
ولا يقصد شيخ الإسلام الهروي بالفناء ــ عند ابن القيم ــ «الفناء عن وجود السوى» الذي هو فناء الملاحدة القائلين بوحدة الوجود، وإنما يشير إلى «الفناء عن شهود السوى» الذي قد ذهب إليه كثير من متأخري الصوفية. وهذا الفناء أحد الأصلين اللذين بنى عليهما الشيخ كتابه منازل السائرين، وجعله الدرجة الثالثة من درجات السالكين في كل باب من أبواب كتابه (1/ 237). وأما الأصل الثاني فهو إنكار العلل والأسباب والحكم. يقول ابن القيم: «والشيخ رحمه الله ممَّن يبالغ في إنكار الأسباب، ولا يرى وراء الفناء في توحيد الربوبية غايةً، وكلامه في الدرجة الثالثة في معظم الأبواب يرجع إلى هذين الأصلين
…
ومن هاتين القاعدتين عرَضَ في كتابه من الأمور التي أُنكرِت عليه ما عرض» (2/ 192).
ومعظم تعقبات المصنف لصاحب «المنازل» تناولت هذه الأمور التي أشار إليها، وقد أفاض الكلام عليها في مواضع كثيرة. وكانت طريقته ــ إذا رأى في كلام الشيخ مغمزًا ــ أن يحملَه على أحسن ما يمكن حملُه عليه، بل قد يظن القارئ أنه يتكلف بعض الأحيان في التماس وجه سائغ لكلامه إذا رآه مناقضًا للمأثور المشهور من سيرة الشيخ وعقيدته. ونكتفي هنا بذكر نموذجين من تعقبات ابن القيم، وهي كثيرة مستفيضة في الكتاب:
* ذَكَر شيخ الإسلام الهروي من لطائف أسرار التوبة: «اللطيفة الثالثة: أن مشاهدة العبدِ الحكمَ لم تدَعْ له استحسان حسنة ولا استقباح سيئة، لصعوده من جميع المعاني إلى معنى الحكم» (1/ 355).
الجدير بالذكر هنا أن هذا المعنى بعينه عزاه ابن القيم في «شفاء العليل» (ص 14) إلى «شيخ الملحدين ابن سينا في إشاراته» بلفظ: «العارف لا يستحسن حسنةً ولا يستقبح قبيحةً لاستبصاره بسرِّ القدر» .
علَّق عليه ابن القيم أولا بقوله: «هذا الكلام إن أُخِذَ على ظاهره فهو من أبطل الباطل، الذي لولا إحسانُ الظّنِّ بقائله ومعرفةُ قدره من الإمامة والعلم والدِّين لَنُسِبَ إلى لازم هذا الكلام. ولكن مَن عدا المعصوم فمأخوذٌ من قوله ومتروكٌ. ومن ذا الذي لم تزِلَّ به القدمُ، ولم يَكْبُ به الجوادُ!» .
ثم فسّر كلام الشيخ تفسيرًا ختَمَه بقوله: «فهذا أحسن ما يحمل عليه كلامه» . ثم ذكر أن له محملًا آخر مبنيًّا على أن إرادة الرب تعالى هي عين محبته ورضاه، وهذا أصل القدرية الجبرية المنكرين للحكم والتعليل والأسباب وتحسين العقل وتقبيحه (1/ 356 - 357). وبعد ما فسر كلام الشيخ على هذا الأصل، ذكر له محملًا ثالثًا مع تصريحه بأن الشيخ أبعدُ الناسِ منه، ولكن قد حُمِل عليه، وهو القول بوحدة الوجود التي تنفي الطاعة والمعصية، لكون المطيع في هذه المنزلة عينَ المطاع. وبعد ما فسّر كلامه بناء على ذلك قال:«وهذا عند القوم من الأسرار التي لا يستجيزون كشفَها إلّا لخواصِّهم، وأهلِ الوصول منهم. لكنّ صاحب المنازل بريءٌ من هؤلاء وطريقتهم، وهو مكفِّرٌ لهم، بل مخرجٌ لهم عن جملة الأديان. ولكن ذكرنا ذلك لأنّهم يحملون كلامَه عليه، ويظنُّونه منهم» (1/ 357 - 395).
ثم ذكر ابن القيم أن هذا مقام عظيم زلَّت فيه أقدام طائفتين من الناس: طائفة من أهل الكلام والنظر، وطائفة من أهل السلوك والإرادة. أما الطائفة الأولى فنفوا التحسين والتقبيح العقليين، وذهبوا إلى أن حسن الفعل أو قبحه
ليس لصفة قائمة بالفعل، وإنما لكونه مأمورًا به أو منهيًّا عنه في الشرع. وأما الطائفة الثانية، فكان غلطهم في هذا الباب في ظنهم أن شهود الحقيقة الكونية والفناء في توحيد الربوبية من مقامات العارفين، بل أجلُّ مقاماتهم.
وبعد ما ردّ ابن القيم على مذهب الطائفة الأولى في الصفحات (1/ 359 - 379)، اتجه إلى الرد على الأخرى، وختمه بتنبيه القارئ على أهمية هذا الفصل قائلا:«فتدبَّر هذا الفصلَ، وأحِطْ به علمًا، فإنّه من قواعد السُّلوك والمعرفة. وكم قد زلَّت فيه من أقدامٍ، وضلَّت فيه من أفهامٍ! ومَن عرَفَ ما عند النَّاس، أو نهضَ من مدينة طبعه إلى السَّير إلى الله، عرَفَ مقداره. فمَن عرَفه عرَفَ مجامعَ الطُّرق ومَفْرَقَ الطُّرق التي تفرَّقت بالسَّالكين وأهل العلم والنَّظر» (1/ 390).
ولكن لم يكتف ابن القيم بهذا الرد، بل عُني ببيان الفرق بين محبة الله ورضاه وبين مشيئته وإرادته، لأنه رأى أن منشأ الضلال في هذا الباب من التسوية بينهما أوالاعتقاد بوجوب الرضا بالقضاء، فذكر مذاهب المتكلمين في المسألة (1/ 391 - 393)، ثم عقد فصلا ساق فيه الدلائل من القرآن والسنة وغيرهما على الفرق بين المشيئة والمحبة (1/ 393 - 398)، وأتبعه فصلا آخر في مسألة الرضا بالقضاء (1/ 398 - 399).
وقد بدأ هذا التعقب لكلام صاحب المنازل كما رأينا عند شرح قوله في ذكر اللطيفة الثالثة من لطائف أسرار التوبة (1/ 355)، وطال حتى انتهى بعد 45 صفحة. وقد شعر ابن القيم بإطالته، فنبه القارئ مرة أخرى بقوله:«ولا تنكر الإطالة في هذا الموضع، فإنّه مزلَّةُ أقدام الخلق، وما نجا من معاطبه إلّا أهلُ البصائر والمعرفة بالله وصفاته وأمره» .
* وإليك نموذجًا آخر: افتتح شيخ الإسلام الهروي باب الرجاء بقوله: «الرجاء أضعف منازل المريد، لأنَّه معارَضةٌ من وجهٍ واعتراضٌ من وجه، وهو وقوعٌ في الرُّعونة في مذهب هذه الطّائفة. ولفائدةٍ واحدةٍ نطق به التنزيل والسُّنة، وتلك الفائدة هي كونه يبرِّد حرارة الخوف حتَّى لا يُفضي بصاحبه إلى الإياس» (2/ 262).
هذا الكلام كله كما ترى كلام مدخول، فبدأ ابن القيم تعقيبه عليه بقوله: «شيخ الإسلام حبيبٌ إلينا، والحقُّ أحبُّ إلينا منه، وكلُّ من عدا المعصوم فمأخوذٌ من قوله ومتروك. ونحن نحمل كلامه على أحسن محامله، ثمَّ نبيِّن ما فيه
…
». ففسَّر ألفاظ الشيخ أولا ــ كما ذكر ــ على أحسن وجه يمكن توجيهها إليه، وختم الشرح قائلًا:«فهذا وجهُ كلامه، وحملُه على أحسن محامله» (2/ 264)، وعقّب عليه بأن هذا ونحوه من الشطحات التي يرجى أن يستغرقها حسنات صاحبها من كمال الصدق وصحة المعاملة وقوة الإخلاص وتجريد التوحيد، ولم تضمن العصمة لبشر بعد رسول الله.
ثم نبَّه على أن هذه الشطحات كانت فتنة لطائفتين: إحداهما أهدرت من أجلها محاسن أصحابها ولطف نفوسهم وصدق معاملاتهم، وأنكرته غاية الإنكار، وأساءت الظن بهم مطلقا. وهذا عدوان وإسراف. والأخرى حُجبت بمحاسنهم عن رؤية عيوب الشطحات، فتلقتها بالقبول، وانتصرت لها. وهذا أيضا عدوان وإفراط. وأهل البصيرة والإنصاف يعطون كل ذي حق حقه. ثم أشار إلى أن سادات القوم كانوا يحذرون من هذه الشطحات ونحوها، ويتبرؤون منها، ونقل شيئا من أقوالهم من الرسالة القشيرية.
بعد هذا التنبيه أقبل ابن القيم رحمه الله على نقد كلام الهروي فقرة
فقرة. فأما قوله: «الرّجاء أضعف منازل المريدين» ، فتعقبه بأنه «ليس كذلك، بل هو من أجلِّ منازلهم وأعلاها وأشرفها. وعليه وعلى الحبِّ والخوف مدارُ السَّير إلى الله. وقد مدح الله أهله وأثنى عليهم
…
» إلخ (2/ 266 - 268).
وأما قوله: «لأنه معارضة من وجهٍ، واعتراض من وجهٍ، وهو وقوع في الرعونة» ، فقال في الرد عليه: «بل هو عبوديّة وتعلُّقٌ بالله من حيث اسمُه المُحسن البَرُّ، فذلك التّعلُّق والتّعبُّد بهذا الاسم والمعرفةُ بالله هو الذي أوجب له الرجاءَ مِن حيث يدري ومن حيث لا يدري، فقوّة الرجاء على حسب قوَّة المعرفة بالله وأسمائه وصفاته وغلبةِ رحمته غضبَه
…
» إلخ (2/ 268 - 280). وهو تعقُّب طويل متين مثل معظم تعقباته، ويدل على تعمقه في فهم المسائل الدقيقة للسلوك واقتداره على حسن الإبانة عنها.
وأمَّا قول الشيخ: «إن التنزيل نطق به لفائدةٍ واحدة، وهي كونه يبرِّد حرارة الخوف» ، فتعقبه ابن القيم بقوله:«بل لفوائد كثيرةٍ أُخَر سوى هذه» . ثم ذكر إحدى عشرة فائدة (2/ 280 - 283)، نكتفي هنا بذكر واحدة منها، وهي:«أنَّ الرجاء حادٍ يحدو به في سيره إلى الله، ويطيِّب له المسير، ويحثُّه عليه، ويبعثه على ملازمته. فلولا الرجاء لما سرى أحدٌ، فإن الخوف وحده لا يحرِّك العبد، وإنّما يحرِّكه الحبُّ، ويزعجه الخوف، ويحدوه الرّجاء» .
وختم ابن القيم هذا النقد الطويل لكلام الهروي داعيًا له، معتذرًا عن اعتراضه عليه، معترفًا بفضل الشيخ عليه، وكل ذلك بعبارة بليغة يحسن أن نختم بها هذا المبحث أيضا. قال:
«والله يشكر لشيخ الإسلام سعيَه، ويُعلي درجته، ويَجزيه أفضل جزائه، ويجمع بيننا وبينه في محلِّ كرامته. فلو وَجَد مريدُه سعةً وفسحةً في ترك
الاعتراض عليه واعتراض كلامه لَمَا فعل، كيف وقد نفعه الله بكلامه، وجلس بين يديه مجلس التِّلميذ من أستاذه، وهو أحدُ مَن كان على يديه فتحُه يقظةً ومنامًا. وهذا غاية جهد المقلِّ في هذا الموضع، فمن كان عنده فضلُ علمٍ فليَجُد به، أو فليُعذِر ولا يبادر إلى الإنكار؛ فكم بين الهدهد وسليمان نبيِّ الله ــ صلى الله على نبينا وعليه وسلَّم ــ وهو يقول:{أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل: 22]! وليس شيخُ الإسلام أعلمَ من نبيِّ الله، ولا المعترضُ عليه بأجهلَ من هدهد! وبالله المستعان».
* * *
وكذلك العفوُ بعد القدرة {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا}
(1)
[النساء: 149]، واقترانُ العلم بالحلم {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} [النساء: 12]. وحَمَلةُ العرش أربعةٌ: اثنان يقولان سبحانك اللهمّ وبحمدك، لك الحمدُ على حلمك بعد علمك. واثنان يقولان: سبحانك اللهمّ وبحمدك، لك الحمدُ على عفوك بعد قدرتك
(2)
. فما كلُّ من قدَر عفا، ولا كلُّ من عفا يعفو عن قدرةٍ؛ ولا كلُّ من علِمَ يكون حليمًا، ولا كلُّ حليمٍ عالمٌ. فما قُرِن شيءٌ إلى شيءٍ أزينَ من حلمٍ إلى علمٍ، ومن عفوٍ إلى قدرةٍ، ومن مُلكٍ إلى حمدٍ، ومن عزَّةٍ إلى رحمةٍ {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء: 9].
ومن هاهنا كان قول المسيح عليه السلام: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] أحسنَ من أن يقول: وإن تغفر لهم فإنّك أنت الغفور الرّحيم. أي إن غفرتَ لهم كان مصدرُ مغفرتك عن عزّةٍ وهي كمالُ القدرة، وعن حكمةٍ وهي كمالُ العلم. فمَن غفَر عن عجزٍ وجهلٍ بجرم الجاني، فأنت لا تغفر إلّا عن قدرةٍ تامّةٍ، وعلمٍ تامٍّ، وحكمةٍ تضع بها الأشياء مواضعها. فهذا أحسن من ذكر الغفور الرّحيم في هذا
(1)
في الأصل وغيره: "وكان الله عفوًّا قديرًا"، وهو سهو وقع في منزلة الأدب (3/ 147) أيضًا.
(2)
نقله المؤلف في منزلة الأدب (3/ 147) أيضًا وقال: "وفي بعض الآثار: حملة العرش أربعة
…
"، وهكذا نقله في "بدائع الفوائد" (1/ 140)، و"عدة الصابرين" (ص 533)، و"الروح" (ص 679). والوارد في الأثر المذكور: "حملة العرش ثمانية: أربعة
…
وأربعة
…
". وقد أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" (3/ 342)، وابن أبي شيبة في "كتاب العرش" (24) عن شهر بن حوشب؛ وأبو نعيم في "الحلية" (6/ 74) عن حسان بن عطية. وقال الذهبي في "العلو" (149): "إسناده قوي".
الموضع، الدّالِّ ذكرُه على التّعريض بطلب المغفرة في غير حينها، وقد فاتت. فإنّه لو قال: وإن تغفر لهم فإنّك أنت الغفور
(1)
الرّحيم، كان في هذا من الاستعطاف والتّعريض بطلب المغفرة لمن لا يستحقُّها ما ينزَّه عنه منصبُ المسيح، لا سيّما والموقف موقف عظمةٍ وجلالةٍ، وموقف انتقامٍ ممّن جعل لله ولدًا، واتّخذه إلهًا من دونه. فذكرُ العزّة والحكمة فيه أليقُ من ذكر المغفرة والرّحمة
(2)
.
وهذا بخلاف قول الخليل صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 35 - 36]. ولم يقل: فإنّك عزيزٌ حكيمٌ، لأنّ المقام مقام استعطافٍ وتعريضٍ بالدُّعاء، أي إن تغفر له وترحمه بأن توفِّقه للرُّجوع من الشِّرك إلى التّوحيد، ومن المعصية إلى الطّاعة، كما في الحديث:"اللهمّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون"
(3)
.
وفي هذا أظهر الدِّلالة على أنّ أسماء الرَّبِّ تعالى مشتقّةٌ من أوصافٍ ومعانٍ قامت به، وأنَّ كلَّ اسمٍ يناسب ما ذُكِر معه واقترَن به من فعله وأمره. والله الموفِّق للصّواب.
(1)
انتهى السقط في ل.
(2)
سيأتي الكلام على هذه الآية بتفصيل أكثر في منزلة الأدب (2/ 146). وانظر: "مفتاح دار السعادة"(2/ 1133 - 1134) و"الرُّوح"(2/ 680).
(3)
أخرجه البخاري (3477)، ومسلم (1792) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
فصل
في
مراتب الهداية الخاصّة والعامّة
وهي عشر مراتب:
المرتبة الأولى: مرتبة تكليم الله تعالى لعبده يقظةً بلا واسطةٍ، بل منه إليه. وهذه أعلى مراتبها، كما كلَّم موسى بن عمران صلوات الله وسلامه على نبيِّنا وعليه. قال تعالى:{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]. فذكر في أوّل الآية وحيه إلى نوحٍ والنّبيِّين من بعده، ثمّ خصَّ موسى من بينهم بالإخبار بأنّه كلَّمه. وهذا يدلُّ على أنَّ التّكليم الذي حصل له أخصُّ من مطلق الوحي الذي ذُكِر في أوّل الآية. ثمّ أكَّده بالمصدر الحقيقيِّ الذي هو مصدر كلَّمَ ــ وهو التّكليم ــ رفعًا لما توهَّمه المعطِّلة والجهميّة والمعتزلة وغيرهم من أنّه إلهامٌ أو إشارةٌ أو تعريفٌ للمعنى النَّفسيِّ بشيءٍ غير التّكليم، فأكَّده بالمصدر المفيد تحقيقَ النِّسبة ورفعَ توهُّم المجاز
(1)
. قال الفرّاء: العرب تُسمِّي ما يُوصَل إلى الإنسان كلامًا بأيِّ طريقٍ وصل، ولكن لا تحقِّقه بالمصدر، فإذا حُقِّقَ بالمصدر لم يكن إلّا حقيقة الكلام، كالإرادة، يقال: فلانٌ أراد إرادةً، يريدون حقيقة الإرادة. ويقال: أراد الجدار، ولا يقال: إرادةً، لأنّه مجازٌ غير حقيقةٍ
(2)
. هذا كلامه.
(1)
وانظر: "الصواعق المرسلة"(1/ 389)، و"بدائع الفوائد"(2/ 512). وانظر ما سيأتي في فصل درجات المعرفة (4/ 306).
(2)
نقله البغوي في "تفسيره"(2/ 312) وعنه صدر المؤلف. وانظر: "تفسير السمعاني"(1/ 503).
وقال تعالى: {(142) وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143]. وهذا التّكليم غير التّكليم الأوّل الذي أرسله به إلى فرعون، وفي هذا التّكليم الثّاني سأل النّظر لا في الأوّل، وفيه أعطي الألواح، وكان عن مواعدةٍ من الله له. والتّكليم الأوّل لم يكن عن مواعدةٍ، وفيه قال الله له:{يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: 144] أي بتكليمي لك، بإجماع السّلف. وقد أخبر سبحانه في كتابه أنّه ناداه وناجاه
(1)
، فالنِّداء من بُعْدٍ، والنِّجاء من قُرْبٍ. تقول العرب: إذا كبرت الحلقةُ فهي نِداءٌ أو نِجاءٌ
(2)
.
وقال له أبوه آدم عليه السلام في محاجَّته
(3)
: "أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه، وخطَّ لك التّوراةَ بيده؟ "
(4)
. وكذلك يقول له أهل الموقف إذا طلبوا منه الشّفاعة إلى ربِّه عز وجل
(5)
. وكذلك في حديث الإسراء في رؤية
(1)
يعني قوله تعالى في سورة مريم: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)} . وانظر: "بدائع الفوائد"(ص 514).
(2)
"مجموع الفتاوى"(20/ 468). وهذا القول من كلام الشعبي أخرجه عنه ابن سعد في "الطبقات"(6/ 254). وكذا ورد فيها وفي "المعرفة والتاريخ" للفسوي (2/ 594)، و"تاريخ أبي زرعة"(1/ 662)، و"الجامع" للخطيب (2/ 79):"نداء" بالنون والدال من غير تفسير أو نصٍّ على الرواية. وفي "شرح السنَّة"(13/ 79): "بذاء" بالباء والذال، وفسَّره بالمفاحشة، كما في "تهذيب اللغة"(15/ 25)، و"الفائق" للزمخشري (1/ 90)، و"النهاية"(5/ 26)، و"التكملة" للصغاني (1/ 7).
(3)
"في محاجته" ساقط من ش.
(4)
أخرجه البخاري (3409) ومسلم (2652) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
حديث الشفاعة أخرجه البخاري (4712) ومسلم (194) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
موسى في السّماء السّادسة أو السّابعة على اختلاف الرِّواية، قال:"وذلك بتفضيله بكلام الله"
(1)
. ولو كان التّكليم الذي حصل له من جنس ما حصل لغيره من الأنبياء عليهم السلام لم يكن لهذا التّخصيص به في هذه الأحاديث معنًى، ولا كان يسمّى "كليم الرّحمن".
وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 51]، فرَّق
(2)
بين تكليم الوحي، والتكليم بإرسال الرّسول، وتكليمه من وراء حجابٍ.
فصل
المرتبة الثانية: مرتبة الوحي المختص بالأنبياء عليهم السلام
قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163]. وقال: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} الآية [الشورى: 51]. فجعل الوحي في هذه الآية قسمًا من أقسام التّكليم، وجعله في آية النِّساء قسيمًا للتّكليم. وذلك باعتبارين، فإنّه قسيم للتَّكليم
(3)
الخاصِّ الذي بلا واسطةٍ، وقسمٌ من التّكليم العامِّ الذي هو إيصال المعنى بطرقٍ متعدِّدةٍ.
والوحي في اللُّغة هو الإعلام السَّريع الخفيُّ. ويقال في فعله: وحى،
(1)
أخرجه البخاري (7517) من حديث أنس رضي الله عنه، وانظر:"الفتح"(13/ 482).
(2)
ع: "ففرَّق".
(3)
ع: "التكليم".
وأوحى. قال رؤبة
(1)
:
وحى لها القرارَ فاستقرَّتِ
(2)
وهو أقسامٌ، كما سنذكره إن شاء الله تعالى.
فصل
المرتبة الثّالثة: إرسال الرّسول الملكيِّ إلى الرّسول البشريِّ
، فيوحي إليه عن الله ما أمره أن يوصله إليه.
فهذه المراتبُ الثّلاثةُ خاصّةٌ بالأنبياء عليهم السلام، لا تكون لغيرهم.
ثمّ هذا الرّسول الملكيُّ قد يتمثّل للرّسول البشريِّ رجلًا، يراه عيانًا ويخاطبه. وقد يراه على صورته التي خُلِق عليها، وقد يدخل فيه الملَكُ ويوحي إليه ما يوحيه، ثمّ يُفْصَمُ
(3)
عنه، أي يُقلع
(4)
. والثّلاثة حصلت لنبيِّنا صلى الله عليه وسلم.
(1)
كذا في النسخ الخطية والمطبوعة. والصواب أنه للعجاج والبيت من أرجوزته الشهيرة التي أولها:
الحمد لله الذي استقلَّت
انظر: "ديوانه" بتحقيق عبد الحفيظ السطلي (1/ 408) والبيت من الشواهد المشهورة في كتب اللغة والتفسير. انظر مثلًا: "مجاز القرآن"(1/ 182)، و"العين"(3/ 320)، و"تفسير الطبري"(5/ 402).
(2)
يعني: أوحى الله القرارَ للأرض.
(3)
هكذا ضبط في ع على ما لم يسمَّ فاعله، ويروى بفتح الياء أيضًا. انظر:"مشارق الأنوار"(2/ 160).
(4)
كذا في ع وفي الأصل مصلَحًا. وفي ل: "يقصم" وفي هامشها: "ظ". وفي ش بياض، وفي ج:"يقطع".
فصل
المرتبة الرّابعة: مرتبة المحدَّث
(1)
.
وهذه دون مرتبة الوحي الخاصِّ، فتكون
(2)
للصدِّيقين، كما كانت لعمر بن الخطّاب رضي الله عنه، كما قال النّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إنّه قد
(3)
كان في الأمم قبلكم محدَّثون، فإن يكن في هذه الأمّة أحدٌ فعمر بن الخطّاب"
(4)
رضي الله عنه.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيميّة
(5)
رضي الله عنه يقول: جزَم بأنّهم كائنون في الأمم قبلنا، وعلَّق وجودَهم في هذه الأمّة بـ "إنْ" الشّرطيّة، مع أنّها أفضل الأمم؛ لاحتياجِ الأمم قبلنا إليهم، واستغناءِ هذه الأمّة عنهم لكمالِ نبوَّةِ نبيِّها ورسالته، فلم يُحوِج الله الأمّةَ بعده إلى محدَّثٍ ولا ملهَمٍ، ولا صاحبِ كشفٍ ولا إلى منامٍ. فهذا التّعليق لكمال الأمّة واستغنائها، لا لنقصها.
والمحدَّث: هو الذي يحدَّث في سرِّه وقلبه بالشَّيء، فيكون كما يحدَّث به.
قال شيخنا رضي الله عنه: والصِّدِّيقُ كان
(6)
أكملَ من المحدَّث، لأنّه استغنى بكمال صدِّيقيّته ومتابعته عن التّحديث والإلهام والكشف، فإنّه قد سلَّم
(1)
غيِّر في ل إلى "التحديث".
(2)
ع: "وتكون".
(3)
"قد" ساقطة من ع.
(4)
أخرجه البخاري (3469) عن أبي هريرة رضي الله عنه، ومسلم (2398) عن عائشة رضي الله عنها.
(5)
ع: "تقي الدين ابن تيمية".
(6)
لم ترد "كان" في ع.
قلبه
(1)
وسرَّه وظاهرَه وباطنَه للرّسول صلى الله عليه وسلم، فاستغنى به عمّا منه
(2)
.
قال: وكان هذا المحدَّث يَعْرِض ما يُحدَّث به على ما جاء به الرَّسول، فإن وافقه قبله، وإلّا ردَّه. فعُلِمَ أنّ مرتبة الصِّدِّيقيّة فوق مرتبة التّحديث
(3)
.
قال: وأمّا ما يقوله كثيرٌ من أصحاب الخيالات والجهالات: حدّثني قلبي عن ربِّي، فصحيحٌ أنّ قلبه حدّثه، لكن عمَّن
(4)
؟ عن شيطانه، أو عن ربِّه؟ فإذا قال: حدَّثني قلبي عن ربِّي، كان مُسْنِدًا للحديث إلى من لم يعلم أنّه حدَّثه به، وذلك كذبٌ
(5)
.
قال: ومحدَّث الأمّة لم يكن يقول ذلك، ولا تفوَّه به يومًا من الدّهر، وقد أعاذه الله من أن يقول ذلك. بل كتب كاتبه يومًا: هذا ما أرى الله تعالى أميرَ المؤمنين عمرَ بن الخطّاب، فقال: لا، امحُه واكتب: هذا ما رأى عمرُ بن الخطَّاب. فإن كان صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأً فمن عمر، واللهُ ورسولُه منه بريءٌ
(6)
. وقال في الكلالة: أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابًا فمن الله،
(1)
في ع بعده زيادة: "كلَّه".
(2)
انظر نحوه في "الجواب الصحيح"(2/ 382)، و"الصفدية"(1/ 259)، و"شرح الأصفهانية"(ص 175)، و"مجموع الفتاوى" (17/ 46). وانظر:"مفتاح دار السعادة"(2/ 726).
(3)
من هنا وقع في بعض النسخ المتأخرة في أول الفصل: "وتكون دون مرتبة الصديقين" بدلًا من "وتكون للصديقين". وانظر: "جامع المسائل"(1/ 57)، و"درء التعارض"(5/ 28).
(4)
"عمَّن" ساقط من ع.
(5)
وانظر: "مجموع الفتاوى"(13/ 218)، و"إغاثة اللهفان"(1/ 213 - 214).
(6)
أخرجه الطحاوي في "شرح مشكل الآثار"(9/ 214) والهروي في "ذم الكلام"(266) والبيهقي (10/ 116) وابن حزم في "الإحكام"(6/ 48) من طرق عن أبي إسحاق الشيباني عن أبي الضحى عن مسروق به. وصحح إسناده المؤلف في "أعلام الموقعين"(1/ 114) وابن حجر في "التلخيص الحبير"(6/ 3202). وقوله: "والله ورسوله منه بريء" لم أجده.