الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
«منازل السائرين» وشروحه
كتاب «منازل السائرين» لأبي إسماعيل عبد الله بن محمد الهروي الأنصاري (ت 481) أحد الكتب المشهورة في التصوف، ألَّفه صاحبه عند ما سأله جماعة من الراغبين في الوقوف على منازل السائرين إلى الحق من أهل هراة، ورتبه على مئة مقام مقسومة على عشرة أقسام، وهي:
1 -
قسم البدايات، وهي عشرة أبواب:
اليقظة، والتوبة، والمحاسبة، والإنابة، والتفكُّر، والتذكُّر، والاعتصام، والفرار، والرياضة، والسماع.
2 -
قسم الأبواب، وهي عشرة أبواب:
الحزن، والخوف، والإشفاق، والخشوع، والإخبات، والزهد، والورع، والتبتُّل، والرجاء، والرغبة.
3 -
قسم المعاملات، وهي عشرة أبواب:
الرعاية، والمراقبة، والحُرْمة، والإخلاص، والتهذيب، والاستقامة، والتوكل، والتفويض، والثقة، والتسليم.
4 -
قسم الأخلاق، وهي عشرة أبواب:
الصبر، والرضا، والشكر، والحياء، والصدق، والإيثار، والخلق، والتواضع، والفتوّة، والانبساط.
5 -
قسم الأصول، وهي عشرة أبواب:
القصد، والعزم، والإرادة، والأدب، واليقين، والأُنس، والذِّكر، والفقر، والغنى، ومقام المراد.
6 -
قسم الأدوية، وهي عشرة أبواب:
الإحسان، والعلم، والحكمة، والبصيرة، والفراسة، والتعظيم، والإلهام، والسكينة، والطمأنينة، والهمّة.
7 -
قسم الأحوال، وهي عشرة أبواب:
المحبة، والغيرة، والشوق، والقلق، والعطش، والوجد، والدَّهش، والهيمان، والبرق، والذوق.
8 -
قسم الولايات، وهي عشرة أبواب:
اللَّحظ، والوقت، والصفاء، والسرور، والسرّ، والنفس، والغربة، والغرق، والغيبة، والتمكُّن.
9 -
قسم الحقائق، وهي عشرة أبواب:
المكاشفة، والمشاهدة، والمعاينة، والحياة، والقبض، والبسط، والسُّكْر، والصّحْو، والاتّصال، والانفصال.
10 -
قسم النهايات، وهي عشرة أبواب:
المعرفة، والفناء، والبقاء، والتحقيق، والتلبيس، والوجود، والتجريد، والتفريد، والجمع، والتوحيد.
ذكر المؤلف في مقدمته أنه قد صنَّف جماعةٌ من المتقدمين والمتأخرين في هذا الباب تصانيف، منهم من أشار إلى الأصول، ومنهم من جمع الحكايات، ومنهم من لم يميِّز بين مقامات الخاصة وضرورات العامة، ومنهم من عدَّ شطح المغلوب مقامًا، وأكثرهم لم ينطق عن الدرجات. فقام
المؤلف بتفصيل درجات كل مقام، لتُعرف درجة العامة منه ثم درجة السالك ثم درجة المحقِّق. وقال: إن جميع هذه المقامات تجمعها رُتَبٌ ثلاث: أخذُ القاصد في السير، ودخوله في الغربة، وحصوله على المشاهدة الجاذبة إلى عين التوحيد. وقد اقتصر المؤلف فيه على كلامه دون كلام غيره من الصوفية، وعباراته في ذكر المقامات ودرجاتها موجزة محكمة، اختار فيها أسلوب المزاوجة والسجع والرمز والإشارة، فهي في حاجة إلى الشرح والبيان.
ولا شك أن مؤلِّفه إمام قدوة وحافظ كبير، دعا إلى اتباع السنة وردَّ على المتكلمين، وله في ذلك مؤلفات مثل «ذم الكلام وأهله» و «الفاروق في الصفات» و «الأربعين في التوحيد» وغيرها. وكان طودًا راسيًا في السنة لا يتزلزل ولا يلين، وقد امتُحِن مراتٍ وأوذِي ونُفي من بلده. وله من المناقب والفضائل والأخبار في هذا الباب ما هو مذكور في ترجمته. إلَّا أن كتابه «منازل السائرين» هذا قد انتقده بعض العلماء من أهل السنة، مثل الذهبي الذي يقول:«له نَفَسٌ عجيب لا يُشبِه نفَسَ أئمة السلف في كتابه منازل السائرين، ففيه أشياء مُطرِبة، وفيه أشياء مشكلة، ومن تأمله لاح له ما أشرتُ إليه. والسنة المحمدية صَلِفة، ولا ينهض الذوق والوجد إلا على تأسيس الكتاب والسنة»
(1)
. ثم ذكر أن طائفة من صوفية الفلسفة والاتحاد يخضعون لكلامه في «منازل السائرين» وينتحلونه، ويزعمون أنه موافقهم. ويعقِّب عليه بقوله: «كلّا، بل هو رجل أثريّ، لهِجٌ بإثبات نصوص الصفات، منافِرٌ للكلام وأهله جدًّا. وفي منازله إشارات إلى المحو والفناء، وإنما مراده بذلك الفناءِ
(1)
«سير أعلام النبلاء» (18/ 509).
هو الغَيبة عن شهود السِّوى، ولم يُرِد محْوَ السِّوى في الخارج». وبعد هذا الدفاع يختم كلامه بقوله:«ويا ليتَه لا صنَّف ذلك، فما أحلى تصوفَ الصحابة والتابعين! ما خاضوا في هذه الخطرات والوساوس، بل عبدوا الله وذَلُّوا له وتوكَّلُوا عليه، وهم من خشيته مشفقون، ولأعدائه مجاهدون، وفي الطاعة مسارعون، وعن اللغو معرضون، والله يهدي من يشاء إلى صِراط مستقيم»
(1)
.
ومما انتُقِد عليه شرحه للتوحيد في آخر الكتاب، والأبيات الثلاثة التي ختم بها كتابه وهي من نظمه
(2)
:
ما وحَّد الواحدَ من واحدٍ
…
إذْ كلُّ مَن وحَّده جاحِدُ
توحيدُ مَن ينطق عن نعتِه
…
عاريةٌ أبطَلها الواحدُ
توحيدُه إيَّاه توحيدُه
…
ونعْتُ من ينعتُه لاحِدُ
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وقد ذكر في كتابه «منازل السائرين» أشياء حسنة نافعة وأشياء باطلة، ولكن هو فيه ينتهي إلى الفناء في توحيد الربوبية، ثم إلى التوحيد الذي هو حقيقة الاتحاد». ثم نقل كلام الهروي في باب التوحيد، وانتقده بتفصيل
(3)
.
وذكر في موضع آخر أنه ليس في كلامه شيء من الحلول العام، لكن في
(1)
«سير أعلام النبلاء» (18/ 510).
(2)
«منازل السائرين» (ص 113).
(3)
«منهاج السنة» (5/ 341 - 388). وانظر «مجموع الفتاوى» (5/ 126، 230، 8/ 313، 317، 14/ 11).
كلامه شيء من الحلول الخاص في حق العبد العارف الواصل إلى ما سماه هو مقام «التوحيد» ، وقد باح منه بما لم يبح به أبو طالب المكي، لكن كنى عنه
(1)
.
وانتقد قول الهروي (ص 11): «إن مشاهدةَ العبد الحكمَ لم تدع له استحسانَ حسنة ولا استقباح سيئة» في مواضع من كتبه
(2)
، وبيَّن أن قوله في باب الأفعال والقَدَر يوافق الجهم وأتباعه من غلاة الجبرية، فهو يلحظ الجبر وإثبات القدر شاهدًا لتوحيد الربوبية معرضًا عن الأمر والنهي، ويجعل هذا غاية.
أما المنهج العام للكتاب وهو تقسيم كل مقام إلى ثلاث درجات فقد انتقده شيخ الإسلام وقال: إنه يذكر في كلّ بابٍ ثلاث درجات، فالأولى وهي أهونها عندهم توافق الشرع في الظاهر، والثانية قد توافق الشرع وقد لا توافق، والثالثة في الأغلب تخالف، لاسيما في «التوحيد» و «الفناء» و «الرجاء» ونحو ذلك
(3)
.
وبعد ما ذكر الذهبي أن «منازل السائرين» كتاب نفيس في التصوف، وأنه رأى الاتحادية تعظِّم هذا الكتاب وتنتحله، وتزعم أنه على تصوفهم الفلسفي، قال: «وقد كان شيخنا ابن تيمية بعد تعظيمه لشيخ الإسلام يحطّ
(1)
«مجموع الفتاوى» (5/ 485).
(2)
«مجموع الفتاوى» (8/ 339، 346، 369)، «الرد على الشاذلي» (ص 123، 153)، «جامع المسائل» (2/ 110).
(3)
«مجموع الفتاوى» (13/ 229).
عليه ويرميه بالعظائم بسبب ما في هذا الكتاب»
(1)
.
وتقدّم مزيد بيان لما اشتمل عليه الكتاب عند ذكر منهج ابن القيم في شرحه، وسنفرد مبحثًا خاصًّا بتعقبات المؤلف عليه.
ولأهمية هذا الكتاب وجمعه للمقامات وترتيبها ترتيبًا حسنًا تداوله العلماء والصوفية فيما بينهم، وحفظه بعضهم
(2)
ودرَّسه آخرون
(3)
، وكانت من الكتب التي تُقرأ وتُروى
(4)
، وقد قاموا بشرحه وترجمته إلى اللغات الأخرى، وطبع طبعاتٍ كثيرة. وسنذكر فيما يلي شروحه التي عرفناها مرتبةً على التاريخ:
1 -
شرح عبد المعطي بن محمود اللخمي الإسكندري (ت 638)، مطبوع.
2 -
شرح عفيف الدين سليمان بن علي التلمساني (ت 690)، وهو مطبوع.
3 -
شرح أحمد بن إبراهيم الواسطي المعروف بابن شيخ الحزّامين (ت 711)، لم يتمّه
(5)
.
4 -
شرح كمال الدين عبد الرزاق الكاشاني أو الكاشي أو القاساني (ت 730)، مطبوع.
(1)
«تاريخ الإسلام» (10/ 489). وانظر «طبقات الشافعية» للسبكي (4/ 272).
(2)
انظر «نفح الطيب» (6/ 192).
(3)
«الدرر الكامنة» (1/ 449).
(4)
«المعجم المفهرس» لابن حجر (ص 401)، و «صلة الخلف» للروداني (ص 402).
(5)
«ذيل طبقات الحنابلة» (4/ 383)، و «توضيح المشتبه» (3/ 166).
5 -
«الفصول الأشرفية شرح منازل السائرين» لمحمد التستري (ت بعد 710). مخطوط في الفاتح (2707) ودار الكتب المصرية وغيرها.
6 -
«نزل السائرين في شرح منازل السائرين» لمحمود بن محمد الدركزيني (ت 743)، في جزئين
(1)
.
7 -
تعليق عليه لأبي الطاهر محمد بن أحمد القيسي (ت 749)
(2)
.
8 -
شرح داود بن محمود القيصري الرومي (ت 751)
(3)
.
9 -
«مدارج السالكين» لابن القيم (ت 751). وهو كتابنا هذا.
10 -
«بديع الانتفاث في شرح القوافي الثلاث» في شرح الأبيات الثلاثة الأخيرة من «منازل السائرين» ليوسف بن عبد الله الكوراني (ت 768)، مخطوط في برلين 2831، وغيرها.
11 -
شرح محمود بن الحسن الفركاوي القادري (من القرن الثامن). مطبوع.
12 -
«مرآة الناظرين في شرح منازل السائرين» لصائن الدين علي بن داود بن سليمان الأصفهاني (ت 836)
(4)
. وهو مخطوط في أياصوفيا 1934 (ونُسب لجمال الدين يوسف بن داود الفارسي).
(1)
«طبقات الشافعية، لابن قاضي شهبة (3/ 74)، «الدرر الكامنة» (4/ 338). وفي «كشف الظنون» (2/ 1828): «تنزل السافرين» .
(2)
«الدرر الكامنة» (3/ 314).
(3)
«هدية العارفين» (1/ 361).
(4)
«إيضاح المكنون» (2/ 462).
13 -
حاشية عليه لصفي الدين عبد الرحمن بن محمد الإيجي المدني (ت 864)
(1)
.
14 -
«تسنيم المقربين في شرح منازل السائرين» ، لشمس الدين محمد التبادكاني الطوسي (ت 891)، شرح ممزوج بالفارسية
(2)
. مخطوط في مكتبة خدابخش خان بعنوان «نسيم المقربين» .
15 -
«مرآة الناظرين في شرح منازل السائرين» ليحيى بن علي الخفركي السجستاني (من القرن التاسع)
(3)
.
16 -
«شرح منازل السائرين» ، لنور الدين علي بن محمد المنوفي الشاذلي (ت 939)
(4)
.
17 -
«عيون الناظرين في شرح منازل السائرين» لمحمد بن علي بن حيّون الشُّطيبي (ت 963). مطبوع في مجلد واحد في المغرب عن مركز الإمام الجنيد، تحقيق د. محمد الغويلي.
18 -
شرح محمد بن إبراهيم بن يوسف، ابن الحنبلي (ت 971). مخطوط في برلين 2830.
19 -
شرح محمد بن عبد الله السندي (ت 1013)
(5)
.
(1)
«الضوء اللامع» (4/ 136).
(2)
«كشف الظنون» (2/ 1828).
(3)
«الضوء اللامع» (10/ 236).
(4)
«شجرة النور الزكية» (1/ 393).
(5)
«نزهة الخواطر» (5/ 619).
20 -
شرح عبد الرؤوف المناوي (ت 1031). مطبوع
21 -
«عماد السالكين في حلّ الصعاب من كتاب منازل السائرين» ، لمحمد بن محمد المحقق الأردبيلي (؟). مخطوط في تشستربيتي 4277/ 5 منسوخ سنة 1062.
22 -
شرح محمد بن كمال الدين بن محمد الحسيني الحنفي (ت 1085)
(1)
.
23 -
«مقامات العارفين في شرح منازل السائرين» ، لمحمد مؤمن الجزائري الشيعي (ت 1118)
(2)
.
24 -
«نزهة الناظرين وتحفة القاصرين في شرح منازل السائرين» ، لمحمد بن منصور المقدسي المعروف بابن نشوار (؟). مخطوط في خزانة بن يوسف بمراكش 82 وغيرها.
25 -
«منهاج المريدين إلى شرح منازل السائرين» ، لعلوي بن عبد الله (؟). مخطوط في المكتب الهندي 601.
26 -
شرح عبد الغني التلمساني (؟)
(3)
.
27 -
شرح لطف الله كوكس كور علي (؟). مخطوط في مكتبة الأوقاف بحلب 3702/ 2568.
(1)
«خلاصة الأثر» (4/ 125).
(2)
«إيضاح المكنون» (2/ 462).
(3)
«كشف الظنون» (2/ 1828).
28 -
«التمكين في شرح منازل السائرين» ، لمحمود المنوفي، ط. دار النهضة العربية بمصر.
وهناك شروح أخرى مجهولة العنوان والمؤلف في مكتبات المخطوطات.
ومن مختصراته:
- «تحفة الراغبين في اختصار منازل السائرين» ، لأبي الحسن علي بن محمد بن فرحون اليعمري (ت 746)
(1)
.
- «الإشارات الخفية في المنازل العلية» ، لعائشة بنت يوسف الباعونية الدمشقية (ت 922)، وهي أرجوزة اختصرت فيها «المنازل»
(2)
.
وترجمه إلى التركية: مصلح الدين المعروف بابن نور الدين (ت 981)
(3)
.
* * *
(1)
«التحفة اللطيفة» للسخاوي (2/ 296). وفي «الديباج المذهب» (2/ 125): «غنية الراغبين» .
(2)
«الكواكب السائرة» (1/ 288).
(3)
«كشف الظنون» (2/ 1828).
إليك، أو لا يصعد إليك
(1)
؛ فإنّ المعنى أجلُّ من ذلك، وأكبر وأعظم قدرًا، فإنّ من أسماؤه
(2)
كلُّها حسنى، وأوصافه كلُّها كمالٌ، وأفعاله كلُّها حِكمٌ، وأقواله كلُّها صدقٌ وعدلٌ= يستحيل دخولُ الشّرِّ في أسمائه أو أوصافه
(3)
أو أفعاله أو أقواله
(4)
.
وطابِقْ
(5)
بين هذا المعنى وبين قوله: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56] وتأمَّلْ كيف ذكر هذا عقيب قوله: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ} [هود: 56]. أي هو ربِّي، فلا يُسْلِمني ولا يضيِّعني، وهو ربُّكم فلا يسلِّطكم عليّ ولا يمكِّنكم منِّي، فإنّ نواصيكم بيده، لا تفعلون شيئًا بدون مشيئته؛ فإنّ ناصية كلِّ دابَّةٍ بيده، لا يمكنها تتحرَّكُ إلّا بإذنه؛ فهو المتصرِّف فيها، ومع هذا فهو في تصرُّفه فيها، وتحريكه لها، ونفوذ قضائه وقدره فيها= على صراطٍ
(1)
نقل النووي في "شرح صحيح مسلم"(6/ 59) خمسة أقوال منها القولان المذكوران هنا.
(2)
في ق: "فإنَّ اسماه"، وبين الكلمتين فراغ يحتمل وجود "من" قبل محوها، كما في ل وغيرها، غير أن وجودها يقتضي أن يكون رسم الكلمة الثانية:"اسماوه". وفي ن كما في ق.
(3)
بعده في ل، م، ج:"كلها". وفي ق هنا فراغ، فيبدو أن الكلمة وجدت فيها أيضًا ثم طمست لكونها سهوًا من انتقال النظر إلى السطر السابق.
(4)
قد تكلم المؤلف على هذه المسألة في غير موضع من كتبه، نحو "بدائع الفوائد"(ص 724 - 726) و"حادي الأرواح"(ص 770 - 771) و"شفاء العليل"، الباب الحادي عشر في تنزيه القضاء الإلهي عن الشر. وانظر ما سيأتي في منزلة الخلق (3/ 62).
(5)
سقطت بعده تسع ورقات من ل.
مستقيمٍ. لا يفعل ما يفعل من ذلك إلّا بحكمةٍ وعدلٍ ومصلحةٍ. ولو
(1)
سلَّطكم عليَّ فله من الحكمة في ذلك ما له الحمد عليه، لأنّه تسليطُ مَن هو على صراطٍ مستقيمٍ، لا يظلم ولا يفعل شيئًا
(2)
عبثًا بغير حكمةٍ.
فهكذا تكون المعرفة
(3)
بالله، لا معرفة القدريّة المجوسيّة، ولا القدريّة الجبريّة نُفاةِ الحِكَم والمصالح والتَّعليل. والله الموفِّق سبحانه وتعالى.
فصل
ولمّا كان طالبُ الصِّراط المستقيم طالبَ أمرٍ أكثرُ النّاس ناكبون عنه، مريدٌ
(4)
لسلوك طريقٍ مُرافِقُه فيها في غاية العزّة، والنُّفوسُ مجبولةٌ على وحشة التّفرُّد وعلى الأنس بالرّفيق= نبَّه الله سبحانه على الرّفيق في هذه الطّريق، وأنّهم
(5)
هم الذين {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]، فأضاف الصِّراط إلى الرّفيق السّالكين له، وهم الذين أنعم الله عليهم، ليزول عن الطّالب للهداية وسلوكِ الصِّراط وحشةُ تفرُّده عن أهل زمانه وبني جنسه، وليعلمَ أنَّ رفيقه في هذا الصِّراط هم الذين أنعم الله عليهم، فلا يكترث بمخالفة النّاكبين عنه له، فإنّهم هم الأقلُّون قدرًا، وإن كانوا الأكثرين عددًا، كما قال بعض السّلف:
(1)
ش: "فلو".
(2)
"شيئًا" ساقط من ش.
(3)
ش: "يكون فن المعرفة". وفي م: "يكون فس
…
" مع علامة الإهمال على السين، ولا معنى له. ويبدو أن كلمة نحوها كانت في ق أيضًا ولكنها محيت.
(4)
كذا بالرفع في جميع النسخ والوجه: "مريدًا" كما في المطبوع.
(5)
ش: "فإنهم".
"عليك بطريق الحقِّ، ولا تستوحش لقلّة السّالكين. وإيّاك وطريقَ الباطل، ولا تغترَّ بكثرة الهالكين"
(1)
. وكلّما استوحشتَ في تفرُّدك فانظر إلى الرّفيق السّابق، واحرص على اللَّحاق بهم، وغُضَّ الطَّرفَ عمَّن سواهم فإنّهم لن يُغْنُوا عنك من الله شيئًا. وإذا صاحوا بك في طريق سيرك فلا تلتفت إليهم، فإنّك متى التفتَّ إليهم أخذوك أو عاقوك.
وقد ضُربت لذلك مثلان
(2)
،
فليكونا
(3)
منك على بالٍ:
المثال
(4)
الأوّل: رجلٌ خرج من بيته إلى الصّلاة، لا يريد غيرها، فعرَض له في طريقه شيطانٌ من شياطين الإنس، فألقى عليه كلامًا يؤذيه. فوقف، وردَّ عليه، وتماسكا. فربّما كان شيطان الإنس أقوى منه، فقهَره، ومنعَه عن الوصول إلى المسجد حتّى فاتت الصّلاة. وربّما كان أقوى من شيطان الإنس، ولكن اشتغل بمهاوشته عن الصّفِّ الأوّل وكمال إدراك الجماعة. فإن التفت إليه أطمَعَه في
(1)
روي نحوه عن الفضيل بن عياض. انظر: "تبيين كذب المفتري"(ص 331)، و"الأذكار" للنووي (ص 160).
(2)
"ضُربت" غُيِّر في م إلى "ضُرِب". وبعده: "لك" في ج. وكذا كان في ق، ثم أصلح. وفي طبعة الفقي:"وقد ضربتُ لذلك مثلين". ولما اتفقت النسخ على "مثلان" بالرفع اخترت قراءة "ضُربت" مع تذكير لفظ المثل، ولعله سبق قلم من المؤلف. وقد تسامح في ذلك في نونيته أيضًا إذ قال (2463):
والأمرُ والنهيُ المطاعُ لغيره
…
ولمحصرٍ ضُرِبَتْ بذا مثلانِ
وقال أيضًا (2431):
وكذاك أصحابُ الحديث فإنهم
…
ضُرِبَتْ لهم ولكم بذا مثلانِ
(3)
ج: "ليكونا"، ويبدو أنه كذا كان في ق ثم زيدت الفاء. وفي ش، م:"يكونان".
(4)
غيِّر في ش إلى "المثل".
نفسه، وربّما فترت عزيمته. فإن كان له معرفةٌ وعلمٌ زاد في السَّعي والجَمْز بقدر التفاته أو أكثر. فإن أعرض عنه واشتغل بما هو بصدده، وخاف فوت الصّلاة أو الوقت= لم يبلغ عدوُّه منه شيئًا
(1)
.
المثل
(2)
الثّاني: الظَّبيُ أشدُّ سعيًا من الكلب، ولكنّه إذا أحسَّ به التفت إليه فضعُفَ سعيه، فيدركه الكلب، فيأخذه.
والقصد: أنّ في ذكر هذا الرّفيق ما يزيل وحشة التّفرُّد، ويحثُّ على السّير والتّشمير للَّحاق بهم. وهذا
(3)
أحد الفوائد في دعاء القنوت: "اللهمَّ اهدني فيمن هديت". أي أدخلني في هذه الزُّمرة، واجعلني رفيقًا لهم ومعهم.
والفائدة الثّانية: أنّه توسُّلٌ إلى الله بنعمه وإحسانه إلى مَن أنعم عليه بالهداية. أي قد أنعمتَ بالهداية على مَن هديتَ، وكان ذلك نعمةً منك، فاجعل لي نصيبًا من هذه النِّعمة، واجعلني واحدًا من هؤلاء المنعَم عليهم. فهو توسُّلٌ إلى الله بإحسانه.
والفائدة الثّالثة: كما يقول السّائل للكريم: تصدَّق عليَّ في جملة من تصدَّقتَ عليه، وعلِّمني مِن جملة
(4)
من علَّمتَه، وأحسِنْ إليَّ في جملة من شمَلتَه بإحسانك
(5)
.
(1)
سيأتي هذا المثل بنحوه في منزلة المكاشفة (3/ 214).
(2)
ج: "المثال".
(3)
م: "فهذا". وبعده: "أحد الفوائد" كذا في جميع النسخ.
(4)
كذا في جميع النسخ هنا بدلًا من "في جملة".
(5)
وانظر الفوائد الثلاث التي ذكرها المؤلف في "شفاء العليل"(ص 111).
فصل
ولمّا كان سؤالُ الهداية إلى الصِّراط المستقيم أجلَّ المطالب، ونيلُه أشرفَ المواهب: علَّم اللهُ عبادَه كيفيّة سؤاله، وأمرَهم أن يقدِّموا
(1)
بين يديه حمده والثّناء عليه وتمجيده، ثمّ ذكر عبوديّتهم وتوحيدهم. فهاتان وسيلتان إلى مطلوبهم: توسُّلٌ إليه بأسمائه وصفاته، وتوسُّلٌ إليه بعبوديّته؛ وهاتان الوسيلتان لا يكاد يُرَدُّ معهما الدُّعاء. وهما الوسيلتان المذكورتان في حديثي الاسم الأعظم اللّذين رواهما ابن حبّان في "صحيحه"، والإمام أحمد والتِّرمذيُّ رضي الله عنهم.
أحدهما: حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنهما قال: سمع النّبيُّ صلى الله عليه وسلم رجلًا يدعو، وهو يقول: اللهمّ إنِّي أسألك بأنِّي أشهد أنّك أنت الله الذي لا إله إلّا أنت، الأحد الصّمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحدٌ. فقال:"والّذي نفسي بيده، لقد سأل الله باسمه الأعظم، الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى"
(2)
. قال التِّرمذيُّ: حديثٌ صحيحٌ
(3)
.
فهذا توسُّلٌ إلى الله بتوحيده، وشهادةِ الدّاعي له بالوحدانيّة، وثبوتِ
(1)
ق: "يتقدموا".
(2)
أخرجه أحمد (22952، 23041) وأبو داود (1493، 1494) والترمذي (3475) والنسائي في "الكبرى"(7619) وابن ماجه (3857) وغيرهم. والحديث صححه ابن حبان (892) والحاكم (1/ 504) والألباني في "أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم "(3/ 1016) و"صحيح أبي داود- الأم"(5/ 229).
(3)
في النسخ المطبوعة من "الجامع": "حديث حسن غريب"، وكذلك في "تحفة الأشراف"(2/ 90).
صفاته المدلولِ عليها باسم "الصّمد" وهو كما قال ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما: العالم الذي كمل علمُه، القادر الذي كملت قدرتُه
(1)
. وفي روايةِ عليٍّ
(2)
عنه: هو السّيِّد الذي قد كمل فيه جميعُ أنواع السُّؤدد. وقال أبو وائلٍ: هو السّيِّد الذي انتهى سؤدده
(3)
. وقال سعيد بن جبيرٍ: هو الكامل في جميع صفاته وأعماله. وبنفي التّمثيل والتّشبيه عنه بقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} . وهذا ترجمة عقيدة أهل السُّنّة، فالتّوسُّلُ بالإيمان بذلك والشّهادة به هو الاسم الأعظم.
والثاني: حديث أنسٍ رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلًا يدعو: اللهمّ إنِّي أسألك بأنّ لك الحمد، لا إله إلّا أنت، المنّان، بديع السماوات والأرض، ذا الجلال والإكرام، يا حيُّ يا قيُّوم. فقال:"لقد سأل الله باسمه الأعظم"
(4)
. فهذا توسُّلٌ إليه بأسمائه وصفاته.
(1)
ذكره المؤلف في "الصواعق"(3/ 1025) مع القول التالي من رواية علي بن أبي طلحة. وهو جزء من روايته التي أخرجها بطولها الطبري (24/ 736) وأبو الشيخ في "العظمة"(1/ 383) والبيهقي في "الأسماء والصفات"(1/ 156) وغيرهم ما عدا قوله: "القادر الذي كملت قدرته".
(2)
يعني: ابن أبي طلحة. وقد حاول بعضهم طمسه في م. وانظر روايته بنحو هذا للفظ مع القولين الآتيين في "تفسير البغوي"(5/ 330).
(3)
ذكره البخاري تعليقًا قبل الحديث (4975)، ووصله ابن أبي عاصم في "السنة"(672) والطبري (24/ 735)، وعزاه في "الدر المنثور" إلى ابن المنذر والبيهقي أيضًا. وانظر:"التوضيح" لابن الملقن (23/ 605) و"فتح الباري"(8/ 740) و"تغليق التعليق"(4/ 380).
(4)
أخرجه أحمد (12205، 12611) وأبو داود (1495) والترمذي (3544) والنسائي (1300) وابن ماجه (3858) وغيرهم من طرق عن أنس رضي الله عنه. وهو حديث صحيح، صححه ابن حبان (893) والحاكم (1/ 504) والضياء في "المختارة"(4/ 384، 5/ 256، 257، 6/ 75) والألباني في "الصحيحة"(3411).
وقد جمعت الفاتحة الوسيلتين: التّوسُّلَ بالحمد لله والثناء عليه وتمجيده، والتّوسُّلَ إليه بعبوديّته وتوحيده. ثمّ جاء سؤال أهمِّ المطالب وأنجح الرَّغَبات ــ وهو الهداية ــ بعد الوسيلتين؛ فالدّاعي به حقيقٌ بالإجابة.
ونظير هذا: دعاء النبيِّ صلى الله عليه وسلم الذي كان يدعو به إذا قام يصلِّي من اللَّيل. رواه البخاريُّ في "صحيحه"
(1)
من حديث ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما: "اللهمّ لك الحمد، أنت نور السّماوات والأرض ومن فيهنّ. ولك الحمد، أنت قَيِّمُ السّماوات والأرض ومن فيهنّ. ولك الحمد، أنت الحقُّ، ووعدك الحقُّ، ولقاؤك حقٌّ، والجنّة حقٌّ، والنّار حقٌّ، والنّبيُّون حقٌّ، والسّاعة حقٌّ، ومحمّدٌ حقٌّ. اللهمّ لك أسلمتُ، وبك آمنتُ، وعليك توكّلتُ، وإليك أنبتُ، وبك خاصمتُ، وإليك حاكمتُ. فاغفر لي ما قدَّمتُ وما أخَّرتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ. أنت إلهي لا إله إلّا أنت". فذكر التّوسُّل إليه بحمده والثّناء عليه وبعبوديّته له، ثمّ سأله المغفرة.
فصل
في اشتمال هذه السُّورة على أنواع التّوحيد الثّلاثة التي اتّفقت عليها الرُّسل صلوات الله وسلامه عليهم.
التّوحيد نوعان: نوعٌ في العلم والاعتقاد، ونوعٌ في الإرادة والقصد.
(1)
برقم (1120) وغيره، ومسلم (769).
ويسمّى الأوّل: التّوحيد العلميّ، والثّاني: التّوحيد القصديّ الإراديّ؛ لتعلُّق الأوّل بالأخبار والمعرفة، والثّاني بالقصد والإرادة. وهذا الثّاني أيضًا نوعان: توحيدٌ في الرُّبوبيّة، وتوحيدٌ في الإلهيّة. وهذه ثلاثة أنواع.
فأمّا توحيد العلم، فمداره على إثبات صفات الكمال، وعلى نفي التّشبيه
(1)
والمثال والتّنزيه عن العيوب والنّقائص. وقد دلّ على هذا شيئان: مجملٌ، ومفصّلٌ.
فأمَّا المجمل، فإثبات الحمد لله سبحانه. وأمّا المفصّل، فذكر صفة الإلهيّة، والرُّبوبيّة، والرّحمة، والملك. وعلى هذه الأربع مدار الأسماء والصِّفات.
فأمّا تضمُّن الحمد لذلك، فإنَّ الحمدَ يتضمَّن مدحَ المحمود بصفات كماله ونعوت جلاله، مع محبّته والرِّضا عنه والخضوع له. فلا يكون حامدًا مَن جَحَد صفاتِ الممدوح، ولا من أعرض عن محبّته والخضوع له. وكلَّما كانت صفات كمال الممدوح أكثر كان حمده أكمل، وكلَّما نقَص من صفات كماله نقَص من حمده بحسبها. ولهذا كان الحمد كلُّه لله حمدًا لا يحصيه أحدٌ سواه، لكمال صفاته وكثرتها. ولهذا لا يحصي أحدٌ من خلقه ثناءً عليه، لما له من صفات الكمال ونعوت الجلال التي لا يحصيها سواه. ولهذا ذمَّ الله سبحانه وتعالى آلهة الكفّار وعابها بسلب أوصاف الكمال عنها، فعابها بأنّها لا تسمع ولا تبصر، ولا تتكلَّم ولا تُكلِّم
(2)
ولا تهدي
(3)
. وهذه
(1)
م: "الشبيه".
(2)
"ولا تكلِّم" ساقط من ع.
(3)
في ع بعده زيادة: "ولا تنفع ولا تضرّ".
صفات
(1)
إله الجهميّة التي عاب بها الأصنام
(2)
، نسبوها
(3)
إليه، تعالى عمّا يقول الظّالمون والجاحدون علوًّا كبيرًا!
فقال تعالى حكايةً عن خليله إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسّلام في محاجَّته لأبيه: {يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: 42]. فلو كان إله إبراهيم بهذه المثابة لقال له آزر: وأنت إلهك بهذه المثابة، فكيف تنكر عليّ! لكن كان مع شركه أعرف بالله من الجهميّة. وكذلك كفّار قريشٍ كانوا مع شركهم مقرِّين بصفات الصّانع سبحانه وعلوِّه على خلقه.
وقال
(4)
تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا} [الأعراف: 148]. فلو كان إله الخلق سبحانه وتعالى كذلك لم يكن في هذا الإنكارُ عليهم، ولا الاستدلالُ على بطلان إلهيته بذلك
(5)
.
فإن قيل: فالله تعالى لا يكلِّم عباده.
قيل: بلى، قد كلَّمهم. فمنهم من كلَّمه من وراء حجابٍ، منه إليه بلا واسطةٍ كموسى عليه السلام. ومنهم من كلَّمه على لسان رسوله الملكيِّ،
(1)
م، ع:"صفة".
(2)
ما عدا ش: "الأجسام"، تصحيف. وقد أصلح في م.
(3)
ش: "فنسبوها".
(4)
ما عدا ع: "قال" دون الواو قبله.
(5)
كذا في جميع النسخ، وضبط "الإنكار" في ش، ع بضم الراء. وفي هامش ق:"لعله حجَّة" مع وضع إشارة بعد "بذلك". يعني: "لم يكن في هذا الإنكارِ عليهم والاستدلالِ
…
حجَّةٌ". والهامش نفسه في ج.
وهم الأنبياء عليهم السلام. وكلَّم سائرَ العباد على ألسنة رسله، فأنزل عليهم كلامه الذي بلَّغته رسله عنه، وقالوا لهم: هذا كلام الله الذي تكلَّم به، وأمَرَنا بتبليغه إليكم. ومن هاهنا قال السّلف رضي الله عنهم: من أنكر كون الله متكلمًا فقد أنكر رسالة الرُّسل كلِّهم، لأنّ حقيقتها تبليغ كلامه الذي تكلَّم به إلى عباده، فإذا انتفى تكلُّمُه انتفى إرسالُه
(1)
.
وقال تعالى في سورة طه عن السّامريِّ: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} [طه: 88 - 89]. ورجعُ القول هو التّكلُّم والتّكليم.
وقال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى} [النحل: 76]، فجعَل نفيَ صفات الكمال موجبًا لبطلان الإلهيّة.
وهذا أمرٌ معلومٌ بالفطر والعقول والكتب السّماويّة: أنّ فاقد صفات الكمال لا يكون إلهًا ولا مدبِّرًا ولا ربًّا، بل هو مذمومٌ معيبٌ ناقصٌ، ليس له الحمد
(2)
. وإنّما الحمد لمن له صفات الكمال ونعوت الجلال التي لأجلها استحقَّ الحمدَ. ولهذا سمَّى السّلف كتبهم التي صنّفوها في السُّنّة وإثبات صفات الرّبِّ وعلوِّه على خلقه وكلامه وتكليمه: توحيدًا، لأنَّ نفيَ ذلك
(3)
(1)
م، ش، ع:"انتفت رسالته". وانظر: "الكافية الشافية"(2/ 221) و"مختصر الصواعق"(ص 1301).
(2)
في ع بعده زيادة: "لا في الأولى ولا في الآخرة".
(3)
في ع بعده زيادة: "وإنكاره".